الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا شكَّ أنَّ في الكتبِ المؤلفةِ في المذاهبِ الفقهيةِ المتبوعةِ أقوالًا غيرَ معتمدةٍ عند أصحاب المذهبِ أنفسِهم، ومثلُ هذه الأقوالِ لا تجوز نسبتُها إلى المذهبِ، إلا مَع الإشارةِ إلى ضعفِها فيه.
وتمكن معرفةُ الأقوالِ التي لا يُعتمد عليها في المذهبِ بالاصطلاحاتِ الدارجةِ في المذهبِ، والتي يُعرفُ مِنْ خلالِها القولُ المعتمدُ مِنْ غيرِه
(1)
، وبالرجوعِ إلى الكتبِ المعتمدةِ في المذهبِ.
المسألة الرابعة: صور الخطأ في نقل المذهب
ليس كلُّ قولٍ وُجدَ منسوبًا إلى مذهبٍ مِن المذاهبِ، أو إلى إمامٍ مِن الأئمةِ تصحُّ نسبتُه إليهما، بلْ هناك شروطٌ للنقلِ - وقد سَبَقَ بيانُها - وهناك صورٌ عديدةٌ لنقلِ المذهبِ يَعْتريها الخطأ؛ لعدمِ اكتمالِ شروطِ النقلِ.
وسأعرضُ في هذه المسألةِ أهمَّ صور الخطأِ وأبرزِها، مردفًا كلّ صورة بمثالٍ ما أمكنني ذلك:
الصورة الأولى: أنْ يُنسبَ قولٌ إلى إمامِ المذهبِ، أو إلى مذهبه، والحالُ أنَّه لم يقلْ بهذا القول.
يوجدُ في بعضِ الكتبِ نسبةُ أقوالٍ إلى إمام المذهبِ، أو إلى مذهبِه، وتكون هذه النسبةُ نسبةً غيرَ صحيحةٍ.
وتُعدّ هذه الصورة مِن الصورِ الشائعةِ في الخطأ في نقلِ المذهبِ، ولذا تجدُ العلماءَ المحققين يُفنَّدون النسبةَ الخاطئةَ، ويبيّنونَ الصوابَ فيها.
يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "المنحرفون مِنْ أتباعِ الأئمةِ في الأصولِ والفروعِ
…
انحرافهم أنواع: أحدها: قولٌ لم يقلْه الإمامُ، ولا أحدٌ مِن
(1)
انظر: شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 44)، وأصول الإفتاء للعثماني (ص/ 364 وما بعدها) مع شرحه المصباح في رسم المفتي.
المعروفين مِنْ أصحابِه بالعلمِ"
(1)
.
وقد تقدم في المسألةِ الثالثةِ التمثيلُ بخطأِ الحافظِ ابن عبد البرِ حين نسَبَ إلى الإمامِ أحمدَ القولَ باستحبابِ تكبيراتِ الانتقالِ.
الصورة الثانية: نسبةُ قولٍ إلى إمامِ المذهبِ لم يقلْه، وحقيقتُه أنَّه قولُ أحدِ أربابِ مذهبِه.
قد ينسبُ أحدٌ قولًا ما إلى إمامِ المذهبِ نفسِه، ويكون صوابُ النسبةِ أنَّه قولٌ لأحدِ أتباعِه
(2)
.
يقولُ ابنُ أبي العزَّ الحنفيُّ: "كثيرًا ما يكون ذلك النصّ - أيْ: نصّ الإمام - مِنْ كلامِ بعضِ الأصحاب في الفتاوى، ولم يكن لذلك الإمامِ في تلك المسألةِ قولٌ منقولٌ"
(3)
.
مثال ذلك: يقولُ أبو عبدِ الله المازري: "قد رأيتُ بعضَ مَنْ صنّف مسائل الخلافِ ذَكَرَ أنَّ مالكًا يقول: إذا انفضّوا عنه - أيْ: انفض المأمومون عن إمامِ الجمعة - بعدما صلَّى ركعةً بسجدتين أنَّها جمعةٌ
…
ولم أقف لمالكٍ على هذا، ولعلَّ هذا الحاكي وَقَفَ على مذهبِ أشهب
(4)
،
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 184).
(2)
انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 122).
(3)
الاتباع (ص/ 31).
