الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطريق الثاني: ما نقله تلاميذُ إمامِ المذهبِ، ومعاصروه.
تقدم الحديثُ عن أحوالِ ما ينقله تلاميذُ إمامِ المذهب وما يحكونه عنه، وعن حكمِ تفسيرِهم لأقوالِه مِنْ حيثُ صحةُ نسبتِها إليه.
والحديثُ هنا عن الشروطِ الواجبِ اجتماعها في الناقلِ عن إمام المذهبِ - سواء أكان تلميذًا له أو معاصرًا - وفي المنقولِ؛ لتثبتَ نسبةُ القولِ إلى إمامِ المذهبِ.
شروطُ الناقلِ عن إمامِ المذهبِ:
يُشترطُ في ناقلِ قولِ إمامِ المذهب ما يُشترطُ في الراوي لأحاديثِ النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
؛ لأنَّ المقصدَ في شروطِ الرَاوي لأحاديثِ النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يكونَ صدُقه، وضبطُه راجحًا على كذبِه، وخطئِه
(2)
.
وهذا المقصدُ مراعى هنا؛ إذ المقصدُ مِنْ شروطِ الناقلِ عن الإمامِ أنْ يكونَ صدقُ الناقلِ، وضبطُه راجحًا على كذبِه، وخطئِه
(3)
.
يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "إنَّ الناسَ في نقلِ مذاهبِ الأئمةِ قد يكونون بمنزلتِهم في نقلِ الشريعةِ
…
وقد تختلفُ الروايةُ في النقلِ عن الأئمةِ، كما يختلف بعضُ أهلِ الحديثِ في النقلِ عنْ النبي صلى الله عليه وسلم"
(4)
.
الشرط الأول: الإسلام.
يُشترطُ في ناقلِ قولِ الإمامِ أنْ يكونَ مسلمًا
(5)
، فلا يثبتُ القولُ بنقلِ
(1)
انظر: نهاية الوصول للهندي (8/ 3668)، ونهاية السول (4/ 579)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2945)، وتيسير التحرير (4/ 249).
(2)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 393)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 1891).
(3)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 72)، والحاصل من المحصول (2/ 1022)، والتحصيل من المحصول (2/ 301)، ونفائس الأصول (9/ 4111).
(4)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (4/ 168). وانظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي (ص/ 244)، وسلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 623).
(5)
انظر: أصول السرخسي (1/ 346)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 105)، =
الكافرِ؛ وذلك للآتي:
أولًا: أنَّ الكافرَ لا يتحرجُ مِن الكذب في نقلِه، فهو مُتهمٌ فيما ينقلُه
(1)
.
ثانيًا: إذا لم يُقبلْ نقلُ الفاسقِ اتفاقًا، فالكافرُ مِنْ بابٍ أولى
(2)
.
الشرط الثاني: العقل.
يُشترطُ في الناقلِ عن الإمامِ أنْ يكونَ عاقلًا
(3)
، فلا يصحُّ الاعتمادُ على ما ينقلُه غيرُ العاقلِ؛ لعدمِ قدرته على ضبطِ ما يسمعُه، ولتمكنِ الخللِ في نقلِه؛ إذ العقلُ أصلُ الضبطِ
(4)
.
يقولُ أبو بكرٍ السرخسي: "أمَّا اشتراطُ العقلِ؛ فلأنَّ الخبرَ الذي يرويه كلامٌ منظومٌ، له معنى معلومٌ، ولا بُدَّ مِن اشتراطِ العقلِ في المتكلمِ مِن العبادِ؛ ليكون قولُه كلامًا معتبرًا، فالكلامُ المعتبرُ شرعًا: ما يكون عن تمييزٍ وبيانٍ، لا عن تلقينٍ وهذيانٍ، أَلا ترى أنَّ مِن الطيورِ مَن يُسمعُ منه حروفٌ
= والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 395)، وروضة الناظر (1/ 383)، والإحكام في أصول الإحكام للآمدي (2/ 83)، وشرح تنقيح الفصول (ص / 359)، وكشف الأسرار للبخاري (2/ 392)، وأصول الفقه لابن مفلح (2/ 518)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 1899)، والبحر المحيط (4/ 273)، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 158)، وتوضيح الأفكار للصنعاني (2/ 115).
(1)
انظر: أصول السرخسي (1/ 346)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 106)، وروضة الناظر (1/ 383)، والإحكام في أصول الإحكام للآمدي (2/ 173).
(2)
انظر: الإحكام في أصول الإحكام للآمدي (2/ 173).
(3)
انظر: العدة (3/ 924)، وأصول السرخسي (1/ 345)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 106)، والمحصول في أصول الفقه للرازي (4/ 393)، وروضة الناظر (1/ 385)، والإحكام في أصول الإحكام للآمدي (2/ 71)، وشرح تنقيح الفصول (ص / 359)، وشرح مختصر الروضة (2/ 143)، وأصول الفقه لابن مفلح (2/ 516)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 1891)، واختصار علوم الحديث لابن كثير (1/ 280) مع شرحه الباعث الحثيث، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 158)، وتوضيح الأفكار للصنعاني (2/ 115).
(4)
انظر: شرح اللمع (2/ 630)، والإحكام في أصول الإحكام للآمدي (2/ 71)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 359)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 1891).
منظومةٌ، ويُسمَّى ذلك لحنًا، لا كلامًا، وكذلك إذا سُمعَ مِنْ إنسانٍ صوتُه بحروفٍ منظومةٍ، لا يدلُّ على معنى معلوم، لا يُسمَّى ذلك كلامًا، فعرفنا أنَّ معنى الكلامِ في الشاهدِ: ما يكون مميّزًا بين أسماء الأعلامِ، فما لا يكون بهذه الصفةِ يكون كلامًا صورةً لا معنى
…
فكانَ العقلُ شرطًا في المخبِرِ؛ لأنَّ خبرَه أحدُ أنواعِ الكلامِ، فلا يكون معتبرًا إلا باعتبارِ عقلِه"
(1)
.
الشرط الثالث: البلوغ.
يُشترطُ في الناقلِ عن الإمامِ أنْ يكونَ بالغًا
(2)
؛ وذلك للآتي:
أولًا: أنَّ غيرَ البالغِ لا يَحْذَرُ الكذبَ
(3)
.
ثانيًا: انعَقَدَ الإجماعُ على عدمِ قبولِ روايةِ الفاسقِ؛ لاحتمالِ كذبِه، مع أنَّه يخافُ الله؛ لكونِه مكلَّفًا، واحتمالُ الكذبِ مِن الصبي مع أنَّه لا يخافُ الله تعالى؛ لعدمِ تكليفِه، أظهرُ مِن احتمالِ الكذبِ في حقِّ الفاسقِ، فكان نقلُ غيرِ البالغِ أولى بالردِّ
(4)
.
وهذا الشرطُ معتبرٌ في أداءِ النقلِ، دونَ تحمّلِه، لكنْ لا بُدَّ أنْ يكونَ الراوي مميزًا وقتَ التحمّلِ
(5)
.
(1)
أصول السرخسي (1/ 345).
(2)
انظر: العدة (3/ 949)، وشرح اللمع (2/ 630)، وأصول السرخسي (1/ 347)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 105)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 393)، والإحكام في أصول الإحكام للآمدي (2/ 71)، وشرح تنقيح الفصول (ص / 359)، وشرح مختصر الروضة (2/ 143)، واختصار علوم الحديث لابن كثير (1/ 285) مع شرحه الباعث الحثيث، والتحبير (4/ 1852)، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 160)، وتوضيح الأفكار للصنعاني (2/ 114).
(3)
انظر: العدة (3/ 949)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 105).
(4)
انظر: الإحكام في أصول الإحكام للآمدي (2/ 71 - 72).
(5)
انظر: العدة (3/ 949)، وشرح اللمع (2/ 635)، وأصول السرخسي (1/ 347)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 106)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 395).
الشرط الرابع: العدالة.
يُشترطُ في ناقلِ قولِ الإمامِ أنْ يكونَ عدلًا
(1)
؛ وذلك للآتي:
أولًا: يقولُ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ}
(2)
.
وجه الدلالة: أنَّ اللهَ تعالى أَمَرَنا بالتثبّتِ مِنْ خبرِ الفاسقِ
(3)
؛ لأنَّ الغالبَ فيه عدمُ مطابقتِه للواقعِ.
ثانيًا: أنَّ الفاسقَ لا يُؤْمَنُ عليه الكذبُ، والتساهلُ في نقلِ ما ليس له أصلٌ
(4)
.
وضابط العدالة: أنَّ كلَّ مَنْ لا يُؤمَنُ منه الجرأةُ على الكذب، فليس بعدلٍ، ومَنْ أُمنتْ منه الجرأةُ على الكذبِ، فهو عدلٌ
(5)
.
يقولُ شهابُ الدين القرافيُّ: "الأصلُ أنْ لا تجوزَ الفتيا إلا بما يرويه العدلُ عن العدلِ عن المجتهدِ الذي يقلِّدُه المستفتي، حتى يصحَّ ذلك عند المفتي"
(6)
.
(1)
انظر: المعتمد (2/ 616)، والعدة (3/ 925)، وإحكام الفصول (ص/ 362)، وشرح اللمع (2/ 631)، وأصول السرخسي (1/ 345)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 106)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 398)، والإحكام في أصول الإحكام للآمدي (4/ 76)، وأصول الفقه لابن مفلح (2/ 529)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 1902)، واختصار علوم الحديث لابن كثير (1/ 280) مع شرحه الباعث الحثيث، والتحبير (4/ 1857)، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 158)، وتوضيح الأفكار للصنعاني (2/ 116)، ورسالة في الكتب التي يعول عليها امحمد المطيعي (ص/ 75).
