الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناس ويناديانهم: تغريق بتحريق! يذكّرانهم يوما من أيّام الجاهليّة، كانوا حرّقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض. ثم رجعوا إلى المثنّى وقد غرّقوهم. فبلغ ذلك عمر، فبعث إلى عتيبة وفرات، فاستدعاهما وسألهما عن قولهما، فأخبراه أنّهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب ذحل [1] ، إنّما هو مثل، فاستحلفهما على ذلك وردّهما إلى المثنّى.
وكانت هذه الوقائع الّتى ذكرناها بالعراق فى سنة ثلاث عشرة.
ثمّ كانت وقعة القادسيّة، والله أعلم.
ذكر خبر القادسية وأيامها
كان [2] ابتداء أمر القادسيّة أنّ الفرس لمّا مات ملكها أزدشير تفرّقت آراؤها، وكان المسلمون قد فتحوا من بلادهم ما ذكرناه فى خلافة أبى بكر الصّدّيق- رضى الله عنه- فى حياة أزدشير، ثم تابعوا الغارات عليهم، فاجتمعت الفرس وقالوا لرستم والفيرزان- وهما على أهل فارس-: لا زال بكما الاختلاف حتى أوهنتما [3] أهل فارس، وأطمعتما فيهم عدوّهم.
فاجتمعوا واستدعوا نساء كسرى وسراريّه، وكشفوا عمّن بقى من نسل الملوك الأكاسرة، فدلّوهم على يزدجرد، من ولد شهريار ابن كسرى، فاستدعوه وملّكوه عليهم وأطاعوه. فبلغ خبرهم المثنّى ابن حارثة، فكتب بذلك إلى عمر، فلم يصل الكتاب حتّى نقض
[1] ذحل، أى وتر، وفى ك:«دحل» تحريف.
[2]
ابن الأثير 2: 309 وما بعدها، تاريخ الطبرى 3: 477 وما بعدها، وذكر ذلك فى حوادث سنة 14.
[3]
ص: «أوهيتما» .
من كان له عهد من أهل السّواد، فخرج المثنّى حتّى نزل بذى قار، ونزل النّاس بالطّفّ فى عسكر واحد.
ولما وصل كتاب المثنّى إلى عمر قال: والله لأضربنّ ملوك العجم بملوك العرب؛ وكتب إلى عمّاله على العرب: ألّا يدعوا من له نجدة أو رأى، أو فرس، أو سلاح إلّا وجّهوه إليه، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة.
فاجتمع إليه النّاس، ولم يدع رئيسا ولا ذا رأى وشرف، ولا خطيبا ولا شاعرا إلّا استشارهم فى الخروج بنفسه لغزو الفرس، وأجمع رأى وجوه أصحاب النّبىّ صلى الله عليه وسلم أن يبعث رجلا من المسلمين ويضمّ إليه الجنود، واتّفق رأيهم على سعد بن أبى وقّاص، وكان على صدقات هوازن، فكتب إليه عمر بانتخاب ذوى الرأى والنّجدة والسّلاح، فجاء كتابه إلى عمر يقول: قد انتخبت لك ألف فارس، كلّهم له نجدة ورأى؛ إليهم انتهت أحسابهم.
