الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جزية موتى القبط على أحيائهم. فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: ما سمعت لهم بعهد ولا عقد [1] .
فكتب عمر بن عبد العزيز إلى حيّان، أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم.
وعن عبد الله بن بكير قال: خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية فى سفينة، فاحتاج إلى رجل يجذّف به، فسخّر رجلا من القبط، فكلّم فى ذلك فقال: إنّهم بمنزلة العبيد إن احتجت إليهم.
وعن ابن شهاب أنه قال: كان فتح مصر، بعضها بعهد وذمّة، وبعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطّاب جميعا ذمّة، وحملهم على ذلك، ومضى ذلك فيهم إلى اليوم.
ذكر أخبار الاسكندرية وبنائها وما اتفق فى ذلك من الأعاجيب
لمّا رأيت جماعة من المؤرّخين اقتصروا فى أخبار الإسكندريّة عند ذكرهم لفتوحها على ما ذكرت أو نحوه، ومنهم من اختصر ذلك، واقتصر على مجرّد الفتح، ولم يتعرّضوا إلى ما سواه من أخبارها، آثرت أن أضمّ إلى ما شرحته من أخبار فتحها ذكر أخبار بنائها، وسببه وما شاهدوه بأبنيتها من العجائب، وكيف تحيّل على وضعها حتّى تمّت، ودفع ظلمة الضّرر عن سكّانها لمّا ادلهمّت، لأنّ مثل هذا الثّغر العظيم الّذى شاع فى الآفاق ذكره واشتهر، وحمد
[1] بعدها فى ابن عبد الحكم: «إنما أخذوا عنون بمنزلة العبيد» .
من التجأ إليه ممّن نبت به الغربة وعاقبة السّفر، وحقّق باختياره صدق الخبر عنه وتيقّن الخبر، لا يقتصر فيه على هذه النّبذة التى ذكرناها، واللّمعة الّتى أوردناها؛ بل يتعيّن بسط القول فيه، وأن يتكلّم المؤلّف إذا انتهى إليه بملء فيه. وربّما اعترض علىّ معترض لم يطالع مجموع ما ألّفت، ولا وقف على جملة ما صنّفت، فيقول: كيف اقتصر على فتوح مصر على مجرّده وهى أصل بلاده، وقاعدة عباده، وبسط القول فى الإسكندرية وهى على الحقيقة من مضافاتها، وولاية من جملة ولاياتها! وقد تجول فيه خيل الاعتراض، ويعدل عن الانشراح إلى الانقباض، ويتوّهّم أنّ ذلك عن عجز أو قصر، وإن بسط العذر فيقول: عن ملال وضجر. وليس الأمر- ولله الحمد- كذلك؛ لأنّا ذكرنا أخبار مصر فى كتابنا هذا فى أربعة مواضع سلفت منه، فذكرنا خصائصها وما فضّلت به على غيرها فى الباب الثانى من القسم الخامس من الفنّ الأوّل، وكلّ ذلك فى السّفر الأوّل من كتابنا فى خصائص البلاد، وذكرنا أخبار نيلها فى الباب السّابع من القسم الرّابع من الفنّ الأوّل فى الأنهار، وذكرنا أخبار ما بها من المبانى القديمة والآثار العظيمة، فى الباب الثّالث من القسم الخامس من الفنّ الأوّل.
وذكرنا أخبار من ملكها من ملوك الأمم قبل الطّوفان وبعده، وما بنوه بها من المدن، وما أقاموه من المنارات والأهرام والبرابى وغير ذلك من المبانى، وما وضعوه بها من العجائب والطّلّسمات والحكم، وما أثاروا من المعادن وما دبّروه من الصّنعة وما شقّوه وأنبطوه من الأنهار، وغير ذلك من أخبارها وعجائبها، وذلك فى الباب الثانى
من القسم الرّابع من الفنّ الخامس، وهو فى السّفر الثّانى عشر، والثالث عشر من هذا الكتاب، فلا اعتراض بعد ذلك علىّ ولا تقصير تنتسب نسبته إلىّ.
ولنأخذ الآن فى أخبار الإسكندرية، قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله [المسعودىّ] رحمه الله فى كتابه المترجم «بمروج الذّهب» [1] .
