الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الثامن: ثبوت الحديث
لا شكَّ في أنَّ المصدرين الأساسين للأحكامِ الشرعيةِ هما: الكتابُ الكريمُ، والسنةُ النبويةُ، وقد حَرَصَ الأئمةُ على موافقةِ اجتهاداتهم لما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنَّة
(1)
، بلْ أمروا بردِّ أقوالهم متى ما خالفت الحديثَ الصحيحَ، وجعلِ أقوالِهم موافقةً لما دلتْ عليه السنةُ الصحيحةُ:
جاء عن الإِمامِ أبي حنيفةَ أنَّه قال: "إِذا صحَّ الحديثُ فهو مذهبي"
(2)
. وقال أيضًا: "إِذا قلتُ قولًا يخالفُ كتابَ الله، وخبرَ الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتركوا قولي"
(3)
.
وقال الإِمامُ مالكٌ: "إِنَّما أَنا بشرٌ أخطئُ وأصيبُ، فانظروا في رأيي، فكلُّ ما وافق الكتابَ والسنةَ، فخذوا به؛ وكل ما لم يوافق الكتابَ والسنةَ، فاتركوه"
(4)
.
وقالَ الإِمامُ الشَّافعي: "كلُّ حديثٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإِنْ لم تسمعوه منّي"
(5)
. وقالَ أيضًا: "إِذا صحَّ الحديثُ، فهو مذهبي"
(6)
. وقالَ
(1)
انظر: جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 1080).
(2)
ذكر قولَ الإِمام أبي حنيفة: ابنُ عابدين في: رد المحتار على الدر المُخْتَار (1/ 221)، وصالحٌ الفلاني في: إيقاظ همم أولي الأبصار (ص/ 178) ط/ دار الفتح.
(3)
ذكر قولَ الإِمام أبي حنيفة: صالحٌ الفلاني في: إِيقاظ همم أولي الأبصار (ص/ 178) ط/ دار الفتح.
(4)
أخرج قول الإِمام مالك: ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (1/ 775)، برقم (1435).
وانظر: معنى قول الإِمام المطلبي لتقي الدين السبكي (ص/ 125)، وإيقاظ همم أولي الأبصار لصالح الفلاني (ص/ 196) ط/ دار الفتح.
(5)
أخرج قول الإِمام الشَّافعي: ابن أبي حاتم في: آداب الشَّافعي (ص/ 4).
وانظر: مناقب الإِمام الشَّافعي لابن كثير (ص/ 125).
(6)
ذكر قولَ الإِمام الشَّافعي محيي الدين النوويُّ في: المجموع شرح المهذب (1/ 63).
أيضًا: "إِذا وجدتُم عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم سنةً خلافَ قولي، فخذوا السنةَ، ودعوا قولي؛ فإِنَّي أقولُ بها"
(1)
.
فإِذا ثَبَتَ الحديثُ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يُنسبُ ما دلَّ عليه الحديثُ إِلى إِمامِ المذهبِ؟
لهذه المسألةِ أربعُ صورٍ:
الصورة الأولى: إِذا روى الإِمامُ الحديثَ، أو صححه، ولم يرُدَّه، ولم ينقلْ عنه خلافُ ما دلَّ عليه الحديث.
الصورة الثانية: إِذا روى الإِمامُ الحديثَ، وخالفه.
الصورة الثالثة: إِذا ثَبَتَ الحديثُ مِنْ غيرِ مروي الإِمامِ، وخالفه.
الصورة الرابعة: إِذا ثَبَتَ الحديث مِنْ غيرِ مروي الإِمام، ولم ينقلْ عنه قولٌ بخلافِه.
الصورة الأولى: إِذا روى الإِمامُ الحديثَ، أو صححه، ولم يرُدَّه، ولم ينقلْ عنه خلافُ ما دلَّ عليه الحديثُ.
إِذا روى الإِمامُ بسندِه حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يردّه، ولم يقلْ بنسخِه، ولم يُنقل عنه قولٌ يخالفُ ما دلَّ عليه الحديثُ، فهل تدلُّ روايةُ الإِمامِ للحديثِ على قولِه؟
ومثلُ هذه المسألة: ما لو صحّحَ الإِمامُ حديثًا، ولم يُنقلْ عنه قولٌ مخالفٌ لما دلَّ عليه الحديثُ، فهل يُنسب إِليه مدلولُ الحديثِ؟
اهتمَّ الحنابلةُ - على وجه الخصوص - بهذه الصورةِ، واختلفوا فيها على قولين:
(1)
أخرج قول الإِمام الشافعي: البيهقي في: مناقب الشافعي (1/ 472)؛ وفي: المدخل إِلى السنن الكبرى (1/ 224)، برقم (249)؛ والبغدادي في: الفقيه والمتفقه (1/ 389)، برقم (406)؛ والسمعاني في: أدب الإِملاء (2/ 443) برقم (321).
وانظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 477).
القول الأول: أنَّ روايةَ الإِمامِ للحديثِ تدلُّ على قولِه.
وهذا القولُ وجهٌ عند الحنابلةِ
(1)
. ونسبه ابنُ حامدٍ إِلى عامّةِ شيوخِه
(2)
.
واختاره جمعٌ مِن الحنابلةِ، منهم: الأثرمُ
(3)
، وصالحُ بنُ أحمد
(4)
، والمروذيُّ
(5)
، وعبدُ الله بن أحمد
(6)
، وابنُ حامدٍ
(7)
.
القول الثاني: أنَّ روايةَ الإِمامِ للحديثِ لا تدلُّ على قولِه.
وهذا القول وجهٌ عند الحنابلةِ
(8)
. ونسبه ابنُ حامدٍ إِلى طائفة مِن الحنابلةِ
(9)
.
واختاره المرداويُّ في حالةِ ما إِذا دوّن الإِمامُ الحديثَ ولم يصححه، ولم يحسنه
(10)
.
• أدلة القولين:
أدلةُ أصحابِ القولِ الأولِ: استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: أنَّ مِنْ أصولِ الإِمامِ أحمدَ بن حنبل الأخذَ بالكتابِ والسنةِ، كما جاءَ عنه:"إِذا كان الكتابُ والسنةُ، فهو الأمرُ"
(11)
.
(1)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 97)، والفروع لابن مفلح (1/ 47)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 49).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 357).
(3)
انظر: المصدر السابق، وصفة الفتوى (ص/ 98)، والإِنصاف (12/ 251)، وتصحيح الفروع للمرادوي (1/ 48).
(4)
انظر: المصادر السابقة.
(5)
انظر: المصادر السابقة.
(6)
انظر: المصادر السابقة.
(7)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 356).
(8)
انظر: صفة الفتوى (ص 97)، والفروع لابن مفلح (1/ 47)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 49).
(9)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 360).
(10)
انظر: تصحيح الفروع (1/ 49).
(11)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 356).
فإِذا روى حديثًا، فلا يُظَنُّ أنَّه سيخالفُه
(1)
.
الدليل الثاني: لو سُئِلَ الإِمامُ عن مسألةٍ، فأجابَ بنصِّ حديثٍ نبويٍّ، نُسِبَ إِليه القولُ بمدلولِ الحديثِ، فكذا الحالُ فيما إِذا روى الحديثَ، فإنَّه يُنسبُ إِليه القولُ بمدلولِ الحديثِ
(2)
.
ويمكن مناقشة الدليل الثاني: بأنَّ هناك فرقًا بين مقامِ الإِفتاءِ، ومقامِ الروايةِ؛ فمقامُ الإِفتاءِ مقامُ بيانِ الحكمِ للمستفتي، ودلالةٍ له على حكمِ الشرع، لذا كان جوابُ الإِمامِ بالحديثِ إِيذانًا بأنَّه قولُه، بخلافِ الروايةِ.
أدلةُ أصحابِ القولِ الثاني: استدلَّ أصحابُ القولِ الثاني بأدلةٍ، منها؟
الدليل الأول: لو صحَّتْ نسبةُ القولِ إِلى إِمامِ المذهب بناءً على روايةِ الحديثِ، للزم مِنْ ذلك نسبة مَنْ صنَّف في الحديثِ أنَّه بالفقهِ مختصٌ، وبمدلولِ الحديثِ قائلٌ، وهذا لا يصحُّ
(3)
.
الدليل الثاني: أنَّ الإِمامَ حين روى الحديثَ ساكتٌ عن مدلولِه، ولا ينسبُ إِلى ساكتٍ قولٌ
(4)
.
مناقشة الدليل الثاني: أنَّ السكوتَ في معرضِ البيانِ كالنطقِ، فسكوتُه حالَ روايةِ الحديثِ، كنطقِه بمدلولِ الحديثِ
(5)
.
الدليل الثالث: جاءَ عن الإِمامِ أحمدَ بن حنبل أنَّه صحح بعضَ الأحاديثِ، والمذهبُ الحنبلي بخلافِها، مِنْ ذلك: روايتُه لحديثِ سهلِ بنِ
(1)
انظر: المصدر السابق (1/ 363 - 366)، وصفة الفتوى (ص/ 98).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 366).
(3)
انظر: المصدر السابق (1/ 360)، وصفة الفتوى (ص/ 97).
(4)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 360).
(5)
انظر: المصدر السابق (1/ 366 - 367).
