الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ثلاث وثلاثين ذكر خبر من سار من أهل الكوفة إلى الشام وما كان من أمرهم
فى [1] هذه السّنة سيّر عثمان رضى الله عنه نفرا من أهل الكوفة إلى الشّام، وكان سبب ذلك أنّ سعيد بن العاص لمّا ولّاه عثمان الكوفة اختار وجوه النّاس، وأهل القادسيّة، وقرّاء أهل الكوفة، فكان هؤلاء يدخلون عليه فى منزله، وإذا خرج فكلّ النّاس يدخلون عليه، فدخلوا عليه يوما، فبينما هم يتحدّثون، قال حبيش ابن فلان: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد: إنّ من له مثل [2] النشاستج لحقيق أن يكون جواد، والله لو كان لى مثله لأعاشكم الله [به][2] عيشا رغدا.
فقال عبد الرحمن بن حبيش، وهو حدث: والله لوددت أنّ هذا الملطاط لك، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الّذى يلى الكوفة، فقالوا: فضّ الله فاك، والله لقد هممنا بك، فقال أبوه:
غلام فلا تجاوزه، فقالوا: يتمنّى سوادنا، ويتمنّى لكم أضعافه.
فثار به الأشتر وجندب وابن ذى الحنكة [3] ، وصعصعة، وابن الكوّاء، وكميل، وعمير بن ضابئ، فأخذوه، فثار أبوه ليمنع عنه،
[1] تاريخ ابن الأثير 3: 69، وتاريخ الطبرى 4: 317- 329، وفيها ذكر هذا الخبر فى حوادث سنة 33
[2]
من ص.
[3]
ك: «الحبلة» .
فضربوهما حتى غشى عليها، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون، حتى قضوا منهما وطرا، فسمعت بذلك بنو أسد، فجاءوا، وفيم طليحة، فأحاطوا بالقصر، وركبت القبائل فعادوا بسعيد، فخرج سعيد إلى النّاس، فقال: أيّها النّاس، قوم تنازعوا، وقد رزق الله العافية.
فردّهم، فتراجعوا. وأفاق الرجلان، فقالا: قاتلنا غاشيتك، فقال:
لا يغشّونى أبدا، فكفّا ألسنتكما ولا تجرّئا النّاس، ففعلا، وقعد أولئك النّفر فى بيوتهم، وأقبلوا يقعون فى عثمان رضى الله عنه.
وقيل: بل كان السّبب فى ذلك أنّه كان يسمر عند سعيد وجوه أهل الكوفة، منهم: مالك بن كعب الأرحىّ، والأسود بن يزيد وعلقمة ابن قيس النّخعيّان، ومالك بن الأشتر، غيرهم.
فقال سعيد: إنّما هذا السّواد بستان قريش، فقال الأشتر: تزعم أنّ السّواد الذى أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك! وتكلّم القوم معه، فقال عبد الرحمن الأسدىّ، وكان على شرطة سعيد: أتردّون على الأمير مقالته! وأغلظ لهم، فقال الأشتر: من هاهنا لا يفوتنّكم الرّجل، فوثبوا عليه فوطئوه وطئا شديدا حتّى غشى عليه، ثم جرّوا برجله فنضح بماء فأفاق، وقال: قتلنى من انتخبت، فقال: والله لا يسمر عندى أحد أبدا، فجعلوا يجلسون فى مجالسهم يشتمون عثمان وسعيدا، واجتمع إليهم النّاس حتّى كثروا.
فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان فى إخراجهم، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية: إنّ نفرا قد خلقوا
للفتنة، فقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشدا فأقبل [منهم][1] وإن أعيوك فارددهم [2] علىّ.
فلمّا قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم، وأجرى عليهم ما كان عليهم بالعراق بأمر عثمان وكان يتغدّى ويتعشّى معهم.
فقال لهم يوما: إنّكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفا، وغلبتم الأمم، وحزتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغنى أنّكم نقمتم قريشا؛ ولو لم تكن قريش كنتم أذلّة، إنّ أئمتكم لكم جنّة، فلا تفترفوا عن جنّتكم، وإنّ أئمتكم يصبرون [3] لكم على الجور، ويحملون عنكم المئونة، والله لتنتهنّ أو ليبتلينّكم الله بمن يسومكم ولا يحمدكم على الصّبر، ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرّعيّة فى حياتكم وبعد وفاتكم.