فأمره بحرب العراق وضمّ إليه الجيوش، فخرج فى أربعة آلاف، وأمدّه عمر بعد خروجه بألفى يمانىّ، وألفى نجدىّ. وكان المثنّى بن حارثة فى ثمانية آلاف، فلمّا سار سعد توفّى المثنّى قبل وصوله، واجتمع مع سعد ثمانية آلاف، ثم أتته قبائل العرب، فكان جميع من شهد القادسيّة بضعة وثلاثين ألفا؛ منهم تسعة وتسعون بدريا، وثلاثمائة وبضعة عشر ممّن كانت له صحبة فيما بين بيعة الرّضوان إلى ما فوق ذلك، وثلاثمائة ممّن كان شهد الفتح، وسبعمائة من أبناء الصّحابة، فعبّأهم سعد بن أبى وقّاص، وأمّر الأمراء، وعرّف على
كلّ عشرة عريفا، وجعل أهل السّابقة على الرّايات؛ وسار بالجيوش حتى نزل القادسيّة بين العتيق والخندق بحيال القنطرة، وأقام بها شهرا لم يأته من الفرس أحد، فأرسل عاصم بن عمرو يطلب غنما أو بقرا، فلم يقدر عليها، وتحصّن منه من هناك، فأصاب رجلا بجانب أجمة، فسأله عن البقر والغنم، فقال: لا أعلم؛ فصاح ثور من الأجمة: كذب عدوّ الله، ها نحن، فدخل عدوّ الله، فاستاق البقر وأتى بها العسكر، فقسّمها سعد على النّاس. ثم بثّ الغارات بين كسكر والأنبار، فحووا من الأطعمة ما قام بهم زمانا، فاستغاث أهل السّواد إلى يزدجرد وقالوا: إمّا أن تدفع العرب، وإمّا أن نعطيهم ما بأيدينا، فأرسل إلى رستم وأمره بالمسير للقاء المسلمين، فاستعفاه من ذلك وسأله أن يجهّز الجالينوس، فأبى يزدجرد إلّا مسيره، فعسكر بساباط، ثم استعفاه ثانية من المسير، فأبى عليه.
واتّصلت الأخبار بسعد، فكتب إلى عمر فأجابه: لا تكربنّك ما يأتيك عنهم، واستعن بالله، وتوكّل عليه، وابعث إليه رجالا من أهل المناظرة والجلد يدعونه، فإنّ الله تعالى جاعل دعاءهم توهينا لهم؛ فأرسل نفرا، منهم: النّعمان بن مقرّن، وبسر بن أبى رهم، وحملة بن جويّة، وحنظلة بن الربيع، وفرات بن حيّان، وعدىّ بن سهيل، وعطارد بن حاجب، والمغيرة بن زرارة الأسدىّ، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسّان، وعاصم بن عمرو، وعمرو بن معدى كرب، والمغيرة بن شعبة، والمثنّى بن حارثة، إلى
يزدجرد دعاة، فقدموا عليه، فأحضر وزراءه، وأحضر رستم، واستشارهم فيما يقول لهم، وأجتمع النّاس ينظرون إليهم، ثم أذن إليهم، وأحضر التّرجمان، وقال له: سلهم ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا، والولوع ببلادنا؟ من أجل أنّنا تشاغلنا عنكم أجترأتم علينا! فقال النّعمان بن مقرّن لأصحابه: إن شئتم تكلّمت عنكم، ومن شاء آثرته. قالوا: بل تكلّم؛ فقال: إنّ الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولا يأمرنا بالخير. وينهانا عن الشّرّ، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة إلّا وقاربه منها فرقة، وتباعد عنه فرقه، ثم أمر أن نبتدئ إلى من خالفه من العرب فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين؛ مكره عليه فاغتبط، وطائع فازداد، فعرّفنا جميعا فضل ما جاء به على الّذى كنّا عليه من العداوة والضّيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهوين حسّن الحسن، وقبّح القبيح كلّه، فإن أبيتم فأمر من الشّر هو أهون من آخر شرّ منه، الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، وإن أجبتم إلى ديننا خلّفنا فيكم كتاب الله وأقمنا عليه. على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم وشأنكم وبلادكم.
وإن بذلتم الجزية قبلنا ومنعناكم، وإلّا قاتلناكم.
فتكلّم يزدجرد فقال: إنّى لا أعلم أمّة فى الأرض أشقى ولا أقلّ عددا، ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنّا نوكل بكم قرى الضّواحى فيكفوننا أمركم، ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غدر لحقكم فلا يغرّنكم منّا، وإن كان الجهد فرضنا لكم قوتا إلى خصبكم،
وأكرمنا وجوهكم وكسوناكم، وملّكنا عليكم ملكا يرفق بكم.
