الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقول بدرُ الدين الزركشي: "في جوازِ تقليدِ المجتهدِ لمجتهدِ آخر خلافٌ
…
وينبغي التفاتُ الخلافِ على الخلافِ في أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، أم لا؟ "
(1)
.
السبب الرابع: مدى اعتبارِ حالةِ المجتهدِ إذا ضاق عليه الوقتُ، أو تعذّر عليه الاجتهادُ حالة حاجةٍ أو ضرورةٍ؛ ليقلِّدَ غيرَه.
فمَنْ لم يعتبرْ حالةَ المجتهدِ إذا ضاقَ عليه الوقتُ، أو تعذّر عليه الاجتهادُ حالةَ حاجةٍ أو ضرورةٍ، مَنَعَ المجتهدَ مِنْ تقليدِ غيرِه.
ومَن اعتبرَ حالةَ المجتهدِ إذا ضاقَ عليه الوقتُ، أو تعذَّر عليه الاجتهادُ حالةَ حاجةٍ أو ضرورةٍ، أباحَ للمجتهدِ تقليدَ غيرِه.
المسألة السادسة: مذهب العامي
المرادُ بالمسألةِ: هل للعامي مذهب؟ بحيثُ يصحُّ تمذهبُه به.
والمرادُ بالعامي في مسألتنا: العاميُّ الصِرْفُ، الذي لم يحصّلْ شيئًا مِن العلومِ المعتبرةِ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ
(2)
، ويخرجُ بذلك:
أولًا: المجتهد.
ثانيًا: العالم الذي ارتفع عن رتبةِ العامي الصرفِ؛ بتحصيلِ بعضِ العلومِ المعتبرةِ، ولم ينلْ رتبةَ الاجتهادِ، وهو على مراتب متفاوتة
(3)
.
• الأقوال في المسألة:
إذا تقرر ما تقدم، فإنَّ العلماءَ قد اختلفوا في العامي هل له مذهب؟ على قولين:
(1)
سلاسل الذهب (ص/ 446).
(2)
انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2947)، والبحر المحيط (6/ 283 - 284).
(3)
انظر: المصدرين السابقين، والعزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 422).
القول الأول: أنَّ العافي لا مذهبَ له.
وهذا القول وجهٌ عند الشافعيةِ
(1)
، وعند الحنابلةِ
(2)
. ونقل أبو القاسمِ الرافعي أنَّ أبا الفتحِ الهروي
(3)
نسبه إلى عامةِ الشافعيةِ
(4)
.
واختاره جمعٌ مِنْ أهلِ العلم، منهم: ابنُ القيم
(5)
، وجلالُ الدينِ السيوطي
(6)
، وشاه ولي الدهلوي
(7)
، وصالحٌ الفلاني
(8)
، وابنُ عابدين
(9)
، ومحمدٌ الباني
(10)
،
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 161)، وروضة الطالبين للنووي (11/ 117).
(2)
انظر: المسودة (2/ 855).
(3)
هو: نصر بن سيار بن صاعد بن سيار، أبو الفتح شرف الدين الكناني الهروي، ولد بهراة سنة 475 هـ كان مسند خراسان، فقهيًا حنفيًا، مناظرًا متدينًا متواضعًا فاضلًا حسن السيرة، تاركًا للتكلف، سليم الجانب، تولى منصب القضاء، توفي بهراة سنة 572 هـ. انظر ترجمته في: المنتخب من معجم الشيوخ للسمعاني (3/ 1789)، وسير أعلام النبلاء (20/ 545)، والعبر في خبر من غبر للذهبي (4/ 216)، والجواهر المضية للقرشي (3/ 541)، وشذرات الذهب لابن العماد (6/ 404).
(4)
انظر: العزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 422)، والبحر المحيط (6/ 320).
(5)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 203).
(6)
انظر: جزيل المواهب (ص/ 42).