فقال صعصعة: أمّا ما ذكرت من قريش فإنّها لم تكن أكثر النّاس، ولا أرفقها، ولا أمنعها فى الجاهليّة فتخوّفنا، وأمّا ما ذكرت من الجنّة؛ فإنّ الجنّة إن اخترقت خلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن، وعلمت أنّ الّذى أغراكم على هذا قلّة العقول؛ وأنت خطيبهم، ولا أرى لك عقلا، أعظّم عليك أمر الإسلام وتذكّرنى الجاهليّة! أخزى الله قوما أعظموا أمركم.
افقهوا عنّى- ولا أظنّكم تفقهون- أنّ قريشا لم تعزّ فى جاهليّة ولا
[1] من ص.
[2]
ك: «فردوهم» .
[3]
ك: «يصرون» .
إسلام إلّا بالله تعالى، لم تكن بأكثر العرب ولا بأشدّهم؛ ولكنّهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا فى جاهليّة- والنّاس بأكل بعضهم بعضا- إلا بالله، فبوّأهم [1] حرما آمنا، يتخطّف النّاس من حولهم، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا، إلّا وقد أصابه الدّهر فى بلده وحرمته؛ إلّا ما كان من قريش؛ فإنّهم لم يردهم أحد من النّاس بكيد إلّا جعل الله خدّه الأسفل؛ حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم، واتّبع دينه من هوان الدّنيا وسوء مردّ الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا، ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، فلا يصلح ذلك إلّا عليهم، فكان الله تعالى يحوطهم فى الجاهليّة، وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه! أفّ لك ولأصحابك!.
أمّا أنت يا صعصعة، فإنّ قريتك شرّ القرى، أنتنها نبتا، وأعمقها واديا، وأعرفها بالشّرّ وألأمها، ألأم العرب ألقابا وأصهارا، نزّاع الأمم، وأنتم جيران الخطّ، وفعلة فارس، حتّى أصابتكم دعوة النبىّ صلى الله عليه وسلم، لم تسكن البحرين فتشركهم فى دعوة النّبىّ صلى الله عليه وسلم. فأنت شرّ قومك، حتى إذا أبرزك [2] الإسلام وخلطك بالناس [3] أقبلت تبتغى دين الله عوجا، وتنزع إلى الذّلّة، ولا يضرّ ذلك قريشا، ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إنّ الشيطان عنكم غير غافل، قد عرّفكم بالشّرّ فأغرى بكم النّاس
[1] ك: «مأواهم» .
[2]
ك: «أنذرك» .
[3]
ك: «بالإسلام» .
وهو صارعكم، ولا ندركون بالشر أمرا أبدا؛ إلّا فتح الله عليكم شرّا منه وأخزى.
ثمّ قام وتركهم، فتقاصرت إليهم أنفسهم.
فلمّا كان بعد ذلك أتاهم فقال: إنى قد أذنت فاذهبوا [1] حيث شئتم، لا ينفع الله بكم أحدا أبدا ولا يضرّه، ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرّة فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم، ولا يبطرنّكم الإنعام، فإنّ البطر لا يعترى الخيار، فاذهبوا حيث شئتم، فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم.
فلمّا خرجوا دعاهم وكلّمهم نحو كلامه الأوّل، وكتب إلى عثمان أنّه قدم علىّ أقوام ليست لهم عقول ولا أديان، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشىء، ولا يتكلّمون بحجّة؛ إنّما همّهم الفتنة، وأموال أهل الذّمّة، والله مبتليهم ومختبرهم، ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالّذين ينكئون أحدا إلّا مع غيرهم، فانه سعيدا ومن عنده عنهم؛ فإنّهم ليسوا لأكبر من شغب أو نكير.
قال: ولمّا خرجوا من دمشق قالوا: لا نرجع إلى الكوفة، فإنّهم يشمتون بنا، ولكن ميلوا إلى الجزيرة، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وكان على حمص، فدعاهم وقال: يا آلة الشّيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا! قد رجع الشيطان محسورا، وأنتم بعد نشاط، خسّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدّبكم [2] ، يا معشر من لا أدرى، أعرب أم عجم! لا تقولوا لى ما يبلغنى أنّكم قلتم لمعاوية: أنا ابن خالد بن
الوليد، أنا أبن من عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الرّدّه.