فأسكت [1] القوم.
فقام المغيرة بن زرارة فقال: أيّها الملك؛ إنّ هؤلاء رءوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وليس كلّ ما أرسلوا به قالوه، ولا كلّ ما تكلّمت به أجابوك عليه، فجاوبنى لأكون الّذى أبلغك وهم يشهدون على ذلك. وأمّا ما ذكرت من سوء الحال فهى على ما وصفت أو أشدّ، ثمّ ذكر من سوء عيش العرب، وإرسال النبىّ صلى الله عليه وسلم إليهم نحو قول النّعمان، وقتال من خالفهم أو الجزية؛ ثم قال: اختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت السيف، أو تسلم فتنحّى نفسك.
فقال: لولا أن الرّسل لا تقتل لقتلتكم، ثم قال: لا شىء لكم عندى؛ واستدعى بوقر [1] من تراب، فقال: احملوه على أشرف هؤلاء ثمّ سوقوه حتّى يخرج من باب المدينة. ارجعوا إلى صاحبكم فأعلموه أنّى مرسل إليكم [رستم][3] حتى يدفنكم ويدفنه معكم فى خندق القادسيّة، ثم أورده بلادكم حتّى أشغلكم فى أنفسكم بأشدّ مما نالكم من سابور.
فقام عاصم بن عمرو ليأخذ التراب، وقال: أنا أشرفهم، أنا سيّد هؤلاء؛ فحمله على عنقه وخرج إلى راحلته فركبها وأخذ التراب، وقال لسعد عند عوده: أبشر فقد والله أعطانا الله أقاليد ملكهم [4] .
[1] أسكت، مثل سكت.
[2]
الوقر: الحمل الثقيل.
[3]
من ص.
[4]
الأقاليد: جمع أقلود وهو المفتاح.
وقال يزدجرد لرسنم: ما كنت أرى أنّ فى العرب مثل هؤلاء، ما أنتم بأحسن جوابا منهم، ولقد صدقنى القوم، لقد وعدوا أمرا ليدركنّه أو ليموتنّ عليه، على أنّى وجدت أفضلهم أحمقهم حيث حمل التّراب على رأسه.
فقال رستم: أيّها الملك؛ إنّه أعقلهم. وخرج رستم وبعث فى أثر الوفد، وقال لثقته: إن أدركهم الرّسول تلافينا أرضنا، وإن أعزوه سلبكم الله أرضكم. فرجع الرسول من الحيرة بفواتهم.
فقال: ذهب القوم بأرضكم من غير شكّ، وكان منجّما كاهنا.
ولما سار الوفد أغار سواد بن مالك التّميمىّ على النّجاف والفراض، فاستاق ثلاثمائة دابّة من بعير وحمار وثور، وأوقرها سمكا، وصبّح العسكر، فقسّمه سعد بين النّاس؛ فسمّى يوم الحيتان. وكانت السّرايا تسرى إلى طلب الّلحوم، فإنّ الطّعام كان كثيرا عندهم.
وكانوا يسمّون الأيّام بها، منها يوم الأباقر ويوم الحيتان. وبعث سعد سريّة أخرى، فأغاروا فأصابوا إبلّا لبنى تغلب والنّمر فأستاقوها.
وسار رستم من ساباط، وبعث على مقدّمته الجالينوس فى أربعين ألفا، وخرج هو فى ستّين ألفا، وساقته فى عشرين ألفا، وجعل فى الميمنة الهرمزان، وفى الميسرة مهران بن بهرام الرازىّ. وأرسل سعد السّرايا ورستم بالنّجف، والجالينوس بين النّجف والسّيلحين.
