المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة الخامسة: تمذهب المجتهد - التمذهب – دراسة نظرية نقدية - جـ ١

[خالد الرويتع]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌أهمية الموضوع:

- ‌أسباب اختيار الموضوع:

- ‌أهداف الموضوع:

- ‌الدراسات السابقة:

- ‌خطة البحث:

- ‌الصعوبات الَّتي واجهت الباحث:

- ‌الشكر والتقدير:

- ‌الباب الأول: الدراسة النظرية للتمذهب

- ‌المبحث الأول تعريف التمذهب

- ‌المطلب الأول: تعريف التمذهب في اللغة

- ‌ تعريفَ المذهبِ في اللغَةِ

- ‌تعريف التمذهب في اللغة:

- ‌المطلب الثاني: تعريف التمذهب في الاصطلاح

- ‌تعريف المذهب اصطلاحًا:

- ‌التعريف المُخْتَار:

- ‌المناسبة بين التعريض اللغوي للمذهب والاصطلاحي:

- ‌تعريف التمذهب في الاصطلاح:

- ‌تعريف التمذهب عند المتأخرين:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي للتمذهب والتعريف الاصطلاحي:

- ‌المبحث الثاني: العلاقة بين التمذهب، والمصطلحات ذات الصلة

- ‌تمهيد

- ‌المطلب الأول: العلاقة بين التمذهب والتقليد

- ‌تعريف التقليد في اللغة:

- ‌تعريف التقليد في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي:

- ‌العلاقةُ بين التمذهبِ والتقليدِ:

- ‌المطلب الثاني: العلاقة بين التمذهب والاجتهاد

- ‌تعريف الاجتهاد في اللغة:

- ‌تعريف الاجتهاد في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والاجتهاد:

- ‌المطلب الثالث: العلاقة بين التمذهب والاتباع

- ‌ تعريفَ الاتّباع في اللغةِ

- ‌تعريف الاتباع في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والاتباع:

- ‌المطلب الرابع: العلاقة بين التمذهب والتأسي

- ‌تعريف التأسي في اللغة:

- ‌تعريف التأسي في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والتأسي:

- ‌المطلب الخامس: العلاقة بين التمذهب والتعصب

- ‌تعريف التعصب في اللغة:

- ‌تعريف التعصب في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والتعصب:

- ‌المطلب السادس: العلاقة بين التمذهب والخلاف

- ‌تعريفُ الخلاف في اللغة:

- ‌تعريف الخلاف في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي:

- ‌فائدة علم الخلاف:

- ‌العلاقة بين التمذهب والخلاف:

- ‌المطلب السابع: العلاقة بين التمذهب والانتصار للمذهب

- ‌تعريف الانتصار في اللغة:

- ‌تعريف الانتصار للمذهب في الاصطلاح:

- ‌العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:

- ‌العلاقة بين التمذهب والانتصار للمذهب:

- ‌المطلب الثامن: العلاقة بين التمذهب والصلابة في المذهب

- ‌تعريف الصلابة في اللغة:

- ‌تعريف الصلابة في المذهب في الاصطلاح:

- ‌ العلاقةِ بين التمذهبِ، والصلابةِ في المذهبِ

- ‌العلاقة بين التعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي:

- ‌المبحث الثالث: أركان التمذهب

- ‌المطلب الأول: إمام المذهب (صاحب المذهب)

- ‌توطئة

- ‌المسأله الأولى: تعريف إمام المذهب

- ‌المسألة الثانية: شروط إمام المذهب

- ‌النوع الأول: الشروطُ المتعلقةُ بالجانبِ الشخصي للمجتهدِ

- ‌النوع الثاني: الشروط المتعلقة بالجانب العلمي للمجتهد:

- ‌المسألة الثالثة: طرق إثبات أقوال إمام المذهب

- ‌توطئة

- ‌الفرع الأول: القول

- ‌الفرع الثاني: مفهوم القول

- ‌الفرع الثالث: الفعل

- ‌الفرع الرابع: السكوت

- ‌الفرع الخامس: التوقف

- ‌ طُرقِ معرفةِ توقّفِ إمامِ المذهبِ

- ‌الفرع السادس: القياس على القول

- ‌الفرع السابع: لازم القول

- ‌الفرع الثامن: ثبوت الحديث

- ‌المطلب الثاني: المتمذهب

- ‌توطئة

- ‌المسألة الأولى: تعريف المتمذهب

- ‌المسألة الثانية: شروط المتمذهب

- ‌المسألة الثالثة: العلاقة بين المتمذهب والمخرِّج

- ‌المسألة الرابعة: العلاقة بين المتمذهب والفروعي

- ‌المسألة الخامسة: تمذهب المجتهد

- ‌المسألة السادسة: مذهب العامي

- ‌المطلب الثالث: المذهب (المتمذهب فيه)

- ‌المسألة الأولى: تعريف المذهب في اللغة والاصطلاح

- ‌المسألة الثانية: محل التمذهب

- ‌المسائل التي ليست مجالًا للتمذهب:

- ‌المسأله الثالثة: شروط نقل المذهب

- ‌شروطُ الناقلِ عن إمامِ المذهبِ:

- ‌المسألة الرابعة: صور الخطأ في نقل المذهب

- ‌المسألة الخامسة: ألفاظ نقل المذهب

- ‌توطئة

- ‌الفرع الأول: الرواية

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للرواية:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للرواية:

- ‌الفرع الثاني: التنبيه

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للتنبيه:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للتنبيه:

- ‌الفرع الثالث: القول

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للقول:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للقول:

- ‌الفرع الرابع: الوجه

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للوجه:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للوجه:

- ‌الفرع الخامس: الاحتمال

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للاحتمال:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للاحتمال:

- ‌الفرع السادس: التخريج

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للتخريج:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للتخريج:

- ‌الفرع السابع: النقل والتخريج

- ‌الفرع الثامن: الصحيح

- ‌الفرع التاسع: المعروف

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للمعروف:

- ‌ثانيًا: المعروف في الاصطلاح:

- ‌الفرع العاشر: الراجح

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للراجح:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للراجح:

- ‌الفرع الحادي عشر: قياس المذهب:

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للقياس:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي لقياس المذهب:

- ‌الفرع الثاني عشر: المشهور من المذهب

- ‌أولا: التعريف اللغوي للمشهور:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي للمشهور من المذهب:

- ‌الفرع الثالث عشر: ظاهر المذهب

- ‌أولًا: التعريف اللغوي للظاهر:

- ‌ثانيًا: التعريف الاصطلاحي لظاهر المذهب:

الفصل: ‌المسألة الخامسة: تمذهب المجتهد

ويظهر لي أنَّ الأقربَ عدمُ إطلاقِ لفظِ: (الفقيه) على الفروعي؛ ولعل مَنْ أطلق عليه لفظ: (الفقيه) اتجه نظرُه إلى حفظِ الفروعي للمسائلِ الفقهيةِ، فناسَبَ مِنْ هذه الجهةِ تسميته بالفقيه؛ لحفظِه للفقه، والمسألةُ - كما هي ظاهرة - لفظيةٌ اصطلاحيةٌ، ولا مشاحةَ في الاصطلاح.

ويمكنُ القول في بيانِ العلاقة بين المتمذهب والفروعي: إنَّ المتمذهبَ والفروعي يجتمعان في أنَّ كلًّا منهما يلتزمُ أقوالَ إمامٍ معيّنٍ في الفروعِ.

والفرق بينهما يظهر في أنَّ الفروعي يمثلُ طبقةً مِنْ طبقاتِ المتمذهبين - وهي الطبقةُ الدُنيا - إذ المتمذهبون طبقاتٌ، وأدنى هذه الطبقات مَن اكتفى بحفظِ فروعِ مذهبِه مجردةً عن أدلتِها، دونَ معرفةٍ بأصولِ الفقهِ.

وبناءً على ما تقدم آنفًا، فكلُّ فروعي متمذهبٌ، دونَ العكسِ، والنسبة بينهما هي العمومُ والخصوصُ المطلقُ.

‌المسألة الخامسة: تمذهب المجتهد

مِن المعلوم أن رتبةَ الاجتهادِ أعلى مِن التمذهبِ، والمجتهدُ أعلى قدرًا مِن المتمذهبِ، لكنْ إذا بَلَغَ العالمُ رتبةَ الاجتهادِ المطلقِ في الشرعِ، فهل له أنْ يتمذهبَ بمذهبٍ معيَّنٍ؟

يمكن القولُ بأنَّ لتمذهبِ المجتهدِ ثلاث حالاتٍ:

الحالة الأولى: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معينٍ، دون أنْ يكونَ لهذه النسبةِ أثرٌ في اجتهادِه.

الحالة الثانية: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معينٍ، ويأخذ بقولِ إمامِه في بعضِ المسائلِ على سبيلِ الاتباعِ.

الحالة الثالثة: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معينٍ، ويأخذ بقولِ إمامِه في بعضِ المسائلِ على سبيلِ التقليدِ.

ص: 348

الحالة الأولى: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معينٍ، دون أنْ يكونَ لهذه النسبةِ أثرٌ في اجتهادِه.

قد يبلغُ العالمُ رتبةَ الاجتهادِ في الشريعة، ومع بلوغِه هذه الرتبة، إلا أنَّه ينتسب إلى مذهبِ إمامٍ معيَّنٍ، دون أنْ يكون لهذه النسبةِ أثرٌ في اجتهادِه، فهو متمذهبٌ بالاسمِ فقط، دون الحقيقةِ، ولهذه الحالةِ صورتان:

الصورة الأولى: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معيَّنٍ، دون أنْ يكونَ لهذه النسبةِ أثرٌ في اجتهادِه، ولا يذكر أقوالَ إمامِه فيما يختاره مِن المسائلِ.

الصورة الثاني: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معيَّنٍ، دونَ أنْ يكونَ لهذه النسبةِ أثرٌ في اجتهادِه، ولا يذكر أقوالَ إمامِه فيما يختارُه مِن المسائلِ.

الصورة الأولى: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معيَّنٍ، دون أنْ يكونَ لهذه النسبةِ أثرٌ في اجتهادِه، ولا يذكر أقوالَ إمامِه فيَما يختاره مِن المسائلِ.

الذي يظهرُ لي في حكمِ التمذهب في هذه الصورةِ، أنَّه لا محذور فيه؛ لانتفاءِ تأثيرِه في الاجتهادِ.

لكنْ يبقى النظرُ في استحباب انتساب المجتهدِ إلى مذهبٍ معيَّنٍ مِنْ عدمِه، عائدًا إلى ما يحققه الانتسابُ مِنْ أَثرٍ إيجابي للمجتهدِ نفسِه، فقد ينشأُ المجتهدُ بين أناسٍ اعتادوا النسبةَ المذهبيةَ، ولا يُؤثر عندهم إغفالها، بلْ قد يكونُ إغفالُ المجتهدِ لها سببًا في عدمِ قبولِ الناسِ منه، فالأفضلُ للمجتهدِ في هذه الحالة الانتسابُ إلى المذهب؛ لئلا يردّ الناسُ ما يأتي به من أقوال، والعكسُ بالعكسِ.

يقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "فأمَّا الانتسابُ الذي يُفَرّق بين المسلمين، وفيه خروجٌ عن الجماعةِ والائتلافِ إلى الفرقة، فهذا ممَّا يُنْهَى عنه"

(1)

.

(1)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام (11/ 514).

ص: 349

الصورة الثاني: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهب معيَّنٍ، دونَ أنْ يكونَ لهذه النسبةِ أثرٌ في اجتهادِه، ويذكر أقوالَ إمامِه فيما يختارُه مِن المسائلِ.

إذا بَلَغَ العالمُ رتبةَ الاجتهادِ في الشريعةِ، وانتسبَ إلى مذهب معيَّنٍ، واجتهدَ في مسألةٍ مِن المسائلِ، وتوصَّلَ فيها إلى رأي وافقَ فيه قولَ إمامِه، ومع ذلك فإنَّه ينسبُ قولَه إلى إمامِه، كأنْ يقول مثلًا: هذا قول إمامي، أو: هذا مذهب الأصحاب، مع أنَّه لم يذهبْ إليه إلا بعدَ اجتهادٍ ونظرٍ، وكذلك لو أَخَذَ بأصولِ مذهبِه وقواعدِه بعد قناعتِه بها: فالذي يظهرُ لي في حكم هذه الصورةِ أنَّه لا محذورَ فيها؛ لأنَّه لا أثرَ لجعلِ ما يختارُه المجتهدُ قولَ إمامه أو مذهب أصحابه؛ وذلك لتحققِ الاجتهاد منه، ولأنَّه لم يذكرْ قولًا يخالفُ ما تقرر عنده.

يقولُ أبو إسحاقَ الإسفراييني: "الصحيحُ الذي ذَهَبَ إليه المحققون، ما ذَهَبَ إليه أصحابُنا، وهو أنَّهم - أيْ: أصحاب الشافعي - صاروا إلى مذهبِ الشافعي رحمه الله لا على جهةِ التقليدِ له، ولكنْ لمَّا وجدوا طريقَه في الاجتهادِ والفتاوى أسدَّ الطرقِ وأولاها، ولم يكنْ لهم بُدٌّ مِن الاجتهادِ، سلكوا طريقَه في الاجتهادِ، وطلبوا معرفةَ الأحكامِ بالطريقِ الذي طلبها الشافعيُّ به"

(1)

.

الحالة الثانية: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معيَّنٍ، ويأخذ بقولِ إمامِ المذهبِ في بعضِ المسائلِ على سبيل الاتباعِ.

قد يطَّلعُ المجتهدُ المنتسبُ إلى مذهب معيَّنٍ على دليلِ قولِ إمامِه، ولا يعرفُ له معارضًا، لكنَّه لم يستكمل النظرَ في المسألةِ، فيقول فيها بقولِ إمامِه؛ للدليلِ الدالِّ عليه.

والذي يظهرُ لي في حكمِ هذه الحالة جوازُ التمذهب؛ لانتفاءِ المحذورِ، وهو القولُ بلا دليلٍ، لكنَّ الأفضلَ للمجتهدِ استكمالُ النظرِ في المسألةِ فيما لو أرادَ العملَ، أو الإفتاءَ.

(1)

نقل كلام أبي إسحاق ابنُ الصلاح في: أدب المفتي والمستفتي (ص/ 92).

ص: 350

الحالة الثالثة: أنْ ينتسبَ المجتهدُ إلى مذهبٍ معينٍ، ويأخذ بقولِ إمامِه في بعضِ المسائل على سبيلِ التقليدِ.

قد يبلغُ العالمُ رتبةَ الاجتهادِ في الشريعةِ، ومع بلوغِه تلك المنزلة العلمية، إلا أنَّه ينسبُ نفسَه إلى مذهبِه - الذي تخرَّج فيه - ومع بلوغِه رتبةَ الاجتهادِ، قد يأخذُ بقولِ إمامِه في بعضِ المسائلِ على سبيلِ التقليدِ، أي: أنَّ المجتهدَ في هذه الحالةِ أَخَذَ بالقولِ؛ لأنَّ إمامَه قال به، فما حكمُ التمذهبِ في هذه الحالةِ؟

يُبْنَى الحكمُ في هذه الحالةِ على ما حرره الأصوليون في مسألةِ: (تقليد المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين)؛ ولذا سأعرضُ هذه المسألةَ، ثم أُبيّنُ القولَ الراجحَ فيها، والذي ينطبقُ على الحالةِ الثالثةِ.

وقبلَ الدخولِ في تفاصيلِ مسألةِ: (تقليد المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين)، أنبّه إلى أنَّ الأقوالَ فيها كثيرةٌ، وسأقتصرُ في عرضِها على أهمِّها ممَّا له علاقةٌ مباشرةٌ بمسألتنِا، أمَّا الأقوالُ التي لا تُؤثر في مسألتنا - كالقولِ بجوازِ تقليدِ الصحابةِ فقط، أو جوازِ تقليدِ الصحابةِ والتابعين - فلن أعرضَ لها؛ لعدمِ تأثيرِها في مسألتِنا.

• صورة المسألة:

هل يجوزُ للمجتهدِ أنْ يقلَّد مجتهدًا آخر في مسألةِ مِن المسائلِ، دونَ معرفةِ دليلِ قولِه؟

• تحرير محل النزاع:

يمكنُ تحريرُ محلِّ النزاعِ في ضوءِ الآتي:

أولًا: اتفقَ العلماءُ على أن المجتهدَ إذا توصَّلَ إلى رأي محددٍ في مسألةٍ مِن المسائل، فلا يجوزُ له أنْ يقلِّدَ فيها مجتهدًا آخر.

حكى الاتفاقَ جمعٌ مِن المحققين، منهم: أبو المظفرِ السمعاني

(1)

،

(1)

انظر: قواطع الأدلة (5/ 168).

ص: 351

وأبو حامدٍ الغزالي

(1)

، والفخرُ الرازي

(2)

، والموفقُ بنُ قدامة

(3)

، والآمديُّ

(4)

، وابنُ الحاجبِ

(5)

، وسراجُ الدينِ الأرموي

(6)

، وشهابُ الدين القرافيُّ

(7)

، وصفيُّ الدينِ الهندي

(8)

، والطوفيُّ

(9)

، وبدرُ الدين الزركشي

(10)

، وابنُ الهمامِ

(11)

، وابنُ مفلحٍ

(12)

، وابنُ عبد الشكور

(13)

، وعبدُ العلي الأنصاري

(14)

، ومحمد الأمين الشنقيطي

(15)

.

(1)

انظر: المستصفى (2/ 457).

(2)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 83).

(3)

انظر: روضة الناظر (3/ 1008).

(4)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 204).

(5)

انظر: مختصر منتهى السول (2/ 1235).

(6)

انظر: التحصيل من المحصول (2/ 305). وسراج الدين الأرموي هو: محمود بن أبي بكر بن أحمد بن حامد الأرموي، سراج الدين أبو الثناء الأذربيجاني الدمشقي، ولد في مدينة أرمية سنة 594 هـ كان قاضي القضاة في زمانه، وقد برع في عدة فنون، وحاز قصب السبق في المعقول والمنقول، فكان منطقيًا حكيمًا، مفسرًا جدليًا أصوليًا فقيهًا، متكلمًا، شاعرًا، من مصنفاته: التحصيل من المحصول، ومطالع الأنوار، ومقاصد العقول من معاقد المحصول، توفي بمدينة قونية سنة 682 هـ. انظر ترجمته في: طبقات الشافعية لابن السبكي (8/ 371)، وطبقات الشافعية للأسنوي (1/ 155)، وهدية العارفين للبغدادي (2/ 456)، والأعلام للزركلي (7/ 166)، ومقدمة محقق كتاب التحصيل من المحصول (1/ 15).

(7)

انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 443).

(8)

انظر: الفائق في أصول الفقه (5/ 106).

(9)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 629).

(10)

انظر: البحر المحيط (6/ 285).

(11)

انظر: التحرير (4/ 227) مع شرحه تيسير التحرير.

(12)

انظر: أصول الفقه (4/ 1515).

(13)

انظر: مسلم الثبوت (2/ 392) مع شرحه فواتح الرحموت.

(14)

انظر: فواتح الرحموت (2/ 392). وعبد العلي الأنصاري هو: عبد العلي محمد بن نظام الدين محمد بن عبد الحليم الأنصاري اللكنوي الهندي، أبو العياش، ولد بمدينة لكنو، ونشأ بها، كان علامةً عالمًا فقهيًا أصوليًا منطقيًا، حنفي المذهب، معدوم النظير في زمانه، اشتغل بالتدريس والإفادة، من مؤلفاته: فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت، وتنوير المنار شرح منار الأنوار، توفي بمِدْراس سنة 1225 هـ. انظر ترجمته في: هدية العارفين للبغدادي (1/ 586)، ونزهة الخواطر لعبد الحي الحسني (7/ 1021)، ومعجم المؤلفين لكحالة (3/ 669).

(15)

انظر: أضواء البيان (7/ 520).

ص: 352

الأدلة على عدم جواز التقليد في هذه الحالة، ما يأتي:

الدليل الأول: أنَّ ظنَّ المجتهدِ لا يساوي الظنَّ المستفادَ مِنْ غيرِه، والعملُ بأقوى الظنين واجبٌ

(1)

.

يقولُ الشيخُ محمد بخيت المطيعي: "إنَّما حرُم ذلك - أيْ: تقليد المجتهد لغيره - ووَجَبَ عليه العملُ بظنّه؛ لأنَّ ظنَّه الحاصلَ له باجتهادِه أقوى؛ لعلمِه بكيفيةِ استنتاجِه، وأمَّا غيرُه، فيحتمل أنَّ في كيفيةِ استنتاجِه خللًا عنده لو اطَّلعَ عليه، وكيفَ يجوزُ التقليدُ مِنْ بعدِ الاجتهادِ، وحصولِ الظنِّ؟ ! وكلُّ مجتهدٍ يعتقدُ أنَّ ما استدلَّ به وأَخَذَ به الحُكمَ دليلٌ، وما أَخَذَ به مخالفُه شبهةُ دليلٍ، فكيفَ يجوزُ أن يتركَ ما يقتضيه الدليلُ إلى ما تقتضيه شبهةُ دليل؟ ! "

(2)

.

الدليل الثاني: أنَّ ما علمَه المجتهدُ باجتهادِه هو ما يعتقده حكمًا لله، فلا يتركُه لقولِ أحدٍ

(3)

.

لكنْ يُشكلُ على حكايةِ الاتفاقِ السابقِ أمران:

الأمر الأول: ما ذكرُه أبو بكرٍ الجصاص، وأبو عبد الله الصيمري

(4)

عن الإمامِ أبي حنيفةَ، مِنْ أنَّ المجتهدَ إذا اجتهدَ، وتوصَّلَ إلى رأي، فله أنْ يأخذَ باجتهادِه، وله أنْ يقلَّدَ غيرَه إذا كانَ أعلمَ منه.

يقولُ أبو بكرٍ الجصاص: "وقد اختلفَ أصحابُنا فيمَنْ كان مِنْ أهلِ

(1)

انظر: البحر المحيط (6/ 285).

(2)

سلم الوصول (4/ 587 - 588).

(3)

انظر: فواتح الرحموت (2/ 392).

(4)

هو: الحسين بن علي بن محمد، أبو عبد الله الصيمري، كان علامةً فقيهًا أصوليًا، صدوقًا، وافر العقل، حسن المعشر، عارفًا حقوق العلماء، حسن العبارة، جيد النظر، من كبار علماء الحنفية، ومن كبار الفقهاء المناظرين، ولي قضاء المدائن، من مؤلفاته: مسائل الخلاف، توفي سنة 436 هـ وله إحدى وثمانون سنة. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (8/ 634)، والأنساب للسمعاني (8/ 128)، وسير أعلام النبلاء (17/ 615)، والبداية والنهاية (15/ 693)، والجواهر المضية للقرشي (2/ 116)، والفوائد البهية للكنوي (ص/ 87).

ص: 353

الاجتهادِ، هل يجوزُ له تقليدُ مَنْ هو أعلمُ منه؟

وذَكَرَ أبو الحسن

(1)

أنَّه قول أبي حنيفةَ: إنَّ له تقليدَه، وأنَّ له أنْ يعملَ برأيه"

(2)

.

ويقولُ أبو عبد الله الصيمري: "عند أبي حنيفةَ: أن للعالمِ أنْ يقلِّد غيرَه مِن العلماءِ، وَيدَعَ قولَ نفسِه، وإنْ عملَ على رأيه جازَ له"

(3)

.

وأمامنا تجاه ما جاءَ عن الإمامِ أبي حنيفةَ أمورٌ:

الأول: أنْ نردَّ الاتفاقَ المحكيَّ في المسألةِ؛ لوجودِ الخلافِ المنقولِ عن الإمامِ أبي حنيفةَ.

وفي هذا الأمرِ بُعدٌ؛ لتتابعِ محققي الأصوليين - ومنهم علماءُ مِن المذهب الحنفي - على حكايةِ الاتفاقِ، دونَ أدنى إشارةٍ إلى ما وَرَدَ عن الإمامِ أَبي حنيفةَ.

الثاني: أنْ نضعّفَ ثبوتَ ما وَرَدَ عن الإمامِ أبي حنيفةَ، فنجعل القولَ المذكورَ غيرَ ثابتٍ عنه.

الثالث: أنْ نؤولَ كلامَ الإمامِ أبي حنيفةَ بحملِه على ما إذا كان رأيُ المجتهدِ مخالفًا لقولِ صحابي، فحينئذٍ يُخيَّر

(4)

.

(1)

المقصود بأبي الحسن هو أبو الحسن الكرخي، وهو: عبيد الله بن الحسين بن دلال البغدادي الكرخي، أبو الحسن، ولد سنة 260 هـ كان إمامًا فقيهًا أصوليًا كبير القدر، زاهدًا قانعًا، متعففًا عابدًا، دينًا خيّرًا فاضلًا، انتهت إليه رئاسة المذهب الحنفي، واشتهر اسمه، وبَعُد صيته، رماه أبو الحسن بن الفرات بالاعتزال، ونعته شمس الدين الذهبي بأنه رأس في الاعتزال، من مؤلفاته: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والأشربة، توفي سنة 340 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (12/ 74)، وسير أعلام النبلاء (15/ 426)، والبداية والنهاية (15/ 209)، والجواهر المضية للقرشي (2/ 493)، وتاج التراجم لقطلوبغا (ص / 200)، ولسان الميزان لابن حجر (5/ 321)، والفوائد البهية للكنوي (ص/ 139).

(2)

الفصول في الأصول (4/ 283).

(3)

مسائل الخلاف في أصول الفقه (ص/378).

(4)

قارن بالمسودة (2/ 862).

ص: 354

الرابع: أنْ نؤولَ كلامَ الإمامِ أبي حنيفة بحملِه على أنَّ للمجتهدِ أنْ يأخذَ بقولِ نفسِه، وله أنْ يقلدَ غيرَه، إذا وَجَدَ في رأي غيرِه قوةً.

ويدلُّ على الرابعِ: ما ذكره أبو بكرٍ الجصاص، وأبو عبد الله الصيمري عند استدلالهم لقولِ الإمامِ أبي حنيفة، يقول أبو بكرٍ الجصاص:"فلم يخلُ في تقليدِه - أيْ: المجتهد - إياه - أي: المجتهد المقلَّد - مِنْ أنْ يكونَ مستعملًا لضربٍ مِن الاجتهادِ، يُوجبُ عنده رجحان قولِ مَنْ قلَّده على قولِه"

(1)

.

ويقولُ أبو عبد الله الصيمري: "إذا رأى اجتهادَ غيرِه أقوى مِنْ اجتهادِه، كان ذلك ضربًا مِن الاجتهادِ، فلمَّا جازَ أنْ يأخذَ بما يؤدي إليه اجتهادُه، جازَ له أن يأخذَ بقولِ غيرِه"

(2)

.

ولعل الأمرَ الرابع هو أقرب شيءٍ يُمكنُ أنْ يُقالَ في شأنِ ما وَرَدَ عن الإمامِ أبي حنيفةَ، وبناءً عليه يبقى الاتفاقُ المحكي سالمًا.

الأمر الثاني: ساقَ أبو الخطاب حين عَرَضَ الأقوالَ في المسألةِ قولًا مفادُه أنَّ للمجتهدِ إنْ لم يجتهدْ أنْ يقَلِّد غيرَه مِن المجتهدين على الإطلاقِ، وإن اجتهد، فلا يجوزُ له التقليدُ

(3)

.

وظاهرُ هذا التفصيلِ يدلُّ على أنَّ المجوزين جوَّزوا التقليدَ على الإطلاقِ، سواء أكان قبلَ اجتهادِ المجتهدِ، أم بعد اجتهادِه

(4)

.

وقدْ أجابَ عن هذا الإشكالِ تقيُّ الدين بنُ تيمية، بقولِه: "وهذا الذي ذكره أبو الخطابِ يدل على أنَّ المجيزين على الإطلاقِ جوَّزوا التقليدَ بعدَ الاجتهادِ، حيثُ جَعَلَ التفصيلَ قولًا، ثمَّ ذَكَرَ أبو الخطابِ في أثناءِ

(1)

الفصول في الأصول (4/ 384).

(2)

مسائل الخلاف في أصول الفقه (ص/378).

(3)

انظر: التمهيد في أصول الفقه (4/ 409).

(4)

انظر: المسودة (2/ 862).

ص: 355

المسألةِ: أن المجتهدَ لو اجتهدَ، فأدّاه اجتهادُه إلى خلافِ قولِ مَنْ هو أعلمُ منه، لم يجزْ تركُ رأيه والأخذ برأي ذلك الغيرِ، فَوَجَبَ أنْ لا يجوزَ، وإنْ لم يجتهدْ، لأنَّه لا يأمن

(1)

لو اجتهدَ أنْ يؤديه اجتهادُه إلى خلافِ ذلك القول

(2)

، فقد جَعَلَ المنعَ مِنْ تقليدِه بعدَ الاجتهادِ محل وفاقٍ"

(3)

.

ثانيًا: اتفقَ الأصوليون على أنَّ للمجتهدِ إذا اجتهدَ، وتوصّلَ إلى رأي محددٍ، تَرْكَ قولِ الأعلمِ.

يقولُ أبو حامدٍ الغزالي: "وله - أيْ: المجتهد إذا توصّلَ إلى رأي - أنْ يأخذَ بظنِّ نفسِه وفاقًا، ولم يلزمْه تقليدُه - أي: الأعلم - لكونِه أعلم"

(4)

.

ويقولُ أبو الخطاب: "لا خلافَ أنَّه يجوزُ تركُ قولِ الأعلم باجتهادِه"

(5)

.