سعدٍ
(1)
في النكاحِ على آياتٍ مِن القرآنِ
(2)
، مع أنَّ المذهبَ الحنبليَّ عدمُ الصحةِ
(3)
، وروى الإِمامُ مالكٌ حديثَ خيارِ المجلس
(4)
، ولم يعملْ به
(5)
.
مناقشة الدليل الثالث: أنَّا لم ننسبْ إِلى الإِمامِ القولَ بناءً على روايتِه للحديثِ في هذه المسألةِ وأمثالِها؛ لمجيءِ قولٍ عنه على خلافِ ما دلَّ عليه الحديثُ الَّذي رواه، فقابل هذا الحديثَ ما هو أقوى منه في بيانِ رأي الإِمامِ
(6)
.
الدليل الرابع: قد يتركُ الإِمامُ العملَ بالحديثِ، وإِنْ رواه أو صححه؛
(1)
هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة، الخزرجي الأنصاري الساعدي، أبو العبَّاس، وكناه بعضهم بأبي يحيى، من مشاهير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان اسمه حَزَنًا، فغيَّر الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه إِلى سهل، روى عنه صلى الله عليه وسلم عدةَ أحاديث، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة، وقد ناهز المائة، جاء عنه أنَّه قال: "لو متُّ لم تسمعوا أحدًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي بالمدينة سنة 91 هـ وقيل: سنة 88 هـ. انظر ترجمته في: المعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 338)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص / 308)، وتهذيب الكمال للمزي (12/ 188)، وسير أعلام النُّبَلاء (3/ 422)، والإِصابة لابن حجر (3/ 200)، وتهذيب التهذيب له (2/ 124).
(2)
أخرج الحديثَ: أحمد في: المسند (37/ 458) برقم (22798).
والحديث أخرجه: البخاري في: صحيحه، كتاب: الوكالة، باب: وكالة المرأة الإِمام في النكاح (ص/ 433) برقم (5155)؛ ومسلم في: صحيحيه، كتاب: النكاح، باب: الصداق وجواز كونه تعليم القرآن (1/ 643 (برقم (1425).
(3)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 361 - 362)، وصفة الفتوى (ص/ 97 - 98). وانظر - قول الحنابلة في مسألة جعل تعليم القرآن صداقًا - في: الكافي لابن قدامة (3/ 329)، والإِنصاف (8/ 232).
(4)
أخرجه مالك في الموطأ بلفظ: (المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا)، في كتاب: البيوع، باب: بيع الخيار (2/ 251)، برقم (1958) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
وأخرجه بلفظ: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه: البخاري في: صحيحه، كتاب: البيوع، باب: إِذابين البيعان ولم يكتما (ص/ 398)، برقم (2079)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: البيوع، باب: الصدق في البيع والبيان (2/ 713)، برقم (1532).
(5)
انظر: الموطأ (2/ 201).
(6)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 369).
لمعارضٍ أقوى أو لتأويلٍ صارفٍ له عن ظاهرِه أو ناسخٍ له، ومع هذه الاحتمالات، لا تسوغُ نسبةُ القولِ إِلى إِمامِ المذهبِ بناءً على الروايةِ
(1)
.
• الموازنة والترجيح:
مِنْ خلالِ تأمّلِ القولين، وما استدلوا به، يظهرُ لي عدمُ صحةِ نسبةِ القولِ إِلى الإِمامِ بناءً على مجردِ روايتِه للحديثِ؛ وذلك للسببين الآتيين:
الأول: قد يروي الإِمامُ الحديثَ، ويرى تركَ العملِ به؛ إِمَّا لمعارضٍ أرجح وإِمَّا لصارفٍ وإِمَّا لناسخٍ، ومع هذه احتمالات تضعف نسبةُ القولِ إِلى الإِمامِ لمجرّدِ الروايةِ.
الثاني: قد يروي الإِمامُ الحديثين المتعارضين فإِلى أيّهما ينسبُ القول بناءً على الروايةِ؟
لكن إِن اقترنَ بروايةِ الإِمامِ للحديثِ قرينةٌ دالةٌ على أخذِه بمروّية، ساغَ القولُ بنسبةِ القولِ إِليه، بناءً على روايتِه للحديث؛ لوجودِ القرينةِ، مثل: أنْ يُبَوِّبَ على الحديثِ تبويبًا دالًا على اختيارِه، أو ينقل تلميذُه قولَه بناءً على روايته؛ لقرينةِ فهمِ التلميذِ مراد إِمامِه بروايتِه، أو يصححَ الحديثَ، فيفهم منه العملُ بمدلولِه.
وأيضًا: إِذا روى الإِمامُ الحديثَ، ولم يروِ ما يعارضه ساغتْ نسبةُ القولِ إِليه مقيّدًا، كقولنا: وهذا قولُه؛ لأنَّه روى الحديثَ.
الصورة الثانية: إِذا روى الإِمامُ الحديثَ، وخالفه.