وطاف فى السّواد، فبعث سوادا وحميضة كلّ منهما فى مائة، فأغاروا على النّهرين، وبلغ رستم الخبر، فأرسل إليهم خيلا، وسمع سعد أنّ خيله قد وغلت، فأرسل عاصم بن عمرو وجابرا الأزدىّ فى آثارهم،
فلحقهم عاصم وخيل فارس تحوشهم ليخلّصوا ما بأيديهم، فلمّا رأته الفرس هربوا، ورجع المسلمون بالغنائم. وأرسل سعد عمرو ابن معدى كرب وطليحة الأسدىّ طليعة، فسارا فى عشرة، فلم يسيروا إلّا فرسخا وبعض آخر حتى رأوا مسالحهم وسرحهم على الطّفوف قد ملئوها، فرجع عمرو ومن معه، وأبى طليحة إلّا التقدّم، ومضى حتّى دخل عسكر رستم، وبات فيه، فهتك أطناب بيت رجل واقتاد فرسه، ثم هتك على آخر بيته وحلّ فرسه، ثم فعل بآخر كذلك، ثم خرج يعدو به فرسه، ونذر به [1] النّاس، فركبوا فى طلبه، فأصبح وقد لحقه فارس من الجند فقتله طليحة، ثم آخر فقتله، ثم ثالث، فرأى مصرع صاحبيه وهما أبنا عمّه، فازداد حنقا، فلحق به طليحة، فكرّ عليه طليحة فأسره، ولحق النّاس، فرأوا فارسى الجند قد قتلا وأسر الثالث، وقد شارف طليحة عسكره فأحجموا عنه، ودخل طليحة على سعد ومعه الفارس وأخبره الخبر، فسأل التّرجمان الفارسىّ فطلب الأمان، فأمّنه سعد، فقال:
أخبركم عن صاحبكم هذا قبل أن أخبركم عمّن قتل؛ باشرت الحروب منذ أنا غلام إلى الآن، وسمعت بالأبطال، ولم أسمع بمثل هذا، أنّ رجلا قطع عسكرين إلى عسكر فيه سبعون ألفا يخدم الرجل منهم الخمسة والعشرة، فلم يرض أن يخرج كما دخل حتى سلب فرسان الجند، وهتك عليهم البيوت، فلمّا أدركناه قتل الأوّل، وهو يعدّ بألف فارس، ثم الثّانى وهو نظيره، ثم أدركته أنا، وما خلّفت بعدى من يعدلنى، وأنا الثّائر بالقتيلين، فرأيت الموت
[1] نذر به: علم به.
واستؤسرت، ثم أخبره عن الفرس. وأسلم ولزم طليحة، وكان من أهل البلاء بالقادسيّة، وسمّاه سعد مسلما.
ثم سار رستم وقدّم الجالينوس وذا الحاجب حتى وصل إلى القادسيّة، وكان بين مسيره من المدائن ووصوله أربعة أشهر، رجاء أن يضجروا فينصرفوا، ووقف على العتيق بحيال [عسكر][1] سعد، وكان معه ثلاثة وثلاثون فيلا، منها فيل سابور الأبيض، وكانت الفيلة تألفه.
وبات رستم ليلته. ثم أصبح وأرسل إلى سعد أن أرسل إلينا رجلا نكلّمه ويكلمنا، فأرسل إليه ربعىّ بن عامر، فأظهر رستم زينته، وجلس على سرير من ذهب، وبسط البسط والنّمارق والوسائد المنسوجة بالذّهب، وأقبل ربعىّ على فرسه، وسيفه فى خرقة، ورمحه مشدود بعصب [وقدّ][1]، فلما انتهى إلى البسط قيل له: انزل، فحمل فرسه عليها، ونزل وسطها بوسادتين شقّهما، وأدخل الحبل فيهما، فلم ينهوه وأروه التّهاون، وعليه درع؛ وأخذ عباءة بعيره فتدرّعها وشدّها على وسطه، فقالوا له: ضع سلاحك؛ فقال: لم آتكم فأضع سلاحى بأمركم، أنتم دعوتمونى، فأخبروا رستم؛ فقال: ائذنوا له.