(7)
انظر: حجة الله البالغة (1/ 484)، وعقد الجِيْد (ص/ 30). وشاه ولي الله الدهلوي هو: أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي، أبو عبد العزيز شاه ولي الله، ولد سنة 1110 هـ فقيه حنفي، ومحدّث مسنِد، ومن المهتمين بالجمع بين الحديث النبوي والفقه، وبالحديث عن حِكَم الشرع وأسراره، قال الكتاني عنه:"أحيا الله به وبأولاده وأولاد بنته وتلاميذهم الحديث والسَنة بالهند بعد مواتهما"، اشتغل بالتدرش نحوًا من اثنتي عشرة سنة، من مؤلفاته: حجة الله البالغة، والفوز الكبير في أصول التفسير، والإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، توفي سنة 1176 هـ. انظر ترجمته في: أبجد العلوم للقنوجي (ص/ 707)، وفهرس الفهارس والأثبات للكتاني (1/ 178)، و (2/ 1119)، وإيضاح المكنون للبغدادي (1/ 65)، والأعلام للزركلي (1/ 149)، ومعجم المؤلفين لكحالة (1/ 168).
(8)
انظر: إيقاظ همم أولي الأبصار (ص/ 74).
(9)
انظر: حاشية ابن عابدين (1/ 161).
(10)
انظر: عمدة التحقيق (ص/ 32). ومحمد الباني هو: محمد سعيد بن عبد الرحمن بن محمد الباني الدمشقي، ولد بدمشق سنة 1294 هـ من العاملين للاستقلال في العهد العثماني، تفقه على علماء بلده، ودرَّس بالمدرسة الأميرية، واتصل بالشيخ طاهر الجزائري، كان إضافةً إلى طلبه للعلم الشرعي عارفًا باللغة والأدب، وقد تولى منصب الإفتاء في دمشق، وتنقل في =
ومحمد بخيت المطيعي
(1)
، وأحمد بن الصديق الغماري
(2)
، ومحمد السنهوري
(3)
، والدكتور محمد مدكور
(4)
، والدكتور وهبة الزحيلي
(5)
، والدكتور يوسف القرضاوي
(6)
، والدكتور سليمان الأشقر
(7)
.
والقول الأول هو ظاهر قول أبي الفتح الشهرستاني
(8)
.
= بعض الأعمال الحكومية، ثم اعتزل العمل الحكومي إلى أن توفي، قال عنه الشيخُ علي الطنطاوي:"هو عالم لم يعرف الناس قدره، وكثير منهم نسي اسمه، مع أني أكاد أفضله في مصنفاته على علماء عصره، حتى الشيخ جمال الدين القاسمي"، من مؤلفاته: عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق، والكوكب الدري المنير في أحكام الفضة والذهب والحرير، وتنوير البصائر بسيرة الشيخ طاهر، توفي بدمشق سنة 1351 هـ. انظر ترجمته في: منتخبات التواريخ الدمشقة لمحمد أديب (2/ 865)، والأعلام للزركلي (6/ 143)، ومعجم المؤلفين لكحالة (3/ 319)، وذكريات علي الطنطاوي (2/ 221)، وتاريخ علماء دمشق لمحمد مطيع (1/ 465).
(1)
انظر: سلم الوصول (4/ 578)، ورسالة في بيان الكتب التي يعول عليها (ص/ 50).
(2)
انظر: درة الغمام الرقيق لعبد الله التليدي (ص/ 36). وأحمد الغماري هو: أحمد بن محمد بن الصديق بن أحمد الحسني الغماري الأزهري، أبو الفيض، ولد بالمغرب بقرية بني سعيد سنة 1320 هـ كان أحد كبار المحدثين، ومن العلماء البارزين، مكثرًا من التأليف، له اطلاعٌ واسع، وذكاء مفرط، وحافظة قوية، وقوة حجة، كان أول أمره مالكي المذهب، ثم انتقل إلى المذهب الشافعي، ثم ترك المذاهب بالكية، وقد عُرف عنه التصوف، وله أقوال تناقض توحيد العبادة، وله كلام يدل على قوله بوحدة الوجود، من مؤلفاته: المداوي لعلل المناوي، وحصول التفريج بأصول العزو والتخريج، والإسهاب في المستخرج على مسند الشهاب، وتخريج أحاديث الشفا، والهداية في تخريج أحاديث البداية، توفي بالقاهرة سنة 1380 هـ.