ذكر جماعة من أهل العلم أنّ الإسكندر المقدونىّ لمّا استقام ملكه فى بلاده، سار يختار أرضا صحيحة الهواء، والتّربة والماء، فانتهى إلى موضع الإسكندرية، فأصاب فى موضعها آثار بنيان وعمدا كثيرة من الرّخام، وفى وسطها عمود عظيم مكتوب عليه بالقلم المسند وهو القلم الأوّل من أقلام حمير وملوك عاد: «أنا شدّاد بن عاد، شددت بساعدىّ البلاد، وقطعت عظيم العماد، من الجبال والأطواد، وأنا بنيت إرم ذات العماد، الّتى لم يبن مثلها فى البلاد، وأردت أن أبنى هاهنا كإرم، وأنقل إليها كلّ ذى قدم وكرم [2] ، من جميع العشائر والأمم، [وذلك إذ لا خوف ولا هرم، ولا اهتمام ولا سقم][3] ، فأصابنى ما أعجلنى، وعمّا أردت إليه قطعنى مع وقوع [4] ما أطال همّى وشجنى، وقلّ نومى وسكنى، فارتحلت بالأمس عن دارى، لا لقهر ملك جبّار، ولا خوف جيش جرّار، ولا عن رغبة [5] ولا صغار؛ ولكن لتمام الأقدار [6] ، وانقطاع الآثار،
[1] مروج الذهب 1: 370 وما بعدها.
[2]
المسعودى: «إقدام وكرم» .
[3]
من المسعودى.
[4]
فى الأصلين: «وقوعها» ، وما أثبته من المسعودى.
[5]
المسعودى: «رهبة» .
[6]
المسعودى: «المقدار» .
وسلطان العزيز الجبّار، فمن رأى أثرى، وعرف خبرى، وطول عمرى، ونفاذ بصرى، وشدّة حذرى، فلا يغترّ بالدّنيا بعدى»
…
وكلام كثير يرى فيه فناء الدّنيا، ويمنع من الاغترار بها، والسّكون إليها، لم يذكره المسعودىّ.
قال [1] : فنزل الإسكندر مفكّرا يتدبّر هذا الكلام ويعتبر، ثم بعث بحشر الصّنّاع من البلاد، وخطّ الأساس، وجعل طولها وعرضها أميالا، وأمر بنقل الرّخام والمرمر والأحجار من جزيرة صقلّية، وبلاد إفريقيّة، وأقريطيش، وأقاصى [بحر][2] الرّوم [3] .
وجزيرة رودس وغيرها، فنقلت فى المراكب، وأمر الصّنّاع والفعلة أن يدوروا بما رسم لهم من أساس المدينة، وعمل على كلّ قطعة من الأرض خشبة قائمة، وجعل من الخشبة إلى الخشبة حبالا منطوطة بعضها ببعض، وأوصل جميع ذلك بعمود من الرّخام كان أمام مضربه.
وعلّق على العمود جرسا عظيما مصوّتا، وأمر النّاس والقوّام على الصّنّاع والبنّائين والفعلة، أنّهم إذا سمعوا صوت ذلك الجرس أن يضعوا أساس المدينة دفعة واحدة من سائر أقطارها. وأحبّ الإسكندر أن يجعله فى وقت يختاره، وطالع سعد [4] يأخذه، فخفق الإسكندر يوما برأسه، فأخذته سنة فى حال ارتقابه للوقت [5] .
فجاء غراب فجلس على حبل الجرس الكبير فحرّكه، وخرج صوت
[1] المصدر نفسه.
[2]
من المسعودى.
[3]
بعدها فى المسعودى: «مما يلى مصبه من بحر أقيانوس» .
[4]
المسعودى: «يختاره ذى طالع سعيد» .
[5]
المسعودى: «ارتقابه؟؟؟ الوقت المحمود» .
الجرس، وتحرّكت الحبال، وخفق ما عليها من الأجراس الصّغار، وكان قد عمل ذلك بحركات فلسفيّة.
فلمّا سمع الصّنّاع حسّ أصوات الجرس وصنعوا الأساس [1] دفعة واحدة وارتفع الضّجيج بالتّحميد والتّقديس، فاستيقظ الإسكندر من رقدته، وسأل عن الخبر، فأخبر به، فقال:
أردت أمرا والله أراد غيره، ويأبى الله إلّا ما يريده، أردت طول بقائها، وأراد الله سرعة فنائها وخرابها، وتداول الملوك إيّاها.
قال: ولمّا [2] أحكم بناؤها، وثبّت أساسها، وجنّ اللّيل عليهم، خرجت دوابّ من البحر أتت على جميع ذلك البنيان؛ فقال الإسكندر حين أصبح: هذا بدء الخراب فى عمرانها، وتحقّق مراد البارى فى زوالها. وتطيّر من فعل الدّوابّ، وتكرّر ذلك من فعل الدّوابّ فى كلّ يوم، والإسكندر يوكّل به من يحرسه، وهو يصبح خرابا، فقلق لذلك، وراعه ما رأى، ففكّر ما الّذى يصنع! وأىّ حيلة يعمل فى رفع أذى الدّوابّ عن المدينة، فسنحت له الفكرة ليلة، فلمّا أصبح أمر الصّنّاع أن يتّخذوا تابوتا من الخشب طوله عشرة أذرع فى عرض خمسة أشبار، وجعل فيه جامات من الزّجاج، وطليت بالقار وغيره من الأطلية التى تمنع الماء أن يدخل التّابوت، وجعل فيه مواضع للحبال، ودخل فيه ومعه رجلان من كتّابه ممّن له علم بإتقان التّصوير، وأمر أن يستر [3] عليه، وعليهم باب
[1] المسعودى: «فلما رأى الصناع تحرك الحبل وسمعوا تلك الأصوات وضعوا الأساس
…
» .