إِذا روى الإِمامُ بسندِه حديثًا، وخالفه، فهل تسوغُ نسبةُ القولِ إِليه بناءً على روايتِه؟
مَنْ قال في الصورةِ الأولى بعدمِ نسبةِ القولِ إِلى الإِمامِ بناءً على روايتِه للحديث، فمِنْ بابٍ أولى أنْ يذهبَ إِلى عدمِ نسبةِ ما دلَّ عليه
(1)
انظر: المصدر السابق (1/ 360)، وصفة الفتوى (ص/ 97).
الحديثُ إِلى الإِمامِ في الصورةِ الثانيةِ؛ لأنَّه إِذا لم يُنسبْ إِلى الإِمامِ ما دلَّ عليه الحديثُ، مع عدمِ وجودِ قولٍ له، فمِنْ باب أولى أنْ لا ينسبَ إِليه ما دلَّ عليه الحديثُ، مع وجودِ قولٍ له.
أمَّا عند القائلين بنسبةِ القولِ إِلى الإِمامِ بناءً على روايتِه، فنصَّ بعضُهم على عدمِ نسبةِ القولِ حينئذٍ إِلى إِمامِ المذهب، يقولُ الحسنُ بنُ حامدٍ:"إِنْ وُجِدَ عن الإِمامِ في الحادثةِ الَّتي فيها الخبرُ، جوابٌ كافٍ، لا يلتفتُ إِلى غيرِ جوابِه"
(1)
.
ولأنَّ مخالفةَ الحديثِ، وتركَ العمل به تدلُّ على أن الإِمامَ يطعنُ في صحتِه، أو يرى معارضتَه لما هو أرجح منه، أو يرى نسخَه
(2)
.
ولأنَّ رواية الإِمامِ للحديثِ - عند مِنْ يقولُ بنسبةِ القول إِلى الإِمامِ بناءً عليها - مِنْ باب الدلالةِ، وقد عارضها تصريحٌ، والقاعدةُ المقررة: لا عبرةَ للدلالةِ في مقابلَةِ التصريحِ
(3)
.
بقي أنْ أقول: إِنَّ محلَّ مخالفةِ الحديثِ في الصورة الثانية بعدَ الروايةِ، فلو فُرِضَ تأخرُ الرواية عن رأي الإِمامِ المتقدمِ، فمِن المحتملِ أنْ يقولَ مَن يُصحح نسبةَ القولِ إِلى الإِمامِ بناءً على روايتِه، بتقديم الروايةِ المتأخرةِ، لأنَّها الَّتي استقرَّ عليها قولُ الإِمامِ
(4)
.
الصورة الثالثة: إِذا ثَبَتُ الحديثُ مِنْ غيرِ مروي الإِمامِ، وخالفه.
إِذا ثَبَتَ حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذَهَبَ الإِمامُ إِلى خلافِ ما دلَّ عليه
(1)
تهذيب الأجوبة (1/ 370).
(2)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 98).
(3)
انظر قاعدة: (لا عبرةَ للدلالةِ في مقابلةِ التصريح) في: شرح مجلة الأحكام للآتاسي (1/ 38)، وشرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقا (ص/ 141)، والمدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا (2/ 985).
(4)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 98).
الحديثُ، فهلْ يسوغُ إِلغاءُ قولِه، ونسبةُ ما دلَّ عليه الحديثُ إِليه؛ لأنَّ الحديثَ صحيحٌ؟
وحديثي هنا عن نسبةِ القولِ فحسب، أمَّا عن صنيعِ المتمذهبِ، أيعملُ بالحديثِ أم لا؟ فمسألةٌ أخرى، سيأتي الحديثُ عنها إِنْ شاءَ الله تعالى في مبحثٍ مستقلٍّ.
لقد اهتمَّ علماءُ الشافعيةِ على وجهِ الخصوصِ بهذه المسألةِ؛ وذلك لشهرةِ مقولةِ الإِمامِ الشَّافعي: "إِذا صحَّ الحديثُ، فهو مذهبي"، مع أنَّ هذه العبارةَ وما في معناها ورادةٌ عن أئمةٍ آخرين، كما تقدّمَ في صدرِ الفرعِ.
اختلفَ العلماءُ في صحةِ نسبةِ القولِ إِلى إِمامِ المذهبِ فيما إِذا ثَبَتَ الحديثُ مِنْ غيرِ مرويّه، وخالفه، على قولين:
القول الأول: عدمُ نسبةِ القولِ إِلى الإِمامِ.
وهذا قولُ ابنِ دقيق العيد
(1)
، وابنِ الصلاح
(2)
، ومحيي الدين النووي
(3)
.