فأقبل يتوكّأ على رمحه ويقارب خطوة، فلم يدع نمرقة ولا بساطا إلّا أفسده وهتكه، فلمّا دنا من رستم جلس على الأرض، وأركز رمحه على البسط؛ فقيل له: ما حملك على هذا؟ فقال: إنّا لا نستحلّ العقود على زينتكم، فقال له التّرجمان- واسمه عبود
[1] من ص.
[2]
من ص.
من أهل الحيرة- ما جاء بكم؟ قال: الله، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدّنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه، فمن قبل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أباه قاتلناه حتى يقضى الله إلى الجنّة أو الظّفر.
فقال رستم: قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتّى ننظر فيه؟ قال: نعم، وإنّ ممّا سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا نمكّن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن متردّدون عنكم ثلاثا فانظر فى أمرك، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: إمّا الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فتقبل؟؟؟ فنكفّ عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك؛ أو المنابذة فى اليوم الرّابع إلّا أن تبدأنا، وأنا كفيل بذلك عن أصحابى.
فقال: أسيّد أصحابك أنت؟ قال: لا، ولكنّا كالجسد الواحد، بعضنا من بعض، يجير أدنانا على أعلانا.
فخلا رستم برؤساء قومه، فقال: هل رأيتم أو سمعتم كلاما قطّ أعزّ وأوضح من كلام هذا الرّجل؟ فقالوا: معاذ الله أن نميل إلى دين هذا الكلب، أما ترى إلى ثيابه! فقال: ويحكم! لا تنظروا إلى الثياب، ولكن انظروا إلى الرأى والكلام والسّيرة؛ إنّ العرب تستخفّ بالّلباس، وتصون الأحساب؛ ليسوا مثلكم.
فلمّا كان من الغد أرسل رستم إلى سعد: أن أبعث إلينا ذلك الرجل، فبعث إليهم حذيفة بن محصن، فأقبل فى نحو من ذلك
الزّىّ، فلم ينزل عن فرسه حتّى وقف على رستم. فقال له: انزل، قال: لا أفعل، فقال: ما جاء بك ولم يأت الأوّل؟ قال: إنّ أميرنا يحبّ أن يعدل بيننا فى الشّدة والرّخاء، وهذه نوبتى. فقال:
ما جاء بكم؟ فأجابه نحو الأوّل. فطلب رستم الموادعة إلى يوم ما.
فقال: نعم، ثلاثا من أمس، فردّه.
وأقبل رستم على أصحابه فقال: ويحكم! ألا ترون ما أرى؟
جاءنا الأوّل بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقّر ما نعظّم، وأقام فرسه على زبرجنا [1] ؛ وجاء هذا اليوم فوقف علينا وهو فى يمن الطائر، يقوم على أرضنا دوننا.
فلمّا كان الغد أرسل أن ابعثوا لنا رجلا، فبعث إليهم المغيرة بن شعبة، فأقبل عليهم، وعليهم التّيجان والثياب المنسوجة بالذهب، وبسطهم على غلوة سهم [2] ، لا يوصل إلى صاحبهم حتى يمشى عليها، فأقبل المغيرة حتى جلس مع رستم على سريره، فوثبوا عليه وأنزلوه ومعكوه [3] ؛ فقال: قد كان يبلغنا عنكم الأحلام [4] ، ولا أرى قوما أسفه منكم؛ إنّا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضا، فظننت أنّكم تواسون قومكم كما نتواسى، فكان أحسن من الّذى صنعتم أن تخبرونى أنّ بعضكم أرباب بعض؛ وأنّ هذا الأمر لا يستقيم فيكم ولا يصنعه أحد، وأنا لم آتكم ولكن دعوتمونى، اليوم علمت
[1] الزبرج: الزينة من وشى أو جوهر.
[2]
الغلوة: مقدار مرمى السهم.