والله لمّن بلغنى يا صعصعة أنّ أحدا ممّن معى دقّ أنفك، ثمّ أمضّك، لأطيرنّ بك طيرة بعيدة المهوى. وأقامهم شهرا، كلّما ركب أمشاهم. فلمّا مرّ به صعصغة قال: يابن الخطيئة، أعلمت أنّ من لم يصلحه الخير أصلحه الشّرّ، مالك لا تقول كما بلغنى أنّك قلت لسعيد ومعاوية! فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله، فما زالوا به حتّى قال: تاب الله عليكم.
وسرّح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانيا، فقال له عثمان؛ احلل حيث شئت، قال: مع عبد الرحمن بن خالد؟ فقال، ذاك إليك، فرجع إليه.
وقد حكى بعض المؤرّخين من أخبارهم نحوما ما تقدم، وزاد فيه:
إنّ معاوية لمّا عاد إليهم من القابلة وذكّرهم، كان ممّا قال لهم: والله إنّى لا آمركم بشىء إلا قد بدأت فيه بنفسى، وأهل بيتى، وقد عرفت قريش أنّ أبا سفيان كان أكرمها، وابن أكرمها؛ إلّا ما جعل الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم، فإنّه انتخبه وأكرمه، وإنى لأظنّ أنّ أبا سفيان لو ولد النّاس لم يلد إلّا حازما.
قال صعصعة: كذبت، لقد ولدهم خير من أبى سفيان، من خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا له، وكان فيهم البرّ والفاجر، والأحمق والكيّس.
فخرج تلك الليلة من عندهم، ثم أتاهم من القابلة فتحدث
عندهم طويلا ثمّ قال: أيّها القوم، ردّوا خيرا أو اسكتوا، وتفكّروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم المسلمين فاطلبوه فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة، لك أن تطاع فى معصية الله عز وجل!. فقال: أليس أوّل ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعته وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا.
قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النّبىّ صلى الله عليه وسلم قال: فإنّى آمركم الآن، إن كنت فعلت فإنّى أتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته، وطاعة نبيّه، ولزوم الجماعة، وأن توقّروا أئمّتكم، وتدلّوهم على أحسن ما قدرتم عليه.
فقال صعصعة: فإنّا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإنّ فى المسلمين من هو أحقّ به منك؛ من كان أبوه أحسن قدما من أبيك فى الإسلام وهو أحسن قدما فى الإسلام من أبيك.
فقال: والله إنّ لى فى الإسلام قدما، ولغيرى كان أحسن قدما منّى، ولكن ليس فى زمانى أحد أقوى على ما أنا فيه منّى، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب، فلو كان غيرى أقوى منّى لم تكن عند عمر هوادة لى ولا لغيرى، ولم أحدث من الحدث ما ينبغى أن أعتزل عملى، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلىّ فاعتزلت عمله، فمهلا فإنّ فى ذلك وأشباهه ما يتمنّى الشيطان ويأمر.
ولعمرى، لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيّكم، ما استقامت
لأهل الإسلام يوما وليلة، فعاودوا الخير وقولوه، وإنّ لله لسطوات، وإنّى لخائف عليكم أن تتابعوا فى متابعة الشّيطان، ومعصية الرّحمن فيحلّكم بذلك دار الهوان فى العاجل والآجل.
فوثبوا عليه، وأخذوا رأسه ولحيته. فقال: مه! إنّ هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشّام ما صنعتم فىّ ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمرى إنّ صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم.
فكتب إلى عثمان نحو ما تقدّم، فكتب إليه يأمره أن يردّهم إلى سعيد بن العاص إلى الكوفة، فردّهم، فأطلقوا ألسنتهم، فضجّ سعيد منهم إلى عثمان، فكتب إليه أن يسيّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص، فسيّرهم إليه، فأنزلهم وأجرى عليهم رزقا. وكانوا [1] :
الأشتر، وثابت بن قيس الهمدانى، وكميل بن زياد، وزيد وصعصعة ابنا صوحان، وجندب بن زهير الغامدىّ، وجندب بن كعب الأزدىّ، وعروة بن الجعد، وعمرو بن الحمق الخزاعىّ، وابن الكّواء.
وفيها مات المقداد بن عمرو، المعروف بابن الأسود، وتوفّى الطّفيل والحصين ابنا الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم.
وحجّ عثمان بالنّاس.
[1] ك: «وهم كانوا» .