(4)
هو: أشهب - ويقال: اسمه مسكين، ولقبه أشهب - بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم القيسي العامري الجعدي المصري، أبو عمرو، يعرف بأشهب، ولد سنة 140 هـ وقيل: 150 هـ انتهت إليه رئاسة المذهب المالكي بمصر بعد وفاة ابن القاسم، كان إمامًا علامةً فقيهًا نبيلًا كبير القدر، حسن الرأي والحجة، من محققي المالكية، قال عنه الإمام الشافعي:"ما أخرجت مصر أفقه من أشهب"، من مؤلفاته: كتاب في الفقه، رواه عنه سعيد بن حسان، توفي بمصر سنة 204 هـ. انظر ترجمته في: ترتيب المدارك للقاضي عياض (3/ 262)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 238)، وتهذيب الكمال للمزى (3/ 296)، وسير أعلام النبلاء (9/ 500)، والديباج المذهب لابن فرحون (1/ 307)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 24)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 59).
فظنَّ أنَّه مذهبُ مالكٍ؛ لكونِ أشهبَ مِنْ أصحابِه"
(1)
.
الصورة الثالثة: نسبةُ قولٍ إلى أحدِ أتباعِ إمامِ المذهبِ لم يقلْه، وحقيقتُه أنَّه قول إمامِ المذهبِ
(2)
.
الصورة الرابعة: أنْ يقولَ إمامُ المذهب قولًا، فيزاد عليه، أو يجعل كلامه عامًا أو مطلقًا، وليس الأمر كذلك
(3)
، أو يضاف إلى كلامه قيدٌ لم يذكرْه، ثم ينسب جميعه إليه
(4)
.
الصورة الخامسة: عدمُ التفريقِ بين قولِ إمامِ المذهبِ المنصوصِ عنه، وقولِه المخرَّجِ.
لا شكَّ في أنَّ القولَ المخرَّجَ أقلُّ درجةً مِن القولِ المنصوصِ في الجملةِ، ولذا فإنَّ نسبةَ القولِ المخرَّج بإطلاقٍ، دونَ إشارةٍ إلى كونِه مخرَّجًا، يُوقعُ في اللبسِ، أهو منصوصُ، أم مخرَّج؟ وكم مِنْ قولٍ نُسبَ إلى إمامِ المذهبِ بإطلاق، وكان مخرَّجًا
(5)
.
يقولُ شاه ولي الله الدَهْلوي: "منها - أيْ: مِن المسائل التي يُنبَّه عليها -: أنِّي وجدتُ بعضَهم يزعمُ أنَّ جميعَ ما يوجدُ في هذه الشروحِ الطويلةِ، وكتب الفتاوى الضخمةِ هو قول أبي حنيفةَ وصاحبيه، ولا يفرِّق بين القولِ المخَرَّجِ، وبين ما هو قولٌ في الحقيقةِ، ولا يحصِّل معنى قولِهم: على تخريجِ الكرخي كذا، وعلى تخريجِ الطحاوي
(6)
كذا، ولا يميِّز بين
(1)
شرح التلقين (3/ 965).
(2)
انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 122).
(3)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 185).
(4)
انظر: المصدر السابق (24/ 104)، والمدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 122).
(5)
انظر: شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 84).
(6)
هو: أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي المضري، أبو جعفر الطحاوي، ولد سنة بطحا بصعيد مصر 239 هـ وقيل: سنة 238 هـ كان أحد الأئمة الكبار، ومحدث الديار المصرية، وفقيهها، إمامًا ثقةً ثبتًا دينًا، عالمًا بالخلاف، جليل القدر، كان أول أمره على المذهب الشافعي، =
قولِهم: قال أبو حنيفةَ: كذا، وبين قولِهم: جوابُ المسألةِ على مذهبِ أبي حنيفةَ، أو على أصلِ أبي حنيفةَ: كذا، ولا يصغي إلى ما قاله المحققون مِن الحنفيين
…
"
(1)
.
الصورة السادسة: الاعتمادُ في نسبةِ القولِ إلى إمامِ المذهبِ على قولٍ رَجَعَ عنه
(2)
.
لا ريبَ في أنَّ أقوالَ الإمام قد تتغيّرُ مِنْ وقت لآخر؛ نتيجةَ تجديدِ اجتهادِه، وهذا أمرٌ لا إشكال فيه، ويردُ الخطأُ إلى مَنْ يجعل القولَ الذي رَجَعَ عنه الإمامُ هو قوله المعتمد، ويُغْفِلُ ذكرَ رجوعِه عن القول، وسيأتي الحديثُ عن هذه المسألةِ بعينها.
الصورة السابعة: إبداءُ مأخذٍ بعيدٍ لقولِ إمامِ المذهبِ.
