المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النوع الثاني: الشروط المتعلقة بالجانب العلمي للمجتهد: - التمذهب – دراسة نظرية نقدية - جـ ١

[خالد الرويتع]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف الموضوع:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌خطة البحث:

- ‌الصعوبات الَّتي واجهت الباحث:

- ‌الشكر والتقدير:

- ‌الباب الأول: الدراسة النظرية للتمذهب

- ‌المبحث الأول تعريف التمذهب

- ‌المطلب الأول: تعريف التمذهب في اللغة

- ‌ تعريفَ المذهبِ في اللغَةِ

- ‌تعريف التمذهب في اللغة:

- ‌المطلب الثاني: تعريف التمذهب في الاصطلاح

- ‌تعريف المذهب اصطلاحًا:

- ‌التعريف المُخْتَار:

- ‌المناسبة بين التعريض اللغوي للمذهب والاصطلاحي:

- ‌تعريف التمذهب في الاصطلاح:

- ‌تعريف التمذهب عند المتأخرين:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي للتمذهب والتعريف الاصطلاحي:

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين التمذهب، والمصطلحات ذات الصلة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: العلاقة بين التمذهب والتقليد

- ‌تعريف التقليد في اللغة:

- ‌تعريف التقليد في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي:

- ‌العلاقةُ بين التمذهبِ والتقليدِ:

- ‌المطلب الثاني: العلاقة بين التمذهب والاجتهاد

- ‌تعريف الاجتهاد في اللغة:

- ‌تعريف الاجتهاد في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والاجتهاد:

- ‌المطلب الثالث: العلاقة بين التمذهب والاتباع

- ‌ تعريفَ الاتّباع في اللغةِ

- ‌تعريف الاتباع في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والاتباع:

- ‌المطلب الرابع: العلاقة بين التمذهب والتأسي

- ‌تعريف التأسي في اللغة:

- ‌تعريف التأسي في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والتأسي:

- ‌المطلب الخامس: العلاقة بين التمذهب والتعصب

- ‌تعريف التعصب في اللغة:

- ‌تعريف التعصب في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والتعصب:

- ‌المطلب السادس: العلاقة بين التمذهب والخلاف

- ‌تعريفُ الخلاف في اللغة:

- ‌تعريف الخلاف في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي:

- ‌فائدة علم الخلاف:

- ‌العلاقة بين التمذهب والخلاف:

- ‌المطلب السابع: العلاقة بين التمذهب والانتصار للمذهب

- ‌تعريف الانتصار في اللغة:

- ‌تعريف الانتصار للمذهب في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والانتصار للمذهب:

- ‌المطلب الثامن: العلاقة بين التمذهب والصلابة في المذهب

- ‌تعريف الصلابة في اللغة:

- ‌تعريف الصلابة في المذهب في الاصطلاح:

- ‌ العلاقةِ بين التمذهبِ، والصلابةِ في المذهبِ

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي:

- ‌المبحث الثالث: أركان التمذهب

- ‌المطلب الأول: إمام المذهب (صاحب المذهب)

- ‌توطئة

- ‌المسأله الأولى: تعريف إمام المذهب

- ‌المسألة الثانية: شروط إمام المذهب

- ‌النوع الأول: الشروطُ المتعلقةُ بالجانبِ الشخصي للمجتهدِ

- ‌النوع الثاني: الشروط المتعلقة بالجانب العلمي للمجتهد:

- ‌المسألة الثالثة: طرق إثبات أقوال إمام المذهب

- ‌توطئة

- ‌الفرع الأول: القول

- ‌الفرع الثاني: مفهوم القول

- ‌الفرع الثالث: الفعل

- ‌الفرع الرابع: السكوت

- ‌الفرع الخامس: التوقف

- ‌ طُرقِ معرفةِ توقّفِ إمامِ المذهبِ

- ‌الفرع السادس: القياس على القول

- ‌الفرع السابع: لازم القول

- ‌الفرع الثامن: ثبوت الحديث

- ‌المطلب الثاني: المتمذهب

- ‌توطئة

- ‌المسألة الأولى: تعريف المتمذهب

- ‌المسألة الثانية: شروط المتمذهب

- ‌المسألة الثالثة: العلاقة بين المتمذهب والمخرِّج

- ‌المسألة الرابعة: العلاقة بين المتمذهب والفروعي

- ‌المسألة الخامسة: تمذهب المجتهد

- ‌المسألة السادسة: مذهب العامي

- ‌المطلب الثالث: المذهب (المتمذهب فيه)

- ‌المسألة الأولى: تعريف المذهب في اللغة والاصطلاح

- ‌المسألة الثانية: محل التمذهب

- ‌المسائل التي ليست مجالًا للتمذهب:

- ‌المسأله الثالثة: شروط نقل المذهب

- ‌شروطُ الناقلِ عن إمامِ المذهبِ:

- ‌المسألة الرابعة: صور الخطأ في نقل المذهب

- ‌المسألة الخامسة: ألفاظ نقل المذهب

- ‌توطئة

- ‌الفرع الأول: الرواية

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للرواية:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للرواية:

- ‌الفرع الثاني: التنبيه

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للتنبيه:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للتنبيه:

- ‌الفرع الثالث: القول

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للقول:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للقول:

- ‌الفرع الرابع: الوجه

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للوجه:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للوجه:

- ‌الفرع الخامس: الاحتمال

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للاحتمال:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للاحتمال:

- ‌الفرع السادس: التخريج

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للتخريج:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للتخريج:

- ‌الفرع السابع: النقل والتخريج

- ‌الفرع الثامن: الصحيح

- ‌الفرع التاسع: المعروف

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للمعروف:

- ‌ثانيًا: المعروف في الاصطلاح:

- ‌الفرع العاشر: الراجح

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للراجح:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للراجح:

- ‌الفرع الحادي عشر: قياس المذهب:

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للقياس:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي لقياس المذهب:

- ‌الفرع الثاني عشر: المشهور من المذهب

- ‌أولا: التعريف اللغوي للمشهور:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للمشهور من المذهب:

- ‌الفرع الثالث عشر: ظاهر المذهب

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للظاهر:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي لظاهر المذهب:

الفصل: ‌النوع الثاني: الشروط المتعلقة بالجانب العلمي للمجتهد:

ثانيًا: الذكورية.

ثالثًا: الحرية.

لا يُشترطُ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ أنْ يكونَ المجتهدُ ذكرًا، ولا أنْ يكونَ حرًّا؛ فيصحُّ الاجتهادُ مِن المرأةِ، ومِن الرقيقِ

(1)

.

ويدلُّ على عدم اشتراط الذكورية والحرية في الاجتهاد: رجوعُ الصحابةِ رضي الله عنهم إلى قولِ عائشة رضي الله عنها وإلى قولِ سائرِ أزواجِ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذَ التابعون بقولِ نافع

(2)

- مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وبقولِ عكرمةَ

(3)

- مولى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قبلَ عتقِهما

(4)

.

‌النوع الثاني: الشروط المتعلقة بالجانب العلمي للمجتهد:

ثمّةَ شروطٌ يشترطها الأصوليون لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ ذات اتصالٍ

(1)

انظر: قواطع الأدلة (5/ 9)، والمنخول (ص / 463)، والتحبير (8/ 3880)، وشرح الكوكب الساطع للسيوطي (4/ 125).

(2)

هو: نافع بن هرمز - ويقال: ابن كاوس - أبو عبد الله المدني، مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وأحد الرواة عنه، أصله من المغرب، وقيل: من نيسابور، تابعي جليل القدر، كان كثير الحديث، ثقة، وأحد الأثبات في الرواية، عالم المدينة ومفتيها، وقد بعثه الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى مصر؛ ليعلم أهلها السنة، توفي سنة 117 هـ وقيل: 120 هـ.

انظر ترجمته في: تهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 132)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (5/ 367)، وتهذيب الكمال للمزي (29/ 298)، وسير أعلام النبلاء (5/ 95)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 99).

(3)

هو: عكرمة القرشي مولاهم المدني، أصله من البربر من المغرب، أبو عبد الله، مولى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، كان علامةً حافظًا مفسرًا، بحرًا من بحور العلم، روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، يقول عكرمة:"طلبت العلم أربعين سنة"، وقال عنه قتادة:"أعلم الناس بالتفسير عكرمة"، ولما قيل لسعيد بن جبير: أتعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: "نعم، عكرمة"، توفي سنة 106 هـ وقيل: 107 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 287)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (3/ 326)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 340)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 265)، وتهذيب الكمال للمزي (20/ 264)، وسير أعلام النبلاء (5/ 12)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 380).

(4)

انظر: الرد على من أخلد إلى الأرض للسيوطي (ص/ 158)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 162).

ص: 172

بالجانبِ العلمي للمجتهدِ، وأهمّها:

الشرط الأول: معرفةُ كتابِ الله سبحانه وتعالى.

مِنْ أهمِّ شروطِ الاجتهادِ: معرفةُ القرآنِ الكريمِ

(1)

؛ لأنَّه أصلُ الأحكامِ

(2)

.

وأيضًا: قد يكونُ الفرعُ مردودًا إلى القرآنِ الكريمِ، فإنْ لم يعرفْه المجتهدُ فقد يخالفُ حُكمًا منصوصًا

(3)

.

ولا بُدَّ أنْ يكونَ المجتهدُ عالمًا بالقرآنِ الكريمِ: عامِّه وخاصِّه، مطلقِه ومقيدِه، مجملِه ومفصلِه، منطوقِه ومفهومِه، ناسخِه ومنسوخِه، ومعاني الآياتِ

(4)

.

وهنا عدّةُ مسائل متصلة باشتراطِ معرفةِ القرآنِ الكريمِ:

المسألة الأولى: هل تُشترطُ معرفةِ القرآنِ الكريمِ كلّه؟

جاءَ القرآنُ الكريمُ مشتملًا على ذكرِ أسماءِ الله تعالى وصفاتِه، وتضمَّن الأحكامَ الشرعيةَ، والقصصَ والمواعظَ، وغيرَها، فهل تُشترطُ معرفةُ كلِّ ما وَرَدَ في القرآنِ الكريمِ؟ لبلوغِ درجةِ الاجتهادِ؟

• تحرير محل النزاع:

أولًا: اتفق الأصوليون على لزومِ معرفةِ المجتهدِ لآياتِ الأحكامِ.

(1)

انظر: العدة (5/ 1594)، والإشارة في معرفة الأصول للباجي (ص/ 327)، وشرح اللمع (2/ 1033)، والبرهان (2/ 870)، وقواطع الأدلة (2/ 6)، والمستصفى (2/ 382)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 23)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 437)، وشرح مختصر الروضة (3/ 577)، والتحبير (8/ 3870).

(2)

انظر: البرهان (2/ 870).

(3)

انظر: العدة (5/ 1594).

(4)

انظر: المصدر السابق، وقواطع الأدلة (5/ 6)، والواضح في أصول الفقه (5/ 456).

ص: 173

ثانيًا: محلُّ الخلافِ في اشتراطِ معرفةِ الآياتِ التي وَرَدَتْ في غيرِ الأحكامِ، كالقصصِ والمواعظِ، ونحوِهما.

• الأقوال في المسألة:

اختلفَ العلماءُ في هذه المسألةِ على قولين:

القول الأول: تُشترطُ معرفةُ القرآنِ الكريمِ كلِّه.

وقد نُسِبَ هذا القولُ إلى الإمامِ الشافعي

(1)

، وهو ظاهرُ كلام شهابِ الدّينِ القرافي

(2)

، وذَهَبَ إليه: الطوفي

(3)

، وجمالُ الدين الإسنوي

(4)

.

القول الثاني: لا تُشترطُ معرفةُ القرآنِ الكريمِ كلِّه؛ وإنَّما تُشترطُ معرفةُ آياتِ الأحكامِ فحسبُ.

اختار هذا القولَ جمعٌ مِن الأصوليين، منهم: أبو إسحاقَ الشيرازي

(5)

، وابنُ العربي

(6)

- كما نسبه إليه بدرُ الدين الزركشي

(7)

- وأبو

(1)

انظر: نهاية السول (4/ 548).

(2)

انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 437)، ورفع النقاب للشوشاوي (6/ 112 - 113).

(3)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 577).

(4)

انظر: نهاية السول (4/ 548).

(5)

انظر: شرح اللمع (2/ 1033).

(6)

هو: محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعارفي الأندلسي، أبو بكر المعروف بابن العربي، من أهل أشبيلية، ولد سنة 468 هـ من أعيان علماء المذهب المالكي في وقته، كان إمامًا عالمًا فقيهًا أصوليًا، حافظًا متبحرًا في العلوم، متفننًا فيها، أشعري المعتقد، وقد رحل إلى المشرق، وتفقه بأبي حامد الغزالي، ثم رجع إلى الأندلس، وقدم إشبيلية بعلم كثير، لم يُدخله أحدٌ قبله ممن كانت له رحلة للمشرق، وقد صنف مؤلفات مفيدة، منها: عارضة الأحوذي في شرح جامع الترمذي، والمسالك في شرح موطأ الإمام مالك، وأحكام القرآن، والمحصول في أصول الفقه، والعواصم من القواصم، وقانون التأويل، توفي بالعدوة سنة 543 هـ ودفن بفاس. انظر ترجمته في: الغنية للقاضي عياض (ص/ 66)، والصلة لابن بشكوال (2/ 558)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 296)، وسير أعلام النبلاء (20/ 197)، وسلوة الأنفاس للكتاني (3/ 244)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 136)، والفكر السامي للحجوي (4/ 221).

(7)

انظر: البحر المحيط (6/ 199).

ص: 174

حامدٍ الغزالي

(1)

، وصفيُّ الدين الهندي

(2)

، وتاجُ الدّينِ بنُ السبكي

(3)

.

• أدلةُ القولين:

أدلةُ أصحابِ القولِ الأول: استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: أنَّ آياتِ القرآنِ الكريمِ كلَّها لا تخلو مِنْ حُكم، فمثلًا: ما وَرَدَ في صفاتِ الله تعالى، والثناءِ عليه، المقصودُ به الأمرُ بتعظيمِه، والثناء عليه، وما وَرَدَ في القرآنِ مِنْ ذكرِ ذمِّ فعلٍ ما، فإنَّ مِنْ مقاصدِه تحريمَ ذلك الفعلِ

(4)

.

يقولُ الطوفيُّ: "إنَّ أحكامَ الشرعِ كما تُسْتَنْبَطُ مِن الأوامرِ والنواهي، كذلك تُسْتَنْبَطُ مِن الأقاصيصِ والمواعظِ ونحوِها، فقلَّ أنْ يُوْجَدَ في القرآنِ آيةٌ، إلا وُيسْتَنْبَطُ منها شيءٌ مِن الأحكامِ"

(5)

.

الدليل الثاني: أنَّ تمييزَ آياتِ الأحكامِ عن غيرِها مِن القصصِ والمواعظِ والأمثالِ، متوقفٌ على معرفةِ القرآنِ الكريمِ جميعِه بالضرورةِ؛ إذ لا يسوغُ للمجتهدِ أنْ يقلِّدَ غيرَه في حَصْرِ آياتِ الأحكامِ، فإذا أرادَ حصرَها، لَزِمَه النظرُ في القرآنِ الكريمِ كلِّه

(6)

.

دليلُ أصحابِ القولِ الثاني: أنَّ بيانَ الأحكامِ الشرعيةِ، وبيانَ الحلالِ والحرامِ بالآياتِ الواردةِ في الأحكامِ، وما عدا آيات الأحكام لا نشترطُ معرفتَها على المجتهدِ؛ لأنَّه لا تَعَلُّقَ لها بالأحكامِ

(7)

.

(1)

انظر: المستصفى (2/ 383).

(2)

انظر: نهاية الوصول (8/ 3827).

(3)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2898).

(4)

انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 437)، ونفائس الأصول (9/ 4011).

(5)

شرح مختصر الروضة (3/ 577 - 578).

(6)

انظر: نهاية السول (4/ 548 - 549).

(7)

انظر: شرح اللمع (2/ 1033)، وشرح مختصر الروضة (3/ 578).

ص: 175

• الموازنة والترجيح:

لا شكَّ في أنَّ اعتناءَ المجتهدِ بالقرآنِ الكريمِ كلِّه أكملُ وأولى، والذي يظهرُ لي رجحانُه في المسألةِ هو القولُ بلزومِ معرفةِ المجتهدِ لآياتِ الأحكامِ فقط، دونَ اشتراطِ ما زادَ عليها؛ لأنَّ استمدادَ الأحكامِ الشرعيةِ ابتداءً مِن الآياتِ التي وَرَدَت في بيانِها، لكنَّ معرفةَ القرآنِ الكريمِ جميعِه لازمةٌ؛ لتمييزِ آياتِ الأحكامِ عن غيرِها؛ ضرورةَ عدم تقليدِ المجتهدِ لغيرِه في حصرِ آياتِ الأحكامِ.

وأشيرُ في هذا المقامِ إلى أنَّه يحسنُ بالمجتهدِ أنْ لا يستغنى عن النظرِ والاستنباطِ في جميعِ القرآنِ بالنظرِ في آياتِ الأحكامِ

(1)

.