[3]
معكوه: دلكوه بالتراب.
[4]
الأحلام: جمع حلم وهو العقل.
أنّكم مغلوبون، وأنّ ملكا لا يقوم على هذه السّيرة ولا [على][1] هذه العقول.
فقالت السّفلة: صدق والله الأعرابىّ.
وقالت الدّهاقين [2] : والله لقد رمى بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل الله أوّلينا حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمّة! ثمّ تكلّم رستم، فحمد قوته، وعظّم أمرهم، وذكر تمكّنهم فى البلاد، وقوّة سلطانهم، وذكر معيشة العرب وما هم عليه من الفاقة، وقال: كنتم تقصدوننا إذا قحطت بلادكم، فنأمر لكم بشىء من التّمر والشّعير، ثم نردّكم، وقد علمت أنّه لم يحملكم على ما صنعتم إلّا الجهد فى بلادكم، فأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وآمر لكلّ رجل منكم بوقر [3] تمر وتنصرفون عنا؛ فإنّى لست أشتهى أن أقتلكم.
فتكلّم المغيرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: إنّ الله خلق كلّ شىء ورزقه، فمن صنع شيئا فإنّما هو بصنعه. فأمّا الّذى ذكرت به نفسك وأهل بلادك فنحن نعرفه، والله صنعه بكم، ووضعه فيكم، وهو له دونكم؛ وأمّا الّذى ذكرت فينا من سوء الحال والضيق فلسنا ننكره، والله ابتلانا به، والدّنيا دول، ولم يزل أهل الرّخاء يتوقّعون الشدائد حتى تنزل بهم، ولو شكرتم ما آتاكم الله تعالى لكان شكركم يقصر عمّا أوتيتم، فأسلمكم ضعف الشكر
[1] من ص وابن الأثير.
[2]
الدهاقين: جمع دهقان. وهو زعيم فلا حى العجم، أو رئيس الإقليم.
[3]
الوقر، بالكسر: الحمل.
إلى تغيّر الحال، ولو كنّا فيما ابتلينا به أهل الكفر لكان عظيم ما أبتلينا به مستجلبا من الله رحمة يردّه بها عنّا؛ إنّ الله تبارك وتعالى بعث فينا رسولا؛ ثم ذكر مثل ما تقدّم من ذكر الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وقال: إنّ عيالنا قد ذاقوا طعام بلادكم، فقالوا: لا صبر لنا عنه.
فقال رستم إذا تموتون دونه! فقال المغيرة: يدخل من قتل منّا الجنّة، ومن قتل منكم النار، ويظفر من بقى منّا بمن بقى منكم.
فاستشاط رستم غضبا، ثم حلف ألّا يرتفع الصّبح غدا حتى أقتلكم أجمعين.
وأنصرف المغيرة، وخلا رستم بأهل فارس وقال: أين هؤلاء منكم! هؤلاء والله الرّجال، صادقين كانوا أم كاذبين! والله لئن كان بلغ من عقلهم وصونهم لسرّهم ألّا يختلفوا، فما قوم أبلغ لما أرادوا منهم، وإن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شىء. فلجّوا وتجلّدوا، فقال: أطيعونى يا أهل فارس؛ إنّى لأرى لله فيكم نقمة لا تستطيعون ردّها.
ثم أرسل إليه سعد ثلاثة من ذوى الرّأى، فقالوا له: إنّ أميرنا يدعوك لما هو خير لنا ولك؛ والعافية أن تقبل ما دعاك إليه، ونرجع إلى أرضنا وترجع إلى أرضك، وداركم لكم وأمركم فيكم، وما أصبتم كان زيادة لكم دوننا، وكنّا عونا لكم على من أرادكم، فاتّق الله ولا يكوننّ هلاك قومك على يديك، وليس بينك وبين أن نغتبط بهذا الأمر إلّا أن تدخل فيه، وتطرد [به][1] الشيطان عنك؛ فقال
[1] من ص.