قد يَرِد عن إمامِ المذهب أقوالٌ مجرّدة، لم يُشِرْ إلى عللها، فيأتي أتباعُه، فيجتهدون في البحثِ عمّا يمكنُ أنْ يكونَ مأخذًا لقولِ إمامهم، ويأتي الخطأ إلى مَنْ يبدي مأخذًا لقولِ إمامِه فيه بُعدٌ عن الصوابِ.
ويترتبُ على هذا الأمرِ عدمُ فهمِ كلامِ الإمامِ على وجهِه
(3)
، والإلحاقُ على قولِه؛ بناءً على المأخذِ البعيدِ، فيُنْسَبُ إلى الإمامِ ما لم يُرِدْه.
= ثم انتقل إلى التمذهب بالمذهب الحنفي، وانتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي بمصر، برز في علم الحديث والفقه، من مؤلفاته: أحكام القرآن، واختلاف العلماء، وشرح معاني الآثار، وشرح مشكل الآثار، والعقيدة المشهورة بالعقيد الطحاوية، توفي سنة 321 هـ. انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 133)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 71)، وسير أعلام النبلاء (15/ 27)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (3/ 808)، والوافي بالوفيات للصفدي (8/ 9)، والجواهر المضية للقرشي (1/ 271)، وتاج التراجم لقطلوبغا (ص / 21)، والفوائد البهية للكنوي (ص/ 41).
(1)
حجة الله البالغة (1/ 488). وانظر: شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 84).
(2)
انظر: البحر المحيط (6/ 128)، والمدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 122).
(3)
انظر: الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة لابن رجب (ص/ 42).
والذي يحدّدُ بُعْدَ المأخذِ عن الصوابِ، أو قربِه منه هم محققو المذهبِ، ممَّنْ لهم مزيدُ عنايةٍ وبَصَرٍ بأقوالِ إمامِهم، ومعرفة مآخذِها وعللها المنصوصة، الأمر الذي يساعدُهم في معرفةِ المآخذِ المسكوتِ عنها.
يقولُ ابنُ رجبٍ: "مَنْ تأمّلَ كلامَه - أي: كلام الإمام أحمد - في الفقه، وفَهِم مأخذَه ومدركه فيه، عَلِمَ قوةَ فهمِه، واستنباطِه.
ولدقَّة كلامِه في ذلك، رُبَّما صَعُب فهمُه على كثيرٍ مِنْ أئمةِ أهلِ التصنيفِ ممَّنْ هو على مذهبِه، فيَعْدِلون عن مآخذِه الدقيقةِ إلى مآخذ أخر ضعيفة، يتلقّونها عن غيرِ أهلِ مذهبِه، ويَقَعُ بسببِ ذلك خللٌ كثيرٌ في فهمِ كلامِه، وحملِه على غيرِ محاملِه"
(1)
.
الصورة الثامنة: بناءُ فرعٍ مذهبي على غيرِ قاعدتِه.
يوجد في مدوّناتِ المذاهبِ الفقهيةِ فروعٌ فقهيةٌ لم تُحددْ قواعدُها الأصوليةُ التي يمكن إدراجها تحتها، وقد يجتهدُ بعضُ أرباب المذهبِ في رَدَّ الفروعِ إلى قواعدِها الأصوليةِ، ويأتي الخطأُ في نقلِ المَذهب إلى مَنْ يَرُدّ الفرعَ المذهبيَّ إلى غيرِ قاعدِته، فليس الخطأُ في حكمِ الفَرعِ؛ لأنَّ حكمَه معلومٌ، بل الخطأ في بنائه على غيرِ أصلِه.
مثال ذلك:
المثال الأول: ذَكَرَ ابنُ اللحامِ فروعًا فقهيةً مخرَّجةً على مسألةِ: (هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ )، فقال: "منها: المرتدُّ إذا أسلمَ، فهلْ يلزمُه قضاءُ ما تَرَكَ مِنْ العباداتِ زَمَنَ الردةِ؟ على روايتين: المذهبُ: عدمُ اللزومِ. بناهما ابنُ الصيرفي
(2)
، والطوفيُّ على القاعدةِ، وليس بناءً جيدًا مِنْ وجهين:
(1)
المصدر السابق.
(2)
هو: يحيى بن أبي منصور بن أبي الفتح بن رافع بن علي بن إبراهيم الحراني، جمال الدين أبو زكريا، يعرف بابن الصيرفي، وبابن الحُبَيْشي، ولد بحران سنة 583 هـ رحل إلى دمشق وإلى =
أحدهما: أنَّ المذهبَ عدمُ لزومِ القضاء والمذهب: تكليفُ الكفارِ بالفروعِ.