• سبب الخلاف:

مِنْ خلالِ النظرِ في القولين، وما استدلا به، يظهرُ لي أنَّ الخلافَ عائدٌ إلى لزومِ معرفةِ المجتهدِ لما دلَّ عليه القرآنُ مِن الأحكام ممَّا لم يسقِ الكلامُ لأجلِه.

فإنْ قلنا: لا يلزمُ المجتهد معرفة ما دلُّ عليه القرآنُ مِن الأحكامِ ممَّا لم يسقِ الكلامُ لأجلِه، لم نُوْجِبْ عليه معرفةَ القرآنِ كلِه، وهذا ما سار عليه أصحابُ القولِ الثاني.

وإنْ قلنا: يلزمُ المجتهد معرفة ما دلَّ عليه القرآنُ مِن الأحكامِ ممَّا لم يسقِ الكلامِ لأجلِه، أوجبنا عليه معرفةَ القرآنِ كلِّه، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الأولِ.

المسألة الثانية: عددُ آياتِ الأحكامِ في القرآنِ الكريمِ.

مِنْ القرآنِ الكريمِ آياتٌ دالةٌ على الأحكامِ الشرعيةِ، فهلْ عددُ هذه الآياتِ محددٌ؟

(1)

انظر: الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 181).

ص: 176

اختلفَ العلماءُ في عددِ آياتِ الأحكامِ في القرآنِ الكريمِ على أقوال، منها:

القول الأول: أنَّ مقدارَ آياتِ الأحكامِ ألفٌ ومائةُ آية.

نُسِبَ هذا القولُ إلى القاضي أبي يوسفَ

(1)

.

القول الثاني: أنَّ مقدارَ آياتِ الأحكامِ تسعمائة آية.

نُسِبَ هذا القولُ إلى عبدِ الله بنِ المبارك

(2)

.

(1)

انظر: إيقاظ الوسنان في العمل بالسنة والقرآن لمحمد الإدريسي (ص/ 67). والقاضي أبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن خُنْيس بن سعد الأنصاري الكوفي، الشهير بالقاضي أبي يوسف، ولد سنة 113 هـ من أشهر أصحاب أبي حنيفة، كان فقيهًا مجتهدًا علامةً حافظًا للحديث والمغازي وأيام العرب، ولي قضاء بغداد، وهو أول من دُعي بقاضي القضاة، كان أثبت أهل الرأي في الحديث، قال عنه الإمام أحمد:"كان أميل إلى المحدثين من أبي حنيفة ومحمدٍ"، وهو أيضًا أول من وضع الكتب على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وقد قيل:"لولا أبو يوسف ما ذكر أبو حنيفة"، وقد بلغ في العلم بما لا مزيد عليه، وكان الخليفة الرشيد يبالغ في إجلاله، من مؤلفاته: كتاب الخراج، والأمالي والنوادر، والجوامع، واختلاف الأمصار، توفي سنة 182 هـ وقيل: 181 هـ. انظر ترجمته في: أخبار القضاة لوكيع (3/ 254)، والتاريخ الكبير للبخاري (8/ 397)، وتاريخ مدينة السلام للخطيب (16/ 359)، والانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة لابن عبد البر (ص / 172)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (6/ 378)، وسير أعلام النبلاء (8/ 535)، والجواهر المضية للقرشي (3/ 611)، وتاج التراجم لقطلوبغا (ص/ 315)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 376)، والفوائد البهية للكنوي (ص/ 297).

(2)

انظر: الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ 180). وابن المبارك هو: عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم المروزي، أبو عبد الرحمن، ولد سنة 118 هـ طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، كان إمامًا حافظًا، عالم زمانه، وأحد الأعلام العظام، فقهيًا زاهدًا سخيًا مجاهدًا شجاعًا، شديد الورع، وقد جمع بين الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء والتجارة، من أقواله:"في صحيح الحديث شُغل عن سقيمه"، من مؤلفاته: كتاب السنن، توفي بهيت - بلدة على نواحي الفرات قريبة من بغداد - سنة 181 هـ. انظر ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاري (5/ 212)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (8/ 162)، وتاريخ مدينة السلام للخطيب (11/ 388)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 32)، وسير أعلام النبلاء (8/ 378)، والبداية والنهاية (13/ 610).

ص: 177

القول الثالث: أنَّ مقدارَ آياتِ الأحكامِ خمسمائة آية.

وهذا قولُ أبي حامدٍ الغزالي

(1)

، وأبي بكر بن العربي

(2)

، والفخرِ الرازي

(3)

، والموفقِ بنِ قدامةَ

(4)

.

القول الرابع: أنَّ مقدارَ آياتِ الأحكامِ مائةُ آية.

وقد ذَكَرَ جلالُ الدينِ السيوطي هذا القولَ، ولم ينسبْه إلى أحد

(5)

.

القول الخامس: عدمُ تحديدِ آياتِ الأحكامِ.

وهذا قولُ ابنِ دقيق العيد

(6)

، وبدرِ الدينِ الزركشي

(7)

، والشوكاني

(8)

، وعبدِ الله العلوي

(9)

.

ولعلَّ الأقربَ مِنْ وجهةِ نظري: عدمُ التحديدِ المذكورِ في الأقوالِ الأربعةِ الُأولى؛ لأن اختلافَ القرائحِ والأذهانِ، وما يفتحه الله على عبادِه المجتهدينَ مِنْ وجوهِ الاستنباطِ، يختلفُ معها الاستنباطُ مِن الآياتِ، ولعلَّ نظرَ القائلين بالتحديدِ المذكورِ في الأقوالِ اتجه إلى الآياتِ الدالةِ على الأحكامِ دلالةً أَوْلية، لا بطريقِ التضمَّنِ والالتزامِ

(10)

.

(1)

انظر: المستصفى (2/ 382).

(2)

انظر: المحصول في أصول الفقه (ص/ 135)، وقد ذكر قوله الزركشي في: البحر المحيط (6/ 199).

(3)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 23).

(4)

انظر: روضة الناظر (3/ 960).

(5)

انظر: شرح الكوكب الساطع (2/ 735).

(6)

انظر: البحر المحيط (6/ 199).

(7)

انظر: المصدر السابق.

(8)

انظر: إرشاد الفحول (2/ 030).

(9)

انظر: شرح مراقي السعود (2/ 642).

(10)

انظر: البحر المحيط (6/ 199). ودلالة التضمن هي: دلالة اللفظ على جزء مسماه. انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 15)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 24)، والبحر المحيط (2/ 37)، ولقطة العجلان وبلة الظمآن للزركشي (ص/ 104)، وشرح الكوكب المنير (1/ 126)، وآداب البحث والمناظرة للشنقيطي (ص/ 20).

ودلالة الالتزام هي: دلالة اللفظ على خارج عن مسماه، لكنه لازم له لزومًا ذهنيًا. انظر: المصادر السابقة.

ص: 178

المسألة الثالثة: هل يُشتَرطُ حفظُ القرآنِ الكريمِ؛ لبلغِ رتبةِ الاجتهادِ؟

لا ريبَ أنَّ حفظَ القرآنِ الكريمِ أكملُ، وهذا ممَّا لا خلافَ فيه بين العلماءِ، وإنَّما وَقَعَ خلافُهم في اشتراطِ حفظِه لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ على أقوالٍ، أهمها:

القول الأول: لا يُشترطُ حفظُ القرآنِ الكريمِ، ولا يُشترطُ أيضًا حفظُ آياتِ الأحكامِ، وإنَّما يُشتَرطُ العلمُ بمواضعِ الآياتِ عند طلبِ الحُكمِ.

وقد ذَهَبَ إلى هذا القولِ جمعٌ مِن الأصوليين، منهم: أبو الوليد الباجي

(1)

، وأبو حامدٍ الغزالي

(2)

، والفخرُ الرازي

(3)

، والموفقُ بنُ قدامةَ

(4)

، وأبي القاسم الرافعي

(5)

، وصفيُّ الدِّينِ الهندي

(6)

، والطوفيُّ

(7)

، وتاجُ الدين بنُ السبكي

(8)

، والمرداويُّ

(9)

.

القول الثاني: يُشترطُ حفظُ القرآنِ الكريمِ جميعِه.

نُسبَ هذا القولُ إلى الإمامِ الشافعي

(10)

. ونسبه أبو المظفرِ

(1)

انظر: إحكام الفصول (ص/ 722).

(2)

انظر: المستصفى (2/ 383).

(3)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 23).

(4)

انظر: روضة الناظر (3/ 961).

(5)

انظر: العزيز شرح الوجيز (12/ 415). وأبو القاسم الرافعي هو: عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل الرافعي القزويني، أبو القاسم، ولد سنة 555 هـ كان إمامًا في الفقه والأصول، وعَلَمًا من أعلام المذهب الشافعي، متضلعًا مِنْ علوم الشريعة: تفسيرًا وحديثًا وأصولًا، زاهدًا ورعًا تقيًا نقيًا صالحًا، وقد بلغ درجة الاجتهاد في مذهبه، من مؤلفاته: شرح مسند الشافعي، وشرح المحرر في الفقه، والعزيز شرح الوجيز، توفي سنة 624 هـ. انظر ترجمته في: تهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 264)، وسير أعلام النبلاء (22/ 252)، وفوات الوفيات لابن شاكر (2/ 7)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (8/ 281)، وطبقات الشافعية للإسنوي (1/ 571)، وشذرات الذهب لابن العماد (7/ 189).

(6)

انظر: نهاية الوصول (8/ 3827).

(7)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 578).

(8)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2898).

(9)

انظر: التحبير (8/ 3871).

(10)

انظر: نهاية السول (4/ 549).

ص: 179

السمعاني

(1)

، وأبو الوفاءِ ابنُ عقيلٍ

(2)

، وأمير بادشاه

(3)

إلى كثيرٍ مِنْ أهلِ العلمِ.

واختاره ابنُ جزي المالكي

(4)

.

القول الثالث: يُشترطُ حفظُ آياتِ الأحكامِ، دونَ الآياتِ الواردةِ في غيرها، كالقصص والأمثال والزواجر.

نَسَبَ أبو الوفاءِ ابنُ عقيلٍ هذا القولَ إلى المحققين

(5)

.

وذَكَرَ بعضُ الأصوليين هذا القولَ دونَ نسبةٍ إلى أحدٍ، منهم: أبو المظفرِ السمعاني

(6)

، ومحمدٌ البابرتي

(7)

، وأمير بادشاه

(8)

.

(1)

انظر: قواطع الأدلة (5/ 6).

(2)

انظر: الواضح في أصول الفقه (1/ 270).

(3)

انظر: تيسير التحرير (4/ 181).

(4)

انظر: تقريب الوصول (ص/ 431). وابن جزي هو: محمد بن أحمد بن محمد بن جزي الكلبي، أبو القاسم الغرناطي، ولد سنة 693 هـ من علماء المذهب المالكي، فقيه أصولي، حافظ متقن، عالم بالتفسير والقراءات والحديث واللغة، من ذوي الوجاهة والنباهة والعدالة، عاكف على العلم، والاشتغال بالنظر والتقييد والتدوين، من مؤلفاته: التسهيل لعلوم التنزيل، والقوانين الفقهية، وتقريب الوصول إلى علم الأصول، ووسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم، توفي سنة 741 هـ. انظر ترجمته في: الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (3/ 20)، والديباج المذهب لابن فرحون (2/ 274)، والدرر الكامنة لابن حجر (3/ 356)، ودرة الحجال لابن القاضي (2/ 117)، ونيل الابتهاج للتنبكتي (ص/ 398)، ونفح الطيب للمقري (8/ 58)، وأزهار الرياض له (3/ 184)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 213).

(5)

انظر: الواضح في أصول الفقه (1/ 270).

(6)

انظر: قواطع الأدلة (5/ 6).

(7)

انظر: التقرير لأصول فخر الإسلام (6/ 263). ومحمد البابرتي هو: محمد بن محمد بن محمود الرومي البابرتي، أبو عبد الله أكمل الدين، ولد سنة بضع عشرة وسبعمائة للهجرة، كان فقهيًا أصوليًا نابغًا علامةً محققًا متبحرًا في المذهب الحنفي، وافر العقل، قوي النفس مهيبًا، برع وساد وأفتى ودرّس وأفاد، من مؤلفاته: التقرير لأصول فخر الإسلام البزدوي، والعناية شرح الهداية، والنقود والردود في شرح مختصر ابن الحاجب، وحاشية على الكشاف للزمخشري، توفي سنة 786 هـ. انظر ترجمته في: إنباء الغمر لابن حجر (2/ 179)، والدرر الكامنة له (4/ 250)، وتاج التراجم لقطلوبغا (ص/ 276)، والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي (11/ 302)، وحسن المحاضرة للسيوطي (1/ 442)، وبغية الوعاة له (1/ 239)، وشذرات الذهب لابن العماد (8/ 504)، والفوائد البهية للكنوي (ص/ 256).

(8)

انظر: تيسير التحرير (4/ 181).

ص: 180

واختاره: بعضُ الحنابلةِ

(1)

.

• أدلةُ الأقوالِ:

دليلُ أصحابِ القولِ الأولِ: أنَّ المقصودَ مِن الاجتهادِ إثباتُ الحكمِ بدليلِه، وهذا المقصَدُ يحصلُ دونَ الحاجةِ إلى الحفظِ، والذي يُحَققه العلمُ بموضعِه

(2)

.

دليلُ أصحاب القولِ الثاني: أنَّ الحافظَ للقرآنِ الكريمِ أضبطُ لمعانيه مِن الناظرِ في القرآنَ

(3)

.

ويمكن مناقشة الدليل: بأنَّه لا نُسلّمُ أنَّ الحافظَ للقرآنِ أضبطُ لمعانيه مِنْ غيرِ الحافظِ؛ بدليلِ الواقعِ المشاهدِ؛ فهناك مَنْ يحفظُ القرآنَ دونَ أنْ يغوصَ في معانيه، وهناك مَنْ هو عالمٌ بمعاني القرآنِ، وهو غيرُ حافظٍ له.

دليل أصحاب القول الثالث: لم أقفْ لأصحابِ القولِ الثالثِ على دليلٍ - فيما رجعت إليه من مصادر - ولعلَّهم جمعوا بين القولين، فقالوا بالتوسطِ بينهما؛ فاشترطوا الحفظَ لآياتِ الأحكامِ، دونَ الآياتِ الواردةِ في غيرِها.

• الموازنة والترجيح:

بالنظرِ في الأقوالِ، وما استدلوا به، يظهرُ لي رجحانُ القولِ الأولِ القائلِ بعدمِ اشتراطِ حفظِ القرآنِ؛ لأنَّ قصدَ المجتهدِ أصالةً استنباطُ الحكمِ مِن القرآنِ الكريمِ، ومعرفةُ موضع الآية مِن القرآن يُحققُ له هذا المقصد، دونَ أدنى خللٍ في اجتهادِه، إضافَةً إلى أنَّ كثيرًا من مجتهدي الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر وعمر وغيرهما، لم يحفظوا القرآنَ الكريمَ

(4)

.

(1)

انظر: رسالة في أصول الفقه للعكبري (ص/ 126).

(2)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 578).

(3)

انظر: تقريب الوصول لابن جزي (ص/ 431)، وتيسير التحرير (4/ 181).

(4)

انظر: معرفة القراء البهار للذهبي (1/ 107)، والبرهان في علوم القرآن للزركشي (1/ 241)، والإتقان في علوم القرآن للسيوطي (2/ 464).

ص: 181

• سبب الخلاف:

مِنْ خلالِ النظرِ في الأقوالِ، وما استدلوا به، يظهرُ لي أنَّ سببَ الخلافِ عائدٌ إلى المقدارِ الذي تتحقق معه معرفة القرآن.

فأصحابُ القولِ الأولِ، قالوا: القدرُ الذي تتحقق معه معرفةُ القرآنِ، هو العلمُ بمواطنِ الآياتِ.

وأصحابُ القولِ الثاني، قالوا: القدرُ الذي تتحقق معه معرفةُ القرآنِ، هو حفظُه.

الشرط الثاني: معرفةُ السُنةِ النبويةِ.

تعدُّ السنةُ النبويةُ المصدر الثاني مِنْ مصادرِ الشريعةِ الإسلاميةِ، وتأتي في المرتبةِ الثانيةِ بعد القرآنِ الكريمِ.

والسنةُ عند الأصوليين: ما أُثِرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ

(1)

.

يقولُ إمامُ الحرمينِ الجويني - في معرضِ حديثِه عن اشتراطِ معرفةِ السنةِ للمجتهدِ -: "فهي - أيْ: السنن - القاعدةُ الكبرى؛ فإنَّ معظمَ أصولِ التكاليفِ متلقى مِنْ أقوالِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وأفعالِه، وفنونِ أحوالِه، ومعظمُ آي الكتابِ لا يستقلُّ دونَ بيانِ الرسولِ"

(2)

.