(2)
من الآية (6) من سورة الحجرات.
(3)
انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 108)، وشرح مختصر الروضة (2/ 143).
(4)
انظر: المعتمد (2/ 616)، والعدة (3/ 925)، وإحكام الفصول (ص/ 366)، وشرح اللمع (2/ 631)، وأصول السرخسي (1/ 345 - 346).
(5)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 399)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 1953).
(6)
الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص/ 244).
الشرط الخامس: الضبط.
يُشْتَرطُ في ناقلِ قولِ الإمامِ أنْ يكونَ ضابطًا لما ينقلُه، متقنًا له
(1)
؛ لأنَّ مَنْ لم يكنْ حالَ سماعِه ضابطًا؛ ليؤدي ما يسمعه على الوجهِ الصحيحِ، لا تحصلُ الثقةِ بقولِه، ويحتملُ أنْ يغيّرَ اللفظَ والمعنى
(2)
.
وضابطُ الضبطِ: أنْ يكونَ ضبطُ الراوي وإتقانُه لما يسمعُه أرجحَ مِنْ عدمِ ضبطِه وإتقانِه، وذكرُه لما يسمعُه أرجحُ مِنْ سهوِه عنه
(3)
.
تلك هي الشروطُ التي لا بُدَّ مِنْ اجتماعِها في ناقلِ قولِ الإمامِ، والغالبُ أنَّ نقلةَ أقوالِ الأئمةِ مِنْ تلامذتِهم، وغالبُهم رواةٌ ثقاتٌ، وفقهاءُ أثباتٌ، وحفاظٌ مؤتمنون، ولا يقدحُ فيهم ما يَقَعَ مِنْ بعضِهم مِنْ إغرابٍ في بعضِ نقولاتِه
(4)
.
ويشترطُ في القولِ المنقولِ عن إمامِ المذهبِ - إضافةً إلى ما يُشترط في الناقلِ عنه - شرطانِ، وهما:
الشرط الأول: انتفاءُ الشذوذِ عن القولِ المنقولِ.
الشرط الثاني: انتفاءُ العلةِ عن القولِ المنقولِ.
الشرط الأول: انتفاءُ الشذوذِ عن القولِ المنقولِ.
يُشْتَرطُ في القولِ المنقولِ عنْ إمامِ المذهبِ؛ ليُنسبَ إليه: خلوُّه عن الشذوذِ، فإذا كان في النقلِ عنه شذوذٌ، لم تسغْ نسبتُه إليه.
(1)
انظر: العدة (3/ 948)، وأصول السرخسي (1/ 344)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 106)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 413)، وروضة الناظر (1/ 387)، وشرح مختصر الروضة (2/ 144)، وكشف الأسرار للبخاري (2/ 50)، وأصول الفقه لابن مفلح (2/ 527)، والإبهاج في شرح المنهاج (5/ 1933)، واختصار علوم الحديث لابن كثير (1/ 280) مع شرحه الباعث الحثيث، والتحبير (4/ 1854)، وفتح المغيث للسخاوي (2/ 156)، وتوضيح الأفكار للصنعاني (2/ 116)، وفواتح الرحموت (2/ 142).
(2)
انظر: روضة الناظر (1/ 387)، وأصول الفقه لابن مفلح (2/ 527).
(3)
انظر: الإحكام في أصول الإحكام للآمدي (2/ 75).
(4)
انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (2/ 652).
ويحصلُ الشذوذُ في النقلِ بأمورٍ، منها:
أولًا: انفرادُ أحدِ الرواةِ عن الإمامِ بنقلٍ يخالفُ فيه ما نقله غيرُه.
وقد تقدَّمَ الحديثُ عن تفرّدِ الراوي بنقلٍ عن الإمامِ.
يقولُ الشيخُ محمدٌ المطيعي في معرضِ حديثِه عن الرواياتِ الغريبةِ في المذاهبِ: "وأمَّا الرواياتُ الغريبةُ التي يتفردُ بنقلها آحادُ المصنفين مِنْ أهلِ القرونِ المتأخرةِ: فلا يُعتدُّ بها، ولا يعتمدُ عليها، ولا بصاحبِها، لا سيما إذا خالفَ فيما قاله الأصولَ، وباينَ المنقولَ والمعقولَ"
(1)
.
أمثلة ذلك:
المثال الأول: يقولُ بدرُ الدين الزركشي: "المجنونُ ليس بمكلَّفٍ إجماعًا
…
وعن أحمدَ روايةٌ بوجوبِ قضاءِ الصومِ على المجنونِ، نصَّ عليها في روايةِ حنبلٍ، وضعّفها محققو أصحابِه"
(2)
.
المثال الثاني: ذَكَرَ شمسُ الدينِ بنُ القيمِ الأحكامَ المترتبةَ على ملاعنةِ الزوجِ لزوجه، وذَكَرَ أنَّ الفُرْقَةَ بين المتلاعنين تُوجبُ تحريمًا مؤبدًا، ثمَّ قال: "وعنْ أحمدَ روايةٌ أخرى: أنَّه - أي: الزوج - إنْ أكذبَ نفسَه حلَّتْ له، وعادَ فراشُه بحالِه، وهي روايةٌ شاذةٌ! شذ بها حنبلٌ عنه.
قال أبو بكر
(3)
: لا نعلمُ أحدًا رواها غيرُه"
(4)
.
المثال الثالث: يقولُ الحافظ ابنُ رجبٍ: "روى الخضرُ بنُ أحمد الكندي
(5)
عن عبدِ الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه، قال: إذا كان عليه - أيْ: الحاج - تكبيرٌ وتلبيةٌ، بدأَ بالتكبيرِ، ثم بالتلبيةِ.
(1)
رسالة في الكتب التي يعول عليها (ص/ 72).
(2)
البحر المحيط (1/ 349 - 350). وانظر: العدة (1/ 315)، والقواعد لابن اللحام (1/ 46).
(3)
المقصود أبو بكر الخلال.
(4)
زاد المعاد (5/ 392).
(5)
هكذا جاء اسمه في: (فتح الباري) لابن رجب، والذي في كتب الحنابلة: الخضر بن مثنى الكندي، ولعله المقصود؛ لأنه ممن نقل عن عبد الله بن الإمام أحمد، وقصارى ما وقفت =
قال أبو بكرٍ بن جعفر
(1)
: لم يروِها غيرُه.
قلتُ: الخضرُ هذا غيرُ مشهورٍ، وهو يروي عن أحمدَ المناكيرَ التي تخالفُ رواياتِ الثقات عنه"
(2)
.
ثانيًا: أنْ يخالفَ القولُ المنقولُ عن الإمامِ أقوالَه المعروفةَ.
قد يُنقلُ عن إمامِ المذهبِ قولٌ، لكنْ يَرِدُ الشذوذُ إليه مِنْ جهةِ مخالفتِه لما عُرِفَ واشتهر عن الإمامِ مِنْ أقوال تخالفُ ما نُقِلَ عنه، ولذا فلا يُنسبُ ذلك القولُ المنقولُ إلى الإمامِ؛ لشذوذه.
أمثلة ذلك:
المثال الأول: قال عبدُ الله بن أحمد بن حنبل: "سألتُ أبي عمَّنْ ذَبَحَ للزُّهرة؟ قال: لا يعجبني أكلُه. قلتُ لأبي: أحرامٌ أكلُه؟ قال: لا أقولُ: حرام، ولكنْ لا يعجبني"
(3)
.
قالَ الشيخُ عبدُ العزيز بن باز معلِّقًا على هذه الروايةِ: "في صحةِ هذه الروايةِ نظرٌ؛ لأنَّ الذبحَ للكواكبِ - وغيرها من المخلوقات - شركٌ بلا ريب، فلا يليقُ بالإمامِ أحمدَ رحمه الله أنْ يتوقفَ في ذلك"
(4)
.
= عليه من أخباره أنه روى عن عبد الله بن أحمد أشياء، منها: كتاب الرد على الجهمية للإمام أحمد، وقد تكلم فيه ابنُ رجب كما في: الصلب، ونقل ابنُ القيم عن بعض العلماء أنه وصف الخضر بالجهالة، وردَّ ابنُ القيم هذا الوصف؛ لأنَّ الخلالَ عرفه، وروى عنه. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 86)، واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (ص / 209)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 372)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 264)، والدر المنضد له (1/ 171).
(1)
هو: عبد العزيز بن جعفر، أبو بكر غلام الخلال.
(2)
فتح الباري لابن رجب (9/ 23).
(3)
مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (3/ 873 - 874).
(4)
نقل كلامَ سماحة الشيخ ابن بازٍ زهير الشاويش في: تعليقه على مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (ص/ 266)، طبعة المكتب الإسلامي، بواسطة: الملتقط في دفع ما ذكر عن الإمام أحمد لعلي أبو الحسن وزميله (ص/ 156).
وقد نَقَلَ أبو بكرٍ الخلال عدةَ نصوصٍ عن الإمامِ أحمدَ تدلُّ على المنعِ مِن الأكلِ ممَّا ذُبِحَ لغيرِ الله، مِنْ ذلك قولُ الإمامِ أحمد:"كلُّ شيءٍ ذُبِحَ على الأصنامِ لا يُؤْكَلْ"
(1)
.
المثال الثاني: نسبةُ القولِ بجوازِ تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين مطلقًا إلى الإمامِ أحمدَ.
وقد تقدم الحديثُ عنها.
المثال الثالث: يقولُ أبو عبدِ الله المازري: "مَنَعَ الشافعيُّ مِن التيممِ ما لم يخفِ التلفَ، ورُوى ذلك عن ماللغ روايةٌ شاذةٌ
…
"
(2)
.
الشرط الثاني: انتفاءُ العلة عن القولِ المنقولِ.
مِنْ الشروطِ المهمّةِ لثبوتِ النقلِ عن إمامِ المذهب انتفاءُ العلةِ عن القولِ المنقولِ، فإنْ كان خاليًا مِن العلةِ، تحققَ الشرطُ، وإنْ لم يكن خاليًا منها، لم يثْبت النقلُ
(3)
.
ولإعلالِ النقلِ صورٌ متعددةٌ، منها:
أولًا: أنْ يُعل النقلُ بأنَّ إمامَ المذهبِ قد رَجَعَ عن القولِ المنقولِ.
قد يثبتُ قولٌ عن إمامِ المذهبِ، لكنَّه يرجعُ عن قولِه، دون أنْ يَعْلَمَ مَنْ نَسَبَ إليه القولَ - بناءً على النقلِ - رجوعَ الإمامِ عنه، فيُعلّ النقلُ برجوعِ قائله عنه، وهذا الإعلالُ بناءً على أنَّ القولَ المرجوعَ عنه لا يُنسبُ إلى قائلِه.
مثال ذلك: يقولُ الحافظ ابنُ رجبٍ: "مَنْ كان عليه صلاةٌ فائتةٌ، وقد ضاقَ وقتُ الصلاةِ الحاضرةِ عن فعلِ الصلاتين: فأكثر العلماءِ على أنَّه يبدأ
(1)
كتاب أهل الملل والردة من الجامع للخلال (2/ 446).
(2)
شرح التلقين (1/ 278). وللاستزادة من الأمثلة انظر: رياض الأفهام للفاكهاني (1/ 201).
(3)
انظر: رسالة في بيان الكتب التي يعول عليها لمحمد المطيعي (ص/ 75).
بالحاضرةِ فيما بقي مِنْ وقتِها، ثمَّ يقضي الفائتةَ بعدَها .. .
وقالتْ طائفةٌ: بلْ يبدأُ بالفائتةِ، ولا يسقطُ الترتيبُ بذلك
…
وهو روايةٌ عنْ أحمدَ، اختارها: الخلالُ
…
وأنكرَ ثبوتَها القاضي أبو يعلى، وذَكَرَ أنَّ أحمدَ رَجَعَ عنها"
(1)
.
ثانيًا: أنْ يُعلَّ النقلُ بأنَّ ناقلَ كلامِ إمامِ المذهبِ قد خَلَطَ بين كلامِ الإمامِ، وكلامِ غيرِه مِن الأئمةِ.
قد ينقلُ أحدٌ قولَ الإمامِ في واقعةٍ معيَّنةٍ، لكنَّه يخلطُ بين كلامِ إمامِه، وكلامِ غيرِه، فيُعلّ نقلُه مِنْ هذه الجهة، وكذلك الأمرُ فيما لو فهمَ أحدٌ قولًا بناءً على خلطِه بين الكلامين.
ولا يخفى أنَّ إعلالَ النقلِ بخلطِ الناقلِ بين الكلامين مرتقى صعبٌ، لا يقولُه إلا مَنْ خَبَرَ كلامَ إمامِه، أو وَقَفَ على نصِّ الروايةِ التي نُسِبَ القولُ فيها إلى الإمامِ بناءً عليها، فظَهَرَ له خلطُ الكلامين.
مثال ذلك: جاء في: (مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن منصور): "قلت: رجلٌ باع ثوبًا، فجاءَ رجلٌ، فأقامَ البينةَ أنَّه اشتراه بمائةٍ، وأقامَ الآخرُ البينةَ أنَّه اشتراه بمائتين، والبائعُ يقولُ: بعتُه بمائتين، والثوبُ في يدِ البائعِ بعدُ؟ قالَ: المتبايعانِ بالخيارِ، إنْ شاءَ أحدُهما أخذَ النصفَ بمائة، والآخرُ النصفَ بخمسين، وإنْ شاءا رداه
…
قالَ أحمدُ: ليس قولُ البائعِ بشيءٍ، يُقْرَعُ بينهما، فمَنْ أصابتُه القرعةُ، فهو له بالذي ادَّعى أنَّه اشتراه به.
قلت: فإنْ كان الثوبُ في يدِ أحدِهما، ولا يُدري أيّهما اشتراه أول؟ قال: لا ينفعه ما في يديه، إذا كان مقرًا أنَّه اشتراه مِنْ فلانٍ، يُقرَعُ بينهما"
(2)
.
(1)
فتح الباري لابن رجب (5/ 124 - 125).
(2)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه برواية إسحاق بن منصور (6/ 2933 - 2934).
يقولُ الحافظ ابنُ رجبٍ: "والعجبُ أنَّ القاضي
(1)
في: (المجرد) حكى هذا النصَّ عنْ أحمدَ، وذَكَرَ أنَّه أجابَ بقسمةِ الثوبِ بينهما نصفين، ثم تأوّله على أنه كان في أيديهما، وإنَّما أجابَ أحمدُ فيه بالقرعةِ - كما ذكرنا - وإنَّما المجيبُ بالقسمةِ سفيانُ الثوري؛ فإنَّ إسحاقَ بن منصور يذكرُ لأحمدَ أولًا المسألة، وجوابَ سفيانَ فيها، فيجيبه أحمدُ عنها بعد ذلك بالموافقةِ، أو بالمخالفةِ، فرُبَّما يشتبه جوابُ أحمدَ بجواب سفيانَ، وقد وَقَعَ ذلك للقاضي كثيرًا! فليُتَنَبّه لذلك"
(2)
.
ثالثًا: أنْ يُعَلَّ النقلُ بعدمِ فهمِ الناقلِ لمصطلحاتِ إمامِ المذهبِ.
قد يكونُ لإمامِ المذهب اصطلاحٌ في بعضِ الألفاظِ يخالفُه فيه غيرُه، وهذا أمرٌ لا إشكالَ فيه؛ لأنَّهَ لا مشاحةَ في الاصطلاحِ، لكنْ يَرِدُ الخطأ إلى مَنْ ينقلُ عنْ إمامِه قولًا مُنْزِلًا ألفاظَ إمامِه على اصطلاحِ مَنْ بعده.
يقولُ شمسُ الذينِ بنُ القيمِ: "وقد غَلِطَ كثيرٌ مِن المتأخرين مِنْ أتباعِ الأئمةِ على أئمتِهم بسببِ ذلك - أيْ: عدم معرفةِ مرادِهم بالألفاظِ التي يستخدمونها - حيثُ تورّع الأئمة عنْ إطلاقِ لفظِ: التحريمِ، وأطلقوا لفظَ: الكراهةِ، فنفى المتأخرون التحريمَ عمَّا أطلقَ عليه الأئمةُ الكراهةَ، ثم سهلُ عليهم لفظ: الكراهةِ، وخفَّتْ مؤنتُه عليهم، فحَمَلَه بعضُهم على التنزيه
…
فحصلَ بسببِه غلطٌ عظيمٌ على الشريعةِ، وعلى الأئمةِ"
(3)
.
مثال ذلك: جاء في: (مسائل الإمام أحمد برواية إسحاق بن منصور): "قلت: الجمعُ بين الأختين المملوكتين، تقول: إنَّه حرامٌ؟ قال: لا أقول: إنَّه حرامٌ، ولكنْ يُنْهَى عنه"
(4)
.
(1)
هو: القاضي أبو يعلى.
(2)
تقرير القواعد وتحرير الفوائد (3/ 256 - 257).
(3)
إعلام الموقعين (2/ 75).
(4)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية برواية إسحاق بن منصور (4/ 1550 - 1551).
يقولُ ابنُ اللحام: "قال القاضي: ظاهرُ هذا - أيْ: ما جاءَ عن الإمامِ أحمدَ في روايةِ إسحاقَ - أنَّه لا يحرمُ الجمعَ، وإنَّما يُكره.
قالَ أبو العباسِ
(1)
: الإمامُ أحمد لم يقلْ: ليس هذا حرامًا، وإنَّما قال: لا أقولُ: هو حرام، وكانوا يكرهون فيما لم يَرِدْ فيه نصُّ تحريمٍ أنَّ يُقَالَ: هو حرامٌ، ويقولون: يُنهى عنه
…
وهذا الأدبُ في الفتوى مأثورٌ عن جماعةٍ مِن السلفِ؛ وذلك إمَّا لتوقّفٍ في التحريمِ، أو تهيبٍ لهذه الكلمةِ
…
وأَمَّا أنْ يُجْعَلَ عن أحمدَ أنَّه لا يحرم، ابلْ يَكرَه، فهذَا غلطٌ عليه؛ ومأخذه: الغفلةُ عن دلالةِ الألفاظِ، ومراتبِ الكلامِ"
(2)
.
رابعًا: أنْ تُعلَّ نسبةُ القولِ إلى إمامِ المذهبِ بالاشتباه في المرادِ باللفظِ.
قد ينسبُ أحدُ العلماءِ إلى أحدِ الأئمةِ قولًا؛ بناءَ على ما نُقِلَ عنه، لكنْ يشتبه عليه معنى لفظةٍ بمعنى لفظةٍ أخرى، كان يَرِد في كلامِ الإمامِ:"التكبيرُ"، فيحملُه على التكبيرِ في الصلاةِ، ومرادُ الإمامِ به التكبيرُ في أيام العيدِ.
مثال ذلك: قالَ الإمامُ أحمد: "يُروى عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما أنَّه كان لا يُكَبِّر إذا صلَّى وحده
…
وأَحبُّ إلي أنْ يُكَبّر، وأمَّا التطوع فلا"
(3)
.
حَمَلَ الحافظ ابنُ عبدِ البر ما جاءَ عن الإمامِ أحمدَ على التكبيرِ في الصلاةِ - عدا تكبيرة الإحرام - فلا تفسدُ الصلاةُ بتركِ التكبيرِ؛ لأنَّه سنةٌ،
(1)
هو: تقي الدين بن تيمية.
(2)
الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية (ص/ 306).
(3)
مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن منصور (9/ 4806 - 4807). أما قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فجاء عنه ما يدل على عدم التكبير إذا صلى وحده في أثرين:
الأول: أنَّ ابنَ عمر كان إذا صلى وحده في أيام التشريق لم يكبر دبر الصلاة، وأخرجه: الطبراني في: المعجم الكبير (12/ 208)، برقم (13074)، وإسناده صحيح. انظر: التحجيل لعبد العزيز الطريفي (1/ 107).=
ونَسَبَ إلى الإمامِ أحمدَ القولَ باستحبابِ تكبيراتِ الانتقالِ؛ بناءً على النقلِ السابقِ
(1)
.
يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية معلِّقًا على صنيعِ ابن عبد البر: "وغلط ابنُ عبد البر فيما فَهِمَ مِنْ كلامِ أحمد؛ فإن كلامَه إنَّما كان في التكبيرِ دبرَ الصلاةِ أيام العيدِ الأكبر، لم يكن
(2)
التكبير في الصلاةِ، ولهذا فرّق أحمدُ بين الفرضِ والنفلِ
…
ولم يكن أحمدُ ولا غيرُه يفرِّقون في تكبيرِ الصلاةِ بين الفرضِ، والنفلِ"
(3)
.
خامسًا: أنْ يُعَل النقلُ عن إمامِ المذهبِ بتغلطِ الناقلِ عنه، أو بتوهيمه فيه.
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ النقلَ عن إمامِ المذهبِ مِنْ باب الرواية، ويتطرقُ الخطأُ حينئذٍ إلى النقلِ بغلطِ الناقلِ، أو بتوهمه - ولا يُخلّ الغلطُ والوهمُ في ضبطِ الناقل، إذا كان يسيرًا - وكما قلتُ مِنْ قبل: إنَّ إعلالَ النقلِ يحتاج إلى طولِ خبرةِ، ومزيدِ بَصَرِ مِن المُعلِّ بنصوصِ إمامِ المذهبِ.
أمثلة ذلك:
المثال الأول: ما ذكره ابنُ رجبٍ، بقولِه: "نقلَ صالحُ بنُ أحمد عن
= الثاني: أنَّ ابن عمر كان في أيام التشريق إذا لم يصلْ في الجماعة لم يكبر أيام التشريق، وأخرجه: ابن المنذر في: الأوسط (4/ 305)، برقم (2212) بسند فيه: الإمام أحمد بن حنبل؛ والخطيب البغدادي في: تاريخ مدينة السلام (7/ 189).
وانظر قول ابن عمر رضي الله عنهما في: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (3/ 55)، ومسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (2/ 344)، ومسائل الإمام أحمد رواية أبي داود (ص/ 89)، والمغني لابن قدامة (3/ 291)، وفتح الباري لابن رجب (9/ 27).
(1)
انظر: التمهيد (4/ 193 - 194) ضمن موسوعة شروح الموطأ.
(2)
هكذا في المطبوع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 589)، ولعل الصواب إضافة لفظة:"في "بعد قوله: "يكن".
(3)
المصدر السابق.
أبيه في المستحاضة: لا تطوفُ بالبيتِ، إلا أنْ تطولَ بها الاستحاضةُ
(1)
.
قالَ أبو حفصٍ العكبري
(2)
: لعلَّها غلطٌ مِن الراوي؛ فإنَّ الصحيحَ عن أحمدَ أنَّ المستحاضةَ بمنزلةِ الطاهرِ، تطوفُ بالبيتِ، قال في روايةِ الميموني
(3)
: المستحاضةُ أحكامُها أحكامُ الطاهرةِ في عِدَّتِها، وصلاتِها، وحجِّها، وجميعِ أمرها.
ونَقَلَ عنه ابنُ منصور: تطوفُ بالبيتِ
(4)
.
وأمَّا ما وَقَعَ في روايةِ صالحٍ: "أنَّها لا تطوفُ، إلا أنْ تطولَ بها"، فلعله اشتبه على الراوي الطوافُ بالوطءِ؛ فإن ابنَ منصور نَقَلَ عن أحمدَ ذلك في الوطءِ
(5)
، وصالحٌ وابنُ منصورٍ متفقانِ في المسائلِ عن أحمدَ في الغالبِ"
(6)
.
(1)
لم أقف على هذه المسألة في مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح، بعد البحث عنها في مظانها.
(2)
هو: عمر بن إبراهيم بن عبد الله، أبو حفص العكبري، المعروف بابن المسلم، فقيه أصولي، ومعرفته بمذهب الحنابلة معرفة قوية، سمع من أبي علي بن الصواف، وأبي بكر النجاد، وغيرهما، وأكثر من ملازمة ابن بطة، ولأبي حفص اختيارات في بعض المسائل المشكلات، من مؤلفاته: المقنع، وشرح الخرقي، والخلاف بين أحمد ومالك، توفي سنة 387 هـ. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 291)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/ 625)، والوافي بالوفيات للصفدي (23/ 410)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 291)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 305)، والدر المنضد له (1/ 180).
(3)
هو: عبد الملك بن عبد الحميد بن عبد الحميد بن مهران الميموني الرقي، أبو الحسن، أحد كبار تلاميذ الإمام أحمد، كان عالم الرقة ومفتيها في زمانه، جليل القدر، ثقةً حافظًا فقيهًا، وكان الإمام أحمد يكرمه، ويفعل معه ما لا يفعله مع غيره، وكان الميموني كثير الأسئلة للإمام أحمد، توفي سنة 274 هـ وعمره دون المائة. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 92)، وتهذيب الكمال للمزي (18/ 334)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (2/ 303)، وسير أعلام النبلاء (13/ 89)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 142)، والمنهج الأحمد (1/ 269).
(4)
مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية برواية إسحاق بن منصور (3/ 1304 - 1305).
(5)
انظر: المصدر السابق.
(6)
فتح الباري لابن رجب (2/ 80 - 81).
المثال الثاني: جاءَ عن الإمامِ أحمد بن حنبل في رواية مُهنّا
(1)
أنَّ المرأةَ لا تنقضُ شعرَها إذا اغتسلتْ مِن الجنابة، وأنَّ المرأةَ تنقضُه إذا اغتسلتْ مِن الحيضِ؛ لحديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنها
(2)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (تنقضه)
(3)
.
يقولُ الحافظ ابنُ رجب معلِّقًا على جعل الدليلِ على نقضِ شعرِ المرأةِ لغسلِها مِن الحيضِ حديثَ أسماء: "فهذا لعَلّه وهمٌ مِنْ مُهنّا، أو ممَّنْ روى عنه؛ ولا يُعرفُ لأسماء بنت أبي بكر في هذا البابِ حديثٌ بالكلية؛
(1)
هو: مهنا بن يحيى السلمي، أبو عبد الله الشامي، من أكبر أصحاب الإمام أحمد، وأكثرهم ملازمةً له، وقد لازم الإمام أحمد إلى وفاته، قال عن نفسه:"لزمت أبا عبد الله ثلاثًا وأربعين سنةً"، وقد رحل معه إلى عبد الرزاق الصنعاني، وكان يلح على الإمام أحمد في أسئلته حتى يضجره، ويستجرئ عليه ما لم يستجرئ عليه أحد غيره، وكان الإمام أحمد يحتمله، يقول مهنا:"صحبتُ أبا عبد الله، فتعلمت منه العلم والأدب"، من مؤلفاته: مسائل الإمام أحمد.
انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (15/ 358)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 432)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص / 142)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (3/ 43)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 162).
(2)
انظر ما جاء عن الإمام أحمد برواية مهنا في: المغني لابن قدامة (1/ 298)، وشرح العمدة لابن تيمية، كتاب الطهارة، (ص/ 373)، وفتح الباري لابن رجب (2/ 109)، ومسائل الإمام أحمد بن حنبل الفقهية رواية مهنا لإسماعيل مرحبا (1/ 118 - 119).
وأسماء بنت أبي بكر هي: أسماء بنت أبي بكر الصديق، أم عبد الله القرشية التيمية المكية، ثم المدنية، كانت أسن من عائشة رضي الله عنها ببضع عشرة سنة، وهي زوج الزبير بن العوام، وأم عبد الله بن الزبير، أسلمت في بدء أمر الإسلام، وكانت تلقب بذات النطاقين، توفيت رضي الله عنها بمكة سنة 73 هـ وكانت آخر المهاجرات وفاة، وقد عُمّرت دهرًا. انظر ترجمتها في: الطبقات الكبرى لابن سعد (8/ 196)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 55)، والاسيعاب لابن عبد البر (ص/ 871)، وأسد الغابة لابن الأثير (6/ 9)، وسير أعلام النبلاء (2/ 287)، والإصابة لابن حجر (8/ 7).
(3)
لفظ حديث أسماء رضي الله عنها في غسل دم الحيض من الثوب الذي أشار إليه ابن رجب - في كلامه الآتي في الصلب -: أنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إحدانا يصيب ثوبَها من دم الحيضة، كيف تصنع به؟ قال:(تحتّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه)، وأخرجه: البخاري في: صحيحه، كتاب: الوضوء، باب: غسل الدم (ص/ 66)، برقم (227)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: الطهارة، باب: نجاسة الدم وكيفية غسله (1/ 147)، برقم (291).
إنَّما حديثُها في غَسلِ دم الحيض مِن الثوبِ"
(1)
.
المثال الثالث: يقول ابنُ رجب: "وقد أجمعت الأمةُ على صحةِ الصفِّ المستطيلِ مع البُعْدِ عن الكعبةِ، وكلّما كَثُرَ البُعْدُ قلَّ التقوسُ
…
ومَنْ حكى عن الإمامِ أحمدَ روايةً بوجوب التقوسِ لطرفي الصفِّ الطويلِ، فقد أخطأَ، وقال عليه ما لم يقلْه، بلْ لوَ سمعه لبادرَ إلى إنكارِه"
(2)
.
سادسًا: أنْ يُعلَّ النقلُ عن إمايم المذهبِ بغرابتِه، أو بُعْدِ ثبوتِه.
قد ينقلُ ناقلٌ عن إمامِ المذهب قولًا، ولا يتطرقُ القدحُ إلى الناقلِ، لكنْ يَبْعُدُ أنْ يقولَ الإمامُ بما نُسِبَ إَليه؛ وذلك إمَّا لغرابةِ القولِ المنقولِ، وإمَّا لغيره من الأسبابِ التي يَبْعُدُ معها نسبةُ النقلِ إلى إمامِ المذهبِ.
مثال ذلك:
المثال الأول: يقولُ ابنُ رجبٍ: "إنْ كان المصلي قد ابتدأَ بالتطوعِ قبلَ الإقامةِ، ثمَّ أقيمت الصلاة؟ ففيه قولان: أحدهما: أنه يتمُّ
…
والثاني: يقطعها
…
وحُكِيَ روايةٌ عنْ أحمدَ - حكاها أبو حفصٍ - وهي غريبةٌ"
(3)
.
(1)
فتح الباري لابن رجب (2/ 109). وهنا فائدة: وهي: أنَّ تقيَّ الدين بن تيمية في: شرح العمدة، كتاب الطهارة (ص/ 374) وجّه الاستدلال بحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها على نقض الشعر بأنه وَرَدَ في حديث أسماء ذكرُ السدر، والسدر إنما يستعمل مع نقض الشعر.
ولفظ حديث أسماء: عن عائشة رضي الله عنها أنَّ أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض؟ فقال: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها، فتطهّر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء
…
) الحديث، وأخرجه: مسلم في: صحيحه، كتاب: الحيض، باب: استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم (1/ 161)، برقم (332).
وأصل الحديث في: صحيح البخاري، كتاب: الحيض، باب: دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من الحيض (ص/ 82)، برقم (314)، ولم يذكر فيه بدء الحديث، ولا اسم السائله.
(2)
فتح الباري لابن رجب (3/ 68). وانظر مثالًا آخر في تغليط الناقل في: الطرق الحكمية لابن القيم (1/ 472 وما بعدها).
(3)
المصدر السابق (6/ 62).
المثال الثاني: يقولُ ابنُ رجبٍ - أيضًا -: "فأمَّا الصلاةُ في غيرِ موضعِ صلاةِ العيدِ، كالصلاةِ في البيتَ أو في المسجدِ إذا صليت العيد في المصلى: فقال أكثرُهم: لا تكره الصلاةُ فيه قبلها ولا بعدها
…
وقالتْ طائفةٌ: لا صلاةَ يومَ العيدِ حتى تزولَ الشمسُ
…
واختار هذا القولَ أبو بكرٍ الآجري
(1)
، وأنَّه تُكره الصلاةُ يومَ العيدِ حتى تزول الشمسُ، وحكاه عن أحمدَ، وحكايتُه عن أحمدَ غريبةٌ"
(2)
.
سابعًا: أنْ يُعلَّ النقلُ بأنَّ إمامَ المذهبِ قد صرَّح بعدمِ الأخذِ به.
قد يُنْسَبُ قولٌ ما إلى إمامِ المذهب، ويكون ذلك أثناء حياتِه، ثمَّ يُصرِّح الإمامُ نفسُه بأنَّه لم يذهبْ إليه، فحينئذٍ لا يُنسبُ القول إليه؛ لتصريحِه بعدمِ الأخذِ به.
مثال ذلك: سأل صالحٌ الإمامَ أحمدَ بن حنبل عن الرجلِ يأتي امرأتَه فيما دونَ الفرجِ، هل يجبُ عليه الغُسْلُ؟ قال: لا، إلا أنْ يُنزلَ، فإذا التقى الختانان وَجَبَ الغُسل، إذا توارت الحشفةُ. قلت: وكنتَ تذهب
(3)
إلى أنَّ الماءَ من الماءِ؟ قال: لا، مَنْ يكذب عليّ في هذا أكثرُ مِنْ ذلك
(4)
.
(1)
هو: محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي، أبو بكر الآجُرِّي، ولد ببغداد كان إمامًا محدثًا فقيهًا قدوةً ثقةً صدوقًا خيِّرًا عابدًا، صاحب سُنة واتِّباع، وكان شيخ الحرم الشريف، كانت بينه وبين ابن بطة مكاتبات، وقد اختلف في مذهبه الفقهي: فقال تقي الدين بن تيمية: إنه مالكي المذهب، وقال العليمي الحنبلي عنه:"من أكابر الأصحاب"، وقد ذكر ابن خلكان أنه كان شافعي المذهب، وذكره تاج الدين السبكي، وجمال الدين الإسنوي في طبقات الشافعية، وقد صنَّف في الفقه والحديث كثيرًا، من مؤلفاته: الشريعة، وأخلاق العلماء، والرؤية، وصفة الغرباء من المؤمنين، والأربعين حديثًا، توفي بمكة سنة 360 هـ وكان عمره ثمانين سنة. انظر ترجمته في: وفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 292)، وسير أعلام النبلاء (16/ 133)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (3/ 936)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (3/ 149)، وطبقات الشافعبة للأسنوي (1/ 79)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 389)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 270)، وشذرات الذهب لابن العماد (4/ 316).
(2)
فتح الباري لابن رجب (9/ 93 - 94).
(3)
تصحفت في المطبوع من: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (1/ 130) إلى: "تهذب".
(4)
المصدر السابق (1/ 130 - 131).
الطريق الثالث: ما دوّنه أربابُ المذهبِ في مؤلفاتِهم الأصولية والفقهية.
اهتمَّ أتباعُ المذاهبِ بالتأليفِ في فقهِ إمامِهم وأصولِه، وكثرتْ مؤلفاتُهم في هذا البابِ، فتجدُ في كلِّ مذهبٍ العددَ الكبيرَ مِن المؤلفاتِ الأصوليةِ والفقهيةِ، وتجدُ التفاوت فيما بينها في حُسنِ العرضِ، والاهتمامِ بالدليلِ، وتحريرِ القولِ.
لكنْ هلْ يُنسب كلُّ ما في هذه المدوّناتِ إلى إمامِ المذهبِ؟ وهلْ كلُّ ما فيها تصحُّ نسبتُه إلى المذهبِ؟
يقولُ شمسُ الدين بنُ القيّمِ متحدثًا عن واقعِ كتب المذاهب الفقهيةِ: "والمتأخرون يتصرّفون في نصوصِ الأئمةِ، وَيبْنُوْنَها علىَ ما لم يكن لأصحابِها ببالٍ، ولا جَرَى لهم في مقالٍ، ويتناقله بعضُهم عن بعضٍ، ثم يلزمهم مِنْ طردِه لوازمُ لا يقولُ بها الأئمةُ، فمِنْهم مَنْ يطردها، ويلتزم القولَ بها، ويضيفُ ذلك إلى الأئمةِ، وهم لا يقولون به! فيروجُ بين الناسِ؛ بجاهِ الأئمةِ، ويُفْتَى به، ويُحكمُ به، والإمامُ لم يقلْه قط، بلْ يكون نصَّ على خلافِه! "
(1)
.
ويقولُ أيضًا: "ولا يحلُّ أنْ يَنْسبَ إليه - أيْ: إلى إمامِه - القولَ، ويطلقَ عليه أنَّه قولٌ بمجرّدِ ما يراه في بعضِ الكتب التي حَفِظَها أو طالعها مِنْ كتب المنتسبين إليه، فإنَّه قد اختلطتْ أقوالُ الأئمةِ وفتاويهم بأقوالِ المنتسبيَن إليهم واختياراتهم، فليس كلُّ ما في كتبِهم منصوصًا عن الأئمةِ، بلْ كثيرٌ منه يخالفُ نصوصَهم!
…
فلا يحلُّ لأحدٍ أنْ يقولَ: هذا قولُ فلانٍ ومذهبُه، إلا أنْ يعلمَ يقينًا أنه قولُه ومذهبُه"
(2)
.
وقبلَ بيانِ أحوالِ ما يورده أربابُ المذاهب في مؤلفاتِهم، أُحِبُّ أنْ أبيّنَ أنَّ للتأليف في المذهبِ أساليبَ متعددة، مِنَ ذلك:
(1)
الطرق الحكمية (2/ 608 - 609).
(2)
إعلام الموقعين (6/ 73 - 74)، وانظر منه:(6/ 101).
أولًا: مؤلفاتٌ كُتبتْ على قولٍ واحدٍ - في الجملة - دونَ إشارةٍ إلى بقيةِ الأقوالِ في المسألةِ، وقد يستدلُّ مصنفو هذه الكتبِ لمذهبِهم، وقد يغفلون ذكرَ الدليلِ.
ثانيًا: مؤلفاتٌ تعرِضُ أقوالًا متعددةً في المسألةِ الواحدةِ، إنْ كانتْ محلَّ خلافٍ، وهي على نوعين:
النوع الأول: مؤلفاتٌ تَعْرِضُ الخلافَ في ضوءِ المذهبِ فحسب، دونَ ذكرِ المخالفين مِن أربابِ المذاهب الأخرى.
النوع الثاني: مؤلفاتٌ تَعرِضُ خلافَ المذهب مع غيرِه مِن المذاهب، والغالبُ في هذا النوع عرضُ المسألةِ مقرونةً بأدلتِهَا.
ويمكنُ تقسيمُ ما يورده أربابُ المذاهب مِن الأقوالِ المنسوبةِ إلى المذهبِ إلى خمسةِ أقسام:
القسم الأول: ما تصحُّ نسبتُه إلى إمامِ المذهبِ.
القسم الثاني: ما لا تصحُّ نسبتُه إلى إمامِ المذهبِ، وقد نُفيت النسبةُ عنه.
القسم الثالث: ما لا تصحُّ نسبتُه إلى إمامِ المذهبِ، وقد نُسِبَ إليه.
القسم الرابع: ما خرّجه أتباعُ المذهبِ على فروعِ إمامِهم، أو أصولِه.
القسم الخامس: ما زاده أتباعُ المذهبِ على مذهبِ إمامِهم فقهًا منهم، وهذا القسم على نوعين:
النوع الأول: أنْ تتفقَ الزيادةُ مع أصولِ المذهبِ وقواعدِه، وهذا النوعُ على صورتين:
الصورة الأولى: أن يَنْسِبَ القولَ الذي زاده أتباع المذهب إلى إمامِ المذهبِ.
الصورة الثانية: أنْ لا ينسبَ القولَ الذي زاده أتباع المذهب إلى إمامِ المذهبِ، بلْ ينسبُه إلى المذهب.
النوع الثاني: أنْ لا تتفقَ الزيادةُ مع أصولِ المذهبِ وقواعده
(1)
.
ومحلُّ الإشكالِ مِن الأقسامِ السابقةِ: القسمُ الثالثُ، والنوعُ الثاني مِن القسمِ الخامسِ.
فإذا أرادَ أحد أنْ ينقلَ مذهبَ إمامٍ مِن الأئمةِ اعتمادًا على الكتبِ المؤلَّفةِ في مذهبِه، فما الذي يُشترطُ في هذا المقامِ؟
لا يخلو الأمرُ مِنْ حالتين:
الحالة الأولى: أنْ ينقلَ قولَ إمامِ المذهبِ اعتمادًا على الكتبِ المؤلفةِ في المذهبِ.
الحالة الثانية: أنْ ينقلَ المذهبَ اعتمادًا على الكتبِ المولّفةِ في المذهبِ.
الحالة الأولى: أنْ ينقلَ قولَ إمامِ المذهبِ اعتمادًا على الكتبِ المؤلّفةِ في المذهبِ.
إذا أرادَ شخصٌ ما أنْ ينقلَ قولَ إمامِ المذهبِ اعتمادًا على الكتبِ المؤلفةِ مِنْ قِبَلِ أربابِ المذهبِ، فيُشترطُ الآتي:
الشرط الأول: صحةُ نسبةِ الكتابِ إلى مؤلِّفِه
(2)
.
يتعيّنُ على مَنْ أرادَ الأخذَ مِنْ كتابٍ معيَّنٍ أنْ يكونَ الكتابُ صحيحَ النسبةِ إلى مؤلّفِه؛ لئلا يأخذَ شيئًا معتمدًا على ما لمؤلفِه مِنْ مكانةٍ، والحالُ أنَّ الكتابَ ليس مِنْ تأليفِه.
مثال ذلك: كتاب: (المخارج والحيل)، نُسِبَ إلى القاضي أبي يوسفَ، والذي بيّنه علماءُ الحنفيةِ أنَّ الكتابَ منحولٌ، لا تصحُّ نسبتُه
(1)
انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 75).
(2)
انظر: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 115)، وصفة الفتوى (ص/ 36)، والاختلاف الفقهي في المذهب المالكي لعبد العزيز الخليفي (ص/ 221).
إليه
(1)
.
وليس معنى هذا الشرط أنْ لا يأخذَ معلومةً مِنْ كتابٍ حتى يقطعَ بنسبتِه إلى مؤلفِه، بل المقصودُ أنْ يتثبّتَ مِنْ نسبةِ الكتاب إلى مؤلفِه، إنْ كانَ ثمة إشكالٌ في صحةِ النسبةِ، أمَّا الكتب المشهورةُ، فلا تحتاجُ إلى تأكّدٍ وتثبّتٍ؛ لاستفاضةِ نسبتِها إلى مؤلفيها.
يقولُ العزُّ بن عبد السلام: "أمَّا الاعتمادُ على كتبِ الفقهِ الصحيحةِ الموثوقِ بها، فقد اتفق العلماءُ في هذا العصرِ على جوازِ الاعتمادِ عليها، والاستنادِ إليها؛ لأنَّ الثقةَ قد حصلتْ بها، كما تحصلُ بالروايةِ، ولذلك اعتمدَ الناسُ على الكتبِ المشهورةِ في النحوِ واللغةِ والطبِّ وسائرِ العلومِ؛ لحصولِ الثقةِ بها، وبُعدِ التدليسِ"
(2)
.
ولا يحتاجُ الناقلُ مِنْ كتابٍ أنْ يكونَ متصلَ الإسنادِ إلى مؤلفه، كما تقدم.
وقد تقدَّمتْ حكايةُ الأستاذِ أبي إسحاقَ الإسفراييني الإجماعَ على جوازِ النقلِ مِن الكتبِ، وأنَّه لا يشترطُ اتصالُ السندِ إلى مؤلفيها.
الشرط الثاني: سلامةُ الكتابِ مِن التحريفِ والتصحيفِ
(3)
.
لا بُدَّ أنْ يكونَ الكتابُ سالمًا مِن التحريفِ والتصحيفِ؛ ليأمن مِن الوقوعِ في الخطأِ؛ إذ النسخةُ التي يكثرُ فيها التحريفُ تكون محلًا للخلطِ في نسبةِ القولِ، وعدمِ فهمِ المرادِ على الوجهِ الصحيحِ، ويمكنُ التأكّدُ مِنْ سلامةِ الكتابِ بالرجوعِ إلى الكتبِ الأخرى في المذهبِ، ولا سيما الكتبُ المهتمة بتحريرِ أقوالِ المذهبِ.
(1)
انظر: أصول الإفتاء للعثماني (ص/ 370) مع شرحه المصباح في رسم المفتي.
(2)
نقل كلامَ العز بن عبد السلام ابنُ فرحون في: تبصرة الحكام (1/ 81)، والسيوطيُ في: الأشباه والنظائر (2/ 584)، والونشريسيُّ في: المعيار المعرب (10/ 42).
(3)
انظر: نفائس الأصول (9/ 4111)، وسلم الوصول لمحمد المطيعي (4/ 26)، والمدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 123).
مثال ذلك: يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "السنةُ أنْ يرميَها - أيْ: جمرة العقبة - مِنْ بطنِ الوادي
…
هذا هو المذهبُ المعروفُ المنصوصُ
…
وقال حربٌ
(1)
: سألتُ أحمدَ، قلتُ: فإنْ رمى الجمرةَ مِنْ فوقِها؟ قال: لا، ولكنْ يرميها مِنْ بطنِ الوادي
…
وذَكَرَ القاضي عن حربٍ عن أحمدَ: لا يرمي الجمرةَ مِنْ بطنِ الوادي، ولا يرمي مِنْ فوقِ الجمرةِ.
وهذا غلطٌ على المذهبِ؛ منشاه الغلطُ في نقلِ الروايةِ
…
ولعل سببَه أنَّ النسخةَ التي نَقَلَ منها روايةَ حربٍ كان فيها غلطٌ، فإني نقلتُ روايةَ حربٍ مِنْ أصلٍ متقنٍ قديمٍ مِنْ أصحِّ الأصولِ"
(2)
.
الشرط الثالث: معرفةُ اصطلاحِ المؤلِّفِ في كتابِه، إنْ كان له اصطلاحٌ.
مِن المؤلفين مَنْ له اصطلاحٌ خاصٌ به - والغالب أنَّه سيوضحه في مقدمةِ كتابِه - قد يغايرُ فيه غيرَه مِن المؤلفين، وإذا كان الأمرُ كذلك، فلا بُدَّ مِنْ معرفةِ اصطلاحِ المؤلِّف؛ ليأمنَ الناظرُ فيه مِن الوقوعِ في الغلطِ في نسبةِ القولِ، وليتحققَ له فهمُ مرادِ المؤلِّفِ على الوجهِ الصحيحِ.
الشرط الرابع: معرفةُ اصطلاحاتِ المذهبِ في نقلِ مذهبِهم.
تختلفُ اصطلاحاتُ المذاهب في تحديدِ المرادِ في بعضِ المصطلحات، ولذا كان مِن اللازمِ علىَ الناظرِ في كتبِ المذهبِ، إنْ أرادَ
(1)
هو: حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني، أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، كان رجلًا جليل القدر، فقيهًا حافظًا، علامةً، ابتدأ حياته سالكًا مسلك المتزهدين في عصره، ولذا تأخر في لقاء الإمام أحمد، فلم يلقه إلا في سن متقدمة، وقد نقل حربٌ عن الإمام أحمد فقهًا كثيرًا، من مؤلفاته: كتاب مسائل الإمام أحمد، قال عنه شمس الدين الذهبي:"من أنفس كتب الحنابلة، وهو كبير في مجلدين"، توفي سنة 280 هـ وقد عُمّر وقارب التسعين. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 388)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (2/ 313)، وسير أعلام النبلاء (13/ 244)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 354)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 95).
(2)
شرح العمدة، كتاب الحج (2/ 530 - 531).
أنْ ينسبَ قولًا إلى إمامِ المذهبِ أنْ يعرفَ اصطلاحَهم؛ ليأمنَ الوقوع في الخطأِ.
وبمعرفةِ اصطلاحِ المذهبِ يحصلُ للناظرِ في الكتب المذهبيةِ التفريقُ بين ما في كتب المذهب مرويًا عن الإمامِ، وما كان مخرَّجًا مِنْ قِبَلِ أربابِ المذهبِ على قولِه أو أصَلِه، وما كان فقهًا لأربابِ المذهبِ مِنْ غيرِ التزامٍ بقواعدِ المذهب
(1)
، فإذا قال المؤلفُ مثلًا: هذا القولُ روايةٌ مخرّجةٌ أو وجهٌ أو احتمالَ، ولم يكنْ للناظرِ بَصَرٌ بالاصطلاحِ: غَلِطَ، ونَسَبَ ما نفاه المؤلّفُ بالاصطلاحِ إلى إمامِ المذهبِ.
الشرط الخامس: الأخذُ مِن الكتبِ المعتمدةِ في المذهبِ، وتركِ الكتبِ المنتَقَدةِ والغريبةِ وغيرِ المحررةِ.
تتفاوتُ الكتبُ المؤلفةُ في المذاهب مِنْ حيثُ الاعتمادُ عليها، فهناك كتبٌ معتمدةٌ؛ لأنَّ الغالبَ فيها الصحةُ، وهناك كتبٌ مُنْتَقَدَةٌ؛ لأنَّ الغالبَ فيها مجافاةُ الصوابِ، ثمَّ هناك كتبٌ غريبةٌ، غيرُ معروفةٍ عند علماءِ المذهب، فعلى الناظرِ في كتب المذهبِ الاتجاه صوْب الكتبِ المعتمدةِ، وترك الَكتبِ المُنْتَقَدَةِ والغريبةِ
(2)
.
يقولُ شهابُ الدينِ القرافيُّ: "ينبغي أنْ يُحذَّرَ ممَّا وَقَعَ في زمانِنا مْنِ تساهلِ بعضِ الفقهاءِ بالفتوى مِن الكتب الغريبةِ التي ليس فيها روايةُ المفتي عن المجتهدِ بالسندِ الصحيحِ، ولا قَامَ مقام ذلك شهرةٌ عظيمةٌ تمنعُ مِن التصحيفِ والتحريفِ؛ بسببِ الشهرةِ"
(3)
.
وقد مثلَ القرافيُّ للكتبِ التي لا يُوْثَقُ بها بكتبِ الحواشي
(4)
.
(1)
انظر: المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 118).
(2)
انظر: شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 45 - 46)، ورسالة في بيان الكتب التي يعول عليها لمحمد المطيعي (ص/ 60)، وأصول الإفتاء للعثماني (ص/ 357 وما بعدها) مع شرحه المصباح في رسم المفتي.
(3)
نفائس الأصول (9/ 4111). وانظر: المعيار المعرب للونشريسي (2/ 479).
(4)
انظر: الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام (ص/ 244 - 245).
وعلَّقَ القاضي ابنُ فرحون
(1)
على هذا قائلًا: "ومراده - أيْ: القرافي - إنْ كانت الحواشي غريبةَ النقلِ، وأمَّا إذا كان ما فيها موجودًا في الأمهاتِ، أو منسوبًا إلى محلِّه، وهي بخطٍ يُوْثَقُ به، فلا
(2)
فرقَ بينها، وبين سائرِ التصانيف، ولم تَزَلِ العلماءُ وأئمةُ المذهب ينقلون ما على حواشي كتبِ الأئمةِ الموثوقِ بعلمِهم، المعروفة خطوطهمَ
…
وأمَّا حيثُ يجهلُ الكاتبَ، ويكونُ النقلُ غريبًا، فلا شكَّ فيما قاله القرافيُّ، رحمه الله تعالى"
(3)
.
وإذا كانَ الكتابُ المذهبيُّ يُورِدُ الرواياتِ والأقوالَ الضعيفة، ولا يميّزُ بينها، وبين الأقوالِ المعتمدةِ، فلا يجوزُ الاعتمادُ على نقلِه، إذا لم تكنْ لدى الناظرِ فيه أهليةُ معرفةِ القولِ الضعيفِ
(4)
.
والتعويلُ في معرفةِ الكتبِ المعتمدةِ مِنْ غيرِها على ما قاله محققو المذهبِ نفسِه
(5)
.
الشرط السادس: أنْ لا يخالفَ القولُ المذكورُ في الكتابِ نصوصَ الإمامِ، وأصولَه.
(1)
هو: إبراهيم بن علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون اليعمري المدني، أبو الوفاء برهان الدين، ولد بالمدينة، ونشأ بها، كان إمامًا فقيهًا مالكيًا أصوليًا محققًا، ونحويًا بارعًا، جامعًا للفضائل، فريد وقته، واسع العلم، فصيح القلم، ذا معرفة بالوثائق والرجال وطبقاتهم، تولى القضاء بالمدينة، وأظهر مذهب الإمام مالك بعد خموله، من مؤلفاته: تبصرة الحكام في الأقضية ومناهج الأحكام، والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، وكشف النقاب الحاجب عن مصطلح ابن الحاجب، توفي سنة 799 هـ وعمره نحو من سبعين عامًا. انظر ترجمته في: الدرر الكامنة لابن حجر (1/ 48)، وإنباء الغمر له (3/ 338)، وشذرات الذهب لابن العماد (8/ 658)، ودرة الحجال لابن القاضي (1/ 182)، ونيل الابتهاج للتنبكتي (ص/ 33)، وشجرة النور الزكية لمخلوت (1/ 222).
(2)
في المطبوع من تبصرة الحكام (1/ 82): "فلان"، وهو تحريف ظاهر.
(3)
المصدر السابق. وانظر: الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (2/ 91).
(4)
انظر: شرح عقود رسم المفتي لابن عابدين (ص/ 46)، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص/ 446)، وأصول الإفتاء للعثماني (ص/ 364 وما بعدها) مع شرحه المصباح في رسم المفتي.
(5)
انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص/ 446).
قد يوجدُ في بعضِ الكتبِ المذهبيةِ - ولا سيما الكتب المذهبية المتأخرة - أقوالٌ منسوبةٌ إلى إمامِ المذهب، ويقفُ الناظرُ على نصٍّ للإمامِ يخالفُ هذه النسبةَ، أو يعرفُ الناظرُ أنَّ أَصولَ الإمام تَرُدُّ القولَ المنسوبَ إليه.
لا يخلو ما يجدُه الناظرُ في كتبِ المذهبِ مخالفًا لمنصوصِ الإمامِ مِنْ ثلاثِ حالات:
الحالة الأولى: أنْ يكونَ القولُ المنسوبُ إلى الإمام منصوصًا عنه، وليس مخرَّجًا.
فهنا يقعُ التعارضُ بين قولي الإمام، وسيأتي في مطلبٍ مستقلٍّ الحديثُ عن هذه المسألة.
الحالة الثانية: أنْ يكونَ القولُ المنسوبُ إلى الإمامِ قولًا مخرّجًا على نصِّه.
فالتعويلُ على ما نصَّ عليه، ويبقى النظرُ في القولِ المخرّج، أخرّج بطريقٍ صحيحٍ، أم لا؟
فإن كانْ التخريجُ بطريقِ صحيحٍ بحيثُ يقوى على معارضةِ ما نصَّ عليه، كأنْ يكونَ في معنى ما نصَّ عليه، أو دلَّ عليه بمفهومِ الموافقةِ: وَقَعَ التعارضُ بين قولي الإمامِ، وسيأتي في مطلبٍ مستقلٍّ بحثُ هذه المسألةِ.
وإنْ كان التخريجُ بطريقٍ غيرِ صحيحِ، أو بطريقٍ صحيحٍ، لكن مِنْ شرطِ التخريجِ أنْ لا يخالفَ ما نصَّ عليه: لم تصحَّ نسبةُ القولِ المخرجِّ إلى الإمامِ، والتعويلُ في هذه الحالةِ على ما نصَّ عليه.
الحالة الثالثة: أنْ يكونَ القولُ المنسوبُ إلى الإمامِ غيرَ محدد المصدرِ، كأنْ يقولَ: وعن الإمام: كذا، أو: في روايةٍ عنه، ونحو ذلك من الألفاظ.
في هذه الحالة لا تصحُّ نسبةُ القولِ إلى إمامِ المذهبِ اعتمادًا على ما في الكتابِ، وعلى الناظرِ أنْ يحققَ قولَ الإمامِ بمراجعةِ مؤلفاتِه، وما يُقرره محققو مذهبِه.
يقولُ الشيخُ محمدٌ أبو زهرة حين تحدّثَ عن التخريجِ في المذهبِ الشافعي: "الآراء التي تعدُّ خارجة عن المذهبِ - وهي التي يكون المخرَّجُ قد خالفَ فيها نصًّا للشافعي حَكَمَ به في واقعةٍ مِن الوقائعِ، أو خالفَ فيها قاعدةً مِن القواعدِ الأصوليةِ - فإنَّ هذه لا تحتسبُ مِنْ مذهبِ الشافعي؛ لمخالفتِها رأيه، أو لمنافاتِها في الاجتهادِ و
(1)
لأصلِه؛ إذ لا يُنسبُ إلى مذهب الشافعي ما يكون ضدَّ رأيه، ولا يُعدُّ مِنْ مذهبِه ما جَرَى على غيرِ أصولِهَ، وخُرَّجَ على غيرِ قواعدِه"
(2)
.
أمثلة ذلك:
المثال الأول: يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "إنَّ المتأخرين أحدثوا حِيَلًا لم يصحَّ القولُ بها عن أحدٍ مِن الأئمةِ، ونسبوها إلى مذهبِ الشافعي وغيرِه، وهم مخطئون في نسبتِها إليه - على الوجهِ الذي يدّعونه - خطأ بيّنًا؛ يَعْرِفُه مَنْ عَرَفَ نصوصَ كلامِ الشافعي
…
بلْ هو يكرهها، وينهى عنها
…
وكثيرٌ مِن الحيلِ، أو أكثر الحيلِ المضافة إلى مذهبِه مِنْ تصرفاتِ بعضِ المتأخرين مِنْ أصحابِه"
(3)
.
المثال الثاني: يقولُ المرداويُّ: "لا يُستحبُ تمسحُه بقبرِه - عليه أفضلُ الصلاةِ والسلامِ - على الصحيح من المذهب.
قال في: (المستوعب)
(4)
: بلْ يُكْرَه؛ قال الإمامُ أحمدُ: أهلُ العلمِ كانوا لا يمسّونَه.
نقلَ أبو الحارثِ: يدنو منه، ولا يتمسح به، بلْ يقومُ حذاءه، فيُسَلّمُ.
(1)
لعل الأقرب حذف الواو.
(2)
الشافعي - حياته وعصره (ص/ 321).
(3)
بيان الدليل (ص/ 161).
(4)
انظر: (4/ 274).
وعنه: يتمسح به! "
(1)
.
المثال الثالث: سُئِلَ تقيُّ الدين بنِ تيمية عن الدعاءِ عقيب الصلاةِ، أهو سنةٌ، أم لا؟ فأجابَ: "الحمدُ لله، لم يكن النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعو هو والمأمومون عقيب الصلوات الخمس
…
ومَنْ نَقَلَ عن الشافعي أنَّه استحب ذلك فقد غَلِطَ عليه، ولفظُه الموجودُ في كتبِه ينافي ذلك"
(2)
.
الشرط السابع: التثبّتُ مِنْ صحةِ التخريجِ إنْ كانَ القولُ المنسوبُ إلى الإمامِ قولًا مخرَّجًا، إنْ أمكنَ ذلك.
يُوجدُ في مدوّناتِ المذاهبِ أقوالٌ مخرجةٌ لأئمتِهم، وفي بعضِها تصريحٌ بطريقِ التخريجِ؛ وهذا التصريحُ يعطي الناظرَ في القولِ المخرّجِ إمكانيةِ التثبتِ مِنْ صحةِ التخريجِ، ومِنْ صحةِ طريقِه.
فإنْ لم يتمكنْ مِنْ ذلك، نَسَبَ القولَ إلى الإمام كما في وَرَدَ في الكتابِ، محيلًا عليه؛ ليبرأَ مِنْ العهدةِ.
الشرط الثامن: خلوُّ القولِ المنسوبِ إلى إمامِ المذهبِ مِنْ العلةِ القادحةِ.
لا شكَّ في أنَّ لعلماءِ المذهبِ جهودًا في تحقيقِ أقوالِ إمامِهم، وتمييز ما تصحّ نسبته إليه ممَّا لا تصح، لكنْ قد يُوجد في بعضِ الكتبِ نسبةُ قولٍ إلى إمامِ المذهبِ، وتكونُ فيها غرابةٌ، فحينئذٍ لا ينسبُ القول إلى الإمامِ.
مثال ذلك: يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "هذه الحيلُ التي هي محرّمةٌ في نفسِها، لا يجوز أنْ تُنسبَ إلى إمامٍ أنَّه أَمَرَ بها، فإنَّ ذلك قدحٌ في إمامتِه، وذلك قدحٌ في الأُمّةِ؛ حيثُ ائتموا بمَنْ لا يصلحُ للإمامةِ، وفي
(1)
الإنصاف (4/ 53).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 512).
ذلك نسبةٌ لبعضِ الأئمةِ إلى تكفيرٍ أو تفسيقٍ! وهذا غيرُ جائزٍ، ولو فُرِضَ أنَّه حُكِيَ عن واحدٍ منهم الأمرُ ببعضِ هذه الحيلِ المجمع على تحريمِها:
فإمّا أنْ تكونَ هذه الحكايةُ باطلةً، أو يكونَ الحاكي لم يضبط الأمرَ، فاشتبه عليه إنفاذُها بإباحتِها
…
وإنْ لم يُحْمل الأمرُ على ذلك، لَزِمَ: إمَّا الخروجُ عن إجماعِ الأمةِ، أو القولُ يفسقِ بعضِ الأئمة أو كفرِه، وكلا هذين غيرُ جائزٍ"
(1)
.
الحالة الثانية: أنْ ينقلَ المذهبَ اعتمادًا على الكتبِ المؤلفةِ في المذهبِ.
إذا كانَ الناظرُ في كتب المذهبِ سينسبُ القولَ إلى المذهبِ، لا إلى إمامِه، فيُشترطُ فيه ما تقدمَ آنفًا مِن الشروطِ ممَّا يصحُّ في هذا المقام، وهي:
الشرط الأول: صحّةُ نسبةِ الكتابِ إلى مؤلِّفِه.
الشرط الثاني: سلامةُ الكتابِ مِن التحريفِ والتصحيفِ.
الشرط الثالث: معرفةُ اصطلاحِ المؤلِّفِ، إنْ كان له اصطلاحٌ.
الشرط الرابع: معرفةُ اصطلاحاتِ المذهبِ.
الشرط الخامس: الأخذُ مِن الكتبِ المعتمدةِ في المذهبِ، وتركُ الكتبِ المنتقدةِ والغريبةِ، وغيرِ المحررةِ.
الشرط السادس: أنْ لا يخالفَ القولُ المنسوبُ إلى المذهبِ أصولَ المذهبِ وقواعدَه.
فقد يُوجدُ في بعضِ المؤلفاتِ المذهبيةِ أقوالٌ مخرّجةٌ مِنْ أربابِ المذهبِ، وفي بعضِها مخالفةٌ لأصولِ المذهبِ، وحينئذٍ لا تصحُّ نسبتها إلى المذهبِ؛ لمخالفتِها لأصولِه وقواعدِه
(2)
.
(1)
بيان الدليل (ص / 142). وانظر: إعلام الموقعين (5/ 98 - 99).
(2)
انظر: الشافعي - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 321).
أمثلة ذلك:
المثال الأول: يقولُ تقيُّ الدين بنُ تيمية: "مَنْ قال مِن الفقهاءِ مِنْ أصحابِنا وغيرِهم: إنَّ الهدنةَ لا تصحُّ إلا مؤقتةً، فقولُه مع أنَّه مخالفٌ لأصولِ أحمدَ، يردُّه القرآنُ، وتردُّه سنةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في أكثرِ المعاهدين"
(1)
.
المثال الثاني: يقولُ الشيخُ محمد الأمين الشنقيطي: "فهذا الكلام - أي: قول بعض المالكية - يقتضي قبحَ صومِ يوم المولد، وجعلَه كيومِ العيدِ، مِنْ غيرِ استنادٍ إلى كتاب الله ولا سنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم
…
الذي أدخله بعضُ المتأخرين في مذهبِ مالكٍ، ومالكٌ برئٌ منه براءة الشمسِ مِن اللمسِ، ولم يجرْ على أصولِ مذهبِه"
(2)
.
المثال الثالث: يقولُ الشيخُ بكر أبو زيد: "تقريرُ بعضِ الأصحابِ مشروعية شدَّ الرحالِ إلى قبرِ النبي صلى الله عليه وسلم في أواخرِ كتابِ: الحجَّ، فلا روايةَ في هذا عن الإمامِ أحمدَ، ولا يُخرّجُ على مذهبِه، وإنَّما هو تفقه الصاحبِ، وهو غلطٌ
…
ومنه قولُهم في كتابِ: الوقفِ بنفوذِ الوقفِ على بعضِ الأمورِ المبتدعةِ، مثل: الوقف على بناءِ القبابِ، وتشييدِ المشاهدِ عليها، وهذا لا روايةَ فيه عن أحمدَ، ولا يُخرّج على شيءٍ مِنْ مذهبِه"
(3)
.
والتعويل في تحقيقِ هذا الشرطِ على ما قامَ به محققو المذهبِ مِنْ تنقيحٍ للأقوالِ الموجودةِ في مدوّناتهم المذهبية، وتمييزِ ما كان منها مخالفًا لأصولِ المذهبِ.
الشرط السابع: أنْ يكونَ القولُ المنسوبُ إلى المذهبِ مِن الأقوالِ المعتمدةِ.
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (29/ 140).
(2)
أضواء البيان (7/ 612).
(3)
المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد (1/ 51 - 52).