الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثال ذلك: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
(1)
، دلت الآيةُ الكريمةُ على حكمٍ مقطوعٍ به، وهو الجلدُ ثمانين جلدةً لمَنْ يرمي المحصناتِ
(2)
.
المسأله الثالثة: شروط نقل المذهب
حَوَت المذاهبُ الفقهيةُ عددًا كبيرًا مِن المؤلفاتِ المحتويةِ على كمٍّ هائلٍ مِن المسائلِ المنسوبةِ إلى المذهبِ، وإذا أراد الناظرُ معرفةَ المذهب ونقلَه، فلهذا طرقٌ، ولكلِّ طريقٍ منها شروطٌ تخصّه، وإليكَ بيانها:
الطريق الأول: ما صنّفه إمامُ المذهبِ.
الطريق الثاني: ما نقله تلاميذُ إمامِ المذهبِ، ومعاصروه.
الطريق الثالث: ما دوّنه أربابُ المذهب في مؤلفاتِهم الأصوليةِ والفقهية.
الطريق الأول: ما صنّفه إمامُ المذهبِ.
تقدَّم لنا الحديثُ عمّا صنّفه إمامُ المذهبِ باعتبارِه أحد الطرقِ الدالة على قولِه، وعن أحوالِ ما يذكرُه إمامُ المذهبِ باعتبارِ دلالتِه على قولِه.
يقولُ ابنُ الهمامِ الحنفي: "طريقُ نقلِه - أيْ: المفتي - عن المجتهدِ أحدُ أمرين: إمَّا أنْ يكونَ له فيه سندٌ إليه، أو يأخذَه مِنْ كتابِ معروفٍ"
(3)
.
وحديثي هنا عن الشروطِ الواجبِ توافرها لنقلِ مذهبِ الإمامِ مِنْ كتابِه.
(1)
من الآية (4) من سورة النور.
(2)
انظر: دراسات في الاجتهاد للدكتور عبد المجيد السوسوة (ص/ 37).
(3)
فتح القدير (6/ 360).
ينبغي أنْ تكونَ نسبةُ القولِ إلى إمامِ المذهبِ دقيقةً؛ لما يترتبُ على ثبوتِها مِنْ آثار شرعيةٍ في الأخذُ بالقولِ، والاعتداد به في الخلافِ
(1)
.
ويشترطُ لنسبةِ القولِ إلى إمامِ المذهبِ بناءً على ما ألَّفه الشروطُ الآتيةُ:
الشرط الأول: ثبوتُ نسبةِ الكتابِ إلى إمامِ المذهبِ
(2)
.
يُشترطُ لمنْ أرادَ أنْ يأخذَ أقوالَ إمامِ المذهبِ مِنْ مؤلَّفٍ له أنْ تثبتَ نسبةُ المؤلَّفِ إليه، أمَّا إذا لم تصحَّ نسبةُ الكتاب إليه، فلا يسوغُ أخذُ ما فيه، ونسبتُه إلى إمامِ المذهبِ؛ لأنَّه لا يصحُّ أنَّ ننسبَ أقوالًا بناءً على كتابٍ منحولِ النسبةِ.
وتأتي أهميةُ هذا الشرطِ؛ نظرًا لوجودِ مؤلفات منسوبةٍ إلى بعضِ الأئمةِ لا تصحُّ نسبتُها إليهم.
أمثلة للكتب المنحولة النسبة:
المثال الأول: رسالةُ أحمدَ بن جعفر الاصطخري
(3)
المنسوبة إلى الإمامِ أحمدَ بن حنبل
(4)
:
ضعّفَ جمعٌ مِن المحققين نسبةَ هذه الرسالةِ إلى الإمامِ أحمدَ، منهم:
(1)
انظر: منهج البحث في الفقه للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان (ص/ 168).
(2)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 72)، وأدب المفتي والمستفتي (ص/ 115)، والتحصيل من المحصول (2/ 301)، ونهاية السول (4/ 580)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2945)، ورسالة في بيان الكتب التي يعول عليها لمحمد المطيعي (ص/67)، والإمام زيد - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 241).
(3)
هو: أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله، أبو العباس الفارسي الاصطخري، روى عن الإمام أحمد بن حنبل أشياء، منها: الرسالة المشهورة، والمعلومات المذكورة في مصادر الترجمة شحيحة. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 54)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 84)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 46)، والدر المنضد له (1/ 118).