ولمعرفة السنة النبوية جانبان:

الأول: السندُ الذي يُروى به الحديثُ النبويُّ.

ويتعلّقُ به ثبوتُ الحديثِ النبوي، ويُسَمَّى معرفة السنةِ روايةً.

الثاني: لفظُ الحديثِ النبويّ.

(1)

انظر: أصول السرخسي (1/ 113)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 163)، وفواتح الرحموت (2/ 97)، وشرح الكوكب المنير (2/ 160).

(2)

الغياثي (ص/ 400).

ص: 182

ويتعلّقُ به دلالةُ الحديثِ النبوي على الحكمِ، ويُسَمَّى معرفة السنة دِرَايةً.

فتُشترط معرفةُ المجتهدِ للسنةِ النبويةِ: روايةً، ودِرَايةً.

أولًا: معرفةُ السنةِ النبويةِ روايةً.

مِن المعلومِ أنَّ السنةَ النبويةَ متى ما كانت ثابتةً، فهي حجةٌ

(1)

؛ ولذا فإنَّ المجتهدَ يحتاجُ إلى التمييزِ بين السننِ والأحاديثِ صحةً وضعفًا

(2)

.

وحتى يُحقق المجتهدُ هذه الوظيفةَ، لا بُدَّ له مِنْ معرفةِ أحوالِ الرواةِ، فيعرف الرواةَ الذين تُقبل روايتهمٍ، والرواةَ الذين تُرَدُّ روايتهم؛ ليتمكنَ مِن الحكمِ على الحديثِ صحةً وضعفًا

(3)

.

ولا يُشترطُ أنْ يكونَ حافظًا لأحوالِ الرواةِ عنْ ظهرِ قلبٍ، بل المعتبرُ أنْ يتمكنَ مِنْ معرفةِ حالِ الراوي بالنظرِ في كتبِ الرجالِ، متى احتاجَ إلى تحقيقِ الحكمِ على أيِّ حديثٍ

(4)

.

ولا يُشترطُ أيضًا: أنْ يبلغَ في معرفةِ الأسانيدِ، وأحوالِ الرجالِ درجةَ أئمة الحديث، كابنِ معينٍ

(5)

وسفيانَ الثوري

(6)

والبخاري ومسلمٍ وغيرِهم،

(1)

انظر: المستصفى (2/ 387).

(2)

انظر: البرهان (2/ 870)، والمستصفى (2/ 387).

(3)

انظر: إرشاد الفحول (2/ 1030).

(4)

انظر: المصدر السابق.

(5)

هو: يحيى بن معين بن عون بن زياد، وقيل: ابن معين بن غياث، أبو زكريا البغدادي، ولد سنة 158 هـ كان إمامًا ربانيًا عالمًا حافظًا ثبتًا متقنًا جهبذًا، شيخ المحدثين، قال الإمام أحمد:"كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين، فليس بحديث"، وقال علي بن المديني:"انتهى علم الناس إلى يحيى بن معين"، كانت وفاته سنة 233 هـ ودفن بالبقيع. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (16/ 263)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 530)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (6/ 139)، وتهذيب الكمال للمزى (31/ 543)، وسير أعلام النبلاء (11/ 71)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (4/ 389)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (3/ 103)، والمنهج الأحمد للعليمي (1/ 177)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 155).

(6)

هو: سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري، أبو عبد الله الكوفي، ولد بالكوفة سنة 95 هـ =

ص: 183

إنَّما يكفيه أنْ يُعَوّلَ على أهلِ هذا الشأنِ

(1)

.

ولا يظهرُ لي مانعٌ مِنْ أخذِ المجتهدِ الحكمَ على الحديثِ مِنْ أحدِ الأئمةِ الذين يثقُ بهم في صناعةِ الحديث.

ثانيًا: معرفةُ السنةِ النبويةِ دِرَايةً.

كما تقدم القولُ فيما يحتاجهَ المجتهدُ في النظرِ في القرآنِ الكريمِ: عامِّه وخاصِّه، مطلقِه ومقيدِه، مجملِه ومفصلِه

كذلك القولُ هنا: يحتاجُ المجتهدُ إلى النظرِ في السنةِ المطهرةِ، عامّها وخاصّها، مطلقِها ومقيّدِها، مجملِها ومفصلِها، منطوقِها ومفهومِها، ناسخها ومنسوخها، ومعاني ألفاظها

(2)

.

يقولُ أبو المظفرِ السمعاني: "إذا عَرَفَ مِن الله ما يعلمُ به مرادَ الله تعالى، ورسولِه صلى الله عليه وسلم مِن الكتابِ والسنةِ في الخطابِ الواردِ فيهما، وعَرَفَ مواردَ الخطاب، ومصادرَه مِن الكتابِ والسنةِ، مِن الحقيقةِ والمجازِ، والأمرِ والنهي، والعامِّ والخاصِّ، والمجملِ والمفصلِ، والمنطوقِ والمفهومِ، والمطلقِ والمقيدِ، وعَرَفَ الناسخَ والمنسوخَ، وعَرَفَ أحكامَ النسخِ: فهذا القدرُ كافِ"

(3)

.

= شيخ الإسلام، وأحد العلماء الحفاظ، أجمع الناس على دينه وورعه وزهده وثقته، كان رأسًا في الحفظ، رأسًا في معرفة الآثار، رأسًا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، ويلقب بأمير المؤمنين في الحديث، قال عنه النسائي:"هو أهل أنْ يُقال فيه ثقة"، من مؤلفاته: كتاب الجامع، توفي سنة 161 هـ. انظر ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاري (4/ 92)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (6/ 356)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 387)، وتهذيب الكمال للمزي (11/ 154)، وسير أعلام النبلاء (7/ 229)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (2/ 56)، وشذرات الذهب لابن العماد (1/ 250).

(1)

انظر: قواطع الأدلة (5/ 8)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 163)، وتشنيف المسامع (4/ 572).

(2)

انظر: العدة (5/ 1594)، وقواطع الأدلة (5/ 8)، والعزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 416)، وتشنيف المسامع (4/ 571).

(3)

قواطع الأدلة (5/ 8).

ص: 184

ويتصل باشتراطِ معرفةِ السنةِ النبويةِ عدّة مسائل، منها:

المسألة الأولى: القدرُ الواجبُ معرفته من السنةِ النبويةِ.

لا تُشترطُ الإحاطةُ بالسنةِ النبويةِ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ في الشريعةِ الإسلاميةِ؛ وإلا لو قيلَ باشتراطِ الإحاطةِ بالسنةِ، لأدَّى ذلك إلى عدمِ وجودِ مجتهدٍ

(1)

.

يقولُ أبو بكرٍ الجصاص: "ولو كانَ ذلك - أيْ: إحاطة المجتهد بالسنة - شرطُ جوازِ الاجتهادِ، لما جازَ لأحدٍ مِن القائسين بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يجتهدَ؛ لفقدِ علمِه بالإحاطةِ لهذه الأصولِ"

(2)

.

وأيضًا: فقد اجتهدَ الصحابةُ رضي الله عنهم في وقائعَ متعددة، مع عدمِ إحاطتِهم بجميعِ ما جاءَ عن النبي صلى الله عليه وسلم

(3)

.

المسألة الثانية: اقتصارُ المجتهدِ على معرفةِ أحاديثِ الأحكامِ.

اتفق الأصوليون على أنَّ مِنْ شروطِ الاجتهادِ معرفةَ أحاديثِ الأحكامِ، واختلفوا في اشتراطِ معرفةِ الأحاديثِ الواردةِ في غيرِ الأحكامِ، كالقصص والمواعظ، على قولين:

القول الأول: لا تُشترطُ معرفةُ الأحاديثِ الواردةِ في غيرِ الأحكامِ.

ذَهَبَ إلى هذا القولِ جمهورُ الأصوليين، كإمامِ الحرمينِ الجويني

(4)

، وأبي حامدٍ الغزالي

(5)

، والفخر الرازي

(6)

، وصفَي الدين الهندي

(7)

، وعبد العزيز البخاري

(8)

، وتاجِ الدين بنِ السبكي

(9)

، وجمالِ الدين

(1)

انظر: البحر المحيط (6/ 200).

(2)

الفصول في الأصول (4/ 274).

(3)

انظر: المصدر السابق.

(4)

انظر: الغياثي (ص/ 401).

(5)

انظر: المستصفى (2/ 384).

(6)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 23).

(7)

انظر: نهاية الوصول (8/ 3827).

(8)

انظر: كشف الأسرار (4/ 15).

(9)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2898)، وجمع الجوامع (ص / 118).

ص: 185

الإسنوي

(1)

، والمرداوي

(2)

.

القول الثاني: تُشترطُ معرفةُ الأحاديثِ الواردةِ في الأحكام، والأحاديثِ الواردةِ في غيرِها.

وهذا القولُ هو ظاهرُ اختيارِ شهابِ الدين القرافي

(3)

، واختاره عددٌ مِن العلماءِ، منهم: الشوكانيُّ

(4)

، والشيخُ محمد الخضر حسين

(5)

.

وقد بيَّن الشوكانيُّ القدرَ المطلوبَ مِن المجتهدِ في معرفةِ السنةِ بقولِه: "الحقُّ الذي لا شكَّ فيه ولا شبهةَ، أنَّ المجتهدَ لا بُدَّ أنْ يكونَ عالمًا بما اشتملتْ عليه مجاميعُ السنةِ التي صنّفها أهلُ الفنِّ، كالأمهاتِ الستِّ، وما يلتحقُ بها؛ مُشْرِفًا على ما اشتملتْ عليه المسانيدُ والمستخرجاتُ، والكتب التي التزمَ مصنفوها الصحةَ"

(6)

.

وما ذكرتُه تحت مسألةِ: (هل تشترط معرفة القرآن الكريم كله لبلوغ رتبة الاجتهاد؟ ) من أدلة ومناقشات، تُذكرُ هنا.

المسألة الثالثة: اشتراطُ حفظِ الأحاديثِ النبويةِ.

تكادُ تتفقُ كلمةُ الأصوليين على عدمِ اشتراطِ حفظِ الأحاديثِ النبويةِ

(1)

انظر: نهاية السول (4/ 550).

(2)

انظر: التحبير (8/ 3870).

(3)

انظر: نفائس الأصول (9/ 4016).

(4)

انظر: إرشاد الفحول (2/ 1030).

(5)

انظر: رسائل الإصلاح (2/ 112). ومحمد الخضر هو: محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر الحسني التونسي، جزائري الأصل، ولد بقفطة بتونس سنة 1293 هـ وقيل: 1294 هـ تخرج في جامع الزيتونة، ودرّس فيه، وأنشأ مجلة السعادة العظمى، وولي قضاء بنزرت، تنقل بين عدة بلدان، وعمل بالقاهرة مصححًا في دار الكتب خمس سنوات، وتقدم لامتحان العالمية الأزهرية، فنال شهادتها، ودرَّس بالأزهر، كان أحد علماء العالم الإسلامي المالكيين، ومن أعضاء المجمعين العربيين بدمشق والقاهرة، وأحد أعضاء هيئة كبار العلماء بمصر، وممن تولوا مشيخة الأزهر، من مؤلفاته: حياة اللغة العربية، والخيال في الشعر العربي، ومدارك الشريعة الإسلامية، والقياس في اللغة العربية، وتعليقات على الموافقات للشاطبي، توفي بالقاهرة سنة 1377 هـ. انظر ترجمته في: أعلام وعلماء لمحمد أبو زهرة (ص/ 349)، والأعلام للزركلي (6/ 113)، والفتح المبين للمراغي (3/ 213)، ومعجم المؤلفين لكحالة (3/ 273).

(6)

إرشاد الفحول (2/ 1030).

ص: 186

بألفاظِها، وإنْ كان حفظُها أحسنَ وأتمَّ.

وممَّنْ نصَّ على عدمِ اشتراطِ الحفظِ: أبو حامدٍ الغزالي

(1)

، والفخرُ الرازي

(2)

، وعبد العزيز البخاري

(3)

، وتاجُ الدين بنُ السبكي

(4)

، وجمالُ الدين الإسنوي

(5)

، والشوكانيُّ

(6)

.

يقولُ بدرُ الدّينِ الزركشي: "ظاهرُ كلامِهم - أيْ: كلام العلماء - أنَّه لا يُشترطُ حفظُ السننِ بلا خلافٍ"

(7)

.

وعلّةُ عدمِ اشتراطِ حفظِ السنةِ النبويةِ، صعوبتُه وعسرُه

(8)

.

ويُشترطُ في هذا المقامِ: أنْ يتمكنَ المجتهدُ مِن استخراجِ الحديثِ مِنْ مواضعِه ومظانِّه عند الحاجة إلى ذلك

(9)

.

وقد ذَكَرَ أبو حامدٍ الغزالي

(10)

، والفخرُ الرازي

(11)

- وهما مِن

(1)

انظر: المستصفى (2/ 384).

(2)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 23).

(3)

انظر: كشف الأسرار (4/ 15).

(4)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2898)، وجمع الجوامع (ص / 118).

(5)

انظر: نهاية السول (4/ 550).

(6)

انظر: إرشاد الفحول (2/ 1030).

(7)

البحر المحيط (6/ 201). وأنبه إلى أنَّ ابنَ جزي المالكي ذكر في كتابه: تقريب الوصول (ص/ 433 - 432) اشتراطَ حفظ أحاديث رسول الله وحفظ أسانيدها، ومعرفة الرجال الناقلين لها.

ويظهر لي أنَّ قصدَ ابن جزي بحفظ الأحاديث الاطلاعُ عليها، ومعرفة صحتها؛ بدليل: ما ذكره في آخر كلامه مِنْ أنَّ المجتهد لو لم يعرف الحديث، أفتى الناس بالقياس أو غيره، وخالف النص النبوي.

ففي تعليله إشارة إلى أنَّ قصده بالحفظ معرفةُ المجتهد للحديث؛ لئلا يفتي المجتهد بخلافه، والمعرفة تتحقق بالحفظ - وهو الأكمل - وبالتمكن من استخراج الحديث متى ما احتاج إليه المجتهد. والله أعلم.

(8)

انظر: البحر المحيط (6/ 201).

(9)

انظر: نهاية الوصول للهندي (8/ 3827)، وإرشاد الفحول (2/ 1030).

(10)

انظر: المستصفى (2/ 384).

(11)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 23). وقد مثل أبو القاسم الرافعي في: العزيز: شرح الوجيز (12/ 416) بالسنن لأبي داود.

ص: 187

القائلين باشتراطِ معرفةِ أحاديثِ الأحكامِ - أنَّ المجتهدَ يكفيه أنْ يكونَ عنده أصلٌ مُصَححٌ لجميعِ الأحاديثِ المتعلقةِ بالأحكام، كـ (السننِ) لأبي داود، وكتابِ (معرفة السنن والآثار) لأبي بكرٍ البيهقي

(1)

، ويكفيه أنْ يعرفَ موقعَ كلِّ بابٍ، فيراجعه وقتَ الحاجةِ.

وقد انتقدَ بعضُ العلماءِ التمثيلَ بسننِ أبي داودَ؛ من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ كتابَ (السنن) لأبي داودَ لم يستوعب الأحاديثَ الصحيحةَ.

يقولُ محيي الدّينِ النووي

(2)

: "لا يصحُّ التمثيلُ بسننِ أبي داودَ؛ فإنَّه لم يستوعب الصحيحَ مِنْ أحاديثِ الأحكامِ ولا معظمه، وذلك ظاهرٌ، بلْ معرفتُه ضروريةٌ لمَنْ له أدنى اطلاع، وكم في: صحيحِ البخاري ومسلمٍ مِنْ حديثٍ حُكْمِي ليس في سننِ أبي داودَ؟ ! وأمَّا ما في كتابي: الترمذي

(1)

هو: أحمد بن الحسين بن علي بن موسى بن عبد الله، أبو بكر البيهقي، ولد سنة 384 هـ أحد أئمة الحديث، كان علامةً ثبتًا فقيهًا أصوليًا حافظًا دينًا ورعًا، من أعيان المذهب الشافعي، مقبلًا على الجمع والتاليف، خدم مذهبه بالاستدلال له والتصنيف فيه، حتى قيل عنه:"ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة، إلا أبا بكر البيهقي، فإن المنة له على الشافعي؛ لتصانيفه في نصرة مذهبه"، وقد بورك له في علمه، من مؤلفاته: السنن الكبرى، والسنن الصغرى، والأسماء والصفات، وشعب الإيمان، والخلافيات، توفي سنة 458 هـ. انظر ترجمته في: تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص/ 265)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 75)، والوافي بالوفيات للصفدي (6/ 354)، وسير أعلام النبلاء (18/ 163)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (3/ 1132)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4/ 8)، وطبقات الشافعية للإسنوي (1/ 198).

