الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الحروب الكائنة بين بين المسلمين وبين مسيلمة وبين أهل اليمامه وقتل مسيلمة
قد ذكرنا أنّ أبا بكر الصدّيق لمّا عقد الألوية، عقد لعكرمة ابن أبى جهل، وأمره بمسيلمة، ثم أردفه شرحبيل بن حسنة، فعجّل عكرمة، وبادر الحرب ليذهب بصوتها، فواقعهم، فنكبوه، وأقام شرحبيل فى الطريق حتى أدركه الخبر.
وكتب [1] أبو بكر رضى الله عنه إلى عكرمة: يابن أمّ عكرمة؛ لا أرينّك ولا ترانى على حالها، ولا ترجع فتوهن الناس، امض على وجهك حتى تساند حذيفة وعرفجة، فقاتل معهما أهل عمان ومهرة، وإن شغلا فامض أنت، ثم تسير ويسير جندك؛ تستبرئون من مررتم به حتى تلتقوا أنتم والمهاجر بن أبى أميّة باليمن وحضرموت.
وكتب إلى شرحبيل يأمره بالمقام حتّى يأتيه أمره، ثم كتب إليه قبل أن يوجّه خالد بن الوليد بأيّام إلى اليمامة: إذا قدم عليك خالد ثم فرغتم- إن شاء الله- فالحق بقضاعة حتى تكون أنت وعمرو بن العاص على من أبى منهم وخالف.
فلمّا قدم خالد على أبى بكر الصّديق رضى الله عنه من البطاح رضى عنه، وقبل عذره كما ذكرنا، ووجّهه إلى مسيلمة، وأوعب معه الناس، وجعل على كلّ قبيلة رجلا، وجعل على المهاجرين أبا حذيفة بن عتبة، وجعل على الأنصار ثابت بن قيس بن شماس،
[1] تاريخ الطبرى 3: 314- 316، وابن الأثير 2:246.
وتعجّل خالد حتّى قدم على أهل العسكر بالبطاح، وانتظر البعث الذى ضرب بالمدينة، فلمّا قدم عليه نهض حتى أتى اليمامة، وبنو حنيفة يومئذ تزيد عدّتهم على أربعين ألف مقاتل. وعجّل شرحبيل بن حسنة، وبادر بالقتال قبل وصول خالد كما فعل عكرمة، فنكب كما نكب، فلما قدم خالد لامه، وسار خالد حتى إذا أطلّ على بنى حنيفة أسند خيولا لعقّة والهذيل وزياد، وقد كانوا أقاموا على خرج أخرجه لهم مسيلمة ليلحقوا به سجاح، وإنّما أسند خالد تلك الخيول مخافة أن يأتوه من خلفه، وأمدّ أبو بكر رضى الله عنه خالدا بسليط بن عمرو بن عبد شمس العامرىّ القرشىّ ليكون ردءا له من أن يأتيه أحد من خلفه؛ فخرج.
فلمّا دنا من خالد وجد تلك الخيول التى انتابت تلك البلاد قد فرّقوا فهربوا، فكان منهم قريبا لهم، وأمّا مسيلمة فإنّه لما بلغه دنوّ خالد بن الوليد منه عسكر بعقرباء، واستنفر النّاس، فجعل النّاس يخرجون إليه، وخرج مجاعة بن مرارة بن سلمى الحنفىّ اليمامىّ- وكان رئيسا من رؤساء بنى حنيفة- فى سريّة يطلب بثأر له فى بنى عامر وبنى تميم، فلمّا كان خالد من عسكر مسيلمة على ليلة، إذا مجّاعة وأصحابه وقد غلبهم الكرى- وكانوا راجعين من بلاد بنى غامر- فعرّسوا دون ثنيّة اليمامة، فوجدوهم نياما وأرسان خيولهم بأيديهم تحت خدودهم، ولا يشعرون بقرب الجيش منهم، فأنبهوهم، وقالوا: من أنتم؟ قالوا: مجّاعة، وهذه حنيفة، فأوثقوهم، وأقاموا إلى أن جاءهم خالد فأتوه بهم، فظنّ أنّهم جاءوه
ليستقبلوه، فقال: متى سمعتم بنا؟ قالوا: ما شعرنا بك، إنّما خرجنا لثأر لنا فيمن حولنا من بنى عامر وتميم، فأمر بهم أن يقتلوا، فقالوا: إن كنت تريد بأهل اليمامة غدا خيرا أو شرّا فاستبق هذا، ولا تقتله- يريدون مجّاعة- فقتلهم كلّهم دونه، وكانوا ثلاثة وعشرين راكبا- وقيل: أربعين. وقيل: ستّين- وصبر مجّاعة، وسار إلى اليمامة، فخرج مسيلمة وبنو حنيفة، فنزلوا بعقرباء، وهى طرف اليمامة؛ دون الأموال، وريف اليمامة وراء ظهورهم.