واختاره مِن المعاصرين: فضيلةُ الدكتورُ يعقوب الباحسين
(4)
، والدكتورُ عياض السلمي
(5)
، وفضيلةُ الشيخِ بكر أبو زيد
(6)
.
القول الثاني: يُنسبُ ما دلّ عليه الحديثُ إِلى الإِمامِ، ويُنفى قولُه المخالفُ للحديثِ.
نَسَبَ ابنُ الصلاحِ هذا القولَ إِلى كثيرٍ مِنْ أئمةِ الشافعية
(7)
.
(1)
انظر: إِحكام الأحكام (ص/ 306 - 307).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 121).
(3)
انظر: المجموع شرح المهذب (1/ 160).
(4)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين (ص/ 241).
(5)
انظر: تحرير المقال (ص/ 102).
(6)
انظر: المدخل المفصل إِلى فقه الإِمام أحمد (1/ 254).
(7)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 118).
وهو قولُ أبي الوليدِ بن أبي الجارود
(1)
، وابنِ بَرهان
(2)
، وأبي شامةَ المقدسي
(3)
، وابنِ القيّمِ
(4)
، وبدرِ الدين الغزي
(5)
.
وهو ظاهرُ قولِ أبي الحسنِ الماوردي
(6)
؛ إِذ نَسَبَ للإِمام الشَّافعي قولًا، لثبوتِ الحديثِ البنوي، مع أنَّ للشافعيّ نفسِه قولًا بخلافِه
(7)
.
(1)
انظر: المصدر السابق (ص/ 119). وأبو الوليد بن أبي الجارود هو: موسى بن أبي الجارود أبو الوليد المكي، كان فقيهًا جليلًا، ثقةً صدوقًا، يفتي بمكة بمذهب الإِمام الشَّافعي، ويرجع إِليه عند اختلاف الرواية عن الشَّافعي، روى عن سفيان بن عيينة ويحيى بن معين، وروى عن الشَّافعي كتبًا، منها: كتاب الأمالي، وأبو الوليد من طبقة الإِمام أحمد بن حنبل (ت: 241 هـ). انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 99)، والثقات لابن حبَّان (9/ 162)، وتهذيب الكمال للمزي (29/ 41)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/
161)، وتهذيب التهذيب لابن حجر (4/ 172).
(2)
انظر: الوصول إِلى الأصول (2/ 358).
(3)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل للرد إِلى الأمر الأول (ص/ 149).
(4)
انظر: إِعلام الموقعين (6/ 161).
(5)
انظر: الدر النضيد (ص/198). وبدر الدين الغزي هو: محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن بدر بن عثمان بن جابر الغزي العامري القرشي، بدر الدين أبو البركات، ولد سنة 904 هـ كان شافعي المذهب، إِمامًا في العلم، علامةً مدققًا بحرًا في العلوم، برع وأفتى في حياة شيوخه، من مؤلفاته: الدر النضيد في أدب المفيد والمستفيد، وأسباب النجاح في آداب النكاح، وفصل الخطاب في وصل الأصحاب، توفي بدمشق سنة 984 هـ. انظر ترجمته في: الكواكب السائرة للغزي (2/ 30)، وشذرات الذهب لابن العماد (10/ 593)، ومنتخبات التواريخ الدمشقية لمحمد أديب (2/ 589)، والأعلام للزركلي (7/ 59).
(6)
هو: عليّ بن محمد بن حبيب الماوردي البصري، أبو الحسن، ولد بالبصرة سنة 364 هـ كان إِمامًا علامةً، عالم الشافعية في زمانه، حافظًا لمذهبه، فقيهًا أصوليًا أديبًا، عظيم القدر، حليمًا وقورًا صالحًا، وقد ولي القضاء في بلدان كثيرة، ووصفه أبو إِسحاق الشيرازي بأنه أقضى القضاة، وقد أخذ الفقه عن أبي القاسم الصيمري بالبصرة، وعن أبي حامد الإِسفراييني ببغداد، من مؤلفاته: الحاوي الكبير، والنكت والعيون، والإِقناع، والأحكام السلطانية، وأدب الدنيا والدين، توفي ببغداد سنة 450 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (13/ 587)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص / 125)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 282)، وسير أعلام النُّبَلاء (18/ 64)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (5/ 267)، وطبقات الشافعية للإِسنوي (2/ 387)، والبداية والنهاية (12/ 85)، وطبقات ابن هداية الله (ص/151).
(7)
انظر: الحاوي (2/ 8).
وقدْ ذَكَرَ بعضُ القائلين بالقولِ الثاني ضوابطَ لصحةِ نسبةِ القولِ إلى الإمامِ:
الأول: أنْ يكونَ الناظرُ مِنْ أهلِ الاجتهادِ في المذهبِ.
الثاني: أنْ يغلبَ على ظنِّه أنَّ إمامَه لم يطلعْ على الحديثِ، أو لم يعلمْ صحتَه، ويتحققُ هذا الظن بمطالعةِ كتبِ الإمامِ كلِّها، وكتبِ أصحابِه الآخذين عنه
(1)
.
فلو تبيَّن أنَّ الإمامَ قد اطلعَ على الحديثِ، وخالفِه؛ لاعتقادِ نسخِه مثلًا، فلا ينسبُ إليه مدلولُ الحديثِ
(2)
.
الثالث: انتفاءُ المعارضِ عن الحديثِ
(3)
.
• أدلة القولين:
دليل أصحاب القول الأول: قد يصحُّ الحديثُ عند الإمامِ، ولا يعملُ به، لكونِه منسوخًا، أو لمعارضٍ أرجح، وقد وَقَعَ مثلُ ذلك - كما ذكره ابنُ الصلاح
(4)
- فقد نَسَبَ أبو الوليد بن أبي الجارود إلى الإمام الشافعي القولَ بأنَّ الحجامةَ تُفطرُ الصائمَ؛ أخذًا مِنْ حديثِ: (أفطر الحاجم والمحجوم)
(5)
.
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 121).
(2)
انظر: إعلام الموقعين (6/ 162).
(3)
انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 450).
(4)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 119).
(5)
جاء حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم، فمن هذا: أولًا: طريق ثوبان رضي الله عنه، وأخرج حديثه: أبو داود في: سننه، كتاب: الصوم، باب: في الصائم يحتجم، (ص / 360)، برقم (2367)؛ والنسائي في: سننه الكبرى، كتاب: الصيام، باب: الحجامة للصائم (3/ 318 - 319)، بالأرقام (3120 - 3125)؛ وابن ماجه في: سننه، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الحجامة للصائم (ص/ 294)، برقم (1680)؛ والطيالسي في: مسنده (2/ 330)، برقم (1082)؛ وعبد الرزاق في: مصنفه، كتاب: الصيام، باب: الحجامة للصائم (4/ 209)، برقم (7522)؛ وابن أبي شيبة في: مصنفه، كتاب: الصيام، باب: من كره أن يحتجم الصائم (6/ 209)، برقم (9393)؛ والدارمي في: مسنده، كتاب: الصوم، باب: الحجامة تفطر الصائم (2/ 1080)، برقم (1772)؛ وابن الجارود=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= في: المنتقى، كتاب الصيام (2/ 36)، برقم (386)؛ والروياني في: مسنده (1/ 412)، برقم (633)؛ وابن خزيمة في: صحيحه، كتاب الصيام، باب: ذكر البيان أن الحجامة تفطر (3/ 227) بالرقمين (1962 - 1963)؛ والطحاوي في: شرح معاني الآثار، كتاب: الصيام، باب: الصائم يحتجم (2/ 98)؛ وابن حبان في: صحيحه، كتاب: الصوم، باب: حجامة الصائم (8/ 301)، برقم (3532)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: الصوم (1/ 561)، برقم (1558)، وقال:"الحديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الصيام، باب: الحديث الذي روي في الإفطار بالحجامة (4/ 265).
وصحح حديثَ ثوبان رضي الله عنه البخاريُّ - كما نقله الحافظ ابنُ حجر في: التلخيص الحبير (3/ 1415) - والإمام أحمد، كما نقله عنه ابنُ أبي يعلى في: طبقات الحنابلة (2/ 75).
ثانيًا: طريق شداد بن أوس رضي الله عنه، وأخرجه: أبو داود في: سننه، كتاب: الصوم، باب: في الصائم يحتجم (ص / 360)، برقم (2369)؛ والنسائي في: السنن الكبرى، كتاب: الصيام، باب: الحجامة للصائم (3/ 319)، برقم (3126)؛ وابن ماجه في: سننه، كتاب: الصيام، باب: ما جاء في الحجامة للصائم (ص/ 294)، برقم (1681)؛ والطيالسي في: المسند (2/ 442)، برقم (1214)؛ والشافعي في: المسند (2/ 1069)، برقم (891)؛ وعبد الرزاق في: مصنفه، كتاب: الصيام، باب: الحجامة للصائم (4/ 209)، بالأرقام (7519 - 7521)؛ وابن أبي شيبة في: مصنفه، كتاب: الصيام، باب: من كره أن يحتجم الصائم (6/ 208)، بالأرقام (9390 - 9392)؛ وأحمد في: المسند (28/ 335)، برقم (17112)؛ والدارمي في: السنن، كتاب: الصوم، باب: الحجامة تفطر الصائم (2/ 1079)، برقم (1771)؛ والطحاوي في: شرح معاني الآثار، كتاب: الصيام، باب: الصائم يحتجم (2/ 99)؛ وابن حبان في: صحيحه، كتاب: الصوم، باب: حجامة الصائم (8/ 352 - 304)، بالرقمين (3533 - 3534)؛ والطبراني في: المعجم الكبير (7/ 276 - 278)، بالأرقام (7125 - 7132)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: الصوم (1/ 563)، برقم (1563)، ونقل عن إسحاق بن إبراهيم أنه قال:"هذا إسناد صحيحٌ يقوم به الحجة، وهذا الحديث قد صحَّ بأسانيد". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الصيام، باب: الحديث الذي روي في الإفطار بالحجامة (4/ 265).
وممن صحح حديثَ شداد رضي الله عنه: الإمام أحمد - كما نقله عنه ابنُ أبي يعلى في: طبقات الحنابلة (2/ 75) - وإسحاقُ بن راهوية، كما في: تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي (3/ 253).
ثالثًا: طريق رافع بن خديج رضي الله عنه، وأخرجه: الترمذي في: جامعه، أبواب الصيام، باب: كراهية الحجامة للصائم (ص/ 190)، برقم (774)، وقال: "وفي الباب: عن علي، وسعد، وشداد بن أوس، وأسامة بن زيد، وعائشة، ومعقل بن سنان - ويقال: ابن يسار - وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي موسى، وبلال، وحديث رافع بن خديج حديث حسن صحيحٌ، وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيءٍ في الباب حديثُ رافع بن خديج، وذُكر عن =
وردَّ عليه علماءُ الشافعيةِ، بأنَّ الإمامَ الشافعي تَرَكَ الحديثَ مع صحتِه؛ لأنَّه يرى نسخَه
(1)
.
دليل أصحاب القول الثاني: جاءَ عن بعضِ الأئمةِ الأمرُ بالأخذِ بالحديثِ النبوي، فإنْ خالفوا الحديثَ، فقولهم هو ما دلَّ عليه الحديثُ
(2)
.
• الموازنة والترجيح:
لعلَّ الأقربَ في المسألةِ عدمُ نسبةِ القولِ إلى إمامِ المذهبِ، بناءً على
= علي بن عبد الله أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديثُ ثوبان وشداد بن أوس".
وعبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الصيام، باب: الحجامة للصائم (4/ 210)، برقم (7523)؛ وأحمد في: المسند (25/ 148)، برقم (15828)؛ وابن خزيمة في: صحيحه، كتاب: الصيام، باب: ذكر البيان أن الحجامة تفطر (3/ 227) برقم (1964)، ونقل عن علي بن المديني أنه قال:"لا أعلم في: (أفطر الحاجم والمحجوم) حديثًا أصح من ذا". وابن حبان في: صحيحه، كتاب: الصوم، باب: حجامة الصائم (8/ 306)، برقم (3535)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: الصوم (1/ 563)، برقم (1561)، وقال:"الحديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ونقل الحاكم في: المصدر السابق (1/ 566) عن عثمان الدارمي أنه قال: "قد صح عندي حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم)؛ لحديث ثوبان، وشداد بن أوس". وتعقب ابنُ عبد الهادي في: تنقيح التحقيق (3/ 251) تصحيحَ الحاكم للحديث على شرط الشيخين، وظاهر كلامه أنه صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه أيضًا: البيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الصيام، باب: الحديث الذي روي في الإفطار بالحجامة (4/ 265)، ونقل البيهقي في: المصدر السابق (4/ 267) بالأسانيد عن الإمام أحمد، علي المديني، وغيرهما تصحيح حديث:(أفطر الحاجم والمحجوم).
ونقل ابن عبد الهادي في: تنقيح التحقيق (3/ 255): عن بعض الحفاظ قولهم عن الحديث: "الحديث في هذا متواتر"، ثم قال:"وليس ما قاله ببعيد".
وصحح الألبانيُّ الحديثَ في: إرواء الغليل (4/ 65).
وهناك من ضعف الحديث، وللاطلاع على مزيد في تخريج الحديث، انظر: تنقيح التحقيق لا بن عبد الهادي (3/ 250 - 271)، ونصب الراية للزيلعي (2/ 472 - 477)، والبدر المنير لابن الملقن (5/ 671 - 673)، والتلخيص الحبير لابن حجر (3/ 1414 - 1418)، وإرواء
الغليل للألباني (4/ 65 - 75)، وتحقيق الكلام في احتجام الصوام لفريح البهلال (ص/ 97 وما بعدها).
(1)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 120).
(2)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول لأبي شامة (ص/ 149).
ثبوتِ الحديثِ، مع مخالفتِه له؛ لأنَّ ثبوتَ الحديثِ فقط غيرُ كافٍ للقولِ بمدلوله، مِنْ جهةِ احتمالِ الحديثِ للنسخِ وللتخصيصِ وللتأويلِ وللمعارضِ الراجح.