(2)

هو: يحيى بن شرف بن مري بن حسن النووي الدمشقي، أبو زكريا محيي الدين، ولد بنوى سنة 631 هـ أحد أعلام الدين، وأبرز علماء الشافعية ومحققيهم، أتقن علومًا كثيرة، وصنف تصانيف جمة، كان ورعًا زاهدًا مقبلًا على العلم والعبادة، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، من مؤلفاته: شرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين، ومنهاج الطالبين، وروضة الطالبين، توفي سنة 676 هـ. انظر ترجمته في: تذكرة الحفاظ للذهبي (4/ 1470)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (8/ 395)، وطبقات الشافعية للإسنوي (2/ 286)، والبداية والنهاية (14/ 539)، والدليل الشافي لابن تغري بردي (2/ 775)، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (ص / 225).

ص: 188

والنسائي وغيرِهما مِن الكتبِ المعتمدةِ، فكثرتُه وشهرتُه غَنِيّةٌ عن التصريحِ بها"

(1)

.

الوجه الثاني: أنَّ في (السننِ) لأبي داودَ مِن الأحاديثِ ما لا يحتجُّ به في الأحكامِ الشرعيةِ؛ لضعفِه

(2)

.

الشرط الثالث: معرفة الناسخِ والمنسوخِ.

ممَّا يتصلُ بالشرطينِ السابقينِ: معرفةُ الناسخِ والمنسوخِ مِن الكتابِ الكريمِ، والسنةِ النبويةِ في نصوصِ الأحكامِ

(3)

.

والمرادُ بهذا الشرطِ: أنْ يعرفَ المجتهدُ أنَّ هذا الحكمَ بعينِه ناسخٌ، وهذا الحكمَ بعينِه منسوخٌ، لا معرفةَ حقيقةِ النسخِ وأحكامِه؛ لأن ذلك مِنْ علمِ أصولِ الفقهِ

(4)

، وسيأتي اشتراطُه بعد قليلٍ.

ولا يشترطُ أنْ يحفظَ المجتهدُ الآياتِ والأحاديثَ المنسوخةَ، بل المشروطُ: أنْ يعلمَ المجتهدُ متى ما استنبطَ حُكمًا مِنْ كتابِ الله أو سنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، أن الآيةَ والحديثَ ليسا مِنْ جُملةِ المنسوخِ

(5)

.

والإحاطةُ بالآياتِ والأحاديثِ المنسوخةِ يسيرةٌ

(6)

.

وشرطُ معرفةِ الناسخِ والمنسوخِ يعمُّ الكتابَ الكريمَ، والسنةَ النبويةَ.

لكنْ قَصَرَ الفخرُ الرازي الشرطَ الثالثَ على القرآنِ الكريمِ، فقال:"فأمَّا العِلْمَانِ المتممانِ، فأحدهما: يتعلقُ بالكتابِ، وهو عِلمُ الناسخِ والمنسوخِ"

(7)

.

(1)

روضة الطالبين (11/ 95).

(2)

انظر: البحر المحيط (6/ 201).

(3)

انظر: المنخول (ص/ 464)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 163)، وشرح الكوكب الساطع للسيوطي (4/ 122).

(4)

انظر: نثر الورود للشنقيطي (2/ 644).

(5)

انظر: المستصفى (2/ 386 - 387)، وروضة الناظر (3/ 961)، ونفائس الأصول (9/ 4023).

(6)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 580).

(7)

المحصول في علم أصول الفقه (6/ 24).

ص: 189

وما ذكرُه متعقّبٌ؛ فليسَ النسخُ مختصًا بالكتابِ الكريمِ، بلْ يقع في الكتابِ، وفي السنةِ النبويةِ، أيضًا

(1)

.

دليلُ اشتراطِ معرفةِ الناسخِ والمنسوخِ: أنَّ الحُكمَ المنسوخَ بَطَلَ العملُ به بنسخِه، وصارَ العملُ بالناسخ، وقد تُفْضِي عدمُ معرفةِ المجتهدِ بالناسخِ من المنسوخِ إلى العملِ بالحُكمِ المنسوخِ، وتركِ الناسخِ

(2)

.

الشرط الرابع: معرفةُ سببِ نزولِ الآيةِ، وسببِ ورودِ الحديثِ.

مِن الشروطِ المعتبرةِ في المجتهدِ: معرفةُ سببِ نزولِ الآيةِ، وسببِ ورودِ الحديثِ

(3)

.

إذا نَظَرَ المجتهدُ في آيةٍ مِنْ آياتِ الأحكامِ، لزمه العلمُ بسببِ نزولها، إنْ كانَ لها سببُ نزولٍ

(4)

؛ لما في معرفةِ سببِ النزولِ مِنْ أثرٍ في معرفةِ المرادِ بالآيةِ، وما يتعلق بها مِنْ تخصيصٍ أو تعميمٍ

(5)

.

ويؤكِّدُ أبو إسحاقَ الشاطبي على أهميةِ معرفةِ أسبابِ النزولِ لمَنْ أرادَ فهمَ القرآنِ على الوجهِ الصحيحِ، فيقول:"الجهلُ بأسبابِ التنزيلِ مُوقعٌ في الشبهِ والإشكالاتِ، ومُوْرِدٌ للنصوص الظاهرةِ مَوْرِد الإجمالِ حتى يقعَ الاختلافُ، وذلك مظنّة وقوعِ النزاعِ"

(6)

.

وإذا نَظَرَ المجتهدُ في حديثٍ مِنْ أحاديثِ الأحكام، لزمه معرفةُ سببِ ورودِه، إنْ كانَ له سببُ ورودٍ

(7)

؛ للعلةِ ذاتِها المذكورةِ في معرفةِ سببِ نزولِ الآيةِ.

(1)

انظر: نفائس الأصول (9/ 4017)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3829).

(2)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 580)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2900)، والبحر المحيط (6/ 203)، ونهاية السول (4/ 553).

(3)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 163)، وشرح الكوكب الساطع للسيوطي (4/ 122).

(4)

انظر: نهاية الوصول للهندي (8/ 3830).

(5)

انظر: تشنيف المسامع (4/ 571)، والتحبير (8/ 3875).

(6)

الموافقات (4/ 146).

(7)

انظر: التحبير (8/ 3875).

ص: 190

الشرط الخامس: معرفةُ المسائلِ المجمعِ عليها.

يحتاجُ المجتهدُ قبلَ النظرِ في المسألةِ؛ ليجتهدَ فيها: أنْ يعلمَ أهي ممَّا أَجمع العلماءُ السابقون على حكمِها، أم هي محلُّ خلافٍ بينهم، أم هي نازلةٌ مِنْ نوازلِ عصرِه؟

فإنْ كانتْ المسألةُ محلَّ إجماعِ أهلِ العلمِ، ذَهَبَ إلى القولِ بالإجماعِ، ولم يخالفْه.

وإنْ كانتْ ممَّا وَقَعَ فيها الخلافُ، أو كانتْ مِنْ نوازلِ عصرِه، اجتهدَ فيها

(1)

.

وفائدةُ معرفةِ المسائلِ المجمعِ عليها: أنْ لا يقولَ المجتهدُ قولًا يخرقُ يه إجماعًا سابقًا

(2)

.

ولا يلزمُ المجتهد أنْ يحفظَ المسائلَ المجمعَ عليها جميعَها؛ بل يكفيه أنْ يعلمَ أنَّ قولَه في المسألةِ التي ينظرُ فيها غيرُ مخالفٍ لإجماعِ مَنْ قبله

(3)

.

وذَكَرَ تقيُّ الدين السبكي أنَّ هذا الشرط شرطٌ لإيقاعِ الاجتهادِ بالفعلِ

(4)

، فالمجتهدُ يُوصفُ بالاجتهادِ قبل أنْ يعلمَ المسائلَ المجمعَ عليها، وأمَّا عند إيقاعِ الاجتهادِ بالفعلِ، فيُشترط أنْ يعلمَ أنَّ ما نظر فيه ليس مجمعًا عليه

(5)

.

(1)

انظر: قواطع الأدلة (5/ 8 - 9).

(2)

انظر: العدة (5/ 1594)، والإشارة في معرفة الأصول للباجي (ص/ 328)، والمستصفى (2/ 384)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 24)، والفوائد شرح الزوائد للأبناسي (2/ 1231)، وفواتح الرحموت (2/ 363).

(3)

انظر: المستصفى (2/ 384)، وشرح مختصر الروضة (3/ 581)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2899).

(4)

انظر: جمع الجوامع (ص/ 118).

(5)

انظر: حاشية البناني على شرح المحلي جمع الجوامع (2/ 384)، وسلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 550)، ورسائل الإصلاح للخضر حسين (2/ 116).

ص: 191

وقد ذَكَرَ بعضُ الأصوليين هذا الشرطَ على أساسِ أنَّه مِنْ شروطِ الاجتهادِ، ولعل مرادَهم أنَّه شرطٌ في كونِ المجتهدِ مجتهدًا اجتهادًا صحيحًا

(1)

.

يقولُ الشيخُ محمدٌ المطيعي: "والخطبُ في ذلك سهلٌ"

(2)

.

ويتصل بالشرطِ الخامسِ مسألةٌ، وهي: اشتراطُ معرفةِ المسائلِ الخلافيةِ

(3)

.

يقولُ الإمامُ الشافعي: "ولا يكون لأحدٍ أنْ يقيسَ حتى يكونَ عالمًا بما مضى قبله مِن السننِ، وأقاويلِ السلفِ، وإجماعِ الناسِ، واختلافِهم"

(4)

.

والفائدة من ذلك: أنْ لا يُحدثَ المجتهدُ قولًا يخالفُ أقوالَ مَنْ سبقه؛ فيخرجُ بذلك عن إجماعِهم الضمني

(5)

.

وألفتُ النظرَ إلى أنَّ مِن الأصوليين مَنْ ذَكَرَ عند اشتراطِ معرفةِ المسائلِ الإجماعيةِ: أنَّ على المجتهدِ معرفة مَنْ يُعتدُّ به في الإجماعِ، ومَنْ لا يُعتدُّ به

(6)

.

ولم أوردْ ما ذكروه هنا؛ لأنَّ هذه المسائلَ داخلةٌ في شرطِ معرفةِ علمِ أصولِ الفقهِ.

الشرط السادس: معرفةُ علمِ أصولِ الفقهِ.

لا يستريبُ أحدٌ في مدى أهميةِ أصولِ الفقهِ للمجتهدِ؛ إذ هو المعينُ في استنباطِ الأحكامِ الشرعيةِ مِن الأدلةِ بالطريقِ الصحيحِ.

(1)

انظر: سلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 550).

(2)

المصدر السابق.

(3)

انظر: الإشارة في معرفة الأصول للباجي (ص/ 328)، وشرح اللمع (2/ 1034)، وقواطع الأدلة (5/ 8)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 437).

(4)

الرسالة (ص/ 510).

(5)

انظر: الغياثي للجويني (ص/ 401)، والبحر المحيط (6/ 201)، ورفع النقاب للشوشاوي (6/ 113).

(6)

انظر على سبيل المثال: شرح اللمع (2/ 1034)، وقواطع الأدلة (5/ 8 - 9).

ص: 192

يقولُ إمامُ الحرمين الجويني: "علمُ الأصولِ أصلُ الباب؛ حتى لا يُقدّم مؤخرًا، ولا يُؤَخّر مقدَّمًا، ويستبين مراتبَ الأدلةِ والحُججِ"

(1)

.

بلْ إنَّ الفخرَ الرازيَّ عدَّ هذا الشرطَ أهمّ العلومِ للمجتهدِ

(2)

.

ويقول صفيُّ الدِّينِ الهندي: "اعلمْ أنَّ الإنسانَ كلَّما كانَ أكمل في معرفةِ أصولِ الفقهِ كانَ منصبُه أتمَّ وأعلى في الاجتهادِ"

(3)

.

ويشملُ علمُ أصولِ الفقهِ على الآتي:

أولًا: الحكمُ الشرعي، وأقسامُه.

ثانيًا: الأدلةُ، وما يندرج تحتَ كلِّ دليلٍ مِنْ مسائل.

ثالثًا: الدلالاتُ، وأقسامُها، وما يندرجُ تحتَ كلِّ قسمٍ مِنْ مسائل.

رابعًا: الاجتهادُ والتقليدُ.

خامسًا: مراتبُ الأدلةِ، وطُرُقُ الجمعِ بينها، ودفعُ التعارضِ عنها، وأوجهُ الترجيحات

(4)

.

وكان مِنْ منهجِ بعضِ الأصوليين أنَّهم يذكرون بعضَ ما تقدمَ على أنَّه شرطٌ مستقلٌّ، فيذكرون مثلًا: القياسَ، وما يتعيّنُ على المجتهدِ معرفتُه فيه

(5)

، أو التعارضَ والترجيحَ، وأهمية معرفة المجتهد له

(6)

، أو الإجماعَ،

(1)

البوهان (2/ 870).

(2)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 25)، ونقل كلامَ الرازي برهانُ الدين الأبناسي في: الفوائد شرح الزوائد (2/ 1235).

(3)

نهاية الوصول (8/ 3831). وانظر: تشنيف المسامع (4/ 569)، وشرح الكوكب الساطع للسيوطي (4/ 118).

(4)

انظر: الإشارة في معرفة الأصول للباجي (ص/ 327 - 328)، وإحكام الفصول (ص/ 722)، وشرح اللمع (2/ 1034 - 1035)، وقواطع الأدلة (5/ 9)، والواضح في أصول الفقه (5/ 458 - 457)، ورفع النقاب للشوشاوي (6/ 110).

(5)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2899)، والبحر المحيط (6/ 201).

(6)

انظر: شرح اللمع (2/ 1035)، والواضح في أصول الفقه (5/ 458).

ص: 193

ومَنْ يعتدُّ به، ومَنْ لا يعتدُ به

(1)

، أو أفعال النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

ولعلَّ في اشتراطِ معرفةِ أصولِ الفقهِ غنيةً عن هذا كلِّه

(3)

.

وقد نازعَ أحمدُ الكوراني

(4)

في اشتراطِ معرفةِ أصولِ الفقهِ للمجتهدِ

(5)

؛ محتجًا لقولِه بأنَّ الإمامَ الشافعيَّ مجتهدٌ، ولم يكنْ علمُ أصولِ الفقهِ في وقتِه مدوّنًا

(6)

.

وما ذكره الكورانيُّ ضعيفٌ جدًّا؛ لوجهين:

الوجه الأول: أنَّ المرادَ بمعرفةِ أصولِ الفقهِ معرفةُ قواعدِه، سواءٌ أكانتْ مدونةً أم لا، وقد رُكزت القواعد الأصولية في الإمامُ الشافعي - وفي غيرِه من المجتهدين الذين بلغوا رتبةَ الاجتهادِ قبلَ تدوينِ علمِ أصولِ الفقهِ - فهي معلومةٌ عنده

(7)

.

الوجه الثاني: يلزمُ مِن قولِ الكوراني عدمُ اشتراطِ معرفةِ اللغةِ العربيةِ، فإنَّ مجتهدي الصحابةِ رضي الله عنهم كانوا في أعلى مراتبِ الاجتهادِ، ولم تكن اللغةُ العربيةُ في عصرِهم وزمنِهم مدونةً

(8)

.

(1)

انظر: شرح اللمع (2/ 1034)، وقواطع الأدلة (5/ 9).

(2)

انظر: المستصفى (2/ 384 - 385)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 23)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3828).

(3)

انظر: رفع النقاب (6/ 111).

(4)

هو: أحمد بن إسماعيل بن عثمان بن أحمد بن رشد الهمداني الكوراني ثم القاهري، شرف الدين وشهاب الدين، ولد بقرية كوران سنة 813 هـ وقيل: 819 هـ كان إمامًا علامةً بارعًا في أصول الفقه وأصول الدين، ماهرًا في النحو والبلاغة والمنطق، مشاركًا في الفقه والتفسير والحديث، كان أول أمره شافعي المذهب، ثم انتقل إلى المذهب الحنفي، من مؤلفاته: الدرر اللوامع شرح جمع الجوامع، وشرح صحيح البخاري، وكشف الأسرار عن قراءة الأئمة الأخيار، توفي سنة 893 هـ. انظر ترجمته في: الضوء اللامع للسخاوي (1/ 241)، ووجيز الكلام له (3/ 1054)، والبدر الطالع للشوكاني (ص/ 58)، والتاج المكلل للقنوجي (ص/352).

(5)

انظر: الدرر اللوامع (ص/ 594).

(6)

انظر: المصدر السابق.

(7)

انظر: الآيات البينات للعبادي (4/ 337)، ونثر الورود للشنقيطي (2/ 642).

(8)

انظر: الآيات البينات للعبادي (4/ 337).

ص: 194

ويتصلُ باشتراطِ معرفةِ أصولِ الفقهِ مسألةٌ، وهي: هل القولُ بحجيةِ القياسِ مِنْ شروطِ الاجتهادِ؟ فأقول:

اختلفَ العلماءُ في هذه المسألةِ على أقوالٍ، أهمّها:

القول الأول: ليس القولُ بحجيةِ القياسِ مِنْ شروطِ الاجتهادِ.

نَسَبَ أبو منصورٍ البغدادي

(1)

هذا القولَ إلى الجمهورِ

(2)

. ونسبه بدرُ الدِّين الزركشي إلى الشافعية

(3)

.