وقال شرحبيل بن مسيلمة [1] : يا بنى حنيفة، اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستردف النساء سبيّات، وينكحن غير حظيّات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم.
فالتقوا بعقرباء واقتتلوا، وكانت راية المهاجرين يومئذ مع سالم مولى أبى حذيفة. وقيل: بل كانت مع زيد بن الخطاب، فلما قتل أخذها سالم، فقالوا له: تخشى علينا من نفسك شيئا؟
فقال: بئس حامل القرآن إنا إذا! وكانت راية الأنصار مع ثابت ابن قيس بن شمّاس، وكانت العرب على راياتها، وسجّاعة فى الأسر مع أمّ تميم زوجة خالد فى فسطاطها، واقتتل النّاس أشدّ قتال، ولم يلق المسلمون حربا مثلها، فانهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى خالد، فزال عن الفسطاط، ووصلوا إليه وقطعوه، ودخل أناس من بنى حنيفة على أمّ تميم، فأرادوا قتلها، فمنعها مجّاعة. وقال: أنا لها جار، فنعمت الحرّة! فدفعهم عنها.
[1] ص: «مسلمة» .
ثم إنّ المسلمين تداعوا؛ فقال ثابت بن قيس: بئسما دعوتم أنفسكم إليه يا معشر المسلمين، اللهمّ إنّى أبرأ إليك ممّا يعبد هؤلاء- يعنى أهل اليمامة- وأعتذر إليك ممّا يصنع هؤلاء- يعنى المسلمين- ثم قاتل حتى قتل، قطعت رجله فرمى بها قاتله فقتله.
- وله رضى الله عنه خبر عجيب نذكره إن شاء الله تعالى فى آخر هذه الوقعة- قالوا: وحمل خالد فى الناس حتى ردّهم أبعد ما كانوا، واشتدّ القتال، وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين، وتارة عليهم، وقتل سالم وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب وغيرهم.
فلما رأى خالد ما النّاس فيه، قال: امتازوا اليوم أيّها الناس، لنعلم بلاء كلّ حىّ، ولنعلم من أين نؤتى! فلمّا امتازوا قال بعضهم لبعض: اليوم نستحيى من الفرار. وقاتل الناس قتالا عظيما، وثبت مسيلمة، فعرف خالد أنّ الفتنة لا تركد إلّا بقتل مسيلمة، فبرز ودعا إلى البراز، فما يبرز له أحد إلا قتله، ودعا مسيلمة فأجابه؛ وعرض عليه أشياء، فكان إذا همّ بجوابه أعرض بوجهه يستشير شيطانه، فينهاه أن يقبل، فأعرض بوجهه مرة، فركبه خالد وأرهقه فأدبر، وزال أصحابه، فكانت هزيمتهم، وقالوا لمسيلمة: أين ما كنت تعدنا؟ فقال: قاتلوا عن أحسابكم. ونادى المحكّم بن الطّفيل: يا بنى حنيفة، الحديقة الحديقة! فدخلوها، وأغلقوا بابها عليهم.
