الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من اللّيل، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء، وقد أصيب من أسد تلك الليلة خمسمائة، وكانوا ردءا للنّاس، وكان عاصم حامية للنّاس.
وكان سعد تزوّج سلمى امرأة المثنّى بن حارثة بعده، فلما جال النّاس فى هذا اليوم، جعل سعد يتململ جزعا على النّاس وهو لا يطيق الجلوس، فلمّا رأت ما يصنع الفرس، قالت: وامثنّاه، ولا مثنّى للخيل اليوم! فلطم وجهها وقال: أين المثنّى عن [1] هذه الكتيبة الّتى تدور عليها الرحا؟ يعنى أسدا وعاصما؛ فقالت: أغيرة وجبنا! فقال: والله لا يعذرنى أحد ان لم تعذرينى، وأنت ترين مابى
…
والله تعالى أعلم بالصّواب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
ذكر أغواث
قال: [2] لما أصبح سعد وكّل بالقتلى من ينقلهم ليدفنوا، وأسلم الجرحى إلى النّساء يقمن عليهم، فبينا الناس على ذلك إذ طلعت نواصى الخيل من الشّام، وكان عمر لمّا فتحت دمشق قد كتب إلى أبى عبيدة يأمره بإرسال أهل العراق، فأرسلهم وأمّر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقّاص، وعلى مقدّمته القعقاع بن عمرو، فتعجّل القعقاع، فقدم على الناس صبيحة هذا اليوم، وقد عهد إلى أصحابه أن يتقطّعوا أعشارا وهم ألف، كلّما بلغ عشرة مدّ البصر سرّحوا عشرة، وتقدّم هو فى عشرة، فأتى الناس فسلّم عليهم،
[1] ك: «من» .
[2]
هو اليوم الثانى من أيام القادسية.
وبشّرهم بالجنود، وحرّضهم على القتال؛ وقال: اصنعوا كما أصنع، وطلب البزاز، فخرج إليه ذو الحاجب، فعرفه القعقاع، ونادى:
بالثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب الجسر! واقتتلا، فقتله القعقاع.
وجعلت خيله ترد إلى اللّيل، ونشط الناس، وكأن لم تكن بالأمس مصيبة، وانكسرت الأعاجم لقتل ذى الحاجب، فطلب القعقاع البراز، فخرج إليه الفيرزان والبندوان، فانضمّ إلى القعقاع الحارث بن ظبيان، ونادى القعقاع: يا معشر المسلمين، باشروهم بالسّيوف، فإنما يحصد الناس بها، فاقتتلوا حتى المساء، فلم ير أهل فارس فى هذا اليوم ما يعجبهم، وأكثر المسلمون فيهم القتل، ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيلة؛ كانت توابيتها قد تكسّرت بالأمس، فاستأنفوا عملها، وحمل بنو عمّ القعقاع عشرة عشرة على إبل قد ألبسوها وجلّلوها وبرقعوها، وطافت بهم خيولهم تحميهم، وأمرهم القعقاع أن يحملوا على خيل الفرس يتثبّهون بالفيلة، ففعلوا فى يوم أغواث، كما فعل الفرس فى يوم أرماث، فنفرت خيل الفرس من الإبل، فلقوا منها أعظم ما لقى المسلمون من الفيلة، وحمل القعقاع يومئذ ثلاثين حملة، كلّما طلعت قطعة حمل حملة، وأصاب فيها، وقيل: وكان آخرهم يزرجمهر الهمذانىّ.
وكان أبو محجن الثّقفىّ، واسمه مالك بن حبيب، وقيل:
عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غبرة
ابن عوف بن قسىّ، وهو ثقيف، قد حبس فى القصر وقيّد.
واختلف فى سبب ذلك؛ فقيل: كان قد خالف على خالد بن عرفطة خليفة سعد، وقيل: بل كان عمر قد جلده فى الخمر مرارا ثمانية وهو لا يتوب ولا يقلع، فنفاه إلى جزيرة فى البحر، وبعث معه رجلا، فهرب منه ولحق بسعد، فكتب إليه عمر بحبسه. وقيل: بل كان مع سعد، فأتى به وهو سكران، فأمر به إلى القيد، فلما التحم القتال قال:
كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا
…
وأترك مشدودا على وثاقيا
إذا قمت عنّانى الحديد وأغلقت
…
مصارع من دونى تقيم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة
…
فقد تركونى واحدا لا أخاليا
وقد شفّ جسمى أنّنى كلّ شارق
…
أعالج كبلا مصمتا قد برانيا
فلّله درّى يوم أترك موثقا
…
وتذهل عنّى أسرتى ورجاليا
حبيسا عن الحرب العوان وقد بدت
…
وإعمال غيرى يوم ذاك العواليا
ولله عهد لا أخيس بعهده
…
لئن فرجت ألّا أزور الحوانيا
ثم قال لسلمى أبنه خصفة امرأة سعد: ويحك! خلّينى، ولك عهد الله إن سلّمنى الله أن أجىء حتى أضع رجلى فى القيد، وإن قتلت استرحتم منّى، فحلّت عنه، فوثب على فرس لسعد يقال لها:
البلقاء، ثم أخذ الرّمح وانطلق حتى كان بحيال الميمنة كبّر، ثم حمل على ميسرة الفرس، ثم رجع من خلف المسلمين وحمل على
ميمنتهم، وكان يقصف [1] النّاس قصفا منكرا، فتعجب النّاس منه وهم لا يعرفونه، فقال بعضهم: هو من أصحاب هاشم، أو هاشم نفسه. وقال بعض الناس: هو الخضر. وقال بعضهم: لولا أنّ الملائكة لا تباشر الحرب لقلنا إنّه ملك.
وجعل سعد يقول حين ينظر إليه وإلى الفرس: الصّبر صبر البلقاء، والطعن طعن أبى محجن. وأبو محجن فى القيد، فلما انتصف الّليل وتراجع المسلمون والفرس، أقبل أبو محجن فدخل القصر، وأعاد رجليه فى القيد، وقال:
لقد علمت ثقيف غير فخر
…
بأنّا نحن أكرمهم سيوفا
وأكثرهم دروعا سابغات
…
وأصبرهم إذا كرهوا الحتوفا [2]
وأنّا وفدهم فى كلّ يوم
…
فإن عميوا فسل بهم عريفا [3]
وليلة قادس لم يشعروا بى
…
ولم أشعر بمخرجى الزّحوفا
فإن أحبس فذلكم بلائى
…
وإن أترك أذيقهم الحتوفا
فقالت له سلمى: فى أىّ شىء حبسك؟ فقال: أما والله ما حبسنى بحرام أكلته ولا شربته؛ ولكنّى كنت صاحب شراب فى الجاهليّة، وأنا امرؤ شاعر يدبّ الشّعر على لسانى، فقلت مرتجلا فى ذلك أبياتا:
إذا متّ فادفنّى إلى أصل كرمة
…
تروّى عظامى بعد موتى عروقها
ولا تدفننّى بالفلاة فإنّنى
…
أخاف إذا ما متّ ألّا أذوقها
[1] يقصف الناس: يضربهم ضربا منكرا.
[2]
الحتوف: القتل.
[3]
العريف: رئيس الجماعة.