واختاره جمعٌ مِن العلماءِ، منهم: القاضي عبدُ الوهاب المالكي

(4)

، وشمسُ الدين بنُ القيم

(5)

، وجلالُ الدّينِ السيوطي

(6)

.

القول الثاني: أنَّ القولَ بحجيةِ القياسِ مِنْ شروطِ الاجتهادِ، فلا يُعَدُّ منكرو القياسِ مِنْ المجتهدين.

ذَهَبَ إلى هذا القولِ جمعٌ مِن العلماءِ، منهم: القاضي أبو بكرٍ الباقلاني

(7)

، وإمامُ الحرمين الجويني

(8)

، وأحمدُ الكوراني

(9)

.

(1)

هو: عبد القاهر بن طاهر بن محمد، أبو منصور البغدادي، كان علامةً متفننًا إمامًا بارعًا من أئمة المذهب الشافعي، فقيهًا أصوليًا متكلمًا، ماهرًا في فنون كثيرة، كالنحو والأدب والشعر، درَّس تسعة عشر نوعًا من العلوم، وقد استفاد الناس منه، من مؤلفاته: الفرق بين الفرق، والتحصيل في أصول الفقه، والتفسير، وفضائح المعتزلة، توفي بمدينة إسفراين سنة 429 هـ وقد شاخ. انظر ترجمته في: إنباه الرواة للقفطي (2/ 185)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 203)، وسير أعلام النبلاء (17/ 572)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 136)، وطبقات الشافعية للإسنوي (1/ 194)، والبداية والنهاية (15/ 672)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 187)، وبغية الوعاة للسيوطي (2/ 105).

(2)

انظر: البحر المحيط (4/ 473).

(3)

انظر: تشنيف المسامع (4/ 566).

(4)

انظر: نشر البنود (2/ 83).

(5)

انظر: إعلام الموقعين (5/ 103)، و (5/ 111).

(6)

انظر: شرح الكوكب الساطع (4/ 117).

(7)

انظر: البرهان (2/ 515).

(8)

انظر: المصدر السابق.

(9)

انظر: الدرر اللوامع (ص/ 594).

ص: 195

القول الثالث: أنَّ القولَ بحجيةِ القياسِ الجلي

(1)

مِنْ شروطِ الاجتهادِ، فإنْ أنكرَ القياسَ الجليَّ فليس مِن المجتهدين، وإنْ لم ينكرْه فهو من المجتهدين.

ذَهَبَ إلى هذا القولِ جمعٌ من الأصوليين، منهم: ابنُ الصلاحِ

(2)

، وبدرُ الدِّين الزركشي

(3)

، وشمسُ الدين البرماويُّ

(4)

.

• أدلةُ الأقوال:

دليلُ أصحاب القولِ الأول: أنَّنا لو قلنا بأنَّ منكرَ القياسِ ليس بمجتهدٍ، للزمَ مِنْ ذَلك أنَّ مَنْ أنكرَ حجيةَ الخبرِ المرسلِ، أو كون الأمرِ للوجوبِ، أو أنَّ للعمومِ صيغةً تخصُّه، ونحو ذلك، فليس بمجتهدٍ! ولا يقول بهذا أحدٌ

(5)

.

دليلُ أصحاب القول الثاني: أنَّ المقايسةَ هي طريقُ الاجتهادِ، فمَنْ لم يعرفْها فإنَّه لا يصلحُ للاجتهادِ، فيكون كالعامي الذي لا معرفةَ له

(6)

.

(1)

القياس الجلي: هو القياس الذي قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع، أو نص الشارع على علته، أو أجمع العلماء عليها. انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 3)، وشرح الكوكب المنير (4/ 408).

(2)

انظر: فتاوى ابن الصلاح (1/ 207).

(3)

انظر: تشنيف المسامع (4/ 567).

(4)

انظر: الفوائد السنية (3/ 1147). والبرماوي هو: محمد بن عبد الدايم بن موسى بن عبد الدايم بن فارس بن محمد النعيمي العسقلاني الأصل البرماوي، أبو عبد الله شمس الدين، ولد سنة 763 هـ كان إمامًا علامةً فقيهًا أصوليًا، من علماء المذهب الشافعي، موصوفًا بكثرة الحفظ، وقلة الكلام، له مشاركة في عدد من العلوم، تتلمذ لبدر الدين الزركشي، وسراج الدين البلقيني، من مؤلفاته: شرح صحيح البخاري، وألفية في أصول الفقه، والفوائد السنية في شرح الألفية، وشرح العمدة، توفي ببيت المقدس سنة 831 هـ. انظر ترجمته في: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (4/ 101)، وإنباء الغمر لابن حجر (8/ 161)، والضوء اللامع للسخاوي (7/ 280)، ووجيز الكلام له (2/ 499)، وحسن المحاضرة للسيوطي (1/ 408)، وشذرات الذهب لابن العماد (9/ 256)، والبدر الطالع للشوكاني (ص/ 697).

(5)

انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 342)، والبحر المحيط (6/ 472)، ونشر البنود (2/ 83).

(6)

انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 342)، والبحر المحيط (6/ 472)، وإرشاد الفحول (1/ 383).

ص: 196

ويمكن أنْ يُستدلَّ لأصحابِ القولِ الثالثِ: بأنَّ منكرَ القياسِ الجلي يقعُ في أقوالٍ شنيعةٍ، كالقولِ بجوازِ التغوطِ في الماءِ الراكدِ، دونَ التبولِ فيه! وهذه أقوالٌ يردُّها الشرعُ، والعقلُ.

• الموازنة الترجيح:

بالنظرِ في المسألةِ بأقوالِها وأدلتِها يظهرُ رجحانُ القولِ الأولِ القائلِ بأنَّ القولَ بحجيةِ القياسِ ليس بشرطٍ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ؛ وذلك للآتي:

أولًا: هناك مسائلُ أصوليةٌ، أنكرَ بعضُ العلماءِ القولَ بها، ولم يقلْ أحدٌ مِنْ علماءِ أصولِ الفقهِ: إنَّ القولَ بها شرطٌ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ، فكذا الأمرُ في مسألةِ:(حجيةِ القياسِ).

ثانيًا: عملُ الفقهاءِ في مصنفاتِهم، فلم يَزَلِ الفقهاءُ يَعْتَدون برأي الظاهريةِ، فيذكرونه، ويذكرون أدلتهم، ويجيبون عنها، ولو لم يبلغوا درجةَ الاجتهادِ، لما كان لإيرادِ أقوالِهم مسوّغٌ.

ثالثًا: أنَّ القائلَ بعدمِ حجيةِ القياسِ إنَّما قاله عن اجتهادٍ، فكيفَ نطالبُه بمخالفةِ اجتهادِه؟ !

رابعًا: القولُ بأنَّ المقايسةَ طريقُ الاجتهادِ، هذا صحيحٌ، لكنَّها ليستْ طريقَه الوحيدَ، فهناك مداركُ أخرى للشرعِ تُوصلِ إلى أحكامِ الحوادثِ.

• نوع الخلاف:

يبدو أنَّ الخلافَ بين الأقوال خلافٌ معنوي - كما أشار إلى ذلك: جلالُ الدينِ السيوطي

(1)

- ويظهرُ أثرُه في الاعتدادِ بخلافِ نفاةِ القياسِ في الإجماعِ:

فمَنْ لم يشترط القولَ بحجيةِ القياسِ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ، لم يُخْرِجْ نفاةَ القياسِ مِنْ زُمْرةِ المجتهدين، ولا ينعقد الإجماعُ إلا بموافقتِهم.

(1)

انظر: شرح الكوكب الساطع (3/ 117).

ص: 197

ومَنْ اشترطَ القولَ بالقياسِ، أخرجَ نفاةَ القياسِ مِنْ زُمرةِ المجتهدين، وانعقدَ الإجماعُ عنده مع مخالفتِهم.

واستمعْ إلى ما يقوله إمامُ الحرمين الجويني عن داودَ الظاهري

(1)

: "وعندي أنَّ الشافعيَّ لو عاصر داودَ لما عدّه مِن العلماءِ"

(2)

. ويقولُ أيضًا عنه وعن الظاهريةِ: "ليسوا معدودين مِنْ علماءِ الشريعةِ"

(3)

.

الشرط السابع: معرفةُ مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ

(4)

.

نصَّ أبو إسحاقَ الشاطبيُّ على اشتراطِ معرفةِ مقاصدِ الشريعةِ الإسلاميةِ للمجتهدِ، فقالَ:"إنَّما تحصلُ درجةُ الاجتهادِ لمَنْ اتصفَ بوصفين: أحدهما: فهمُ مقاصدِ الشريعةِ على كمالِها"

(5)

.

(1)

هو: داود بن علي بن خلف الأصبهاني، أبو سليمان البغدادي، المعروف بداود الظاهري، ولد سنة 200 هـ وقيل: 202 هـ كان رئيس أهل الظاهر، إمامًا علامةً عالمًا ورعًا ناسكًا زاهدًا، من أوعية العلم، بصيرًا بمعاني القرآن، حافظًا للأثر، موصوفًا بالذكاء، انتهت إليه رئاسة العلم ببغداد، من مؤلفاته: الإيضاح، والأصول، والدعاوى، والإجماع، وإبطال القياس، والعموم والخصوص، توفي سنة 275 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (9/ 342)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 255)، وسير أعلام النبلاء (13/ 97)، وميزان الاعتدال للذهبي (2/ 14)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 284)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 171).

(2)

نقل كلامَ إمام الحرمين الزركشيُّ في: البحر المحيط (4/ 472 - 473).

(3)

البرهان (2/ 515).

(4)

ثمة تعريفات لمقاصد الشريعة الإسلامية، منها:

• تعريف الطاهر بن عاشور في كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية (3/ 165): "المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع، أو معظمها؛ بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة".

• تعريف علال الفاسي في كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها (ص/ 7): "الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها".

• تعريف الدكتور يوسف العالم في كتابه: المقاصد العامة (ص/ 83): "الغاية التي يرمي إليها التشريع، والأسرار التي وضعها الشارع الحكيم عند كل حكم من الأحكام".

• تعريف الدكتور أحمد الريسوني في كتابه: نظرية المقاصد عند الشاطبي (ص/ 7): "الغايات التي وضعت الشريعة؛ لأجل تحقيقها لمصلحة العباد".

(5)

الموافقات (5/ 41).

ص: 198

ويقولُ تقيُّ الدّينِ السبكي: "اعلمْ أنَّ كمالَ رُتبةِ الاجتهادِ تتوقّفُ على ثلاثةِ أشياء:

الثالث: أنْ يكون له مِن الممارسةِ والتتبعِ لمقاصدِ الشريعةِ، ما يكسِبُه قوةً يفهمُ مرادَ الشرعِ مِنْ ذلك، وما يناسب أنْ يكونَ حُكمًا له في ذلك المحلِّ، وإنْ لم يُصَرِّحْ به"

(1)

.

ونَقَلَ إمامُ الحرمين الجويني عن الإمامِ الشافعي ما يقررُ اعتبارَ معرفةِ المجتهدِ لمقاصدِ الشريعةِ، يقولُ إمامُ الحرمين: "ذَكَرَ الشافعيُّ في: (الرسالة) ترتيبًا حسنًا، فقالَ: إذا وقعتْ واقعةٌ، فأحْوجَ المجتهد إلى طلب الحُكم فيها؛ فينظرُ أولًا في: نصوصِ الكتابِ، فإنْ وَجَدَ مَسْلَكًا دالًا على الحُكمِ، فهو المراد

فإنْ عَدِمَ المطلوبَ في هذه الدرجاتِ، لم يخضْ في القياسِ بَعْدُ، ولكنَّه ينظرُ في كلياتِ الشرعِ، ومصالحها العامّةِ"

(2)

.

دليلُ اعتبار معرفةِ مقاصدِ الشريعةِ مِنْ شروطِ الاجتهادِ: أنَّ الشريعةَ مبنيةٌ على اعتبارِ المصالحِ، والمصالحُ إنَّما اعتُبِرَتْ؛ لأنَّ الشرعَ بيَّن أنَّها مصالح - وإدراكُ المكلّفِ للمصالحِ يختلفُ باختلافِ الأوقاتِ والأحوالِ - وإذا كانت المصالحُ المعتبرةُ هي المصالحَ التي قرّرها الشارعُ، كان لزامًا على المجتهدِ أنْ يفهمَ عن الشارعِ قصدَه في كلِّ مسألةٍ مِنْ مسائلِ الشرعِ؛ لتتحققَ له معرفةُ الحِكمِ والغاياتِ مِن الشريعةِ، فيَضْبِط اجتهادَه في ضوئِها

(3)

.

وقد تَبعَ أبا إسحاقَ الشاطبيَّ في اعتبارِ معرفةِ مقاصدِ الشريعةِ شرطًا لبلوغِ درجةِ الاجتهادِ جمعٌ مِن المتأخرين، منهم: الشيخُ الطاهرُ بنُ عاشور

(4)

، والشيخُ محمدٌ أبو زهرة

(5)

، والدكتورُ الطيبُ خضري السيد

(6)

،

(1)

الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 17 - 18).

(2)

البرهان (2/ 874 - 875)، ولم أقف على كلام الإمام الشافعي في:(الرسالة)، ولعله في (الرسالة) القديمة.

(3)

انظر: الموافقات (5/ 42 - 43).

(4)

انظر: مقاصد الشريعة (3/ 40 - 41).

(5)

انظر: أصول الفقه (ص/ 386).

(6)

انظر: الاجتهاد فيما لا نص فيه (1/ 28).

ص: 199

وعبدُ الحي بن الصديق

(1)

، والدكتورٌ زكريا البري

(2)

، والدكتورُ يوسفُ العالم

(3)

.

الشرط الثامن: معرفة لسان العرب.

يُشترطُ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ معرفةُ اللسانِ العربي، ومعرفةُ اللغةِ العربيةِ في جانبِ: اللغةِ، والنحوِ، والصرفِ، والبلاغةِ

(4)

.

وقد نصَّ أغلبُ الأصوليين على هذا الشرطِ، وهو شرطٌ متفقٌ عليه.

دليل اعتبار معرفة اللسان العربي مِن شروط الاجتهاد: أنَّ الشريعةَ الإسلاميةَ عربيةٌ؛ لأنَّها مأخوذةٌ من الكتاب والسنةِ، وقد جاءا بلسانِ العربِ، قالَ الله تعالى:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}

(5)

، وقالَ الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}

(6)

.

ومَنْ رامَ فهمَ الكتابِ والسنةِ - وقد جاءا بلسانِ العربِ - فلا بُدَّ له مِنْ معرفةِ اللسانِ العربي، وَما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، فهو واجَبٌ

(7)

.

يقولُ تقيُّ الدّين بن تيميةَ: "إنَّ فهمَ الكتابِ والسنةِ فرضٌ، ولا يُفْهَم إلا بفهمِ اللغةِ العربيةِ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ"

(8)

.

وللإعرابِ والتصريفِ أثرٌ في تغيّرِ المعنى، فاحتيجَ إلى معرفتِهما

(9)

.

(1)

انظر: نظرية المقاصد عند الشاطبي (ص/ 372).

(2)

انظر: الاجتهاد في الشريعة وبحوث أخرى (ص/ 245).

(3)

انظر: المقاصد العامة للشريعة الإسلامية (ص/ 106).

(4)

انظر: العدة (5/ 1594)، والإشارة في معرفة الأصول للباجي (ص/ 328)، وشرح اللمع (2/ 1034)، والبرهان (2/ 869)، وقواطع الأدلة (5/ 4)، والعزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 416)، والموافقات (5/ 52).

(5)

من الآية (195) من سورة الشعراء.

(6)

من الآية (4) من سورة إبراهيم.

(7)

انظر: البرهان (2/ 869)، وقواطع الأدلة (5/ 4)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 24)، والعزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 416).

(8)

اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 527).

(9)

انظر: نفائس الأصول (9/ 4019).

ص: 200

وأمَّا معرفةُ البلاغةِ؛ فلأنَّ القرآنَ الكريمَ، والسنةَ النبويةَ في الذِّروةِ العليا مِن الإعجازِ، فلا بُدَّ مِنْ معرفةِ البيانِ وأساليبِه؛ ليتمكن المجتهدُ مِن الاستنباطِ منهما على الوجهِ الأكملِ

(1)

.

يقولُ الإمامُ الشافعيُّ: "القرآنُ نَزَلَ بلسانِ العربِ، دونَ غيرِه؛ لأنَّه لا يَعْلمُ مِنْ إيضاحِ جُمَلِ علمِ الكتاب أحدٌ جَهِلَ سعةَ لسانِ العربِ، وكثرةَ وجوهِه، وجماع معانيه وتفرقها، وَمَنْ عَلِمه انتفتْ عنه الشبهُ التي دخلتْ على مَنْ جَهِلَ لسانَها"

(2)

.

ويقولُ الشوكانيُّ: "الاستكثارُ مِنْ ممارسةِ لسانِ العربِ، والتوسع في الاطلاعِ على مطولاتِه، ممَّا يزيدُ المجتهدَ قوةً في البحث، وبَصَرًا في الاستخراجِ، وبصيرةً في حصولِ مطلوبِه"

(3)

.