قال: وكان البراء بن مالك أخو أنس؛ إذا حضر الحرب أخذته رعدة حتى يقعد الرجال عليه، ثم يبول، فإذا بال ثار كما يثور
الأسد، فأصابه ذلك، فقال: إلىّ أيها الناس؛ أنا البراء بن مالك؛ وقاتل قتالا شديدا، فلمّا دخل بنو حنيفة الحديقة، قال البراء:
يا معشر المسلمين، ألقونى عليهم فيها. فقالوا: لا نفعل، فاحتمل حتى أشرف على الجدار واقتحمها عليهم، وقاتل على الباب، وفتحه المسلمون، ودخلوا عليهم، فاقتتلوا أشدّ قتال، وكثر القتل فى الفريقين، فلم يزالوا كذلك حتى قتل مسيلمة، واشترك فى قتله وحشىّ، مولى جبير بن مطعم قاتل حمزة بن عبد المطّلب، ورجل من الأنصار، فولّت حنيفة عند قتله منهزمة، وأخذهم السّيف من كلّ جانب. وقتل محكّم اليمامة، قتله عبد الرحمن بن أبى بكر الصّديق، رضى الله عنه؛ رماه بسهم فى نحره وهو يخطب ويحرّض الناس فقتله، وقتل من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة ثلاثمائة وستّون، ومن المهاجرين من غير المدينة ثلاثمائة، وقتل من بنى حنيفة بعقرباء سبعة آلاف، وفى حديقة الموت مثلها، وفى الطّلب نحو منها؛ وخرج خالد بمجّاعة يرسف فى الحديد ليدلّه على مسيلمة، فجعل يكشف القتلى حتى مرّ بمحكّم بن الطّفيل، وكان رجلا جسيما وسيما، فلمّا رآه خالد قال: هذا صاحبكم؟ قال: لا، هذا والله خير منه وأكرم؛ هذا محكّم اليمامة. ثم مضى حتّى دخل الحديقة، فقلّب له القتلى، فإذا رويجل أصيفر أخينس [1] . فقال مجّاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه؛ فقال خالد لمجّاعة: هذا فعل بكم ما فعل! قال؛ قد كان ذلك يا خالد. وإنّه والله ما جاءك إلّا سرعان [2] الناس،
[1] أخينس، تصغير أخنس، والخنس محركة: تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل فى الأرنبة.
[2]
سرعان الناس: أوائلهم.
وإنّ جماهير النّاس لفى الحصون، فقال: ويلك، ما تقول! قال:
هو والله الحقّ، فهلمّ لأصالحكم على قومى.
وجاء عبد الرحمن بن أبى بكر وعبد الله بن عمر إلى خالد، فقالا له: ارتحل بالنّاس، فانزل على الحصون، فقال: دعانى أبثّ الخيول فألتقط من ليس فى الحصون ثم أرى؛ فبثّ الخيول فحووا ما وجدوا من مال وصبيان، فضمّوهم إلى العسكر، ونادى بالرحيل لينزل على الحصون، فقال له مجّاعة: إنّه والله ما جاءك إلّا سرعان النّاس، فإنّ الحصون لمملوءة رجالا، فهلمّ إلى الصلح على ما ورائى، فصالحه على كلّ شىء دون النّفوس؛ ثمّ قال مجّاعة:
أنطلق إليهم فأشاورهم، وننظر فى هذا الأمر، ثم أرجع إليك، فدخل مجّاعة الحصون وليس فيها إلا النّساء والصّبيان ومشيخة فانية، ورجال ضعفى [1] ، فظاهر الحديد على النّساء، وأمرهنّ بنشر شعورهنّ، وأن يشرفن على رءوس الحصون حتى يرجع إليهم، ثم رجع إلى خالد، فقال: قد أبوا أن يجيزوا ما ضيّعت، وقد أشرف لك بعضهم نقضا علىّ، وهم منّى براء، فنظر خالد إلى رءوس الحصون:
وقد اسودّت وقد نهكت المسلمين الحرب، وأحبوا أن يرجعوا على الظّفر. فقال مجّاعة لخالد: إن شئت صنعت شيئا، فعزمت على القوم؛ تأخذ منى ربع السّبى وتدع ما بقى؛ فقال خالد: قد فعلت.