ولأنَّ في نسبةِ القولِ إلى إمامِ المذهبِ بناءً على الحديثِ إلغاءً لقولِه المنصوصِ.
وفيما يتعلقُ بما وَرَدَ عن بعضِ الأئمةِ مِنْ أنَّ قولَهم ما وافق السنةَ النبوية، فالظاهر لي أنَّ المقصدَ مِنْ هذه العباراتِ والباعثَ عليها، هو تعظيمُ السنةِ في النفوسِ، وحثُّ التلاميذِ على اتباعها، وتركُ قولِ مَنْ خالفها، وإن كان مِنْ علماءِ الأمةِ.
الصورة الرابعة: إذا ثَبَتَ الحديثُ مِنْ غيرِ مروي الإمامِ، ولم ينقلْ عنه قولٌ بخلافِه.
إذا ثَبَتَ حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقلْ عن الإمامِ قولٌ يخالفُ الحديثَ، فهلْ تسوغُ نسبةُ ما دلَّ عليه الحديثُ إلى الإمامِ؛ لأنَّ الحديثَ صحيحٌ؟
تختلفُ هذه الصورةُ عن التي قبلها في عدمِ وجودِ قولٍ لإمامِ المذهبِ، فالخطبُ فيها أيسرُ؛ إذ مَنْ نَسَبَ القولَ إلى إمامِه بناءً على الحديثِ، لم يقع في إلغاء قولٍ منصوصٍ لإمامِه.
وقد توجه كلامُ أغلب مَنْ تكلّمَ عنْ نسبةِ القولِ إلى الإمامِ بناءً على ثبوتِ الحديثِ إلى الصورةَ الثالثة، أمَّا الصورةُ الرابعة، فالكلامُ فيها - فيما رجعتُ إليه مِنْ مصادر - أقلُّ، وممَّنْ تكلّمَ عنها من المتقدمين: أبو شامةَ المقدسي
(1)
، وتقيُّ الدين السبكي
(2)
، وقد نصَّا على نسبةِ القولِ إلى إمامِ المذهبِ.
(1)
انظر: المصدر السابق.
(2)
انظر: معنى قول الإمام المطلبي (ص/ 133).
يقولُ أبو شامةَ المقدسي: "ما صحَّ مِنْ حديثِه صلى الله عليه وسلم، ودلَّ على حكمٍ لا نصَّ للشافعي على خلافِه، فهو مذهبُه، لا شكَّ فيه؛ أخذًا مِنْ قولِه، وممَّا أَمَرَ به"
(1)
.
وقد قال الإمامُ الشافعي: "كلُّ حديثٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قولي، وإنْ لم تسمعوه مني"
(2)
.
ويمكنُ القولُ: إنَّ مَنْ قالَ في الصورةِ الثالثةِ: بأنَّ قولَ الإمامِ ما وافق الحديثَ، فسيقولُ في الصورةِ الرابعةِ بنسبةِ ما دلَّ عليه الحديثُ إلى الإمامِ مِنْ بابٍ أولى.
أمَّا المانعون في الصورةِ الثالثةِ، فقد اختلفَ قولُهم في الصورةِ الرابعةِ على قولين:
القول الأول: لا يُنسب القولُ إلى إمامِ المذهبِ بناءً على ثبوتِ الحديثِ.
صرَّح بهذا القولِ فضيلةُ الدكتور يعقوب الباحسين
(3)
.
القول الثاني: يُنسب القولُ إمامِ المذهبِ بناءً على الحديثِ.
صرَّح بهذا القولِ فضيلةُ الشيخِ بكر أبو زيد
(4)
.
أمَّا المانعون في الصورةِ الثالثةِ الذين لم يصرِّحوا باختيارِهم في الصورة الرابعة، فالظاهرُ لي أنَّهم يمنعون مِنْ نسبةِ القولِ إلى الإمامِ في الصورةِ الرابعةِ؛ لوجود الاحتمال؛ إذ قد يطعنُ الإمامُ في سندِ الحديثِ أو متنِه، أو يراه مرجوحًا أو منسوخًا أو مؤولًا، فلا يُنسبُ إليه القولُ؛ لهذه الاحتمالات.
(1)
انظر: خطبة الكتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول (ص/ 149).
(2)
تقدم توثيقه في صدر الفرع.
(3)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين (ص/ 236).
(4)
انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 253).
والأقربُ عندي أنه إذا لم يَرِدْ قولٌ عن إمامِ المذهب في المسألةِ، وقد صحَّ الحديثُ فيها، ومِنْ أصولِه القولُ بالحديثِ، وأَنَّه مذهبُه: فإنَّه تصحُّ نسبةُ القولِ إلى الإمامِ، مع توضيح ذلك، وتقييد النسبةِ.
* * *