الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجعل بعضُ الأصوليين المناسبةَ بين المعنيين مِنْ جهةِ أنَّ المقلِّدَ كأنَّه يطوِّق المجتهدَ إثمَ ما غشَّه به في دينِه، وكَتَمَه عنه مِنْ علمِه، إنْ كان المجتهدُ أخطأ في قولِه؛ أخذًا مِنْ قولِه تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}
(1)
.
وقد أشارَ أبو الخطابِ إلى مناسبةٍ أخرى، فقالَ: "التقليدُ مشتقٌ مِنْ تطويقِ المقلِّد للمقلَّد ما يتعلقُ بذلك الحكمِ مِنْ خيرٍ وشرٍّ، كتطويقِ القلادة، وخصَّ بذلك؛ لأنَّ القلادةَ ألزمُ الملابسِ لعنقِ الإنسانِ، ولهذا يُقالُ للشيءِ اللازم: هذا عُنقُ فلانٍ، أيْ: لزومُه له كلزومِ القلادةِ
…
وإنَّما سُمّي بذلك؛ لأنَّ المقلِّد يَقْبَلُ قولَ المقلَّدِ بغيرِ حجةٍ، فيلزمُ المقلِّد ما كان في ذلك القولِ مِنْ خيرٍ وشرٍّ"
(2)
.
العلاقةُ بين التمذهبِ والتقليدِ:
سَبَقَ وأنْ بيّنتُ اختلافَ الأصوليين في دخولِ أخذِ العامي قول المجتهدِ في حقيقةِ التقليدِ، وسأسيرُ هنا على القولِ القائلِ بأنَّه داخلٌ في حقيقةِ التقليدِ؛ لأنَّه قولُ معظمِ الأصوليين
(3)
.
يقولُ بدرُ الدينِ الزركشي: "مَنْ نَظَرَ كتبَ العلماءِ والخلافيين وَجَدها طافحةً بجعلِ العوامِّ مقلدين"
(4)
.
يجتمعُ التمذهبُ والتقليدُ في: أنَّ كلًا منهما أخذٌ لقولِ قائلٍ.
ويفترقُ التمذهبُ والتقليدُ في أمورٍ، منها:
الأول: التمذهبُ أخذُ قولِ إمامٍ مجتهدٍ، أمَّا التقليدُ، فهو أخذ لقولِ قائلٍ سواءٌ أكان القائلُ مجتهدًا، أم غيرَ مجتهدٍ.
(1)
من الآية (13) من سورة الإسراء. وانظر: رسالة في أصول الفقه للعكبري (ص/ 128)، وشرح مختصر الروضة (3/ 651 - 652).
(2)
التمهيد في أصول الفقه (4/ 395).
(3)
انظر: البحر المحيط (6/ 274)، والتحبير (8/ 4016).
(4)
البحر المحيط (6/ 274).
الثاني: التمذهبُ أخذُ أقوالِ إمامٍ معيَّنٍ، أمَّا التقليدُ، فقد يكونُ الأخذُ فيه - عند تعدد الوقائع - عن مجتهدٍ معيّنٍ، وقد يكونُ عن عددٍ مِن المجتهدين.
الثالث: يمثِّلُ التمذهبُ منظومةً متكاملةً مِن الفقهِ وأصولِ الفقهِ والقواعدِ والضوابطِ الفقهيةِ، أمَّا التقليدُ، فهو خالٍ عن هذه الأمورِ.
الرابع: يتفرع عن الثالثِ: أن التمذهبَ في كثيرٍ مِنْ صورِه طريقٌ للتفقه، أمَّا التقليدُ، فليس بطريقٍ للتفقه.
يقولُ القاضي عبدُ الوهاب المالكي
(1)
: "والتفقهُ مِن التفهمِ والتبيّن، ولا يكونُ ذلك إلا بالنظرِ في الأدلةِ واستيفاءِ الحجةِ، دون التقليدِ؛ فإنَّه لا يُثْمِرُ عِلْمًا، ولا يُفْضِي إلى معرفةٍ"
(2)
.
ويقولُ - أيضًا -: "فإنْ قِيلَ: أتراكم تعتقدونَ مذهبَ مالك بنِ أنس رحمه الله وتختارونه دونَ غيرِه مِنْ مذاهبِ المخالفين، وتُخبِرونَ عنْ صوابِه، وتَأمُرون مبتدئَ التفقهِ بدرسِه، فَخَبِّرُونا عنْ موجبِ ذلك عندكم، أهو تقليدُكم له، وأنَّكم صرتم إليه؛ لأنَّه قال؟ أو لأنَّ الدليلَ قامَ عندكم عليه؟
(1)
هو: عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن مالك التغلبي البغدادي، أبو محمد المعروف بالقاضي عبد الوهاب، ولد ببغداد سنة 362 هـ كان إمام المالكية بالعراق، علامةً بارعًا في الفقه والأصول، حسن النظر، جيد العبارة، انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي في زمانه، له شعر جميل، من مؤلفاته: التلقين، والمعونة على مذهب عالم المدينة، وعيون المجالس - وهو اختصار لعيون الأدلة لابن القصار - والتلخيص في أصول الفقه، والإفادة، والإشراف في مسائل الخلاف، والمعرفة في شرح الرسالة، توفي سنة 422 هـ.
انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (12/ 292)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (7/ 220)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 219)، وسير أعلام النبلاء (17/ 429)، وفوات الوفيات لابن شاكر (2/ 419)، والديباج المذهب لابن فرحون (2/ 226)، والبداية والنهاية (15/ 639)، والوفيات لابن قنفذ (ص/ 233)، وشذرات الذهب لابن العماد (5/ 112)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 103).
(2)
نقل جلالُ الدين السيوطي كلام القاضي عبد الوهاب في: الرد على من أخلد إلى الأرض (ص/ 107)، وانظر منه:(ص/ 110).
قيل له: إنَّا لم نصرْ إلى قولِه إلا وقد علمْنَا صحتَه، وعرفنا صحةَ الأصولِ التي بَنَى عليها، واعتمدَ في اجتهادِه على الرجوعِ إليها، فلمَّا عرفنا ذلك مِنْ مذهبِه اعتقدناه، وحَكَمْنَا بصوابِه"
(1)
.
ويقولُ أحدُ المعاصرين: "وقد وجدنا لمَنْ يطلبُ الفقهَ - بالجلوسِ في حلقاتِ العلمِ - أنَّ أحكمَ طريقةٍ، وأسرعَ وأحسنَ وسيلةٍ تُوصِلُه إلى غايتِه، أنْ يتخذَ واحدًا مِن المذاهبِ الأربعةِ وسيلة للتفقهِ في الشريعةِ، أيْ: أنْ يتمذهبَ"
(2)
.
الخامس: لا يصحُّ التمذهبِ مِن العامي - على خلاف في ذلك، كما سيأتي الحديث عنه في مسألةٍ مستَقلةٍ - أمَّا التقليدُ، فيصحُّ مِن العامي.
السادس: التقليدُ أسبقُ في الوجودِ مِن التمذهبِ؛ إذْ وَقَعَ التقليدُ في عهدِ الصحابة رضي الله عنهم، ولم يكنْ ثَمّةَ تمذهبٌ بالمعنى المعَهودِ.
السابع: أنَّ معرفةَ الدليلِ تُخرجُ مِنْ حقيقةِ التقليدِ - على خلافٍ في نوعِ هذه المعرفةِ - بخلافِ التمذهبِ، فإنَّ معرفةَ الدليلِ لا تُخْرِجُ عن حقيقةِ التمذهبِ.
الثامن: أنَّ التمذهبَ طريقٌ لمعرفةِ حكمِ النازلةِ؛ بتخريجِها على فروعِ المذهبِ أو على أصولِه، أمَّا التقليدُ، فليسَ بطريقٍ لمعرفةِ حكمِ النازلةِ.
نخلصُ مِنْ هذا إلى أنَّ مِنْ التمذهبِ ما هو تقليدٌ، ومنه ما ليسَ بتقليدٍ، فالأول هو التقليد المذهبي، والثاني هو الاجتهاد المذهبي، والذي يُمْكِنُ أنْ يُسمَّى بالاجتهادِ المشوبِ بالتقليدِ.
وإذا أردنا معرفةَ النسبةِ بين التمذهبِ والتقليدِ، نجدُ أنَّهما يجتمعان في شخصين:
(1)
المعونة على مذهب عالم المدينة (ص/248 - 249).
(2)
برنامج عملي للمتفقهين للدكتور عبد العزيز القارئ (ص/ 26).
الأول: الشخصُ غيرُ العامي الذي لم يبلغْ رتبةَ الاجتهادِ، ويقلِّدُ إمامَه ومذهبَه، دونَ معرفتِه بدليلِه.
الثاني: المجتهدُ المنتسبُ إلى مذهبِ الذي يأخذُ بقولِ إمامِ المذهبِ، دونَ معرفتِه بدليلِه.
وينفردُ التمذهبُ عن التقليدِ في: الشخصِ غيرِ العامي الذي لم يبلغْ رتبةَ الاجتهادِ، ويأخذُ بقولِ إمامِه، مع معرفتِه بدليلِه.
وينفردُ التقليدُ عن التمذهبِ في: العامي الذي يأخذُ - بقولِ المجتهدِ، أو بقولِ عامي مثلِه.
وبناءَ على ما سبقَ، فالنسبةُ بين التمذهبِ والتقليدِ هي: العمومُ والخصوصُ الوجهي.
* * *