ولا يشترط في هذا المقامِ: معرفةُ غرائبِ اللغةِ

(4)

، وهي: الألفاظُ التي تُخِلُّ بالفصاحةِ؛ لأنَّها لا تُوجدُ في القرآنِ الكريمِ، ولا في السنةِ النبويةِ

(5)

.

ويتصلُ باشتراطِ معرفةِ اللسانِ العربي، مسألةٌ، وهي: القدرُ المشترطُ في معرفةِ اللسانِ العربي.

يحتاجُ المجتهدُ مِن اللسانِ العربي قدرًا يُثْمِرُ له فهمَ خطاب العربِ، وعادتهم في الاستعمالِ إلى حدِّ يُميّز بين صريحِ الكلامِ وظاهرِه، ومجملِه ومفصلِه، وحقيقتِه ومجازِه، وَيعْرِفُ أوضاعَ العربِ في كلامِهم؛ بحيثُ يُمَيّز العبارةَ الصحيحةَ عن الفاسدةِ، والراجحةَ عن المرجوحةِ، ويُمَيّزُ بين دلالاتِ الألفاظِ - مِن المطابقةِ

(6)

والتضمّنِ والالتزامِ - والمفرد والمركب،

(1)

انظر: تشنيف المسامع (4/ 569).

(2)

الرسالة (ص/ 50).

(3)

إرشاد الفحول (2/ 1031).

(4)

انظر: البرهان (2/ 869)، والمنخول (ص/ 463)، والموافقات (5/ 52).

(5)

انظر: تعليق دراز على الموافقات (5/ 52).

(6)

دلالة المطابقة: دلالة اللفظ على تمام مسماه. انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي =

ص: 201

والمترادفِ والمتباين

(1)

.

ولا يُشتَرطُ أنْ يبلغَ درجةَ الأصمعي

(2)

أو الخليل

(3)

أو المبرد

(4)

، ولا

= (1/ 15)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 24)، والبحر المحيط (2/ 37)، ولقطة العجلان للزركشي (ص/ 104)، وشرح الكوكب المنير (1/ 126)، وآداب البحث والمناظرة للشنفيطي (ص/20).

(1)

انظر: المستصفى (2/ 386)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 163)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3829).

(2)

هو: عبد الملك بن قُريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي، أبو سعيد الأصمعي البصري، ولد سنة بضع وعشرين ومائة، أحد أئمة اللغة والنحو والأشعار والغريب والأخبار، كان علامةً حافظًا حجةً في الأدب، ولسان العرب، يتقي أنَّ يفسر الحديث كما يثقي أن يفسر القرآن، قال عنه الإمام الشافعي:"ما عبَّر أحدٌ عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي"، من مؤلفاته: غريب القرآن، والنوادر، وخلق الإنسان، والأضداد، توفي سنة 216 هـ وقيل: 215 هـ وله ثمانية وثمانون عامًا. انظر ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاري (5/ 438)، وتاريخ مدينة السلام للخطيب (12/ 157)، وإنباه الرواه للقفطي (2/ 197)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 170)، وسير أعلام النبلاء (10/ 175)، والبلغة للفيروزابادي (ص/ 136)، وبغية الوعاة للسيوطي (2/ 112).

(3)

هو: الخليل بن أحمد بن عبد الرحمن الفراهيدي الأزدي البصري، أبو عبد الرحمن، ولد سنة 100 هـ أحد أئمة اللغة والنحو، وصاحب العربية، ومنشيء علم العروض والقوافي، ومخترع حركات الإعراب، كان رأسًا في العلم، دينًا ورعًا زاهدًا متقشفًا، كبير الشأن، من مؤلفاته: العين - على خلاف في صحة نسبة الكتاب إليه - والعروض، والشواهد، والعوامل، والنغم، توفي سنة 175 هـ وقيل: سنة 170 هـ. انظر ترجمته في: نزهة الألباء للأنباري (ص/ 45)، وإرشاد الأديب لياقوت (3/ 1260)، وإنباه الرواة للقفطي (1/ 376)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 177)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 244)، وسير أعلام النبلاء (7/ 429)، والبلغة للفيروزابادي (ص/ 99)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 321).

(4)

هو: محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عميرة بن حسان الأزدي، أبو العباس المبرد، ولد بالبصرة سنة 210 هـ كان عالمًا بالنحو والأدب، إمام العربية ببغداد، فصيحًا بليغًا مفوهًا، ثقةً إخباريًا علامةً، صاحب نوادر وظرافة، غزير الحفظ، ومن أمثال أهل المغرب التي تدل على علو شأن المبرد:"من لم يقرأ: (الكامل) فليس بكامل"، من مؤلفاته: المقتضب، والكامل في اللغة والأدب، ومعاني القرآن، والمقصور والممدود، توفي ببغداد سنة 285 هـ ودفن بمقابر الكوفة. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (4/ 603)، وإرشاد الأديب لياقوت (6/ 2678)، وإنباه الرواة للقفطي (3/ 241)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 313)، وسير أعلام النبلاء (13/ 576)، والوافي بالوفيات للصفدي (5/ 216)، والبلغة للفيروزابادي (ص/ 216)، وبغية الوعاة للسيوطي (1/ 269).

ص: 202

أنْ يتعمقَ في النحوِ، ولا أنْ يعرفَ جميعَ اللغةِ العربيةِ، بل المشترطُ القدرُ الذي يتعلقُ به فهمُ الكتابِ والسنةِ

(1)

.

وقد ذَهَبَ أبو إسحاقَ الشاطبيُّ إلى اشتراطِ أنْ يبلغَ المجتهدُ في العربيةِ درجةَ الاجتهادِ، كالأئمةِ فيها، كالخليلِ وسيبويه والأخفش

(2)

.

وقد أبدى الشاطبيُّ أنَّ ما قاله في القدرِ المشترطِ غيرُ مخالفٍ لكلامِ الأصوليين، بلْ هو موافقٌ لهم

(3)

.

تلك هي أهمُّ الشروطِ المتعلقةِ بالجانبِ العلمي للمجتهدِ.

وممَّا يتصلُ بالجانبِ العلمي، ذكرُ ثلاثةِ علومٍ وَقَعَ خلافُ الأصوليين في اشتراطِها لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ، وهي:

أولًا: معوفةُ علمِ الكلامِ

(4)

.

(1)

انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 459)، والمستصفى (2/ 386)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 163)، والعزيز شرح الوجيز للرافعي (12/ 416)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3829)، والإبهاج في شرح المنهاج (8/ 2900)، والفوائد شرح الزوائد للأبناسي (2/ 1233).

(2)

هو: سعيد بن مسعدة، أبو الحسن، المشهور بالأخفش، مولى بني مجاشع بن دارم، من أهل بلخ، قرأ النحو على سيبويه، وكان أسن منه، من مشاهير علماء النحو واللغة، وقد زاد في العروض بحر الخبب، كان من أعلم الناس بعلم الكلام، وأحذقهم بالجدل، معتزلي المعتقد؛ يقول بالقدر، من مؤلفاته: الأوسط في النحو، ومعاني القرآن، والمقاييس في النحو، والاشتقاق، توفي سنة 216 هـ وقيل: سنة 215 هـ وقيل: 221 هـ، انظر ترجمته في: نزهة الألباء للأنباري (ص/ 107)، وإنباه الرواة للقفطي (2/ 36)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (2/ 380)، والبلغة للفيروزابادي (ص / 104)، وبغية الوعاة للسيوطي (1/ 590)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 73).

(3)

انظر: الموافقات (5/ 53 - 57). وقارن بوسائل الإصلاح للخضر حسين (2/ 113 - 114). وانظر في قول أبي إسحاق الشاطبي: الاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص 170 - 171)، والاجتهاد والتقليد عند الإمام الشاطبي للدكتور وليد الودعان (1/ 280 - 295)، والاجتهاد وضوابطه عند الإمام الشاطبي للدكتور عمار علوان (ص/ 79 - 81).

(4)

علم الكلام: هو العلم الذي يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج، ودفع الشبه. انظر: المواقف في علم الكلام للإيجي (ص/ 7)، وشرح العقائد النسفية للتفتازاني (ص/ 12).

ص: 203

ثانيًا: معرفةُ علمِ المنطقِ

(1)

.

ثالثًا: معرفةُ الفروعِ الفقهيةِ.

أولًا: معرفةُ علمِ الكلامِ.

لقد اختلفَ العلماءُ في اشتراطِ معرفةِ المجتهدِ لعلمِ الكلامِ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ على أقوال، أشهرها:

القول الأول: أنَّ معرفةَ علمِ الكلامِ، والتبحّرَ فيه شرطٌ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ.

وهذا قولُ القاضي أبي بكرٍ الباقلاني

(2)

، وهو مذهب القدرية

(3)

.

القول الثاني: أنَّ معرفةَ أصولِ الاعتقادِ شرطٌ مِنْ شروطِ الاجتهادِ.

وقد نَسَبَ أبو القاسمِ الرافعي هذا القولَ إلى بعضِ الشافعيةِ

(4)

، ونسبه

(1)

تعددت تعريفات العلماء لعلم المنطق، ومن أشهرها: علم بقوانين تعصم مراعاتها الذهن عن الوقوع في الخطأ. انظر: التذهيب للخبيصي (ص/ 63)، والسلم المرونق للأخضري (ص/ 46).

(2)

انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 460).

(3)

انظر: البحر المحيط (6/ 204). والقدرية: هي المعتزلة؛ إذ من أوصاف المعتزلة أنهم قدرية، والمعتزلة إحدى الفرق المشهورة، وتسمى بالوعيدية، والعدلية، وبأصحاب العدل والتوحيد، وتنسب هذه الفرقة إلى واصل بن عطاء حينما اعتزل مجلس الحسن البصري، فسمي أتباعه بالمعتزلة، وللمعتزلة طوائف كثيرة منها: الواصلية، والعمروية، والهذلية، والنظامية والبشرية، من أشهر رجال المعتزلة: عمرو بن عبيد، والهذيل بن محمد، والنظام، وبشر بن المعتمر، والجبائي وابنه أبو هاشم، والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري، ومن أقوال المعتزلة: نفي صفات الله تعالى، والقول باستحالة رؤية الله تعالى في الآخرة، ونفي القدر، والقول: بأن العبد يخلق فعله، ، وأن مرتكب الكبيرة في منزلة بين منزلة المؤمن ومنزلة الكافر، لا مؤمن ولا كافر، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فهو مخلد في النار. انظر: مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (1/ 235)، والفرق بين الفرق للبغدادي (ص/ 112)، والفصل في الملل والأهواء لابن حزم (4/ 192)، والملل والنحل للشهرستاني (1/ 61)، وطبقات المعتزلة للمرتضى (ص/ 2)، ولوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 76)، ورسائل ودراسات في الأهواء للدكتور ناصر العقل (2/ 349).

(4)

انظر: العزيز في شرح الوجيز (12/ 417).

ص: 204

تاجُ الدِّينِ بنُ السبكي إلى الشافعيةِ

(1)

.

وهناك قولٌ لبعضِ العلماءِ تتفقُ حقيقتُه مع القولِ الثاني، وهو اشتراطُ صحةِ الإسلامِ فقط، أمَّا تفاريعُ الكلامِ، وطُرُقُه، والأدلةُ عليه، فليستْ بشرطٍ

(2)

.

وهذا قولُ أكثرِ العلماءِ؛ ونسبه إمامُ الحرمين الجويني إلى الفقهاءِ قاطبةً

(3)

. ونسبه الأستاذُ أبو إسحاقَ

(4)

إلى أكثرِ أصحابِ كتبِ الحديثِ والفقه

(5)

. ونسبه بدرُ الدّينِ الزركشي

(6)

، والمرداويُّ

(7)

إلى الأصوليين.

واختاره جمعٌ مِن المحققين، منهم: إمامُ الحرمين الجويني

(8)

، وأبو حامدٍ الغزالي

(9)

، وأبو الخطابِ

(10)

، وأبو الوفاءِ بنُ عقيلٍ

(11)

، والآمديُّ

(12)

، وصفيُّ الدِّينِ الهندي

(13)

، وتاجُ الدِّينِ بنُ السبكي

(14)

،

(1)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2902).

(2)

انظر: المصدر السابق.

(3)

انظر: التلخيص في أصول الفقه (3/ 461).

(4)

هو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، ركن الدين الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الخراساني، أحد أئمة المذهب الشافعي، كان إمامًا في علم الكلام والأصول والفقه والعربية، عارفًا بالكتاب والسنة، عابدًا ورعًا زاهدًا، اتفق الأئمة على تبجيله، وأقروا له بالتقدم والفضل، بُنيت له مدرسة مشهورة بنيسابور، من مؤلفاته: الجامع في أصول الدين والرد على الملحدين، ومسائل الدور، وتعليقة في أصول الفقه، وأدب الجدل، توفي بنيسابور سنة 418 هـ. انظر ترجمته في: تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص/ 243)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (2/ 169)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 28)، وسير أعلام النبلاء (17/ 353)، والوافي بالوفيات للصفدي (6/ 104)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (4/ 256)، وطبقات الشافعية للإسنوي (1/ 59).

(5)

انظر: البحر المحيط (6/ 204).

(6)

انظر: تشنيف المسامع (4/ 573).

(7)

انظر: التحبير (8/ 3879).

(8)

انظر: التلخيص في أصول الفقه (3/ 460).

(9)

انظر: المستصفى (2/ 386).

(10)

انظر: التمهيد في أصول الفقه (4/ 391).

(11)

انظر: الواضح في أصول الفقه (5/ 456).

(12)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 163).

(13)

انظر: نهاية الوصول (8/ 3830).

(14)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2901).

ص: 205

وجمالُ الدّينِ الإسنوي

(1)

.

القول الثالث: أنَّ علمَ الكلام ليس بشرطٍ في بلوغ رتبةِ الاجتهادِ مطلقًا.

وهذا القولُ هو ظاهرُ اختيارِ الفخرِ الرازي

(2)

، وهو قولُ عبدِ العزيز البخاري

(3)

، وجلالِ الدّينِ السيوطي

(4)

.

وقد حَمَلَ بدرُ الدّينِ الزركشيُّ قولَ الرازي على القولِ الثاني، فقالَ: "وأطلق الرازيُّ عدمَ اشتراطِ علمِ الكلامِ، وفصّلَ الآمديُّ، فَشَرَطَ الضرورياتِ؛ كالعلمِ بوجودِ الربِّ سبحانه، وصفاته

ولا يُشترطُ علمُه بدقائقِ الكلامِ، وكلامُ الرازي محمولٌ على هذا التفصيلِ"

(5)

.

وكلُّ مَنْ لم يرَ مشروعيةِ علمِ الكلام، فإنَّه يقولُ بعدمِ اشتراطِه لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ

(6)

.

• أدلةُ الأقوال:

دليل أصحاب القول الأول: لم أقفْ - فيما رجعتُ إليه مِنْ مصادر - على دليلٍ للقائلين باشتراطِ معرفةِ علمِ الكلامِ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ، ويظهرُ لي بتأمّلِ الحالةِ العلميةِ للقرنِ الرابع الذي كان فيه القاضي أبو بكرٍ الباقلاني (ت: 403 هـ) مدى الصراعِ الكلامي بينِ المعتزلةِ والأشاعرةِ، والذي امتدَّ أثرُه إلى المسائلِ الأصوليةِ، فَظَهَرَ الفكرُ الكلامي على هيئة علم مستقلٍّ، ولعل هذا هو ما دَفَعَ بأصحابِ القولِ الأولِ إلى القولِ باشتراطِ معرفةِ علمِ الكلامِ، والاعتدادِ به لبلوغِ مرتبةِ الاجتهادِ

(7)

.

(1)

انظر: نهاية السول (4/ 553).

(2)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 25).

(3)

انظر: كشف الأسرار (4/ 16).

(4)

انظر: شرح الكوكب الساطع (4/ 125).

(5)

انظر: البحر المحيط (6/ 204).

(6)

انظر: إحياء علوم الدين للغزالي (1/ 163)، ودرء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (7/ 145 وما بعدها).

(7)

انظر: أدوات النظر الاجتهادي المنشود للدكتور قطب سانو (ص/ 45 - 47).

ص: 206

أدلةُ أصحابِ القولِ الثاني: استدلَّ أصحابُ القولِ الثاني بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: أنَّ الأئمةَ المجتهدين مِن الصحابةِ رضي الله عنهم والتابعين ومَنْ بعدهم، حازوا رتبةَ الاجتهادِ، مع عدمِ معرفتِهم بعلمِ الكلامِ

(1)

.

ويمكن مناقشة الدليل الأول: بأن ما ذكروه دالٌّ على عدمِ اشتراطِ علمِ الكلامِ مطلقًا، وليس فيه اشتراطُ قدرٍ منه للدخولِ في الإسلامِ.

الدليل الثاني: أنَّ المجتهدَ يمكنُه استنباطُ أحكامِ الحوادثِ مِن الأدلةِ الشرعيةِ مع جهلِه بعلمِ الكلامِ

(2)

.