(4)
انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 54 - 74).
شمسُ الدين الذهبي
(1)
، وابنُ الوزيرِ
(2)
، فلا تصحُّ نسبة قولٍ إلى الإمامِ أحمدَ بناءً على ما جاءَ في هذه الرسالةِ.
المثال الثاني: رسالة الصلاةِ المنسوبة إلى الإمامِ أحمدَ بن حنبل
(3)
.
ضعّفَ نسبةَ رسالةِ الصلاةِ إلى الإمامِ أحمدَ جمعٌ مِن المحققين، منهم: شمسُ الدينِ الذهبي
(4)
، والشيخُ محمد ناصر الدين الألباني
(5)
.
(1)
انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 302). والذهبي هو: محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني، أبو عبد الله شمس الدين الذهبي، ولد بدمشق سنة 673 هـ كان من كبار محدثي عصره، حافظًا لا يجارى، ولافظًا لا يبارى، أعرف أهل زمانه بعلم الحديث وعلله، وبالتاريخ والسير، لا يدانيه أحدٌ في معرفته برجال الحديث وعلوم الجرح والتعديل، يقول عنه تاج الدين بن السبكي:"كأنَّما جُمِعَت الأمة في صعيد واحد، فنظرها، ثم أخذ يخبر عنها إخبار من حضرها"، تفقه على المذهب الشافعي، وكان جيد الفهم، ثاقب الذهن، له مؤلفات مشهورة، منها: سير أعلام النبلاء، وتاريخ الإسلام، وميزان الاعتدال، توفي بدمشق سنة 748 هـ. انظر ترجمته في: الوافي بالوفيات للصفدي (2/ 163)، وفوات الوفيات لابن شاكر (3/ 315)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (9/ 100)، وطبقات الشافعية للإسنوي (1/ 558)، والدرر الكامنة لابن حجر (3/ 336)، وشذرات الذهب لابن العماد (8/ 264)، والبدر الطالع للشوكاني (ص/ 626).
(2)
انظر: العواصم والقواصم (3/ 312). وابن الوزير هو: محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل بن المنصور اليماني، المعروف بابن الوزير، ولد بهجرة الظهراوين باليمن سنة 775 هـ كان أحد كبار العلماء في وقته، وقد قرأ على أكابر المشايخ في بلده وفي مكة، وتبحر في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر صيته، وبَعُد ذكره، وطار علمه في الأقطار، كان من الداعين إلى نبذ التقليد المذهبي الذي كان عليه أرباب قطره، ومن الناصرين للاجتهاد المطلق، جرت بينه وبين علماء بلده من الزيدية عدوات ومحن، وكان يصاولهم ويجاولهم بالحجة، وبعد ذلك آثر العزلة، وأقبل على العبادة، من مؤلفاته: العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، والروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وإيثار الحق على الخلق، وتنقيح الأنظار في علوم الآثار، والبرهان القاطع في معرفة الصانع، توفي سنة 840 هـ. انظر ترجمته في: الضوء اللامع للسخاوي (6/ 272)، وترجمة ابن الوزير لمحمد الهادي الوزير (1/ 22) مطبوعة في مقدمة تحقيق الروض الباسم، والبدر الطالع للشوكاني (ص/ 599)، وأبجد العلوم للقنوجي (ص/ 677)، والأعلام للزركلي (5/ 300).
(3)
انظر: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 437 - 475).
(4)
انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 287).
(5)
انظر: صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (ص/33).
وليس المقامُ مقامَ تحقيقِ نسبةِ هاتين الرسالتين، بل المقصودُ التمثيلُ فحسب.
وإذا ثبتتْ صحةُ نسبةِ الكتابِ إلى إمامِ المذهبِ، ساغَ أخذُ أقوالِه منه.
ولا يشترطُ للنقلِ عن كتبِ الأئمةِ وجودُ إسنادٍ إليها.
يقولُ أبو بكرٍ الجصاص: "أمّا ما يُوْجَدُ مِنْ كلامِ رجلٍ ومذهبِه في كتابٍ معروفٍ به، قد تناولته النسخُ، فإنَّه جائزٌ لمنْ نَظَرَ فيه أنْ يقولَ: قالَ فلانٌ كذا، ومذهبُ فلانٍ كذا، وإنْ لم يسمعْه مِنْ أحدٍ
…
لأنَّ وجودَ ذلك على هذا الوصفِ بمنزلةِ خبرِ التواترِ والاستفاضةِ، لا يحتاجُ مثلُه إلى إسنادٍ
…
ولو لم يكنْ هذا هكذا، لما جازَ لأحدٍ أنْ يقولَ لموطأ مالكٍ، أو كتابِ أبي يوسفَ: هذا كتابُ فلانٍ، وهذا كتابُ فلانٍ، إذا لم يكنْ قد سمعه بإسنادٍ"
(1)
.