قال: قد صالحتك، فلما فرغا فتحت الحصون، فإذا ليس فيها إلّا النساء والصّبيان. فقال خالد لمجّاعة: ويحك! خدعتنى. فقال:
قومى، ولم أستطع إلا ما صنعت.
[1] الطبرى: «ضعفاء» .
وقيل: إنّ خالدا صالح مجّاعة على نصف السّبى، والصّفراء، والبيضاء، والحلقة، والكراع، وحائط [1] من كل قرية يختار [2] خالد، ومزرعة يختارها، فتقاضوا على ذلك. ثم سرّحه وقال:
أنتم بالخيار ثلاثا، والله لئن لم تتمّوا وتقبلوا لأنهدنّ إليكم ثم قال: لا أقبل منكم خصلة أبدا إلّا القتل، فأتاهم مجّاعة، فقال:
أمّا الآن فاقبلوا. فقال سلمة بن عمير الحنفى: لا والله لا نقبل؛ تبعث إلى أهل القرى والعبيد. فنقاتل ولا نقاضى خالدا؛ فإنّ الحصون حصينة، والطعام كثير، والشتاء قد حضر.
فقال له مجّاعة: إنّك امرؤ مشئوم، وغرّك أنى خدعت القوم حتى أجابونى إلى الصّلح، وهل بقى منكم أحد فيه خير وبه دفع! وإنّما أنا بادرتكم.
فخرج مجّاعة سابع سبعة حتى أتى خالدا. فقال: بعد شرّ ما رضوا اكتب كتابك. فكتب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجّاعة بن مرارة وسلمة ابن عمير، وفلانا وفلانا. قاضاهم على الصّفراء والبيضاء ونصف السّبى. والحلقة والكراع. وحائط من كلّ قرية ومزرعة، على أن يسّلموا. ثم أنتم آمنون بأمان الله، لكم ذمّة خالد بن الوليد، وذمة أبى بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذمم المسلمين على الوفاء.
[1] الحائط هنا: البستان.
[2]
ص «يختاره خالد.
ووصل كتاب أبى بكر إلى خالد بقتل كلّ محتلم، وكان قد صالحهم فوفى لهم. ثمّ إنّ خالد بن الوليد قال لمجّاعة: زوّجنى ابنتك، فقال مجّاعة: مهلا، إنّك قاطع ظهرك وظهرى معك عند صاحبك.
قال: أيّها الرجل، زوّجنى، فزوّجه، فبلغ ذلك أبا بكر فكتب، إليه كتابا يقطر الدّم؛ يقول:
يابن أمّ خالد؛ إنك لفارغ، تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتى رجل من المسلمين لم يجفف بعد! فلما نظر خالد فى الكتاب جعل يقول: هذا عمل الأعيسر- يعنى عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
وبعث خالد وفدا من بنى حنيفة إلى أبى بكر، فقدموا عليه.
فقال لهم: ويحكم! ما هذا الذى استنزل منكم ما استنزل؟ قالوا:
يا خليفة رسول الله، قد كان الذى بلغك مما أصابنا، كان أمرا لم يبارك الله له، ولا لعشيرته فيه. قال: على ذلك، ما الذى دعاكم به؟ قالوا: كان يقول: «يا ضفدع نقّى نقّى، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدّرين، لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون» .
فقال أبو بكر رضى الله عنه: سبحان الله، ويلكم! إن هذا الكلام ما خرج من إلّ ولا برّ [1] . فأين يذهب بكم! قال أبو جعفر: لما فرغ خالد من اليمامة. وكان منزله الذى
[1] الإل: العهد والقرابة.