انظر ترجمته في: مقدمة الهداية في تخريج أحاديث البداية (1/ 47)، والأعلام للزركلي (1/ 253)، ودر الغمام لعبد الله التليدي (ص/ 7)، وتزيين الألفاظ لمحمود سعيد (ص/ 101)، وصحيفة سوابق لمحمد بو خبزة (ص/ 106، 149)، وصديقون للمختار التمسماني (ص/ 242).
(3)
انظر: التلفيق بين أحكام المذاهب، مجلة البحوث الإسلامية بالأزهر (1/ 75).
(4)
انظر: مناهج الاجتهاد في الإسلام (ص/ 438)، والمدخل للفقه الإسلامي (ص / 319).
(5)
انظر: أصول الفقه الإسلامي (2/ 1138) حاشية رقم (1).
(6)
انظر: كيف نتعامل مع التراث؟ (ص/ 82).
(7)
انظر: المدخل إلى دراسة المذاهب (ص/ 259).
(8)
انظر: الملل والنحل (1/ 472). وأبو الفتح الشهرستاني هو: محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني، ولد بشهرستان سنة 467 هـ كان شافعي المذهب إمامًا مبرزًا، فقيهًا بارعًا، =
القول الثاني: أن للعامي مذهبًا.
وهذا القولُ وجهٌ عند الشافعيةِ
(1)
، وعند الحنابلةِ
(2)
.
واختاره: القفالُ المروزي الشاشي
(3)
، وأبو القاسمِ الرافعي
(4)
، ومحيي الدين النووي
(5)
، وابنُ رسلان الرملي
(6)
.
• أدلة القولين:
أدلةُ أصحاب القول الأول: استدلَّ أصحابُ القول الأول بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: أنَّ المذهبَ إنَّما يكونُ لمَنْ يعرفُ الأدلةَ، ويكونُ له نوعُ نظرٍ واستدلالٍ، وبصرِ بالمذهبِ، أو لمنْ قَرَأَ كتابًا في فروعِ المذهبِ، وعَرَفَ فتاوى إمامِه، ومَنْ لم تكنْ له الأهليةُ، وقال: أنا على مذهبِ أحمدَ مثلًا، لم يصرْ كذلك بمجردِ قولِه
(7)
.
الدليل الثاني: لو قال العاميُّ: أنا نحوي، أو فقيهٌ، أو أصولي، لم يصر كذلك بمجردِ قولِه، فكذا الأمرُ فيما إذا قال: أنا حنبلي مثلًا، لم يصرِ كذلك بمجردِ قولِه
(8)
.
= متكلمًا على مذهب أبي الحسن الأشعري، وواعظًا يستمع له الناس، وقد اتهم بميله إلى أهل الزيغ، وتخبطه في الاعتقاد، من مؤلفاته: الملل والنحل، ونهاية الإقدام في علم الكلام، توفي بشهرستان سنة 548 هـ. انظر ترجمته في: وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 273)، والوافي بالوفيات للصفدي (3/ 278)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (6/ 128)، وطبقات الشافعية للإسنوي (2/ 106)، وطبقاث الفقهاء الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 311).
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 161)، وروضة الطالبين للنووي (11/ 117).
(2)
انظر: المسودة (2/ 855).
(3)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 161).
(4)
انظر: العزيز شرح الوجيز (12/ 422).
(5)
انظر: روضة الطالبين (11/ 101).
(6)
انظر: لمع اللوامع، القسم الثاني (2/ 670).
(7)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 161)، وروضة الطالبين للنووي (11/ 117)، وصفة الفتوى (ص/ 71)، وإعلام الموقعين (6/ 203)، والدر الفريد لأحمد الحموي (ص/ 112).
(8)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 203).