ويمكن مناقشة الدليل الثاني: بما نوقش به الدليل الأول.

دليل أصحاب القول الثالث: ما تقدم من أدلةٍ لأصحاب القول الثاني صالحٌ لأنْ يستدلَ به أصحابُ القولِ الثالثِ.

• الموازنة والترجيح:

بتأمّلِ المسألةِ بأقوالِها وأدلتِها، يظهرُ لي رجحانُ القولِ الثالثِ القائلِ: إنَّ معرفةَ علمِ الكلامِ ليستْ بشرطٍ مِنْ شروطِ الاجتهادِ، وذلك للأسبابِ الآتية:

الأول: انتفاءُ الدليلِ المشترِطِ معرفة علمِ الكلامِ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ.

الثاني: أنَّ بعضَ الأئمةِ المجتهدين المتفق على اجتهادهم، قد حذَّروا مِنْ علمِ الكلامِ، ومِنْ ذلك: قولُ الإمامِ الشافعي: "حُكمي في أهلِ الكلامِ

(1)

انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 461)، والمستصفى (2/ 386).

(2)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 25)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3830)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2901)، ونهاية السول (4/ 553)، وشرح الكوكب الساطع للسيوطي (4/ 125).

ص: 207

أنْ يُضْرَبوا بالجريدِ والنعالِ

"

(1)

. وقولُ الإمامُ أحمدَ: "لا يُفْلِحُ صاحبُ كلامٍ أبدًا، ولا تَكادُ تَرَى أحدًا نَظَرَ في الكلامِ، إلا وفي قلبِه دَغَلٌ

(2)

"

(3)

.

فكيفَ يُقالُ: إنَّ معرفةَ علمِ الكلامِ شرطٌ مِنْ شروطِ الاجتهادِ؟ !

الثالث: أنَّ الأئمةَ المجتهدين مِن الصحابةِ رضي الله عنهم والتابعين وأئمةِ المذاهبِ المتبوعةِ، متفقٌ على بلوغِهم رتبة الاجتهادِ المطلقِ في الشريعةِ، مع عدمِ معرفتِهم بعلمِ الكلامِ.

الرابع: أنَّ ما استدلَّ به أصحابُ القولِ الثاني، لا يُؤَيّدُ قولَهم.

وتحسنُ الإشارةُ إلى أنَّ معرفةَ المجتهدِ لمسائلِ الاعتقادِ مِنْ ضرورةِ منصبِ الاجتهادِ؛ لما يشتمل عليه القرآنُ الكريمُ مِنْ تقريرِ مسائلِ العقيدةِ

(4)

.

• نوع الخلاف:

يظهرُ لي أنَّ الخلافَ بين أصحابِ القولِ الثاني والقول الثالثِ خلافٌ لفظيٌّ؛ لأنَّ سببَ اشتراطِ أصحابِ الَقولِ الثاني قدرًا مِنْ علمِ الكلامِ؛ ليدخلَ به صاحبُه الإسلامَ

(5)

؛ واشتراطُ إسلامِ المجتهدِ متفقٌ عليه بين القولين، والقدرُ الزائدُ عنه غيرُ مشروطٍ عند الفريقين.

ويبقى النظرُ في نوعِ الخلافِ بين هؤلاءِ، وبين أصحابِ القولِ الأولِ

(1)

ذكر قولَ الإمام الشافعي: البيهقيُّ في: مناقب الشافعي (1/ 162)، والبغداديُّ في: شرف أصحاب الحديث (ص/ 168).

(2)

الدَّغَل: الفساد. انظر: مجمل اللغة، مادة:(دغل)، (1/ 328)، والقاموس المحيط، مادة:(دغل)، (ص/ 1291).

(3)

ذكر قولَ الإمام أحمد: ابنُ عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 942)، وتقيُّ الدين بن تيمية في: درء تعارض العقل والنقل (7/ 147).

(4)

قارن بالمستصفى (2/ 386).

(5)

مع العلم أنَّ قول سلف الأمة عدم اشتراط ما يذكره المتكلمون من أنَّ أول واجب على المكلف أهو النظر، أم المعرفة؟ انظر: الاستقامة لابن تيمية (1/ 142)، ودرء تعارض العقل والنقل له (7/ 352 وما بعدها)، وفتح الباري لابن حجر (1/ 70).

ص: 208

(المشترطين لعلم الكلام)، فأقولُ: يصعبُ الجزمُ بنوعِ الخلافِ؛ لعدمِ وقوفي على أدلةِ المشترطين؛ مع أنَّ الظاهرَ أنَّ الخلافَ بينهما خلافٌ معنوي؛ لأنَّ إمامَ الحرمين الجويني (ت: 478 هـ) لما عَرَضَ كلامَ أبي بكرٍ الباقلاني (ت: 403 هـ) - وهو قريب من زمنه - لم يُشْرِ إلى ما قد يُفهمُ منه أنَّ الخلافَ لفظي، بل ردَّ إمامُ الحرمين قولَ القاضي الباقلاني؛ لمخالفتِه للدليلِ.

• سبب الخلاف:

أشارَ ابنُ رشدٍ

(1)

إلى ما يُمكنُ جعلُه سببًا للخلافِ، فقالَ: "وقد اشترطوا مع هذا أنْ يكونَ عالمًا بعلمِ الكلامِ

وهذا إنَّما يلزمُ على رأي مَنْ يرى أنَّ أولَ الواجباتِ النظرُ والاستدلالُ، وأمَّا مَنْ لا يرى ذلك، فيكفيه الإيمانُ بمجرّدِ الشرعِ، دونَ نَظَرِ العقلِ"

(2)

.

فمَنْ قال: إنَّ أولَ واجبٍ على المكلّفِ هو النظرُ، أَوْجَبَ على المجتهدِ معرفةَ علمِ الكلامِ، وهذا ما اتجه إليه أصحابُ القولِ الثاني.

ومَنْ قال: ليس أول واجبٍ على المكلفِ النظرَ، وإنَّما يُقررُ أنَّ أولَ واجبٍ هو الشهادتان، لم يُوجِبْ على المكلّفِ معرفةَ علمِ الكلامِ، وهذا ما اتجه إليه أصحابُ القولِ الثالثِ.

(1)

هو: محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد القرطبي، المعروف بابن رشد الحفيد، ولد سنة 520 هـ كان مالكي المذهب، علامةً بارعًا في الفقه والأصول والعربية والحكمة وعلوم الأوائل والطب، فيلسوفًا، متميزًا بالذكاء وصحة النظر، وجودة التأليف، متواضعًا، خافضًا لجناحه، يفزع إلى قوله في الطب كما يفزع إليه في الفقه، وكان قاضي الجماعة بقرطبة، من مؤلفاته: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، والضروري في أصول الفقه، والكليات في الطب، توفي بمراكش سنة 595 هـ. انظر ترجمته في: الغنية للقاضي عياض (ص/ 54)، وبغية الملتمس للضبي ص/ 54)، والتكملة لوفيات النقلة للمنذري (1/ 321)، وسير أعلام النبلاء (21/ 307)، والوافي بالوفيات للصفدي (2/ 114)، والديباج المذهب لابن فرحون (2/ 257)، وشذرات الذهب لابن العماد (6/ 522).

(2)

الضروري في أصول الفقه (ص/ 138).

ص: 209

أمَّا المشترطون لعلمِ الكلامِ؛ فلعل ذلك مِنْ أثرِ الحالةِ العلميةِ في عصرِهم؛ إذ بَلَغَ علمُ الكلامِ منزلةً رفيعةً، فَغَلَبَ النظرُ الكلامي بين المدارسِ العلميةِ، وامتزجَ بالمسائلِ الأصوليةِ، الأمر الذي أضفى على علمِ الكلامِ في ذلك الوقتِ صبغةً مرتبطةً بتكوينِ المجتهدِ.

ثانيًا: اشتراطُ معرفةِ علمِ المنطقِ.

ذَهَبَ بعضُ الأصوليين إلى اشتراطِ معرفةِ علمِ المنطقِ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ، وقبل سوقِ الخلافِ في اشتراطِ معرفةِ علمِ المنطقِ للاجتهادِ، أُبيّنُ خلافَ العلماءِ في حُكمِ تعلّمِ المنطقِ ودراستِه:

اختلفَ العلماءُ في حُكمِ تعلمِ المنطقِ على أقوالٍ، أشهرها:

القول الأول: تحريمُ دراسةِ المنطق.

وهذا قولُ ابنِ الصلاحِ

(1)

، وجلالِ الدّينِ السيوطي

(2)

.

القول الثاني: جوازُ دراسةِ المنطقِ، وفق ضوابط معيةٍ.

وهذا قولُ الأخضري

(3)

.

القول الثالث: الحثُّ على تعلّمِ المنطقِ.

وهذا قولُ أبي حامدٍ الغزالي

(4)

.

وبَدَهِيٌّ أنْ لا يشترطَ أصحابُ القولِ الأولِ معرفةَ المنطقِ لبلوغِ رتبةِ

(1)

انظر: فتاوى ابن الصلاح (ص/ 35).

(2)

انظر: الحاوي للفتاوى (1/ 255).

(3)

انظر: السلم المورونق بشرح الأخضري (ص/ 24). والأخضري هو: عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عامر الأخضري النطيوسي المغربي، من أهل بسكره بالجزائر، ولد سنة 918 هـ من علماء المذهب المالكي، منطقي مشهور، وعالم مشارك في عدد من العلوم، من مؤلفاته: السلم في علم المنطق، والجوهر المكنون في ثلاثة فنون، ومختصر في العبادات على مذهب مالك، والدرة البيضاء، توفي في الجزائر سنة 983 هـ. انظر ترجمته في: شجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 285)، والأعلام للزركلي (3/ 331)، ومعجم المؤلفين لكحالة (2/ 116).

(4)

انظر: المستصفى (1/ 45).

ص: 210

الاجتهادِ، فالخلافُ في اشتراطه منحصرٌ بين أصحابِ القولين: الثاني، والثالثِ.

وسأنسبُ حينَ عرضِ الأقوال في اشتراطِ معرفةِ علمِ المنطقِ القولَ لبعضِ القائلين بتحريمِ دراستِه؛ لنصِّهم على حكمِ مسألةِ: (اشتراط معرفة المنطق لبلوغ رتبة الاجتهاد) بعينِها.

اختلفتْ أنظارُ الأصوليين في هذه المسألةِ على قولين:

القول الأول: أنَّ معرفةَ علمِ المنطقِ ليستْ بشرطٍ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ.

وهذا قولُ أكثرِ الأصوليين؛ إذ إنَّ أغلبَهم لم يذكرْ معرفةَ المنطقِ في شروطِ الاجتهادِ.

واختارَ هذا القولَ ابنُ دقيقٍ العيد

(1)

، وتقيُّ الدّينِ بنُ تيميةَ

(2)

، والطوفيُّ

(3)

، وجلالُ الدّينِ السيوطي

(4)

.

ومقتضى قولِ ابنِ القيم أنَّ علمَ المنطقِ ليس بشرطٍ لرتبةِ الاجتهادِ؛ إذ وصفه بأنَّ باطلَه أضعاف حقِّه

(5)

.

وإنْ كان الطوفيُّ (ت: 716 هـ) لم يشترطْه، إلا أنَّه حبّذَ للمجتهدِ معرفتَه، خصوصًا في زمنِه الذي اشتهر فيه علمُ المنطقِ

(6)

.

يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "مَنْ قال مِن المتأخرين: إنَّ تعلّمَ المنطقِ مِنْ شروطِ الاجتهادِ؛ فإنَّه يدلُّ على جهلِه بالشرعِ! وجهلِه بفائدةِ المنطقِ"

(7)

.

ويقولُ جلالُ الدّينِ السيوطي في معرض حديثِه عن شروطِ المجتهدِ: "أمَّا علمُ المنطقِ، فأقلُّ وأذلُّ مِنْ أنْ يُذْكَرَ"

(8)

.

(1)

انظر: البحر المحيط (6/ 202).

(2)

انظر: مجموع الفتاوى (9/ 172).

(3)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 583).

(4)

انظر: تيسير الاجتهاد (ص / 41).

(5)

انظر: مفتاح دار السعادة (1/ 449) ط/ دار ابن حزم.

(6)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 583).

(7)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام (9/ 172) بتصرف يسير.

(8)

تيسير الاجتهاد (ص/ 41).

ص: 211

القول الثاني: أنَّ معرفةَ المنطقِ شرطٌ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ.

فيشترطُ أنْ يعرفَ المجتهدُ كيفيةَ النظرِ، ونَصْبَ الأدلةِ، وشروطَها التي بها تصيرُ البراهينُ والأدلةُ منتجةً.

وهذا قولُ أبي حامدٍ الغزالي

(1)

، والفخرِ الرازي

(2)

، والقاضي البيضاوي

(3)

، وشهاب الدين القرافي

(4)

، وصفيِّ الدينِ الهندي

(5)

، وتاجِ الدين بنِ السبكي

(6)

، وجمالِ الدينِ الإسنوي

(7)

.

ويبيّنُ صفيُّ الدّينِ الهندي القدرَ المطلوبَ مِن المجتهدِ، فيقول: "عِلْمُ شرائطِ الحدِّ والبرهانِ، والمتكفلُ ببيانِ ذلك هو المنطقُ؛ ولا يُشترَطُ في ذلك أنْ يكون بالغًا إلى الغايةِ القصوى

بل يكفي أنْ يكونَ في المرتبةِ الوسطى مِنْ ذلك"

(8)

.

• أدلة القولين:

أدلةُ أصحابِ القولِ الأولِ: استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: أنَّ أئمةَ السلفِ بلغوا رتبةَ الاجتهادِ بالاتفاق، ولم يَعرفوا علمَ المنطقِ، فضلًا عن أنْ يخوضوا فيه ويدرسوه

(9)

.

الدليل الثاني: أنَّ أئمةَ المسلمين قد حذّروا مِن المنطقِ، وزجروا

(1)

انظر: المستصفى (2/ 385).

(2)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 24).

(3)

انظر: منهاج الوصول (2/ 1575) مع شرحه السراج الوهاج.

(4)

انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 437).

(5)

انظر: نهاية الوصول (8/ 3828).

(6)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2899).

(7)

انظر: نهاية السول (4/ 551).

(8)

نهاية الوصول (8/ 3828).

(9)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 583)، والبحر المحيط (6/ 202)، والفوائد شرح الزوائد للأبناسي (2/ 1233).

ص: 212

الناسَ عن تعلّمِه وتعليمه؛ فكيفَ يُقالُ باشتراطِه لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ؟ !

(1)

.

مناقشة الدليل الثاني: أنَّ المنطقَ الذي حذَّر منه علماءُ الإسلام، هو المنطقُ المشوبُ بعقائدَ فاسدةٍ؛ فيكونُ تعلّمُه مدعاةً للوقوعِ في تلك العقائد، أمَّا المنطقُ السالمُ مِنْ هذه العقائدِ، فلا يقعُ عليه تحذيرُ علماءِ المسلمين، إذا كان متعلمُه ذا إدراكٍ جيّدٍ، وعقيدةٍ راسخةٍ

(2)

.

الدليل الثالث: أنَّ علمَ أصولِ الفقهِ يُغني عن علمِ المنطقِ؛ لأنَّه يُعنى بطرقِ الاستنباطِ مِن الأدلةِ، وسلامتِها ممَّا يقدحُ فيها

(3)

.

دليل أصحاب القول الثاني: يتعيّنُ على المجتهدِ أنْ يتعلّمَ مِنْ علمِ المنطقِ ما يعلمُ بهْ كيفيةَ النظرِ الصحيحِ - فيعلم شروطَ الحدِّ والبرهان والأدلة المنتجة - ليأمنَ الخطأَ في نظرِه، ويكونَ على بصيرةٍ.

ولمزيدِ البيانِ: فإنَّ التصوراتِ

(4)

تُضْبَطُ بالحدودِ، فمَنْ علمَ ضابطَ شيءٍ، فهو مستضيءٌ به، فأيّ محلٍّ صَدَقَ الضابطُ عليه، قَضَى بأنَّه تلك الحقيقة، وما لا يصدقُ عليه ذلك الضابطُ، قَضَى بأنَّه مغايرٌ لتلك الحقيقةِ، فمَنْ لا يعرفُ صحةَ الضابطِ مَنْ سُقْمِه، فلن يَعرفَ كيفَ يستضيءُ به.

وكذلك فيما يتعلقُ بالبراهينِ؛ يحتاجُ المجتهدُ إلى معرفةِ شروطِها؛ لأنَّه لا بُدَّ له مِنْ دليلٍ يدلُّه على الحُكمِ، والدليلُ له شروطٌ محررةٌ في علمِ

(1)

انظر: تيسير الاجتهاد (ص/ 41).

(2)

انظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (ص/ 6)، والتعليم والإرشاد لمحمد النعساني (ص/ 41).

(3)

انظر: تيسير الاجتهاد للسيوطي (ص/ 41).