الثاني: أنَّ الروايتين إنَّما هما في المرتدَّ، وأمّا الأصلي فلا يلزمُه قضاءٌ بالإجماعِ.
لكن قد يتخرَّج لزومُ القضاءِ على قولِ مَنْ يقولُ: المرتدُّ مكلّفٌ بالفروعِ، دونَ الأصلي"
(1)
.
المثال الثاني: ما ذكره ابنُ اللحامِ - أيضًا - تحتَ مسألةِ: (هل الواو العاطفة تفيد الترتيب؟ )، فقالَ: "ومنها: ما قاله بعضُهم: إنَّ وجوبَ الترتيبِ في الوضوءِ، والبُداءةِ بالصفا، بناءً على أنَّ الواوَ للترتيبِ.
وليس بناءً جيدًا؛ لأنَّ المذهبَ الصحيحَ أنَّها ليستْ للترتيبِ، والمذهبُ الصحيحُ: وجوبُ الترتيب، والبُداءةُ بالصفا، وإنَّما ثبت هذا بأدَلةٍ غيرِ الواوِ"
(2)
.
ويلتحق بهذه الصورةِ: الاستدلالُ للمذهبِ بأدلةٍ مأخوذةٍ مِن المذاهب الأخرى؛ نظرًا لاتفاقِ المذهبين في الرأي، دونَ مراعاةٍ لاختلافِ أصولِ المذهبينِ، فما يستقيمُ الاستدلالُ به لمذهبٍ مِن المذاهبِ قد لا يستقيمُ الاستدلالُ به عند غيرِهم، وإن اتفقوا على الحكمِ، ويكون مردُّ ذلك إلى اختلافِ أصولِ المذهبين.
الصورة التاسعة: نسبةُ القولِ إلى إمامِ المذهبِ بناءً على ما مثّلَ به،
= بغداد وسمع من علمائهما، كان من الشيوخ والفقهاء المتعبدين والمعتبرين في المذهب الحنبلي، كثير الديانة والتعبد وقيام الليل، قويًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد انتفع الناس به، وتخرج به الأصحاب، أخذ عنه تقي الدين بن تيمية، من مؤلفاته: نوادر المذهب، وانتهاز الفرص فيمن أفتى بالرخص، وعقوبات الجرائم، وجزء في آداب الدعاء، توفي سنة 678 هـ. انظر ترجمته في: معجم الشيوخ للذهبي (2/ 378)، والذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب (4/ 149)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (3/ 87)، والمنهج الأحمد للعليمي (4/ 311)، والدر المنضد له (1/ 420)، وشذرات الذهب لابن العماد (5/ 363).
(1)
القواعد (1/ 175 - 176).
(2)
المصدر السابق (1/ 441).
أو على ما ساقه في غيرِ مساقِه الأصلي
(1)
، أو على فتواه دونَ مراعاةِ خصوصيتها.
قد يوردُ إمامُ المذهبِ في تضاعيف حديثِه عن مسألةٍ ما حكمَ فرعٍ فقهيٍّ ساقه مساقَ التنظيرِ والتمثيلِ فحسب، أو في سياقِ الإلزامِ للمخالفِ، فلم يُرِدْ تقريرَ حكمِه - وإنَّما قَصَدَ التمثيلَ أو الإلزامَ ونحوهما - لذا فنسبةُ القولِ إليه اعتمادًا على ما مثَّلَ به غيرُ جيّدةٍ.
يؤكّدُ ما سَبَقَ: أنَّ بعضَ المصنفين ينصُّ على عدمِ تحقيقِ الكلامِ على أمثلةِ المسألةِ، لأنَّ المقامَ مقامُ تمثيلٍ، وليس مقام تحقيقٍ
(2)
.
وكذلك إذا أفتى بفتيا قد يكون فيها مراعاةٌ لحالِ السائلِ، وخصوصية للحالةِ الواقعةِ، فينبغي التثبّتُ في مثلِ هذا الأمرِ.
يقولُ تقيُّ الدينِ السبكي: "نَجِدُ في فتاوى بعضِ المتقدمين ما ينبغي التوقّفُ في التمسكِ به في الفقهِ، ليس لقصورِ ذلك المفتي - معاذ الله - بلْ لأنَّه قد يكون في الواقعةِ التي سُئِلَ عنها ما يقتضي ذلك الجوابَ الخاص، فلا يطّردُ في جميعِ صورِها"
(3)
.