دليلُ أصحاب القول الثاني: أنَّ العاميَّ اعتقدَ أنَّ المذهبَ الذي انتسب إليه هو الحقّ، ورجّحه على غيرِه، فصحَّ ثبوتُ المذهبِ له، وعليه الوفاءُ بموجبِ اعتقادِه
(1)
.
مناقشة دليل أصحاب القول الثاني: لا قيمةَ لاعتقادِ العامي أنَّ مذهبَه هو الحقّ؛ إذا لم تكن لديه أهليةُ معرفةِ المذهبِ الذي نَسَبَ نفسَه إليه.
ثم يلزم مِنْ قولِكم لوازم فاسدة، منها: تحريمُ استفتاءِ العامي علماء غيرِ المذهبِ الذي انتسب إليه، وتحريمُ أخذِه بقولٍ أرجح مِنْ مذهبِ إمامِه
(2)
.
• الموازنة والترجيح:
مِنْ خلالِ تأمّل القولين، وما استدلوا به، يظهرُ لي رجحانُ القولِ الأولِ القائلِ إنَّ العاميَّ لا مذهبَ له؛ وذلك للآتي:
أولًا: أن قولَ العامي: أنا حنبلي أو حنفي مثلًا، مجرّدُ قولٍ، لا قيمةَ له، وليس له أيّ أثرٍ؛ تمامًا كما لو قال: أنا نحوي، لا قيمة لقولِه، إلا إنْ كان بصيرًا بعلمِ النحوِ.
ثانيًا: أنَّ حقيقةَ قولِ العامي: أنا حنبلي أو شافعي، زعمٌ أنَّه متبعٌ لذلك الإمامِ، سالك طريقَه، وهذا إنَّما يصحُّ، إذا سَلَكَ سبيلَه في العلمِ والفقهِ والاستدلالِ، فأمَّا مع جهلِه، وبعدِه عن العلمِ، فلا تصحُّ له دعوى الانتسابِ إلى المذهبِ
(3)
.
• نوع الخلاف:
يظهرُ أنَّ الخلافَ بين القولين خلافٌ معنوي، ويظهرُ أثرُه في مسألةٍ
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 161)، وصفة الفتوى (ص/ 71)، والتقرير والتحبير (3/ 350).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 203).
(3)
انظر: المصدر السابق (6/ 203 - 204).
أصوليةٍ، وهي: إن انتسب العاميُّ إلى مذهبٍ، فهل له أنْ يقلّد غيرَ المذهب الذي انتسب إليه؟
(1)
.
على قول مَنْ قال: إنَّ العاميَّ لا مذهبَ له، له أنْ يقلّدَ، ويستفتي غيرَ المذهبِ الذي انتسبَ إليه.
وعلى قولِ من قال: للعامي مذهبٌ، ليس له أنْ يقلِّدَ، ولا يستفتي غيرَ مذهبِه الذي انتسب إليه؛ لأنَّه يعتقده أرجح مِنْ غيرِه، فعليه الوفاءُ بموجبِ اعتقادِه
(2)
.
هذا مِنْ حيثُ الأصلُ، وقد بيّن أبو الفتح الشهرستاني أنَّ أربابَ القولين كليهما قد ذهب إلى أنَّ العامي ليس له أن يأخذَ بغيرِ مذهبِه الذي انتسبَ إليه؛ خروجًا مِن تخبطِ العامي في الأحكامِ وخلطِه فيها
(3)
.
(1)
انظر مسألة: (إن انتسب العاميُّ إلى مذهبٍ، فهل له أنْ يقلّد غيرَ المذهب الذي انتسب إليه؟ ) في: الوصول إلى الأصول لابن برهان (2/ 19 - 30)، والملل والنحَل للشهرستاني (1/ 473 - 472)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 238)، والبحر المحيط (6/ 320).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 161)، والمسودة (2/ 855)، وروضة الطالبين للنووي (11/ 117)، وصفة الفتوى (ص/ 71)، وإعلام الموقعين (6/ 204)، وسلاسل الذهب (ص / 454).
(3)
انظر: الملل والنحل (1/ 472 - 473).