[2]
المصدر نفسه 1: 371 وما بعدها.
[3]
المسعودى: «أن يسد عليه الأبواب» .
التّابوت، ويطلى بتلك الأطلية [1] ، وأمر بمركبين، فعلّق التّابوت بينهما وجعل فى أسفله من الخارج مثقلات الرّصاص والحديد، وشدّ حباله إلى المركبين، وأخرجهما إلى اللّجّة، وسمّر بعضها بخشب إلى بعض لئلّا يفترقا، وأرخوا التّابوت فى البحر، فاستقرّ بقراره، فنظر من تلك الجامات إلى دوابّ البحر وحيواناته؛ فإذا بصور شياطين على أمثال النّاس، رءوسهم كرءوس السّباع، وفى أيديهم الفئوس والمقامع والمناشير، يحاكون بذلك صنّاع المدينة، فأثبت الإسكندر ومن معه تلك الصّور، وأحكموها فى القراطيس على هيئاتها وأشكالها وقدودها، ثم حرّك الحبال، فرفعه من بالمركب.
فلمّا خرج أمر المصوّرين بتصوير تلك الصّور، وصنعها من النّحاس والحديد والحجارة، فعملت تماثيلها، ثم نصبها على الأعمدة بشاطئ البحر، وأمر بالبناء فبنى، فلمّا جنّ اللّيل، وظهرت تلك الدّوابّ من البحر، نظرت إلى أشكال صورها على العمد فرجعت إلى البحر ولم تعد، فتمّ بناء الإسكندريّة، وشيّدت، فأمر أن يكتب على أبوابها: «هذه الإسكندرية، أردت أن أبنيها على الفلاح والنّجاح، واليمن والسّرور، والثّبات على الدّهور [2] ، فلم يرد البارى ملك السّموات والأرض ومفنى الأمم أن أبنيها [3] كذلك، فبنيتها وأحكمتها، وشيّدت سورها، وآتانى الله من كلّ شىء [علما وحكما، وسهّل فى وجوه الأسباب، فلم يتعذّر علىّ فى العالم شىء][4] ممّا
[1] المسعودى: «الأطلية الدافعة للماء» .
[2]
المسعودى: «فى الدهور» .
[3]
المسعودى: «نبنيها» .
[4]
من المسعودى.
أردته، ولا امتنع علىّ شىء ممّا طلبته، لطفا من الله عز وجل وصنعا لى، وصلاحا لعباده [1] من أهل عصرى، والحمد لله ربّ العالمين، لا إله إلّا الله هو ربّ كلّ شىء. ورسم بعد هذه الكتابة كلّ ما يحدث من العمران والخراب، وما يؤول أمرها إليه إلى آخر وقت دثور العالم.
وكان بناؤها طبقات، وتحتها قناطر مقنطرة تدوّرها [2] ، ويسير تحتها الفارس، وبيده رمح لا يطبق به حتّى يدور جميع أبراجها وقناطرها، وعمل لتلك العقود والأبراج مخاريق للضّياء، ومنافذ للهواء.
قال: وكانت الإسكندريّة تضيئ باللّيل من غير مصباح لشدّة بياض الرّخام والمرمر، وأسواقها وأزقّتها وشوارعها مقنطرة بها لئلّا يصيب أهلها المطر.
قال: وكان عليها سبعة أسوار من أحجار [3] مختلفة الألوان، بينها خنادق، بين كلّ خندق وسور فصل [4] .
قال: وربّما علّق فيها شقاق الحرير الأخضر لاختطاف بياض السّور أبصار النّاس لشدّة بياضه، فلمّا سكنها أهلها كانت آفات البحر تخطف أهل المدينة باللّيل، فيصبحون وقد فقد منهم العدد الكثير، فأهمّ ذلك الإسكندر، فاتّخذ الطّلّسّمات على أعمدة هنا لك،
[1] المسعودى: «صلاحا لى ولعباده» .
[2]
المسعودى: «عليها دور المدينة» .
[3]
المسعودى: «من أنواع الحجارة» .
[4]
المسعودى: «فصلان» .
تدعى المسالّ، وهى باقية إلى هذا العصر، فامتنع الدّوابّ من التّعرّض إلى أهلها بعد ذلك، فأمنوا.
وأمّا المنارة فقد ذكرناها فى الباب الثالث من القسم الخامس من من الفنّ الأوّل فى السفر الأوّل، فلا حاجة إلى إعادة ذكرها ثانيا.
نعود إلى أخبار فتوح مصر إن شاء الله تعالى: