الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الأول: القول
تشحُّ كتاباتُ الأصوليين - عدا ما دوّنه علماءُ الحنابلةِ - في الحديثِ عن هذا الفرعِ؛ ولعلَّ ذلك عائدٌ إلى أنّه لا يكادُ يختلف أحدٌ في إثباتِ مذهبِ الإمامِ عَنْ طريقِ قولِه، بلْ إنَّه الطريقُ الأصيلُ في نقلِ أقوالِ الإمامِ.
يقولُ أبو إسحاقَ الشاطبي: "أمَّا الفتوى بالقولِ؛ فهو الأمرُ المشهورُ، ولا كلامَ فيه"
(1)
. ويقولُ تقيُّ الدِّينِ بنُ تيميةَ: "مذاهبُ الأئمةِ تُؤْخَذُ مِنْ أقوالِهم"
(2)
.
ولم يزل الناسُ ينسبون إلى غيرِهم أقوالَهم الثابتةَ عنهم.
والمرادُ بالقولِ هنا: قولُ إمامِ المذهبِ الذي كتبه، أو أملاه، أو تلفَّظَ به، ونُقِلَ عنه
(3)
.
والنظرُ إلى قولِ الإمامِ مِن جهتين:
الجهة الأولى: ثبوتُ القولِ عن إمامِ المذهبِ.
الجهة الثانية: دلالةُ قولِ إمام المذهبِ.
الجهة الأولى: ثبوتُ القولِ عن إمامِ المذهبِ.
قبلَ النظرِ في دلالةِ قولِ الإمامِ، لا بُدَّ أولًا مِن النظرِ في ثبوتِ القولِ عنه.
تصلُ أقوالُ إمامِ المذهبِ إلينا مِنْ طريقين:
الطريق الأول: مؤلفاتُ إمامِ المذهبِ.
(1)
الموافقات (5/ 258).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (19/ 152).
(3)
انظر: المسودة (2/ 948)، والمدخل المفصّل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 237).
الطريق الثاني: ذِكرُ التلاميذِ قولَ إمامِ مذهبِهم، وتفسيرُهم له
(1)
.
الطريق الأول: مؤلفاتُ إمامِ المذهبِ.
يقولُ أبو الحسين البصري متحدثًا عنْ مؤلفاتِ الأئمةِ: "أو ما يذكرُه - أيْ: المجتهد - في تصنيفِه، لأنَّ العلماءَ أجروا ما يُوْجَدُ في التصنيفِ مجرى ما يظهرُ بالقولِ في بابِ الإضافةِ إلى صاحبِ المذهبِ"
(2)
.
ويُعَدُّ هذا الطريق أفضل طريقٍ لثبوتِ رأي إمامِ المذهبِ
(3)
.
وإذا ألَّفَ إمامُ المذهب كتابًا، فإنَّ ما يذكرُه فيه مِنْ أقوالِه التي كتبها، تصحُّ نسبتها إليه، بالإجماعِ
(4)
.
وإذا أوردَ إمامُ المذهبِ قولًا في مؤلَّفِه، فهنا أربعة أنواع:
النوع الأول: إذا صرَّحَ إمامُ المذهبِ باختيارِ القولِ، أو ترجيحِه، أو تصحيحِه، فهذا قولُه.
النوع الثاني: إذا ساقَ إمامُ المذهبِ قولًا واحدًا في المسألةِ؛ فما ذكره يُعَدُّ قولًا له.
النوع الثالث: إذا ساقَ إمامُ المذهب أقوالًا، وأوردَ أدلتها، وأجابَ عنها، وسَلِمتْ منها أدلةُ قولٍ مِنْ تلكَ الأقوالِ، فالقولُ السالمُ مِن الاعتراضِ هو قولُه الذي يُنسبُ إليه.
النوع الرابع: إذا نَقَلَ إمامُ المذهبِ عن غيرِه مِن العلماءِ قولًا، فهنا تفصيلٌ، ويمكنُ ذكرٌ ثلاثِ حالاتٍ تحت النوعِ الرابع:
(1)
انظر: مالك - حياته وعصره لمحمد أبو زهرة (ص/ 183)، وتحرير المقال للدكتور عياض السلمي (ص/ 19)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 200 - 203).
(2)
شرح العمد (2/ 334) بتصرف يسير.
(3)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 200)، والمدخل المفصّل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 239).
(4)
انظر: المصدرين السابقين.
الحالة الأولى: أنْ ينقلَه، ويختارَه، فهو قولُه، وتصحُّ نسبتُه إليه.
الحالة الثانية: أنْ ينقلَه، وَيردَّه، فليس المنقولُ قولَه.
الحالة الثالثة: أنْ ينقلَه دونٍ تصريحٍ باختيارٍ أو ردٍّ، فهذه الحالةُ تحتملُ صحةَ نسبةِ القولِ إليه، وعدمَها:
فيُنظرُ في مؤلفاتِ الإمامِ الأخرى، أو فيما نقلَه عنه طلابُه، أو فيما حرره محققو مذهبه:
فإنْ وُجِدَ فيها ما يدلُّ على اختيارِ القولِ، نُسب إليه.
وإنْ وُجِدَ فيها ما يدلُّ على تضعيفِ القولِ، لم ينسبْ إليه
(1)
.
وإنْ لم يُوجدْ على ما يُرَجّحُ أحد الاحتمالين، فإنَّه ينسبُ إليه، وهذا هو ظاهرُ إطلاقِ المرداوي؛ إذ يقولُ:"وما دوّنه في كتبِه، ولم يَرُدّه، ولم يُفْتِ بخلافِه، فهو مذهبُه"
(2)
.
وذَهَبَ الدكتورُ عياض السلمي إلى أنَّه مسكوتٌ عنه
(3)
.
الطريق الثاني: ذكرُ التلاميذِ قولَ إمامِ مذهبِهم، وتفسيرُهم له.
الطريق الثاني لثبوتِ قولِ الإمامِ: ما يذكرُه تلامذتُه مِنْ أقوالِه التي قالها - إمَّا بنصِّها، وإمَّا بحكايتِها - أو إجاباتِه عن الأسئلةِ التي سُئِلَ عنها، أو تفسيرِهم لأقوالِه.
وينقسمُ الطريقُ الثاني ثلاثةَ أقسام:
القسم الأول: نقلُ التلاميذِ قولَ إمامِهم.
القسم الثاني: حكايةُ التلاميذِ قولَ إمامِهم.
(1)
انظر: تحرير المقال للدكتور عياض السلمي (ص/ 19)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 200 - 201).
(2)
الإنصاف (12/ 250).
(3)
انظر: تحرير المقال (ص/ 19).
القسم الثالث: تفسيرُ التلاميذِ قولَ إمامِهم
(1)
.
القسم الأول: نقلُ التلاميذِ قولَ إمامِهم.
يُعدُّ نقلُ التلاميذِ قول إمامِهم مِنْ أفضلِ الطرقِ بعدَ مؤلفاتِ الإمامِ إنْ لم يكنْ أفضلها؛ لأنَّ ملازمةَ التلاميذِ لإمامِهم، وتدوينَهم ما صَدَرَ عنه مْنْ أقوالٍ وفتاوى وإجاباتٍ، تجعلُ هذا الطريقَ صحيحًا للتّعرفِ على قولِ إمامِ المذهبِ
(2)
.
ويندرجُ تحتَ القسمِ الأولِ حالتان:
الحالة الأولى: أنْ يتفقَ تلاميذُ الإمامِ على النقلِ عنه.
الحالة الثانية: أنْ يختلفَ تلاميذ الإمامِ في النقلِ عنه.
الحالةُ الأُولى: أنْ يتفقَ تلاميذُ الإمامِ على النقلِ عنه.
إذا اتفقَ تلاميذُ الإمامِ على النقلِ عنْ إمامِهم دونَ اختلافٍ بينهم، فالمنقولُ قولُ الإمامِ الذي تصحُّ نسبتُه إليه
(3)
؛ وذلك لعدمِ تَطرّقِ الشكِّ إلى نقلِهم
(4)
.
ولم أقفْ على مَنْ تكلَّمَ عنْ هذه المسألةِ مِن المتقدمين - فيما رجعتُ إليه مِنْ مصادر - ولعلَّ إغفالَهم الحديث عنها عائدٌ إلى صحةِ نسبةِ القولِ المنقولِ حينئذٍ.
وتحسنُ الإشارةُ إلى مسألةٍ، وهي: إذا انفردَ أحدُ تلاميذِ الإمامِ بنقلِ قولِه، فهل ينسبُ القولُ إلى إمامِ المذهبِ؟
(1)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 96)، والإنصاف (12/ 254)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 204)، والمدخل المفصّل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 240).
(2)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 203).
(3)
انظر: تحرير المقال للدكتور عياض السلمي (ص/ 20)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص / 204)، والمدخل المفصّل إلى فقه الإمام أحمد (1/ 239).
(4)
انظر: المصادر السابقة.
في الحقيقةِ لم أقفْ على مَنْ تكلَّم عن هذه المسألةِ على وجهِ الخصوصِ - فيما رجعتُ إليه مِنْ مصادر - ولا يظهرُ لي مانعٌ مِنْ نسبةِ القولِ إلى الإمامِ في هذه الحالةِ، إذا كان التلميذُ عدلًا، ولا سيما أنَّ علماءَ المذهبِ الحنبلي - ولهم قَصَبُ السبقِ في الحديثِ عنْ مسألةِ:(صحةِ نسبةِ القولِ إلى الإمامِ في ضوءِ ما نقله التلاميذُ) - لم يشترطوا في التلميذِ الناقلِ قول إمامِهم أنْ يوافقَه غيرُه في نقلِه.
ويمكنُ أنْ يستدلَّ على ذلك: بأنَّ قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم يثبتُ بنقلِ الواحدِ إذا كانَ الناقلُ عدلًا، وإذا ثَبَتَ قولُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو أجلُّ قدرًا مِنْ غيرِه؛ فمِنْ بابٍ أولى أنْ يثبتَ قولُ الإمامِ بنقلِ الواحدِ عنه.
الحالة الثانية: أنْ يختلفَ تلاميذُ الإمامِ في النقلِ عنه.
إذا نَقَلَ التلاميذُ قولَ إمامِهم، ولم يتفقوا في نقلِهم عنه، بل اختلفوا فيه، فالأمرُ في هذه الحالةِ لا يخلو مِنْ صورتين:
الصورة الأولى: أنْ يختلفَ التلاميذُ في النقلِ عن الإمامِ، وليس أحدُهم منفردًا بالاختلافِ.
الصورة الثانية: أنْ يختلفَ التلاميذُ في النقلِ عن الأمامِ بانفرادِ أحدِهم بالاختلافِ.
الصورة الأولى: أنْ يختلفَ التلاميذُ في النقلِ عن الإمامِ، وليس أحدُهم منفردًا بالاختلافِ.
إذا نَقَلَ التلاميذُ قولًا لإمامِهم، واختلفوا فيه، دونَ أنْ ينفردَ أحدُهم بالمخالفةِ، فمذهبُ الإمامِ لا يخرجُ عنْ نقلِهم.
ويبقى النظرُ في الترجيحِ بين تلك الأقوالِ؛ ليُنْسَبَ إلى الإمام واحدٌ منها
(1)
، وستأتي مسالةُ:(الترجيح بين أقوال الإمام) في مطلبٍ مستقلٍّ.
(1)
انظر: تحرير المقال للدكتور عياض السلمي (ص/ 20)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 204).
الصورة الثانية: أنْ يختلفَ التلاميذُ في النقلِ عن الإمامِ بانفرادِ أحدِهم بالاختلافِ.
إذا نَقَلَ التلاميذُ قولَ الإمامِ، وانفردَ أحدُهم بنقلٍ يخالفُ ما نَقَلَه الباقون، فهلْ يُنْسَبُ قولُ المنفرِد إلى الإمامِ؟
لقد تكلَّم علماءُ الحنابلةِ عن هذه الصورةِ، والذي تحصَّلَ لديَّ مِنْ خلالِ تأمّلِ كلامِهم فيها، أنَّ الأمرَ لا يخلو مِنْ حالتين:
الحالة الأولى: أنْ ينفردَ التلميذُ بقولٍ عن الإمامِ، وليس للقولِ دليلٌ قوي.
الحالة الثانية: أنْ ينفردَ التلميذُ بقولٍ عن الإمامِ، وللقولِ دليلٌ قوي.
الحالة الأولى: أنْ ينفردَ التلميذُ بقولِ عن الإمامِ، وليس للقولِ دليلٌ قوي.
إذا انفردَ أحدُ تلاميذِ الإمامِ بنقلٍ عنه، وليس للقولِ دليلٌ قوي، فالظاهرُ في هذه الحالةِ عدمُ صحةِ نسبةِ القولِ إلى الإمامِ.
وهذا هو ظاهرُ مذهبِ الحنابلةِ؛ لأنَّ خلافَهم - في حالِ انفرادِ أحدِ التلاميذِ بنقلٍ عن الإمامِ مخالفًا لبقيتِهم - منصبٌّ على ما إذا كانَ هناك دليلٌ قوي
(1)
.
ومفهومُ هذا القيدِ: أنْ لا يُنْسَبَ القولُ إلى الإمامِ إذا لم يكنْ للقولِ المنفرد دليلٌ قويٌّ.
الحالة الثانية: أنْ ينفردَ التلميذُ بقولٍ عن الإمامِ، وللقولِ دليلٌ قوي.
إذا نَقَلَ تلاميذُ الإمامِ قولًا عنْ إمامِهم، وانفردَ أحدُهم بالمخالفةِ فنَقَلَ
(1)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 96)، والفروع لابن مفلح (1/ 47)، والإنصاف (12/ 247)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 48).
قولًا يخالفُ بقيتَهم، وللقولِ المنفرِدِ دليلٌ قوي، فهل تصحُّ نسبةُ القول الذي انفردَ به التلميذُ إلى إمامِه في هذه الحالةِ؟
اختلفَ العلماءُ في صحةِ نسبةِ القولِ إلى الإمام في هذه الحالةِ على قولين:
القول الأول: يُنْسَبُ القولُ إلى الإمامِ.
وهذا القولُ وجهٌ عند الحنابلةِ
(1)
. واختاره: الحسنُ بنُ حامدٍ
(2)
، والمرداويُّ
(3)
.
القول الثاني: لا يُنْسَبُ القولُ إلى الإمامِ.
وهذا القولُ وجهٌ عند الحنابلة
(4)
. ونَسَبَه ابنُ حمدان إلى أكثر الحنابلةِ
(5)
. واختاره: الخلالُ
(6)
،
(1)
انظر: الفروع لابن مفلح (1/ 47).
(2)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 96)، والإنصاف (12/ 246). والحسن بن حامد هو: الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي، أبو عبد الله، ويعرف بالوراق، كان إمام المذهب الحنبلي في وقته، وأحد أصولي مذهبه، تولى التدريس والإفتاء، وكان يكثر من حج بيت الله الحرام، من مؤلفاته: تهذيب الأجوبة، وأصول الفقه، والجامع في المذهب، وشرح مختصر الخرقي، توفي وهو راجع من مكة سنة 403 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (8/ 259)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 309)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/ 689)، وسير أعلام النبلاء (17/ 203)، والوافي بالوفيات للصفدي (11/ 415)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 319)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 413)، والدر المنضد له (1/ 182).
(3)
انظر: الإنصاف (12/ 250)، وتصحيح الفروع (1/ 48).
(4)
انظر: الفروع لابن مفلح (1/ 47).
(5)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 97).
(6)
انظر: المصدر السابق، والإنصاف (12/ 247)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 48).
والخلال هو: أحمد بن محمد بن هارون، أبو بكر البغدادي، المعروف بالخلال، ولد سنة 234 هـ أحد الأعلام المعروفين عند الحنابلة، حافظ فقيه، أخذ الفقه عن خلق كثير، ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل أقوالًا كثيرة، من أقوال الخلال:"ينبغي لأهل العلم أن يتخذوا للعلم المعرفة له، والمذاكرة به، ومع ذلك كثرة السماع، وتعاهده، والنظر"، من مؤلفاته: الجامع، والسنة، والعلل، وأدب أحمد، توفي سنة 311 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام=
وغلامُه
(1)
.
• أدلةُ القولين:
أدلةُ أصحابِ القولِ الأولِ: استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: أنَّ لدى المنفردِ بالنقلِ زيادةَ علمٍ على بقيةِ الناقلين، والزيادةُ مِن العدلِ مقبولةٌ في الحديثِ النبوي
(2)
، وإذا قُبِلَت الزيادةُ في الحديثِ النبوي، فقبولُها في غيرِه مِنْ بابٍ أولى
(3)
.