(4)

التصورات: جمع تصور، والتصور عند المناطقة: إدراك الماهية مِنْ غيرِ حكم عليها. أو هو: إدراك معنى المفرد (إدراك خالي عن الحكم). انظر: التذهيب للخبيصي (ص/ 29)، وتحرير القواعد المنطقية لقطب الدين الرازي (ص/ 7)، ولقطة العجلان وبلة الظمآن للزركشي (ص/ 92)، والتعريفات للجرجاني (ص/ 123)، والتوقيف على مهمات التعريف للمناوي (ص/ 180)، وشرح الكوكب المنير (1/ 58)، وضوابط المعرفة لعبد الرحمن الميداني (ص/ 18)، وطرق الاستدلال ومقدماتها للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 33).

ص: 213

المنطقِ، متى أَخْطَأَ شرطًا منها، فَسَدَ عليه الدليلُ، وهو يعتقدُه صحيحًا

(1)

.

• الموازنة والترجيح:

يظهرُ لي مِنْ خلالِ تأمّلِ القولين، وأدلتهم الآتي:

أولًا: عدمُ طردِ القولِ باشتراطِ معرفةِ علمِ المنطقِ للمجتهدِ، أو عدمِ اشتراطِ معرفتِه، بل الأمرُ عائدٌ إلى استغناءِ المجتهدِ عنه مِنْ عدمِه: فإنْ كان المجتهدُ يعرفُ كيفيةَ نصبِ الأدلةِ ودلالتها على المطلوبِ بالدّربةِ مثلًا، فلا تُشترطُ معرفةُ المنطقِ في حقِّه حينئذٍ؛ لاستغنائِه عنه.

أمَّا إنْ لم يعرف المجتهدُ كيفيةَ نصبِ الأدلةِ، ودلالتها على المطلوبِ، فتُشترطُ معرفةُ المنطق في حقِّه حينئذٍ؛ لينضبطَ نظرُه.

ثانيًا: أنَّ الأَولى بالمجتهدِ تعلّم المنطقِ، وإنْ لم يحتجْ إليه؛ لما يحققه مِن فوائد متعددةٍ، تعود على المجتهدِ، فضلًا عن عصمةِ ذهنِه عن الوقوعِ في الخطأِ

(2)

.

وأمَّا ما ذُكِرَ مِنْ بلوغِ أئمةِ المسلمين رتبةَ الاجتهادِ، مع عدمِ معرفتِهم بالمنطقِ، فيقال: إنَّ أئمةَ السلفِ، وإن لم يتعلموا المنطقَ، فإنَّهم يعرفون الأمور التي يتحققُ بها نصب الدليل، وتقرير مقدماته، ووجه إنتاجِه المطالب، فهم أصلًا غيرُ محتاجين إليه

(3)

؛ ولذا قررتُ آنفًا أنَّ مَن استغنى عنه مِن المجتهدين، لم يُشترطْ في حقِّه معرفتُه، ومَنْ لم يستغنِ عنه، اشتُرطتْ عليه معرفتُه.

وقد يُقالُ: إنَّ أئمةَ المسلمينَ كانوا عارفين بعلمِ المنطقِ، غير أنَّهم لم يكونوا يعرفونَ العباراتِ الخاصة والاصطلاحاتِ الموجودة بعدهم

(4)

.

(1)

انظر: نفائس الأصول (9/ 4019 - 4020)، وشرح مختصر الروضة (3/ 583)، ونهاية السول (4/ 551).

(2)

انظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (ص/ 8 - 9).

(3)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 583).

(4)

انظر: الفوائد شرح الزوائد للأبناسي (2/ 1233).

ص: 214

• نوع الخلاف:

لم أقفْ - فيما رجعتُ إليه مِن مصادر - على مَنْ نصَّ على نوعِ الخلافِ في المسألةِ، والظاهرُ أنَّ الخلافَ خلافٌ معنوي، يظهر أثرُه فيمَنْ لم يستغنِ عن معرفةِ المنطقِ:

فالقائلون بعدمِ اشتراطِ معرفةِ المنطقِ في المجتهدِ، لا يُؤثّرُ جهلُه به في بلوغِ رتبةِ الاجتهادِ.

وعند المشترطين لمعرفة المنطق، لا تحصلُ له درجةُ الاجتهادِ.

أمَّا مَن استغنى عن علم المنطق، فيظهرُ لي أنَّ الخلافَ لفظيٌّ، أو يكادُ أنْ يكونَ لفظيًا؛ لأنَّ المشترطين لمعرفةِ علم المنطق؛ إنَّما اشترطوه؛ لصحةِ نظرِ المجتهدِ، وهي متحققةٌ له دونَ تَعَلّمِ لعلمِ المنطق، فالغاية مَن الشرطِ متحققةٌ، فلا وجهَ لسلبِ وصفِ الاجتهادِ عنه في هذه الحالةِ.

• سبب الخلاف:

يظهرُ أنَّ الخلافَ عائدٌ إلى أحدِ السببين الآتيين:

السبب الأول: حكمُ تعلّمِ علمِ المنطقِ؟

فمَنْ حرَّمَ تعلمَه، لم يجعلْه شرطًا للاجتهادِ، وهذا ما ذهبَ إليه أصحابُ القولِ الأول.

ومَنْ لم يحرّمْه، فقد اختلفتْ أقوالُهم في اعتبارِه شرطًا للاجتهادِ.

السبب الثاني: هل يمكنُ أنْ تتحققَ الغايةُ مِنْ علمِ المنطقِ - وهي عصمةُ الذّهنِ عن الوقوعِ في الخطأ - دونَ تعلمِه؟

مَنْ قال بإمكانِ تحققِها دونَ تعلّمِ علم المنطق، لم يجعله شرطًا للاجتهاد، وهذا ما ذهبَ إليه أصحابُ القولِ الأولِ.

ومَنْ قال بعدمِ إمكانِ تحققها في الغالب إلا بدراسةِ علمِ المنطقِ، اشترطَ معرفتَه، وهذا ما ذهبُ إليه أصحابُ القوَلِ الثاني.

ص: 215

ثالثًا: اشتراطُ معرفةِ الفروعِ الفقهيةِ.

مِن شروطِ الاجتهادِ التي وَقَعَ فيها خلافٌ بين الأصوليين: معرفةُ الفروع الفقهيةِ، فهل يُشترطُ في العالم لوصفِه بالاجتهادِ أنْ يتعلمَ الفروعَ الفقهيةَ؟

اختلفَ الأصوليون في اعتبارِ معرفةِ الفروع الفقهيةِ شرطًا لبلوغ رتبةِ الاجتهادِ على قولين:

القول الأول: أنَّ معرفةَ الفروع الفقهيةِ ليستْ بشرطٍ لبلوغ رتبةِ الاجتهادِ.

وهذا قولُ جمهورِ الأصوليين، وممَّنْ ذَهَبَ إليه: أبو حامدٍ الغزالي

(1)

، والفخرُ الرازي

(2)

، والموفقُ ابنُ قدامة

(3)

، وصفيُّ الدينِ الهندي

(4)

، والطوفيُّ

(5)

، وعبدُ العزيز البخاري

(6)

، وتاجُ الدّينِ بنِ السبكي

(7)

، وبدرُ الدينِ الزركشي

(8)

، وجمالُ الدينِ الإسنوي

(9)

، ومحمدٌ البابرتيُّ

(10)

، والمرداويُّ

(11)

، وابنُ النجارِ

(12)

.

القول الثاني: أنَّ معرفةَ الفروعِ الفقهيةِ شرطٌ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ.

ونُسبَ هذا القولُ إلى الأستاذِ أبي إسحاقَ

(13)

، وأبي منصور

(1)

انظر: المستصفى (2/ 388).

(2)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 25).

(3)

انظر: روضة الناظر (3/ 963).

(4)

انظر: نهاية الوصول (8/ 3831).

(5)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 582).

(6)

انظر: كشف الأسرار (4/ 16).

(7)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2902).

(8)

انظر: البحر المحيط (6/ 255).

(9)

انظر: نهاية السول (4/ 554).

(10)

انظر: التقرير لأصول فخر الإسلام (6/ 263).

(11)

انظر: التحبير (8/ 3878).

(12)

انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 466).

(13)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2902)، والبحر المحيط (6/ 205)، والتحبير (8/ 3878).

ص: 216

البغدادي

(1)

. ونسبه ابنُ مفلحٍ إلى بعضِ الحنابلةِ، وبعضِ الشافعيةِ

(2)

.

وقد مالَ إليه: شهابُ الدينِ القرافي

(3)

، وابنُ حمدان

(4)

.

وقد أوّلَ تاجُ الدينِ بنُ السبكي قولَ أبي إسحاقَ، فقال:"لعله أرادَ ممارسةَ الفقهِ"

(5)

.

ولم يرتضِ الزركشيُّ تاويلَ تاجِ الدينِ بنِ السبكي؛ لصراحةِ قولِ أبي إسحاقَ في اشتراطِ معرفةِ الفروعِ الفقهيةِ

(6)

.

• أدلة القولين:

دليل أصحاب القول الأول: الفروعُ الفقهيةُ مِنْ نتاجِ الاجتهادِ، فهي مولَّدة مِن المجتهدين بعدَ حيازتهم منصبَ الاجتهادِ، ولو اشتُرِطَتْ معرفتُها في الاجتهادِ، للزم الدّورُ؛ لتوقفِ الاجتهادِ على فرعِه الذي هو الفروعُ الفقهيةُ

(7)

.

دليل أصحاب القول الثاني: لا ريبَ في أنَّ معرفةَ أصولِ الفقهِ شرطٌ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ، والفروعُ الفقهيةُ يُحتاجُ إليها في أصولِ الفقهِ في أمرين:

الأول: تصورُها؛ لأنَّ أصولَ الفقهِ أدلةٌ مضافةٌ للفقهِ، ومعرفةُ المضافِ فرعُ معرفةِ المضافِ إليه.

(1)

انظر: البحر المحيط (6/ 205).

(2)

انظر: أصول الفقه لابن مفلح (4/ 1532).

(3)

انظر: نفائس الأصول (9/ 4017 - 4018).

(4)

انظر: صفة الفتوى (ص/ 16).

(5)

الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 3878). وانظر: لمع اللوامع لابن رسلان، القسم الثاني (2/ 610).

(6)

انظر: البحر المحيط (6/ 205).

(7)

انظر: المستصفى (2/ 388)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 25)، وروضة الناظر (3/ 963)، وشرح مختصر الروضة (3/ 582)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2902)، وكشف الأسرار للبخاري (4/ 16).

ص: 217

الثاني: التمثيلُ بالفروعِ، والاستشهادُ بها، والاحتجاجُ لها، والنقضُ على الخصومِ وعلى الأدلةِ.

فإذا كان منصبُ الاجتهادِ متوقفًا على أصولِ الفقهِ، وأصولُ الفقهِ متوقفةٌ على الفروعِ - من الوجهين المتقدمين - لَزمَ توقفُ منصبِ الاجتهادِ على الفروعِ

(1)

.

ويمكن مناقشة الدليل: بأنَّ ما ذُكِرَ مسلَّمٌ به؛ لكنْ لا يلزمُ منه معرفةُ الفروعِ الفقهيةِ، بلْ يكفي لتحقيقِه أمثلةٌ مِن الفروعِ على المسألةِ الأصوليةِ.

• الموازنة والترجيح:

يَظهرُ لي رجحانُ القولِ الأولِ القائلِ بأنَّه لا تُشترطُ معرفةُ الفروعِ الفقهيةِ؛ لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ، وذلك للآتي:

أولًا: كيفَ نجعلُ ثمرةَ الاجتهادِ، وهي: الفروعُ الفقهيةُ شرطًا لبلوغِ رتبةِ الاجتهادِ؟ ! فلا يكونُ مجتهدًا حتى يعرفَ الفروعَ، ولا يُولّدُ الفروعَ حتى يجتهد!

ثانيًا: تتابعُ أكثرِ الأصوليين على القولِ بعدمِ اشتراطِ معرفةِ الفروع الفقهيةِ لبلوغِ درجةِ الاجتهادِ.

ومَعَ القولِ بعدمِ الاشتراطِ، إلا أنَّ الواقعَ العلميّ يدلُّ على أنَّ العالمَ لا ينالُ منصبَ الاجتهادِ إلا بالتدرجِ في العلمِ، وممارسةِ الفقه؛ ومطالعةِ ما ولّده المجتهدون مِنْ قبلُ، ومعرفةِ مداركِهم، ومآخذِ أقوالِهم، وهذا طريقُ تحصيلِ الدّربةِ فيه، كما نبّه إلى ذلك أبو حامدٍ الغزالي

(2)

.

يقولُ ابنُ حمدان: "وقيل: لا يُشترطُ حفظُه لفروعِ الفقهِ؛ لأنَّه فرعُ الاجتهادِ، وفيه بُعْدٌ"

(3)

.

(1)

انظر: نفائس الأصول (9/ 4017 - 4018).

(2)

انظر: المستصفى (2/ 388).

(3)

صفة الفتوى (ص / 16).

ص: 218

ولعلَّ البعدَ الذي أشارَ إليه ابنُ حمدان، مِنْ جهةِ ما يشهدُ به الواقعُ العلميُّ مِنْ أنَّ نيلَ رتبةِ الاجتهادِ بالتدرجِ في الفقهِ.

ويقولُ الشيخُ محمد الخضر حسين: "التحقيق أنَّ معرفةَ المذاهب، ودَرْسَ أحكامِ الفقهِ مربوطةٌ بأصولِها، ممَّا يخطو بالعالمِ في سبيلِ الاجتهَادِ خطوات سريعة، لولا دراسةُ الفقهِ على هذا الوجهِ، لأنْفَقَ في بلوغِها مجهودًا كبيرًا، وزمنًا طويلًا"

(1)

.

• نوع الخلاف:

يظهرُ لي أنَّ الخلاف ليس له أثرٌ في الواقعِ العلمي؛ إذ يبعدُ أنْ يبلغَ العالمُ رتبةَ الاجتهادِ، دونَ أنْ يَسْبِقَ ذلك معرفةٌ بالفروعِ الفقهيةِ.

فالقائلون بعدمِ اشتراطِ معرفةِ الفروعِ، كالمقرّينَ بأنَّ ممارسةَ الفقهِ أمرٌ لا بُدَّ منه للوصولِ إلى رتبةِ الاجتهادِ.

• سبب الخلاف:

يحتمل أنَّ سببَ الخلافِ في مسألة: (اشتراط معرفة الفروع الفقهية لبلوغ رتبة الاجتهاد)، عائدٌ إلى لزومِ الدّورِ.

فمَنْ رأى لزومَ الدورِ مِن القولِ باشتراطِ معرفةِ الفروعِ الفقهيةِ، مَنَعَ الاشتراط، وهذا ما ذَهَبَ إليه أصحابُ القولِ الأولِ.

ومَنْ لم يرَ لزوم الدور مِن القولِ باشتراطِ معرفةِ الفروعِ الفقهيةِ، اشترط معرفتها، وهذا ما ذَهَبَ إليه أصحابُ القولِ الثاني.

وفي ختامِ الحديثِ عن شروطِ المجتهدِ، أرى مِن المناسبِ سوق كلامٍ موجزٍ للشيخِ محمد الطاهر ابنِ عاشور، يتضمّنُ خلاصةً مفيدةً في بابِها، يقولُ: "مرجعُ هذه الشرائطِ إلى أربعةِ أشياء:

الأول: الإدراكُ، وإليه يرجعُ البلوغُ والعقلُ.

(1)

رسائل الإصلاح (2/ 115).

ص: 219

الثاني: العلمُ، وإليه يرجعُ ما اشتُرِطَ علمُه به ممَّا يفيدُه ملكةً يَفهمُ بها مقصدَ الشارعِ مِنْ أقوالِه وتصرفاتِه. وذلك بعلمِ الشريعةِ والإحاطةِ بمعظم قواعدِها، وما يعين على ذلك مِنْ علمِ اللغةِ، سواء كان ذلك اكتسابًا بممارسةِ كلامِ العربِ واستعمالِهم، أو ممارسة علومِ العربيةِ، أو كان له سجيةٌ، كعلمِ مجتهدي الصحابةِ ومَنْ يليهم.

الثالث: الفهمُ، وهو أنْ يكون له فقهُ نفسٍ بطريقِ الفهمِ والجدلِ، وملكةٌ بها يُدركُ العلومَ النظريةَ، سواء اكتسب ذلك بممارسةِ علومِ المنطقِ والجدلِ، أم كان له فطرة في سلامةِ طبعٍ، وربّما كان التضلعُ في أساليب الاستعمالِ كافيًا عن ذلك، كما كان يكفى مجتهدي الصحابةِ ومَنْ يليهم.

الرابع: الثقةُ في إخبارِه عمَّا بَلَغَ إليه اجتهادُه، وإليه يرجعُ شرطُ العدالةِ على القول باشتراطِها، والجمهورُ على عدمِه"

(1)

.

* * *

(1)

التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح (2/ 210 - 211). وقد بينت وجهة نظري في اشتراط العدالة في المجتهد فيما سبق.

ص: 220