لهم: إنّ الأمثال أوضح من كثير من الكلام، إنّكم كنتم أهل جهد وقشف [1] ، لا تنتصفون ولا تمتنعون، فلم نسىء جواركم، وكنّا نميركم [2] ونحسن إليكم، فلمّا طعمتم طعامنا، وشربتم شرابنا، وصفتم لقومكم ذلك، ووعدتموهم ثم أتيتمونا، وإنّما مثلكم ومثلنا كمثل رجل كان له كرم، فرأى فيه ثعلبا، فقال:
وما ثعلب! فانطلق الثّعلب فدعا الثّعالب إلى ذلك الكرم، فلمّا اجتمعوا إليه شدّ صاحب الكرم النقب الذى كنّ يدخلن منه فقتلهنّ.
فقد علمت أن الذى حملكم على هذا الحرص والجهد، فارجعوا ونحن نميركم؛ فإنّى لا أشتهى أن أقتلكم. ومثلكم أيضا كالذّباب يرى العسل فيقول: من يوصلنى إليه وله درهمان، فإذا دخله غرق ونشب [3]، فيقول: من يخرجنى وله أربعة دراهم؟
وقال: ما دعاكم إلى ما صنعتم، ولا أرى عددا ولا عدّة! قال: فتكلّم القوم، وذكروا سوء حالهم، وما منّ الله تعالى عليهم من إرسال رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلافهم أوّلا، واجتماعهم على الإسلام، وما أمرهم به من الجهاد، وقالوا: وأمّا ما ضربت لنا من الأمثال فليس كذلك، ولكن إنّما مثلكم كمثل رجل غرس أرضا واختار لها الشّجر، وأجرى إليها الأنهار وزيّنها بالقصور، وأقام فيها فلّاحين يسكنون قصورها ويقومون على جنّاتها، فخلا
[1] : القشف قذر الجلد وسوء الحال.
[2]
نميركم: نطعمكم.
[3]
نشب، أى وقع فيما لا مخلص منه.
الفلّاحون فى القصور على ما لا يحبّ، فأطال إمهالهم فلم يستجيبوا [1] ، فدعا إليها غيرهم وأخرجهم منها، فان ذهبوا عنها يختطفهم الناس، وإن أقاموا فيها صاروا خولا [2] لهؤلاء، فيسومونهم الخسف أبدا، والله لو لم يكن ما نقول حقا ولم يكن إلّا الدّنيا لما صبرنا عن الّذى نحن فيه من لذيذ عيشكم، ورأينا من زبرجكم، ولقارعناكم [3] عليه؛ فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟ فقالوا: بل أعبروا إلينا. ورجعوا من عنده عشيّا، وأرسل سعد إلى النّاس أن يقفوا مواقفهم، وأرسل إليهم شأنكم والعبور، فأرادوا الجواز على القنطرة فمنعهم المسلمون، وقالوا: أمّا شىء غلبناكم عليه فلا نردّه عليكم، فباتوا يسكرون [4] العتيق بالتّراب والقصب والبراذع حتّى الصباح، وجعلوا طريقا، واستتم بعد ما ارتفع النهار. ورأى رستم من اللّيل كأنّ ملكا نزل من السّماء، فأخذ قسىّ أصحابه فختم عليها، ثم صعد بها إلى السّماء، فاستيقظ مهموما، واستدعى خاصّته فقصّها عليهم، وقال:
إنّ الله ليعظنا لو أتّعظنا، ثمّ ركب، وعبر وعليه درعان ومغفر، وأخذ سلاحه وعبر الفرس العتيق، ثم كانت الحرب. والله تعالى أعلم بالصّواب، وإليه المرجع والمآب.
[1] ابن الأثير: «فلم يستحيوا» .
[2]
خولا: خدما.
[3]
قارعناكم: قاتلناكم.
[4]
سكر النهر: سد فاه بالتراب.