الصورة العاشرة: نقلُ المذهبِ في مسألةٍ بُنِيَ الحكمُ فيها على العُرفِ
(4)
،
(1)
انظر: جزء في كيفية النهوض في الصلاة للدكتور بكر أبو زيد (ص/227) ضمن: الأجزاء الحديثية.
(2)
انظر: المصفى في أصول الفقه (ص/37).
(3)
فتاوى تقي الدين السبكي (2/ 123).
(4)
عُرَّف العُرف بعدة تعريفات، منها: التعريف الأول: ما استقرَّ في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول. وهذا تعريف حافظ الدين النسفي - كما نقله عنه الدكتور أحمد أبو سنة في كتابه: العرف والعادة (ص/ 28) - والكفوي في: الكليات (ص/ 617).
وقريب منه: - تعريف علي الجرجاني في كتابه: التعريفات (ص/ 225)، وتعريف زكريا الأنصاري في: رسالته: الحدود الأنيقة (ص/ 37)؛ إذ عرَّفا العرف بأنه: ما استقرت عليه النفوس بشهادة العقول، وتلقته الطباع بالقبول.=
مع عدم مراعاةِ اختلافِ الأعرافِ
(1)
.
يُوْجَدُ في مُدوّناتِ المذاهب الفقهيةِ أحكامٌ مبنيةٌ على العُرفِ، والعُرفُ - كما هو معلومٌ - يتغيّرُ ويتبدلُ، ويأتي الخطأُ إلى مَنْ ينقلُ المذهبَ دونَ انتباهٍ إلى بناءِ الحكمِ فيه على العُرفِ، الأمر الذي يجعلُ المذهبَ تابعًا لتغيّرِ العُرفِ.
يقولُ شهابُ الدّينِ القرافي: "إيّاكَ أنْ تقولَ: أَنَا لا أفهمُ منه - أيْ: من قول القائل: أنتِ عليَّ حرام - إلا الطلاقَ؛ لانَّ مالكًا رحمه الله قاله، أو لأنَّه مسطورٌ في كتبِ الفقهِ؛ لأنَّ ذلك غَلَط، بلْ لا بُدّ أنْ يكونَ ذلك الفهمُ حاصلًا لك مِنْ جهةِ الاستعمالِ والعادةِ، كما يحصلُ لسائرِ العوامّ - كما في لفظِ: الدابةِ والبحرِ والروايةِ - فالفقيهُ والعامي في هذه الألفاظِ سواءٌ في الفهمِ، لا يسبقُ إلى أفهامِهم إلا المعاني المنقول إليها، هذا هو الضابط، لا فهم ذلك مِنْ كتبِ الفقهِ
…
بل المسطّرُ في الكتب تابعٌ لاستعمالِ الناسِ، فافهمْ ذلك"
(2)
.
= - وتعريف الشيخ أحمد المنقور في كتابه: الفواكه العديدة (1/ 135)؛ إذ عرف العرف بأنه: ما استقر من الأمور في العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول.
التعريف الثاني: ما تعارفه الناسُ، وساروا عليه من قولٍ، أو فعلٍ، أو تركٍ. وهذا تعريف الأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه: علم أصول الفقه (ص/ 89)، واختاره الدكتور عمر الأشقر في كتابه: الأعراف البشرية (ص/ 15).
التعريف الثالث: عادةُ جمهور قوم في قولٍ، أو فعلٍ. وهذا تعريف الأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه: المدخل الفقهي العام (1/ 141).
التعريف الرابع: ما غلب على الناس من قولٍ، أو فعلٍ، أو ترك. وهذا تعريفُ الشيخِ محمد الطاهر بن عاشور في كتابه: التوضيح والتصحيح (ص/ 223) - ونقله عنه الدكتورُ السيد عوض في كتابه: أثر العرف في التشريع (ص/ 139) - وأحمدَ الرجراجي في كتابه: منار السالك (ص/ 49)، والباحث عادل قوته في كتابه: العرف (1/ 98).
وراجع الحاشية رقم (3) من المصدر السابق، فقد ذكر الباحث عادل قوته عددًا من العلماء الذين ذكروا هذا التعريف.
(1)
انظر: الفروق للقرافي (1/ 384)، وإعلام الموقعين (4/ 470)، وشرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 84).
(2)
الفروق (1/ 138)، وانظر منه:(1/ 141).