الدليل الثاني: أنَّ الراوي عن الإمامِ ثقةٌ، وخبيرٌ بما نَقَلَه، وهذا الوصفُ كافٍ في صحةِ نسبةِ ما نَقَلَه إلى الإمامِ
(4)
.
دليلُ أصحابِ القولِ الثاني: أنَّ نسبةَ الخطإِ إلى الواحدِ أولى مِنْ
= للخطيب (6/ 300)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 160)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 23)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص / 618)، وسير أعلام النبلاء (14/ 297)، والوافي بالوفيات للصفدي (8/ 99)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 166)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 314)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 261)
(1)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 97)، والإنصاف (12/ 247)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 48).
وغلام الخلال هو: عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو بكر، ويعرف بغلام الخلال؛ لملازمته شيخه أحمد بن محمد الخلال، ولد سنة 285 هـ برع في الفقه والأصول، كان ذا دين وورع، علامةً بارعًا في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، معظمًا في النفوس، مقدمًا عند السلطان، من مؤلفاته: الشافي، والمقنع، وزاد المسافر، والخلاف مع الشافعي، توفي سنة 363 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (12/ 229)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 161)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 213)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/ 622)، وسير أعلام النبلاء (16/ 143)، والوافي بالوفيات للصفدي (18/ 469)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 162)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 274)، والدر المنضد له (1/ 176).
(2)
انظر: العدة (3/ 1004)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (3/ 153)، والتحبير (5/ 2098).
(3)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 96 - 97)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 48).
(4)
انظر: المصدرين السابقين.
نسبتِه إلى الجماعةِ، والأصلُ في نقلِ التلاميذِ اتحادُ المجلسِ
(1)
.
مناقشةُ دليلِ أصحاب القولِ الثاني: قولُكم باتحاد المجلس مجرّدُ دعوى، ليس عليها دليلٌ، بل المقامُ يحتملُ اتحادَ المجلسِ، وعدمَه، وانفرادُ التلميذِ بالنقلِ يُرجّحُ تعددَ المجلسِ، وعدمَ اتحادِه، والأصلُ في الراوي الثقةِ عدمُ الغفلةِ
(2)
.
• الموازنة والترجيح:
بتأمّلِ القولين، وما استدلوا به، يظهرُ لي التفصيلُ الآتي:
أولًا: إذا ظهرتْ قرينةٌ ترجِّحُ تعددَ المجلسِ، نُسِبَ نقلُ التلميذِ المنفردِ إلى الإمامِ.
ثانيًا: إذا ظهرتْ قرينةٌ تدلُّ على اتحادِ المجلسِ، لم يُنْسبْ نقلُ التلميذِ المنفردِ إلى الإمامِ؛ لترجّحِ غفلتِه حينئذٍ.
ثالثًا: إذا لم تظهر قرينةٌ مُرجحةٌ لتعددِ المجلسِ، أو اتحادِه، نُسِبَ النقلُ إلى الإمامِ، لأنَّ الأصلَ في التلميذِ أنْ يكونَ عارفًا بمعاني كلامِ إمامِه.
رابعًا: إذا كانَ التلميذُ المنفردُ بالنقلِ كثيرَ الانفرادِ في نقلِه عنْ إمامِه، مخالفًا لما ينقلُه الباقون، فهنا يُتَوقفُ في نقلِه، فلا يُقبلُ؛ لكثرةِ مفاريدِه المخالفةِ لما ينقله البقيةُ، الموجبة للريبِ في ضبطِه وحفظِه.
يقولُ ابنُ القيمِّ - في حديثِه عنْ تفردِ حنبلٍ
(3)
بالنقلِ عن الإمامِ
(1)
انظر: المصدرين السابقين.
(2)
انظر: تصحيح الفروع للمرداوي (1/ 48)، والإنصاف (12/ 248).
(3)
هو: حنبل بن إسحاق بن حنبل الشيباني، أبو علي، ولد قبل المائتين، كان أحد الحفاظ والمحدثين، وهو ابن عم الإمام أحمد بن حنبل، وتلميذه، وأحد كبار أصحابه، وقد سمع المسند منه في بيته، قال عنه الخطيب البغدادي:"كان ثقةً ثبتًا"، وقال عنه الدارقطني:"كان صدوقًا"، وقال عنه أبو بكر الخلال:"جاء بمسائل أجاد فيها الرواية، وأغرب بشيءٍ منها"، من مؤلفاته: كتاب التاريخ، وكتاب الفتن، وكتاب المحنة، توفي سنة 273 هـ وقد قارب الثمانين عامًا. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (9/ 217)، وطبقات الفقهاء =
أحمدَ -: "فإنَّ حنبلًا تفرّدَ بها عنه - أيْ: عن الإمامِ أحمدَ - وهو كثيرُ المفاريدِ المخالفةِ للمشهورِ مِنْ مذهبِه، وإذا تفرّدَ بما يخالفُ المشهورَ: فالتحقيقُ أنَّها روايةٌ شاذةٌ مخالفةٌ لجادّةِ مذهبِه"
(1)
.
ويقولُ أيضًا: "أصحابُ أحمدَ إذا انفردَ راوٍ عنه بروايةٍ تكلموا فيها، وقالوا: تفردَ بها فلانٌ، ولا يكادون يجعلونها روايةً؛ إلا على إغماضٍ، ولا يجعلونها معارضةً لروايةِ الأكثرين عنه، وهذا موجودٌ في كتبِهم"
(2)
.
وأمَّا القول بأنَّ انفرادَ التلميذِ بالنقلِ يُعَدُّ مِنْ قبيلِ الزيادةِ، فلا يظهرُ لي هذا الاستدلالُ؛ لأنَّ التلميذَ لم يتفردْ بزيادةٍ، وإنَّما انفردَ بنقلٍ مخالفٍ لما نَقَلَه البقيةُ، فهم يقولونَ مثلًا: قالَ الإمامُ: إنَّه حرام، وهو يقولُ: قال الإمامُ: إنَّه مباح، وهذه مخالفةُ، وليس بزيادةٍ.
• سبب الخلاف
يظهرُ أنَّ الخلافَ عائد إلى احتمالِ الخطأِ في نقلِ التلميذِ:
فمَنْ رجَّحَ احتمالَ الصواب على الخطأِ في النقلِ، صحّحَ نسبةَ القولِ إلى الإمامِ، وهذا ما سارَ عليه أصَحابُ القولِ الأولِ.
ومَنْ رجّحَ احتمالَ الخطأِ، لم يُصححْ نسبةَ القولِ إلى الإمامِ، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الثاني.
ويتصلُ بالقسمِ الأولِ: (نقلُ التلاميذِ قولَ إمامِهم) مسألتانِ، وهما:
المسألة الأولى: إذا أجابَ إمامُ المذهبِ بآيةٍ أو حديثٍ أو بقولِ
= للشيرازي (ص/ 159)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 383)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (2/ 300)، وسير أعلام النبلاء (13/ 51)، والوافي بالوفيات للصفدي (4/ 296)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 365)، والمنهج الأحمد للعليمي (1/ 264)، والدر المنضد له (1/ 63).
(1)
مختصر الصواعق المرسلة (3/ 1235) تصرف.
(2)
الفروسية المحمدية (ص/ 223).
صحابيٍّ، فهل يُنسب إليه ما أورده في جوابِه؟
المسألة الثانية: إذا سُئِلَ إمامُ المذهبِ، فأجابَ بقولِ فقيهٍ، فهل يُنسب إليه ما أورده في جوابِه؟
المسألة الأولى: إذا أجابَ إمامُ المذهبِ بآيةٍ أو حديثٍ أو بقولِ صحابيٍّ، فهل ينسبُ إليه ما أورده في جوابِه؟
يمكنُ تفصيلُ الحديثِ في هذه المسألةِ على النحو الآتي:
أولًا: إذا أجابَ إمامُ المذهبِ بآيةٍ مِن القرآنِ الكريمِ.
إذا سُئِلَ إمامُ المذهبِ عن مسألةٍ ما، فأجابَ عن السؤالِ بتلاوةِ آيةٍ، كان قولُه في المسألة هو ما دلّتْ عليه الآيةُ.
وهذا هو مذهبُ الحنابلةِ
(1)
.
الأدلةُ على اعتبارِ قولِ الأمامِ ما دلَّتْ عليه الآيةُ:
الدليل الأول: أنَّ الإجابةَ بالآيةِ الكريمةِ، وجعلَها بمنزلةِ القولِ والبيانِ، هو منهجُ النبي صلى الله عليه وسلم
(2)
، ويشهدُ لذلك عدّةُ وقائع، منها:
الأولى: حادثةُ اللعانِ
(3)
، لمَّا جاءَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلُ يقذفُ زوجتَه، فقالَ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:(البينةُ، وإلا حدٌّ في ظهرِك). فأنزَلَ الله آيةَ اللعانِ، فدعاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَرَأَ عليه الآية
(4)
.
الثانية: قصةُ المجادلةِ، لمَّا جاءت المرأةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تخبرُه أنَّ
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 321)، وصفة الفتوى (ص/ 97).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 324 - 328).
(3)
اللعان: شهادات مؤكدات بأيمان من الزوجين، مقرونة باللعن والغضب، قائمة مقام حد قذف في جانب الزوج، وحد زنا في جانب الزوجة. انظر: عقد الجواهر الثمينة لابن شاس (2/ 551)، والمبدع لابن مفلح (8/ 73)، والتوضيح للشويكي (3/ 1091).
(4)
أخرج الحديث: البخاريُّ في: صحيحه، كتاب: الشهادات، باب: إذا ادعى أو قذف (ص/ 508)، برقم (2671) من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما.
زوجَها قد ظاهرَ
(1)
منها، فأنزلَ الله:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}
(2)
.. فدعاها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وزوجَها، فَقَرَأَ عليهما الآيةَ
(3)
.
الدليل الثاني: إذا سُئِلَ إمامُ المذهبِ عن مسألةٍ، فإنَّ الجوابَ متعيّنٌ عليه، فإذا تلا الآيةَ، كان جوابُه بتلاويها بيانًا لحكمِ المسؤول عنه
(4)
.
ثانيًا: إذا أجابَ إمامُ المذهبِ بالحديثِ النبوي.
إذا أجابَ إمامُ المذهبِ بالحديثِ النبوي، كان قولُه في هذه الحالةِ
(1)
الظهار: أنَّ يشبه الرجلُ امرأتَه - أو عضوًا منها - بظهر من تحرم عليه على التابيد. انظر: عقد الجواهر الثمينة لابن شاس (2/ 564)، ومنهاج الطالبين للنووي (2/ 577)، والدر النقي لابن المبرد (3/ 689)، والتوضيح للشويكي (3/ 1081).
(2)
من الآية رقم (1) من سورة المجادلة.
(3)
جاء الحديث من طريق خويلة بنت مالك رضي الله عنهما في حديث طويل، وأخرجه: أبو داود في:
سننه، كتاب: الطلاق، باب: الظهار (ص/ 336)، برقم (2214)؛ وابن الجارود في: المنتقى، باب: في الظهار (3/ 65)، برقم (746)؛ والطبراني في: المعجم الكبير (1/ 225)، برقم (616)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الظهار، باب: من له الكفارة بالصيام (7/ 389).
وصحح الحديثَ ابنُ حبان، كما نقله عنه ابن حجر في: فتح الباري (13/ 374).
وجاء الحديث من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه:(الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، فكان يخفى عليَّ كلامها، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا})[من الآية (1) من سورة المجادلة]، وأخرجه: البخاري معلقًا في: صحيحه، كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [من الآية 134 من سورة النساء]؛ والنسائي في: المجتبى، كتاب: الطلاق، باب: الظهار (ص/ 536)، برقم (3460)؛ وابن ماجه في: سننه، كتاب: الطلاق، باب: الظهار (ص/ 356)، برقم (2063)؛ وأحمد في: المسند (40/ 228)، برقم (24295)؛ وابن جرير في: جامع البيان (22/ 454)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: التفسير، تفسير سورة المجادلة (2/ 601)، برقم (3791)، وصححه، وواففه الذهبي؛ والبيهقي في: معرفة السنن والآثار (11/ 115)، برقم (14969)؛ وفي: الأسماء والصفات (2/ 501)، برقم (391).
وقال ابن حجر في: فتح الباري (13/ 374) عن حديث عائشة رضي الله عنها: "هذا أصح ما ورد في قصة المجادلة، وتسميتها".
وصحح الألبانيُّ في: إرواء الغليل (7/ 175) الحديثَ بشواهده.
(4)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 324).
هو ما دلّ عليه الحديثُ.
وهذا مذهبُ الحنابلةِ
(1)
، يقولُ الحسنُ بنُ حامدٍ:"هذا مذهبُ أصحابِنا كافّةً، لا أعلمُ بينهم فيه خلافًا"
(2)
.
أمثلة للإجابة بالحديثِ النبوي:
المثال الأول: قال أبو الحارث
(3)
: قلتُ لأبي عبدِ الله أحمدَ بن حنبل: صدقةُ الخيلِ والرقيقِ؟ فقال: حديثُ النبيّ صلى الله عليه وسلم: (ليس على الرجلِ في عبدِه، ولا فرسِه صدقةٌ)
(4)
.
المثال الثاني: قال الأثرمُ
(5)
: قلتُ للإمامِ أحمدَ: الرجلُ انقطعَ
(1)
انظر: المصدر السابق (1/ 343)، والمسودة (1/ 944)، وصفة الفتوى (ص/ 97)، والإنصاف (12/ 250).
(2)
تهذيب الأجوبة (1/ 341).
(3)
هو: أحمد بن محمد بن عبد الله الصائغ، أبو الحارث، من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل، وكان الإمام أحمد يأنس به، ويكرمه ويقدمه، وكان عنده بموضع جليل، وقد روى أبو الحارث مسائل كثيرة عن الإمام أحمد، وجودها. انظر ترجمته في: طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 177)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/ 127)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 163)، والمنهج الأحمد للعليمي (1/ 263)، والدر المنضد له (1/ 73).
(4)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 334). وأخرج الحديثَ بهذا اللفظ: مسلم في: صحيحه، كتاب: الزكاة، باب: لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه (1/ 436)، برقم (982) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
هو: أحمد بن محمد بن هانئ الطائي - ويقال: الكلبي - الأثرم الإسكافي، أبو بكر، ولد في خلافة هارون الرشيد، كان أحد الحفاظ في وقته، إمامًا فقيهًا، جليل القدر، كان عنده تيقظ عجيب، حتى إن يحيى بن معين قال عنه:"إن أحد أبويه جني! "، وقد لزم الأثرمُ الإمامَ أحمد، وروى عنه، يقول الأثرم:"كنت أحفظ الفقه والاختلاف، فلما صحبت أحمد بن حنبل تركتُ ذلك كله"، من مؤلفاته: السنن، والتخريج والعلل، والناسخ والمنسوخ، توفي بإسكاف في حدود سنة 260 هـ وكان من المعمرين. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (6/ 295)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 162)، وتهذيب الكمال للمزي (1/ 476)، وسير أعلام النبلاء (12/ 623)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 161)، والمنهج الأحمد للعليمي (1/ 240)، والدر المنضد له (1/ 60).
شسعُ
(1)
نعلِه، أيمشي في الأخرى؟ فقال: لا؟ حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: (إذا انقطعَ شسعُ أحدِكم فلا يمشِ في الأخرى حتى يصلحها)
(2)
.
الأدلةُ على اعتبارِ قولِ الإمامِ ما دلَّ عليه الحديثُ النبوي:
الدليل الأول: أنَّ الجوابَ بالحديثِ كالجوابِ بالآيةِ؛ لأنَّ كلًّا منهما حجةٌ، وتصحُّ نسبةُ القولِ إلى إمامِ المذهبِ بناءً على إجابتِه بالآيةِ - كما تقدمَ قبل قليلٍ - فكذلك إجابتُه بالحديثِ النبوي
(3)
.
الدليل الثاني: أنَّ مِنْ نهجِ الصحابةِ رضي الله عنهم الإفتاءَ والجوابَ بالحديثِ النبوي
(4)
، فمِنْ ذلك:
أولًا: في حادثةِ قتالِ مانعي الزكاةِ الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنهم قال له عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه كيفَ تقاتلُ، وقد قال صلى الله عليه وسلم:(أُمرتُ أنْ أقاتلَ الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله)؟
(5)
.
(1)
الشسع: أحد سيور النعال، وهو الذي يدخل بين الأصبعين، ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام هو السير الذي يعقد فيه الشسع. انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (14/ 74)، والصحاح، مادة:(شسع)، (3/ 1237)، والقاموس المحيط، مادة:(شسع)، (ص/ 947).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 333 - 334).
ولعل لفظة: "لا" الواردة في كلام الإمام أحمد من إضافة الناسخ لتهذيب الأجوبة؛ لأنه بإثباتها يصبح إيراد الحديث من باب الاستدلال، ونسبة الوهم إلى الناسخ أولى من نسبته إلى ابن حامد، لا سيما والكاب مطبوع عن نسخة واحدة.
وأخرج الحديث: مسلم في: صحيحه، كتاب: اللباس والزينة، باب: إذا انتعل فليبدأ باليمن، (2/ 1008)، برقم (2098) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 341).
(4)
انظر: المصدر السابق.
(5)
أخرج الحديث: البخاري في: صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: فإن تابوا وأقاموا الصلاة (ص/ 28)، برقم (25) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله (1/ 31)، برقم (32) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ثانيًا: لما اختلفَ الصحابة رضي الله عنهم في مسألةِ: (إيجاب الغسلِ بالإيلاجِ دونَ إنزالٍ)، وسالَ الصحابةُ رضي الله عنهم عائشةَ رضي الله عنها، فقالتْ: علىَ الخبيرِ سقطت، قالَ صلى الله عليه وسلم:(إذا جَلَسَ بين شعبِها الأربع، ومسَّ الختانُ الختانَ، فقد وَجَبَ الغُسلُ)
(1)
.
الدليل الثالث: أنَّ إجابةَ إمامِ المذهب بالحديثِ إعلامٌ وبيانٌ أنَّ مدلولَ الحديثِ قولُه، ولو لم يتبيّنْ له مدلولُ الحَديثِ، لما أجابَ به
(2)
.
يبقى أنْ أقولَ: إنَّ ابنَ حامدٍ (ت: 403 هـ) أشارَ إلى قولٍ آخر في المسألةِ، وهو عدمُ نسبةِ القولِ إلى الإمامِ، وقد وَصَفَه بأنَّه شذوذٌ مِنْ بعضِ المتأخرين
(3)
.
ثالثًا: إذا أجابَ إمامُ المذهبِ بقول صحابي.
إذا أجابَ الإمامُ بقولِ صحابي، فقوله كقولِ الصحابي الذي ذكره في جوابِه
(4)
.
أمثلةُ للإجابةِ بقولِ الصحابي:
المثال الأول: قالَ المرّوذيُّ
(5)
: قلتُ للإمامِ أحمدَ: يُؤَذّنُ وهو قاعدٌ؟
(1)
أخرج الحديث - بهذا اللفظ -: مسلمٌ في: صحيحه، كتاب: الحيض، باب: نسخ الماء من الماء ووجوب الغسل بالتقاء الختانين (1/ 167)، برقم (349).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 343).
(3)
انظر: المصدر السابق.
(4)
انظر: المصدر السابق (1/ 355)، وصفة الفتوى (ص/ 97)، والمسودة (2/ 944)، والإنصاف (12/ 250).
(5)
هو: أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز، المروذي أبو بكر، كانت أمه مروذية، وأبوه خوارزميًا، من أشهر أصحاب الإمام أحمد، وهو المقدَّم منهم؛ لورعه وفضله، وكان الإمام أحمد يأنس به، وينبسط إليه، وقد لزم الإمامَ أحمد إلى أنْ مات، وقد تولى إغماض عين الإمام أحمد، وغسله، وقد حمل الأثرم عنه علمًا كثيرًا، وروى عنه مسائل كثيرة، وروى عنه كتاب الورع، توفي سنة 275 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (6/ 104)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 159)، والطبقات لابن أبي يعلى (1/ 137)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/ 611)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 156)، والمنهج الأحمد للعليمي (1/ 272)، والدر المنضد له (1/ 63).
قالَ: "قد رُويَ عنْ رجلٍ مِنْ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم"
(1)
.
المثال الثاني: قالَ صالح بنُ أحمدَ
(2)
: قلتُ لأبي: صلاةُ الجماعةِ؟ فقالَ: أخشى أنْ تكونَ فريضةٌ، ولو ذَهَبَ الناسُ يجلسون عنها، لتعطلت المساجدُ، ويروى عن عليٍّ، وابنِ مسعودٍ، وابنِ عباسٍ:(مَنْ سمعَ النداءَ فلم يجبْ، فلا صلاة له)
(3)
.
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 352). وجاء أنَّ أبا زيد رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت رجله أصيبت في سبيل الله - يؤذن وهو قاعد، وأخرجه: ابن سعد في: الطبقات الكبرى (7/ 27)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الأذان، باب: في الرجل يؤذن وهو جالس (2/ 340)، يرقم (2230).
وجاء في أثر آخر: عن الحسن بن محمد قال: دخلت على أبي زيد الأنصاري، فأذَّن وأقام، وهو جالس، وأخرجه: البيهقيُّ في: السنن الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: الآذان راكبًا وجالسًا (1/ 392).
وقال الألبانيُّ في: إرواء الغليل (1/ 242) عن إسناد البيهقي: "هذا إسنادٌ حسنٌ - إن شاء الله تعالى - رجاله كلهم ثقات معروفون، غير الحسن بن محمد، وهو العبدري
…
ارتفعت جهالة عينه، وذكره ابن حبان في: الثقات (1/ 15)، وهو تابعي، وقد روى أمرًا شاهده، فالنفس تطمئن إلى مثل هذه الرواية".
(2)
هو: صالح بن الإمام أحمد بن حنبل، أبو الفضل، ولد سنة 203 هـ أكبر أبناء الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد معتنيًا بتنشئته، محبًا له، وكان صالح ثقةً صدوقًا، فقيهًا محدثًا، كريمًا سخي النفس، وقد تولى قضاء أصبهان، وسمع من أبيه مسائل كثيرة، من مؤلفاته: مسائل الإمام أحمد، توفي سنة 266 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (10/ 433)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 462)، وسير أعلام النبلاء (12/ 529)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 444)، والمنهج الأحمد للعليمي (1/ 251)، والدر المنضد له (1/ 61)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 149).
(3)
انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 34)، وتهذيب الأجوبة (1/ 346).
وجاء أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ: (من سمع النداء فلم يأته لم تجاوز صلاته رأسه إلا من عذر)، وأخرجه: عبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الصلاة، باب: من سمع النداء (1/ 497)، برقم (1914)؛ وسعيد بن منصور في: السنن، كما ذكره ابن القيم في كتابه: الصلاة (ص/ 126)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الصلاة، باب: من قال: إذا سمع المنادي فلم يجب (3/ 195)، برقم (3488)؛ وأحمد كما في: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 35 - 36)، برقم (575)؛ وابن المنذر في: الأوسط (4/ 136)، برقم (1901).=
الأدلةُ على اعتبارِ إجابةِ إمامِ المذهبِ بقولِ الصحابي أنَّها قولُه:
الدليل الأول: أنَّ مقامَ الجوابِ مقامُ بيانٍ، ولا يَسَعُ إمام المذهبِ أنْ يجيبَ إلا بقولِه، ولا يفتي إلا بما يصحُّ له، إذا ثَبَتَ هذا، فإنَّ إجابةَ إمامِ المذهبِ بقولِ الصحابي بيانٌ مِنْه للحُكم، وظاهرُه أنَّه موافقٌ للصحابي الذي أوردَ قولَه
(1)
.
= وفي إسناد سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة وأحمد: الحسنُ البصري، وقد عنعنه.
وجاء أثر علي رضي الله عنه بلفظ: (لاصلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، قيل له: ومن جار المسجد؟ قال: (من أسمعه المنادي)، وأخرجه: عبد الرزاق في: المصنف، الموضع السابق (1/ 497)، برقم (1915)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، الموضع السابق (3/ 195 - 196)، برقم (3488)؛ وأحمد كما في: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 34)، برقم (574)؛ وابن المنذر في: الأوسط (4/ 137)، برقم (1907)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في التشديد في ترك الجماعة من غير عذر (3/ 57)، وباب: وجوب الجمعة (3/ 174).
وصحح إسنادَ هذا الأثر: ابن حزم - كما نقله الزيلعي في: تخريج أحاديث الكشاف (1/ 89)، وابنُ حجر في: الكافي الشافي (1/ 330).
ولفظ أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (من سمع المنادي، ثم لم يجب من غير عذر، فلا صلاة له)، وأخرجه: ابن أبي شيبة في: المصنف، الموضع السابق (3/ 194)، برقم (3486)؛ وأحمد كما في: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 36 - 37)، برقم (577)؛ وابن المنذر في: الأوسط (4/ 136)، برقم (1902).
وقال محقق كتاب مسائل الإمام أحمد لصالح (2/ 37)، حاشية (3):"وفي إسناده أبو موسى الهلالي، وهو مقبول، يعني: عند المتابعة، وهي لم توجد فيما أعلم".
ولفظ أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (سمع المنادي، ثم لم يجب من غير عذر، فلا صلاة له)، وقد روي عنه مرفوعًا، وموقوفًا عليه، وأخرج الموقوف: عبد الرزاق في: المصنف، الموضع السابق (1/ 497)، برقم (1914)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، الموضع السابق (3/ 194)، برقم (3483)؛ وأحمد كما في: مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح (2/ 38)، برقم (579)؛ وابن المنذر في: الأوسط (4/ 136)، برقم (1899)؛ والطبراني في: المعجم الكبير (12/ 15)، برقم (12344)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، في: الموضعين السابقين، وصحح وقفه.
وذكر السيوطيُّ في: الدر المنثور (7/ 258) أنَّ ابن مردوية أخرج أثر ابن عباس.
وصحح عبدُ الحق الإشبيلي في: الأحكام الوسطى (1/ 274) أثرَ ابن عباس رضي الله عنهما.
وانظر: المحلى لابن حزم (4/ 275).
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 355).
الدليل الثاني: أنَّ الجوابَ بقولِ الصحابي كالجواب بالآيةِ والحديثِ؛ لأنَّ كلًّا منها حجةٌ، وتصحُّ نسبةُ القولِ إلى الإمامِ بناءً على إجابتِه بالآيةِ والحديثِ - كما تقدم - فكذلك إجابتُه بقولِ الصحابي.
المسألة الثانية: إذا سُئِلَ إمام المذهب، فأجاب بقول فقيه، فهل يُنسب إليه ما أورده في جوابِه؟
• تحرير محل النزاع:
أولًا: إذا صرَّحَ إمامُ المذهب في جوابِه باختيارِ القولِ، أو إذا اقترنَت بجوابِه قرينةٌ دالةٌ على موافقتِه له: نَسِبَ القولُ إليه.
ثانيًا: إذا صرَّحَ إمامُ المذهب في جوابِه بردِّ القولِ، أو إذا اقترنَت بجوابِه قرينةٌ دالةٌ على ردَّه له: لم يُنسَب القولُ إليه.
ثالثًا: إذا تجرّدَ جوابُ إمامِ المذهب عنْ تصريحٍ باختيارِ القول أو ردِّه، وعن قرينةٍ دالةٍ على موافقتِه، أو ردَّه لَما حكاه، فهذا محلُّ النزاعِ
(1)
.
• الأقوال في المسالة:
اختلفُ العلماءُ في نسبةِ القولِ إلى إمامِ المذهبِ على قولين:
القول الأول: يُنْسَبُ القولُ إلى إمامِ المذهبِ.
وهذا القولُ وجةٌ عند الحنابلةِ
(2)
. واختاره: ابن حامدٍ
(3)
، والمرداويُّ
(4)
.
القول الثاني: لا يُنْسَبُ القولُ إلى إمامِ المذهبِ، وإنَّما يُنسبُ إليه أنَّه أَخبَرَ عن غيرِه.
(1)
انظر: المصدر السابق (1/ 522).
(2)
انظر: صفة الفتوى (ص / 101)، والمسودة (2/ 946)، والفروع لابن مفلح (1/ 47)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 47).
(3)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 522).
(4)
انظر: تصحيح الفروع للمرداوي (1/ 47).
وهذا القول وجهٌ عند الحنابلةِ
(1)
. ونَسَبَه ابنُ حامدٍ إلى بعض الحنابلة
(2)
. واختاره: ابنُ حمدان
(3)
.
• أدلة القولين:
أدلةُ أصحابِ القولِ الأولِ: استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: أنَّ السؤالَ يقتضي جوابًا مِن المسؤولِ، ومتى ما صَدَرَ جوابٌ مِن الإمامِ - سواءٌ أكان آيةً أم حديثًا أم قولَ فقيهٍ - فإنَّه يُنسبُ إليه؛ إذْ لو لم يُنْسب القولُ إليه، لما عُدَّ مجيبًا عن السائلِ، ولَمَا اقتصرَ في الجوابِ عليه
(4)
.
الدليل الثاني: تواترَ عن الإمامِ أحمدَ نهيُه عن التقليدِ
(5)
، فيَتَعيَّنُ حملُ ما جاءَ عنه في إجاباتِه بأقوالِ الفقهاءِ على أنَّه أفتى بقولِ الفقيهِ، وذَكَرَ الإمامُ قولَه؛ لموافقتِه له
(6)
.
الدليل الثالث: لا تخلو إجابةُ إمامِ المذهبِ بقولِ الفقيه مِنْ ثلاثِ حالاتٍ:
الحالة الأولى: أنْ يحكي إمامُ المذهبِ الإجابةَ، ويرى صحتها.
الحالة الثانية: أنْ يحكي إمامُ المذهبِ الإجابةَ، ويرى فسادَها.
الحالة الثالث: أنْ يحكي إمامُ المذهب الإجابةَ، ولا يعلم صحتها، ولا فسادَها.
(1)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 101)، والمسودة (2/ 946)، والفروع لابن مفلح (1/ 47)، وتصحيح الفروع للمرداوي (1/ 47).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 525).
(3)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 101).
(4)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 527 - 528)، وصفة الفتوى (ص/ 101).
(5)
انظر أقوال الإمام أحمد في: مسائل أحمد رواية أبي داود (ص/ 277)، وإعلام الموقعين (3/ 469).
(6)
انظر: تصحيح الفروع للمرداوي (11/ 47).
فالحالة الثانية: (أنْ يحكي إمامُ المذهبِ الإجابةَ، ويرى فسادَها) باطلةٌ؛ لوجهين:
الوجه الأول: أنَّ المذهبَ الفاسدَ لا تجوزُ حكايتُه عن أحدٍ، ولا إنشاؤه ابتداءً.
الوجه الثاني: أنَّ الواجبَ على الحاكي، حين يَرَى فسادَ القولِ أنْ لا يسكتَ عن بيانِ بطلانِه.
والحالة الثالثة: (أنْ يحكي إمامُ المذهب الإجابةَ، ولا يعلم صحتها، ولا فسادها) باطلةٌ أيضًا؛ لأنَّ الجوابَ إنَّما يكون عن علمٍ، ولا يجوزُ أنْ يجيبَ بشيءٍ لا يَعْلمُ صحتَه ولا فسادَه.
فإذا بَطَلَت الحالتانِ: الثانية والثالثة، لم تبقَ إلا الحالةُ الأولى:(أنْ يحكي إمامُ المذهبِ الإجابةَ، ويرى صحتها)، وهذا هو المطلوبُ
(1)
.
أدلةُ أصحابِ القولِ الثاني: استدلَّ أصحابُ القولِ الثاني بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: قد يحكي إمامُ المذهبِ في بعض إجاباته قولَ فقيهٍ، ثمَّ في موضعٍ آخر يذهبُ إلى غيرِ القول الذي حكاه
(2)
، وقد وَقَعَ هذا الأمرُ للإمامِ أحمدَ بن حنبل، فمن ذلك: أنَّ الإمامَ أحمدَ سُئِلَ عمَّنْ نسي مسحَ رأسِه، أيجزئه بلَلُ لحيتِه؟ فقالَ:"قد قالَ بذلك قومٌ".
وليس هذا مذهب الإمامِ أحمدَ
(3)
.
مناقشة الدليل الأول: إن ما يذكره الإمامُ عن غيرِه منسوبٌ إليه، إلا إذا جاءَ موجبٌ ينقلنا عن جوابِه بمقالةِ غيرِه.
وأمَّا ما ذكرتموه في دليلِكم عن الإمامِ أحمد، فقد جاءَ عنه ما ينقلُ
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 528 - 529).
(2)
انظر: صفة القوى (ص / 101).
(3)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 526)، والمغني لابن قدامة (1/ 18)، والإنصاف (1/ 35).
عنْ جوابِه بقولِ الفقيه، ونحنُ لا ننكرُ أنَّ ما حكاه عن غيرِه قد ينتقلُ عنه إلى قولٍ آخر، فإذا وُجِدَت حكايةٌ خالفَها قولٌ، صرنا إلى القولِ
(1)
.
الدليل الثاني: إذا أجابَ الإمامُ بأنَّ الناسَ اختلفوا في المسألةِ، فمِنْ غيِر الممكنِ جعل الاختلافِ قولَه، فكذلك إذا أجابَ بقولِ فقيهٍ، لا نجعلُ الجوابَ قولَه
(2)
.
مناقشة الدليل الثاني: هناك فرقٌ بين إجابةِ الإمام باختلافِ الناسِ، وإجابتِه بقولِ فقيهٍ؛ لأنَّ في إجابتِه باختلافِ الناسِ دليلًا على توقّفِه وعدم جزمِه برأي محددٍ، بخلافِ إجابتِه بقولِ فقيهٍ واحدٍ؛ إذ في اقتصارِه عليه دليلٌ على جزمِه بالقولِ
(3)
.
• الموازنة والترجيح:
مِنْ خلالِ تأمّلِ القولين، وما استدلا به، يظهرُ لي رجحانُ القولِ الأولِ القائلِ بنسبةِ القولِ إلى الإمامِ إذا أجابَ بقولِ فقيهٍ، وذلك للآتي:
أولًا: الأصلُ نسبةُ الأقوال التي تصدرُ عنْ إمامِ المذهبِ إليه، وحينَ يذكرُ الإمامُ رأيَ فقيهٍ، فالظاهرُ رجحانُه عنده.
ثانيًا: جاءَ عن الأئمةِ نهيُهم عن التقليدِ، والأخذِ برأي الرجالِ، فلو حملنا ما يذكرُه الإمامُ في إجابته بقولِ الفقيهِ على عدمِ اختيارِه، لارتكبَ ما نهى الناسَ عنه، فيتعيّنُ حملُه على أنَّه اختارَ هذا القولَ.
• سبب الخلاف:
يظهرُ أنَّ الخلافَ عائدٌ إلى ترجّح احتمالِ موافقةِ الإمام لقولِ الفقيهِ مِنْ عدمِها:
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 530 - 533).
(2)
انظر: المصدر السابق (1/ 526 - 527).
(3)
انظر: المصدر السابق (1/ 533).
فمَنْ رأى أنَّ إجابةَ الإمامِ بقولِ فقيهٍ، واقتصاره عليه، قرينةٌ ترجحُ جانبَ الموافقةِ، ذَهَبَ إلى صحةِ نسبةِ القولِ إلى الإمامِ، وهذا ما سارَ عليه أربابُ القولِ الأولِ.
ومَنْ رأى أن إجابةَ الإمامِ بقولِ فقيهٍ، واقتصاره عليه، ليس بقرينةٍ، لم يُرجّحْ جانبَ الموافقةِ، وقال بعدمِ صحةِ نسبةِ قولِ الفقيهِ إلى الإمامِ، وهذا ما سارَ عليه أربابُ القولِ الثاني.
القسم الثاني: حكايةُ التلاميذِ رأيَ إمامِهم.
إذا أخبرَ التلميذُ برأي إمامِه، وحكاه عنه لا بنصِّه، ولكن بمعناه، فهل تُعَدُّ هذه الحكاية بمنزلةِ قولِ الإمامِ نفسِه؟
اختلفَ العلماءُ في هذه المسألةِ على قولين:
القول الأول: أن حكايةَ التلميذِ مقبولة، وتكون كنصِّ الإمامِ، وينسبُ القولُ إليه.
هذا القولُ وجهٌ عند الحنابلةِ
(1)
. واختاره جمعٌ مِنْ أهلِ العلم، منهم: ابنُ حامدٍ
(2)
، وابنُ مفلحٍ
(3)
. وهو قياسُ قولِ أبي القاسم الخرقي
(4)
.
(1)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 96)، والإنصاف (12/ 254).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 402).
(3)
انظر: الفروع (1/ 47).
(4)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 408)، وصفة الفتوى (ص/ 96)، والإنصاف (12/ 255).
وأبو القاسم الخرقي هو: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي، أبو القاسم، ولد ببغداد، أحد أعيان الحنابلة في وقته، كان بارعًا في الفقه، ذا دين وورع، صنف تصانيف عدة، واحترقت ما عدا مختصره الفقهي المشهور، وقد أخذ العلمَ عن أبي بكر المروذي، وحرب الكرماني، وصالح وعبد الله ابني الإمام أحمد، من مؤلفاته: المختصر في الفقه، توفي سنة 334 هـ بسبب أنه أنكر منكرًا بدمشق، فضُرِب، فكان موته بذلك. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (13/ 87)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 161)، والأنساب للسمعاني (5/ 97)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 441)، وسير أعلام النبلاء (15/ 363)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (3/ 147)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 298)، والمنهج الأحمد للعليمي (2/ 266)، والدر المنضد له (1/ 175)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 336).
واختاره من المعاصرين: فضيلةُ الدكتور يعقوب الباحسين
(1)
، والدكتورُ عياض السلمي
(2)
.
القول الثاني: أنَّ حكايةَ التلميذِ غيرُ مقبولةٍ، ولا ينسبُ القولُ إلى الإمامِ بناءً على هذه الحكاية.
وهذا القولُ وجهٌ عند الحنابلةِ
(3)
. واختاره جمعٌ مِنْ أهلِ العلمِ، منهم: الخلالُ
(4)
، وغلامُه
(5)
.
• أدلة القولين:
أدلةُ أصحابِ القولِ الأولِ: استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ بأدلةٍ، منها:
الدليل الأول: أنَّ ما ينقله الصحابةُ رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بغيرِ لفظِه، يُعْزَى إليه صلى الله عليه وسلم، ويكون بمنزلةِ لفظِه، وإذا ثَبَتَ هذا في السنةِ النبويةِ المطهرةِ - وهي المصدرُ الثاني مِنْ مصادرِ التشريعِ - فما دونَها مِنْ بابٍ أولى
(6)
.
الدليل الثاني: إذا كان التلميذُ ظاهرَ العدالةِ، فإنَّه لنْ ينسبَ إلى إمامِه قولًا، إلا وهو جازمٌ بذلك، والتلميذ مِنْ أعرفِ الناسِ بما يقولُه إمامُه، ومِنْ أفهمِهم لمقاصدِ كلامِه
(7)
.
دليلُ أصحاب القولِ الثاني: أنَّ ما يحكيه التلميذُ عن إمامِ مذهبِه لا يعدو أن يكون ظنًّا وتخمينًا، ويجوزُ أنْ يعتقدَ الإمامُ خلافَ ما حكاه عنه التلميذُ
(8)
.
(1)
انظر: التخريج عند الفقهاء والأصوليين (ص/ 206).
(2)
انظر: تحرير المقال (ص/ 21).
(3)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 96)، والإنصاف (12/ 254).
(4)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 407 - 408)، وصفة الفتوى (ص/ 96).
(5)
انظر: المصدرين السابقين.
(6)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 408 - 409).
(7)
انظر: المصدر السابق (1/ 409).
(8)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 96).
ويمكن مناقشة دليل أصحاب القول الثاني: بأنَّ ما ذكروه مدفوعٌ بما يُعرفُ عن التلميذِ مِنْ حرصِ على ما يلقيه إمامُه، مع ما يصاحبُ ذلك مِنْ كون التلميذِ - بسبب ملازمتِه لإمامِه - أقدرَ مِنْ غيرِه على فهمِ كلامِ إمامِ المذهبِ، فيبعدُ احتمَالُ الخطأِ والتخمين، ويترجّحُ جانبُ الإصابةِ.
• الموازنة والترجيح:
بتأمّلِ القولين وما استدلا به، يظهرُ لي رجحانُ القولِ الأولِ القائلِ بصحةِ نسبةِ القولِ إلى إمام المذهبِ بناءً على ما يحكيه التلميذُ عنه؛ وذلك لما عُرِفَ عن تلامذةِ الأئمةِ مِنْ حرصِ على فهمِ أقوالِ أئمتهم، ولملازمتهم لهم، بحيثُ أصبحوا أقدر مِنْ غيرِهم على فهمِ كلامِ أئمتِهم.
• سبب الخلاف:
يظهرُ أنَّ الخلافَ عائدٌ إلى السببين الآتيين:
السبب الأول: احتمالُ الخطأِ أو الوهمِ فيما يحكيه التلميذُ عنْ إمامِه.
فمَنْ رجَّح احتمالَ الخطأِ أو الوهمِ، لم يقبلْ حكايةَ التلميذِ، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الثاني.
ومَنْ لم يرجّحْ جانبَ الخطأِ أو الوهمِ، قَبِلَ حكايةَ التلميذِ، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الأولِ.
السبب الثاني: صحةُ قياسِ حالِ التلميذِ مع إمامِه، بحالِ الصحابةِ رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم:
فمَنْ صححَ القياسَ، قَبِلَ حكايةَ التلميذِ رأي إمامِه، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الأولِ.
ومَنْ لم يُصحح القياسَ، لم يقبلْ حكايةَ التلميذِ رأي إمامِه، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الثاني.
القسم الثالث: تفسير التلاميذ مذهب إمامهم.
إذا فسَّرَ التلميذُ قولَ إمامِ المذهبِ، أو ذَكَرَ له قيدأ، أو مخصصًا
(1)
، فهل يُنسب ما فعلَه التلميذُ إلى إمامِه؟
اختلفَ العلماءُ في هذه المسألةِ على قولين:
والخلاف في هذا القسمِ كالخلافِ في القسمِ الثاني: (حكايةُ التلاميذِ رأيَ إمامِهم)؛ إذ عَرَضَ جمعٌ مِن العلماءِ الخلافَ والأدلةَ في القسمين: الثاني والثالث في سياقٍ واحدٍ.
يقولُ ابنُ حامدٍ: "باب: البيانُ عن نسبةِ المذهبِ إليه مِنْ حيثُ تفسيرُ أصحابِه، وإخبارُهم عنْ رأيه"
(2)
، ثم ساقَ الاختلافَ سياقًا واحدًا للقسمين.
ويقولُ ابنُ حمدان: "وصيغةُ
(3)
الواحدِ مِنْ أصحابه، ورواته في تفسيرِ مذهبِه، وإخبارِهم عنْ رأيه، كنصه في: أحدِ الوجهين"
(4)
.
فما ذُكِرَ في القسمِ الثاني مِن الأقوالِ والأدلةِ والترجيحِ، يُذكرُ هنا.
وبذلك أكونُ قد أنهيتُ الجهةَ الأُولى المتعلقة بقولِ الإمامِ، ويبقى النظرُ في الجهةِ الثانيةِ، وهي: دلالةُ قولِ إمامِ المذهبِ.
ينقسمُ قولُ إمامِ المذهبِ باعتبارِ دلالتِه ثلاثةَ أقسام:
القسم الأول: القولُ الصريحُ في مدلولِه الذي لا يحتملُ غيرَه.
القسم الثاني: القولُ الظاهرُ في مدلولِه الذي يحتملُ غيرَه.
القسم الثالث: القولُ المحتملُ لشيئين، أو أكثر على السواءِ
(5)
.
(1)
انظر: تحرير المقال للدكتور عياض السلمي (ص/ 20)، والتخريج عند الفقهاء والأصوليين للدكتور يعقوب الباحسين (ص/ 204).
(2)
تهذيب الأجوبة (1/ 402).
(3)
في صفة الفتوى (ص/ 96): "وصفة"، وهي تحريف، ولعل المثبت هو الصواب؛ كما أوردها المرداوي في: الإنصاف (12/ 254).
(4)
صفة الفتوى (ص/ 96).
(5)
انظر: المصدر السابق (ص/ 85، 89)، والتحبير (8/ 3963)، والإنصاف (1/ 9)، و (12/ 240)، وشوح الكوكب المنبر (4/ 496).
القسم الأول: القولُ الصريحُ في مدلولِه الذي لا يحتملُ غيرَه.
إذا قال إمامُ المذهبِ قولًا صريحًا، ولا معارضَ له، نُسِبَ إليه
(1)
.
مثال ذلك: ما جاءَ في مسائلِ عبدِ الله بن أحمدَ
(2)
، قالَ: سمعتُ أبي سُئل عن العبدِ، كم يتزوجُ؟ قال:"اثنتين"
(3)
.
ويعبِّرُ الحنابلةُ عن هذا القسمِ بقولِهم: نصَّ عليه، أو المنصوص عنه
(4)
.
القسم الثاني: القولُ الظاهرُ في مدلولِه الذي يحتملُ غيرَه.
إذا قالَ إمامُ المذهبِ قولًا ظاهرًا في مدلولِه، نُسِبَ إليه، إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه
(5)
، ويجوزُ تأويلُه، بدليلٍ أقوى منه
(6)
.
مثالُ الظاهرِ الذي لم يَرِدْ له معارضٌ أرجحُ منه: قولُ الإمامِ أحمدَ بن حنبل في روايةِ المروذي: "إذا اختلفَ الصحابةُ، يُنْظَر إلى أقربِ القولين
(1)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 85).
(2)
هو: عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الرحمن، ولد سنة 213 هـ لم يكن أحد من الناس أروى عن أبيه منه، كان ملازمًا له، وقد طلب الحديث في حداثة سنه، كان كثير الحياء، صالحًا دينًا ثقةً ثبتًا فَهِمًا، حافظًا محدثًا جهبذًا ناقدًا، روى عن أبيه المسند - وله عليه زيادات - والزهد؛ وفضائل الصحابة، من مؤلفاته: الزوائد على مسند الإمام أحمد، والزوائد على كتاب الزهد للإمام أحمد، وكتاب السنة، ومسائل الإمام أحمد، توفي سنة 290 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (11/ 12)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/ 5)، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص/ 383)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (2/ 377)، وسير أعلام النبلاء (13/ 516)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (2/ 665)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (2/ 5)، والمنهج الأحمد للعليمي (1/ 313)، والدر المنضد له (1/ 68).
(3)
انظر: مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابنه عبد الله (3/ 1031).
(4)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 419)، وصفة الفتوى (ص/ 85)، والإنصاف (1/ 9).
(5)
انظر: العدة (1/ 141)، وصفة الفتوى (ص/ 89)، والإنصاف (12/ 247).
(6)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 89).
إلى الكتابِ والسنةِ"
(1)
.
فظاهرُ القولِ أنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم إذا اختلفوا على قولين، وأجمعَ التابعون على أحدِهما، فإنَّ الخلافَ لا يرتفعُ؛ لأنَّه رَجَعَ إلى موافقةِ الدليلِ، ولم يرجعْ إلى إجماعِ التابعين على أحدِ القولين
(2)
.
مثالُ الظاهرِ الذي خالفه ما هو أقوى منه: قولُ الإمامِ أحمدَ بن حنبل في رواية المروذي: "كيفَ يجوزُ للرجلِ أنْ يقولَ: أجمعوا؟ ! إذا سمعتَهم يقولون: أجمعوا، فاتَّهمهم، لو قال: إنِّي لم أعلمْ لهم مخالفًا، جازَ"
(3)
.
فظاهرُ كلامِ الإمامِ أحمدَ أنَّه يمنعُ صحةَ انعقادِ الإجماعِ.
يقولُ القاضي أبو يعلى: "وليس ذلك على ظاهرِه، وإنَّما قال ذلك على طريقِ الورعِ، نحوَ أنْ يكونَ هناك خلافٌ لم يبلغْه، أو قال هذا في حقِّ مَنْ ليس له معرفة بخلافِ السلفِ؛ لأنَّه أطلقَ القولَ بصحةِ الإجماعِ في روايةِ عبدِ الله، وأبي الحارثِ"
(4)
.
القسم الثالث: القولُ المحتملُ لشيئين، أو أكثر على السواء.
إذا كانَ اللفظُ الواردُ في كلامِ إمامِ المذهب محتملًا لمعنيينِ أو أكثر، ولا مُرجّحَ لأحدِ المعنيين، فلا يُنسب مدلولُ القوَلِ إليه؛ لأن اللفظَ مجملٌ، ولا يسوغُ أخذُ الحكمِ مِن لفظٍ مجملٍ
(5)
، وتتوقفُ نسبةُ مدلول القول على ورودِ البيانِ
(6)
.
فلو قالَ إمامُ المذهب مثلًا: تَعْتَدُّ المطلقةُ بالأقراء، فإنَّنا نثبتُ له القولَ - وهو اعتداد المرأة بَالأقراء - ونتوقفُ في مرادِه بالقُرْء.
(1)
نقل قولَ الإمام أحمد الحسنُ بن حامد في: تهذيب الأجوبة (1/ 445)، والقاضي أبو يعلى في: العدة (4/ 1105).
(2)
انظر: العدة (4/ 1106).
(3)
نقل أبو يعلى قولَ الإمام أحمد في: المصدر السابق (4/ 1060).
(4)
المصدر السابق.
(5)
انظر: فتاوى البرزلي (1/ 108).
(6)
انظر: صفة الفتوى (ص/ 90).