ويقولُ جلالُ الدين السيوطي: "قال الزركشيُّ في جزءٍ له: وحكى الأستاذُ أبو إسحاقَ الإسفراييني الإجماعَ على جوازِ النقلِ مِن الكتبِ المعتمدةِ، ولا يُشترطُ اتصالُ السندِ إلى مصنفيها.
وذلك شاملٌ لكتبِ الحديثِ، والفقهِ"
(2)
.
الشرط الثاني: سلامةُ الكتابِ مِن التحريفِ والتصحيفِ
(3)
.
لا بُدَّ أنْ يكونَ الكتابُ خاليًا مِن التحريفِ والتصحيفِ؛ ليأمنَ الناظرُ فيه مِن الوقوعِ في الخطأ؛ نتيجةً لسوءِ النسخةِ التي وَقَفَ عليها.
الشرط الثالث: أنْ يدلَّ كلامُ إمامِ المذهبِ على المسألةِ.
(1)
الفصول في الأصول (3/ 192).
(2)
الأشباه والنظائر (2/ 548). وانظر: تدريب الراوي للسيوطى (1/ 220).
(3)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 72)، ونفائس الأصول (9/ 4111)، وسلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 26)، والمدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 123).
وهذا الشرطُ بيّنُ الظهورِ؛ وقد تقدّم لنا الحديثُ عنْ أحوالِ ما يُورده الإمامُ في مؤلفاتِه مِنْ حيثُ دلالتُه على قولِه واختيارِه.
الشرط الرابع: معرفةُ اصطلاحِ الإمامِ، ومراتبِ ألفاظِه
(1)
.
قد يَرِدُ في كلام إمامِ المذهبِ مصطلحٌ يدلُّ على معنى معيّنٍ، شائعٍ في وقتِه، ويخالفه المتأخرون في معناه، ويأتي الخطأُ مِنْ حملِ معنى المصطلحِ الواردِ في كلامِ الإمامِ على ما اصطلحَ عليه المتأخرون، دونَ انتباهٍ إلى اختلافِ الاصطلاحِ.
وذلك مثلُ مصطلحِ: (الكراهة)
(2)
، فإنَّه يطلقُ في اصطلاحِ المتقدمين على المكروه تنزيهًا، وعلى المحرّمِ، فمَنْ لم يعرف اصطلاحَهم وَهِمَ في نسبةِ القولِ إلى الأئمةِ.
الشرط الخامس: عدمُ رجوعِ إمامِ المذهبِ عن قولِه.
ممَّا هو معلومٌ أنَّ إمامَ المذهب قد يُجددُ اجتهادَه في بعضِ المسائلِ، وقد ينشأُ عنه رجوعُه عن قولِه الأولِ، وانتقاله إلى قولٍ آخر.
فإذا وَقَفَ الناظرُ على قولٍ لأحدِ الأئمةِ مدوَّنٍ في مؤلَّفِه، واحتملَ رجوعُ الإمامِ عنْ قولِه، فلا بُدَّ مِنْ أنْ يتأكدَ مِنْ بقائِه على القولِ، وعدمِ رجوعِه عنه؛ إذ لو رَجَعَ عن القولِ لما صحّتْ نسبتُه إليه
(3)
، وهذا التقريرُ بناءً على أنَّ القولَ المرجوعَ عنه لا يُنسبُ إلى قائلِه، وسيأتي الحديثُ عن هذه المسألةِ في مطلبٍ مستقلٍّ.
ويتصلُ بهذا الشرطِ: ما إذا كان لإمامِ المذهبِ أكثرُ مِنْ مؤلَّفٍ، فممَّا يتأكدُ في هذه الحالةِ النظرُ في بقيةِ مؤلفاتِه؛ ليأمنَ عدمَ رجوعِ إمامِه عنْ قولِه.
(1)
انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 22)، وبلوغ السول لمحمد مخلوف (ص/ 96).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (2/ 75).
(3)
انظر: الواضح في أصول الفقه (2/ 224).