ويقولُ - أيضًا -: "قد غَفَلَ كثيرٌ مِن الفقهاءِ، ووَجَدُوا الأئمةَ الأُول قد أفتوا بفتاوى بناءً على عوائد لهم، وسطّروها في كتبِهم؛ بناءً على عوائدِهم، ثمَّ المتأخرون وَجَدُوا تلك الفتاوى، فأفتوا بها، وقد زالتْ تلك العوائدُ، فكانوا مخطئين خارقين للإجماعِ؛ فإنَّ الفتيا بالحكمِ المبني على مُدْرَكٍ، بعدَ زوالِ مُدْرَكِه خلافُ الإجماعِ، ومِنْ ذلك: لفظُ: الحرام والخَلِيّة
…
مسطورٌ لمالكٍ أنَّه يُلزِمُ به الطلاق الثلاث؛ بناءً على عادةٍ كانتْ في زمانِه، فأكثر المالكيةِ اليومَ يفتي بلزومِ الطلاقِ الثلاثِ؛ بناءً على المنقولِ في الكتبِ عن مالكٍ، وتلك العوائدُ قد زالتْ"
(1)
.
ولذا نبّه جمعٌ مِن المحققين إلى ضرورةِ مراعاةِ عُرفِ المتكلمِ في ألفاظِه في الأيمانِ والأقارير ونحوِهما؛ لئلا يقعَ الخطأُ في فهمِ مرادِه؛ نتيجةَ اختلافِ عُرْفِ بلدِه
(2)
.
ويلحق بهذه الصورةِ: ما في المذهب مِنْ أقوال مبنيّةٍ على مصلحةٍ أو ضرورةٍ، ثمَّ اختلفَ الحالُ بعدَ زمنٍ، فتغيّرت المصلحةُ، وانتفَت الضرورةُ؛ فإنَّ هذه الأقوالَ المسطّرةَ في المذهبِ لا تبقى حينئذٍ، بلْ تتغيّر؛ لتغيِّر مُدْرَكِ الحكمِ
(3)
.
الصورة الحادية عشرة: تخريجُ قاعدةٍ أصوليةٍ للمذهبِ بناءً على استقراء فروعٍ مذهبيةٍ قليلةٍ.
اتجه بعضُ علماءِ المذاهبِ إلى تخريجِ قواعد مذهبِهم الأصولية بناءً على الفروعِ الفقهيةِ المنقولةِ عن أئمتِهم، ويتطرقُ الخطأُ إلى مَن يُخرِّجُ
(1)
المصدر السابق (3/ 283). وانظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص / 218 - 226)، وتعليق ابن القيم على كلام القرافي في: إعلام الموقعين (4/ 470).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 115)، وصفة الفتوى (ص/ 36).
(3)
انظر: إغاثة اللهفان لابن القيم (1/ 331)، وشرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 47 وما بعدها)، والفقه المالكي بين التدليل والتجديد لمحمود الغرياني (6/ 438) مطبوع ضمن بحوث القاضي عبد الوهاب، وتوصيف الأقضية لعبد الله الخنين (1/ 428 - 429).
قاعدةً أصوليةً لمذهبِه بناءً على فروعٍ فقهيةٍ قليلةٍ، أو على فرعٍ فقهي واحدٍ! دونَ استقراء لبقيةِ فروعِ المذهبِ
(1)
.
وللوقوعِ في الصورِ السابقةِ أسبابٌ، منها:
السبب الأول: نسبةُ قولٍ إلى إمامِ المذهب بناءً على نقلٍ لا يصحُّ، أو مِنْ كتابٍ لا تصحُّ نسبتُه إليه.
وردتْ أقوالٌ عن بعضِ الأئمةِ بنقلِ الناقلين، وقد يوجدُ في أسانيدِ بعضِها ما يجعلُ النقلَ غيرَ ثابتٍ، كنقلِ غيرِ الثقةِ مثلًا، أو عدم اتصالِ السندِ
(2)
.
وكذلك الحالُ فيما يتصلُ بنسبةِ القولِ إلى إمامِ المذهبِ اعتمادًا على كتابٍ لا تصحُّ نسبتُه إليه، وقد تقدم تقرير هذا الأمرِ في المسألةِ الثالثةِ.
السبب الثاني: نقلُ قولِ إمامِ المذهبِ بناءً على ما انفردَ به أحدُ الرواةِ عنه
(3)
.
وقد تقدم الحديثُ عن هذا.
السبب الثالث: نسبةُ قولٍ إلى إمامِ المذهبِ مخالفٍ لأقوالِه، أو لأصولِه
(4)
.
وقد تقدم الحديث عن هذا.
السبب الرابع: نسبةُ جميعِ ما في كتبِ المذهبِ مِنْ أحكامٍ إلى إمامِ المذهبِ.
حَوَتْ مدوّنات المذاهبِ الفقهيةِ عددًا كبيرًا مِن الفروعِ والأحكامِ المذهبيةِ، وكما هو معلومٌ، فإنَّ مِن هذه الفروعِ ما نصَّ إمامُ المذهبِ على
(1)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 44 - 46).
(2)
انظر: صفة الفتوى (ص / 109)، والإنصاف (12/ 271).
(3)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 96 - 97)، والمسودة (2/ 943).
(4)
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (29/ 10)، وشرح العمدة لابن تيمية، كتاب الحج (2/ 541)، وأضواء البيان (7/ 612).
حكمِه، ومنها: ما خُرِّجَ على قولِه أو على أصلِه، ومنها: ما هو تفقّه مِنْ أربابِ مذهبه، ولذا فلا ينسب كلُّ ما في المذهب مِنْ أحكامٍ إلى إمامِه.
وحين لا يَعْلمُ الناظرُ في كتابٍ مِنْ كتبٍ المذهبِ قولَ الإمامِ على وجهِ التعيين، فليس له أنْ ينسبَه إليه، بناءً على ما في كتَبِ المذهبِ، لكنْ له أنْ ينسبَ الحكمَ إلى المذهبِ في ضوءِ الشروطِ المبَيّنةِ في المسألةِ الثالثةِ.
وقد تقدم لنا كلامُ ابنِ القيّمِ في المسألةِ الثالثةِ في بيانِ حالِ بعضِ المدوناتِ المذهبيةِ مِنْ جهةِ اشتمالِها على أقوال مخالفةٍ لأقوالِ إمامِ المذهب.
يقولُ ابنُ حجرٍ الهيتمي
(1)
: "لا يجوزُ أنْ يُقالَ في حكمٍ: هذا مذهبُ الشافعي، إلا إنْ عَلِمَ كونَه نصَّ على ذلك بخصوصه، أو كونه مخرَّجًا مِنْ نصوصِه، على الخلافِ في نسبةِ القولِ المخرَّجِ إليه"
(2)
.
ويقولُ الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي: "يجبُ على المرءِ أنْ يتنبَّه تَنَبُّهًا تامًّا للفرقِ بين أقوالِ الإمامِ التي قالها حقًّا، وبين ما أُلحق بعدَه على قواعد مذهبِه، وما زاده المتأخرون وقتًا بعدَ وقتٍ
…
فنسبةُ جميعِ ذلك للإمامِ مِن
(1)
هو: أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي الأنصاري المكي، شهاب الدين أبو العباس، ولد بمحلة أبي الهيتم من أقليم الغربية بمصر سنة 909 هـ كان شافعي المذهب، ومن كبار علمائه المحققين فيه، بل كان من أعظم علماء عصره فقهًا، بحرًا زاخرًا، زاهدًا متقللًا، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، أُذن له بالتدريس والإفتاء وهو دون العشرين، برع في علومٍ كثيرة، واستقر بمكة، لذا فأهل مكة يقدَّمون قوله على قول غيره من متأخري الشافعية، وفي سلوكه تصوف، وله أقوال شنيعة في تقي الدين بن تيمية، من مؤلفاته: تحفة المحتاج في شرح المنهاج، والفتاوى الكبرى الفقهية، والفتاوى الفقهية والحديثية، توفي بمكة سنة 973 هـ. انظر ترجمته في: شذرات الذهب لابن العماد (10/ 541)، والبدر الطالع للشوكاني (ص/ 124)، وأبجد العلوم للقنوجي (ص/ 661)، وجلاء العينين للألوسي (ص/ 40)، وفهرس الفهاس والأثبات للكتاني (1/ 337)، والأعلام للزركلي (1/ 234)، ومعجم المؤلفين لكحالة (1/ 293).
(2)
الفتاوى الكبرى الفقهية (4/ 300).
الباطلِ الواضحِ"
(1)
.
السبب الخامس: تنزيلُ أقوالِ إمام المذهبِ واصطلاحاتِه على اصطلاحِ المتأخرين
(2)
.
وقد تقدمَ الحديثُ عن هذا.
السبب السادس: عدمُ معرفةِ مصطلحاتِ المذهبِ.
وقد تقدم الحديث عن ضرورة معرفة مصطلحات المذهب.
السبب السابع: تخريجُ قولٍ لإمامِ المذهبِ عن طريقٍ غيرِ صحيحٍ.
وقد تقدمَ لنا الحديثُ عن طرقِ تخريج أقوالِ إمامِ المذهبِ، ومنها ما لا يصحُّ التخريجِ عن طريقِه.
السبب الثامن: تخريجُ قولٍ لإمامِ المذهبِ عن طريقٍ صحيحٍ، دونَ استكمالِ شروطِ التخريجِ.
قد يخرَّجُ أحدُ أتباعِ المذهب قولًا لإمامِه عن طريقٍ صحيحٍ، لكنْ يَعْتَور تخريجَه خطأ مِنْ جهةِ عدمِ اسَتكمالِ شروطِه، فمِن الخطأِ نسبةُ القولِ إلى الإمامِ بناءً على هذا التخريجِ.
السبب التاسع: نقلُ المذهب مِن الكتب المذهبيةِ غيرِ المعتمدةِ أو الغريبةِ أو غيرِ المحررةِ.
وقد تقدم الحديثُ عن هذا.
السبب العاشر: أخذُ أقوالِ المذهبِ الفقهيةِ مِنْ غيرِ كتبِه الفقهيةِ، وأخذُ أقوال المذهبِ الأصوليةِ مِنْ غيرِ كتبِه الأصوليةِ.
لا شكَّ في أنَّ محلَّ تحريرِ أحكامِ المذهبِ في الفروعِ الفقهيةِ هو كتب الفقهِ المذهبيةِ، ومحلَّ تحرير المسائلِ الأصولية هو كتب المذهبِ
(1)
أضواء البيان (7/ 610).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (2/ 75).
الأصوليةِ، ومِن الخطإِ في نقلِ المذهبِ الاعتمادُ على غيرِ كتبِه الفقهيةِ والأصوليةِ.
وقد ينسبُ بعض الناسِ إلى مذهبِ الحنفيةِ مثلًا قولًا اعتمادًا على ما أورده أحدُ علمائِهم في كتابٍ ألّفه في الحديثِ، أو في القواعد الفقهية، ونحوهما، وهذا خطأٌ؛ لوجهين:
الوجه الأول: وجودُ الكتبِ المعتمدةِ في الفقهِ وأصولِه، وهي تُغني عن غيرِها.
الوجه الثاني: وجودُ الخطأِ في نسبةِ المذهبِ في بعضِ الكتبِ التي لم تُؤلّفْ في الفقهِ والأصولِ
(1)
.
السبب الحادي عشر: نسبةُ قولٍ إلى المذهبِ اعتمادًا على كتبِ المذاهبِ الأخرى.
الأصلُ في نقلِ المذاهبِ أنْ تؤخذَ مِنْ مؤلفاتِ أتباعِها، فلكلَّ مذهبٍ مصادرُه ومدوّناته المعتمدة.
يقولُ محيي الدين النووي: "لا نأخذُ مذهبَنا عن المخالفين"
(2)
.
ونقلُ المذهبِ مِنْ غيرِ مؤلفاتِ أربابِه خطأٌ؛ لوجهين:
الوجه الأول: وجودُ كتبِ المذهبِ المعتمدةِ وتوافرها، فليس هناك حاجةٌ إلى الاعتمادِ على كتبِ غيرِهم.
الوجه الثاني: وجودُ الخطأِ في ذكرِ أقوالِ المذهبِ في مؤلفاتِ المذاهبِ الأخرى، ولا سيما أنَّ بعضَ متعصبةِ المذاهب أَعْمَاهم التعصبُ، فعمدوا إلى تحريفِ آراء مخالفيهم، فقوّلوهم ما لَم يقولوه، فجاءَتْ حكايتُهم لآراء غيرِهم مغلوطةً
(3)
.
(1)
انظر: أصول الإفتاء للعثماني (ص/ 372) مع المصباح في رسم المفتي.
(2)
المجموع شرح المهذب (1/ 150).
(3)
انظر: منهج البحث في الفقه الإسلامي للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان (ص/ 151).
يقول أبو شامةَ المقدسي: "إذا كانَ الخللُ قد وَقَعَ منهم - أيْ: مِنْ أربابِ المذهبِ - في نقلِ نصوصِ إمامِهم، فما الظنُّ بما ينقلونه مِنْ نصوصِ باقي المذاهبِ؟ ! فترى في كتبِهم أشياءَ ينكرها أصحابُ تلك المذاهبِ"
(1)
.
* * *
(1)
خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 119).