وقد حكى ابنُ مفلحٍ

(6)

، وأمير باد شاه

(7)

الاتفاقَ على هذا الأمرِ.

ثالثًا: حكى بعضُ الأصوليين الاتفاقَ على أنَّه يجوزُ للمجتهدِ أنْ يقلِّد غيرَه مِن المجتهدين عند ضيقِ الوقتِ، وعُسرِ الوصولِ إلى الحكمِ.

يقولُ أبو حامدٍ الغزالي: "وقد اتفقوا على جوازِ التقليدِ عند ضيقِ الوقتِ، وعُسْرِ الوصولِ إلى الحكمِ بالاجتهادِ والنظرِ"

(8)

.

ويقولُ الشيخُ محمد بخيت المطيعي: "وكل ما حُكي مِنْ هذه الأقوالِ - وغيرِها ممَّا لم يحكَ هنا - إنَّما هو عند تمكّنِ المجتهدِ مِن الاجتهادِ، وأمَّا إذا لم يتمكنْ بأنْ مَنَعَه مانعٌ، أو خاف فوتَ الحادثةِ، فلا خلافَ في

(1)

في: المصدر السابق (2/ 862): "يأس"، وصححتها من التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 412).

(2)

انظر: التمهيد في أصول الفقه (4/ 412).

(3)

المسودة (2/ 862).

(4)

المستصفى (2/ 461).

(5)

التمهيد في أصول الفقه (4/ 412). وانظر: المسودة (2/ 863).

(6)

انظر: أصول الفقه (4/ 1517).

(7)

انظر: تيسير التحرير (4/ 229).

(8)

المنخول (ص/ 477).

ص: 356

جوازِ تقليدِه مجتهدًا آخر"

(1)

.

وما حكاه الغزاليُّ، والمطيعيُّ محلُّ نظرٍ؛ لوجودِ المخالفِ في تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين حتى عند ضيقِ الوقتِ؛ يقولُ أبو إسحاقَ الشيرازي:"فأمَّا العالمُ فلا يجوزُ له تقليدُ غيرِه في شيءٍ مِن الشرعيات، سواء خَشِيَ فواتَ الوقتِ، أو لم يخشَ الفواتَ"

(2)

.

ثمَّ إنَّ أبا حامد الغزاليَّ لم يحكِ هذا الاتفاق في كتابِه: (المستصفى) حين تكلّمَ عن المسألةِ

(3)

.

ويمكنُ حملُ ما حكاه الغزاليُّ والمطيعيُّ على أنَّ الأَوْلى أنْ لا يقعَ في هذه الحالةِ خلافٌ، فيُحمل كلامُهما على الأولويةِ، وقد صرَّح بها ابنُ الهمامِ الحنفي

(4)

.

أو يُحملُ كلامُهما على بعضِ الصورِ الجزئيةِ التي يترتبُ على الاجتهادِ فيها تفويتُ مصلحةٍ كبرى، كما لو قلَّد المجتهدُ في القبلةِ - وكان مِنْ أهلِ الاجتهادِ فيها - مجتهدًا آخر إذا ضاق الوقتُ، وخافَ فوات الصلاةِ فيما لو اشتغلَ بالاجتهادِ

(5)

.

رابعًا: محل الخلافِ في المجتهدِ قبلَ أنْ يتوصلَ إلى رأي محددٍ - سواء اجتهدَ فلم يتوصلْ إلى شيء، أو لم يجتهدْ أصلًا - هل له أنْ يقلِّدَ مجتهدًا آخر؟

• الأقوال في المسألة:

اختلفَ العلماءُ في هذه المسألةِ على أقوال كثيرة، أهمّها:

القول الأول: المنعُ مِنْ تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين مطلقًا، سواءٌ مع ضيقِ الوقتِ أو مع سعتِه، وسواء أكان المقلَّدُ أعلمَ أم لا.

(1)

سلم الوصول (4/ 592).

(2)

شرح اللمع (2/ 1012).

(3)

انظر: المستصفى (2/ 457 - 461).

(4)

انظر: التحرير (4/ 228) مع شرحه تيسير التحرير.

(5)

انظر: البرهان (2/ 876).

ص: 357

هذا القولُ هو إحدى الروايتين عن الإمامِ أبي حنيفةَ

(1)

. ونَسَبَه أبو الحسنِ الكرخي إلى أبي يوسفَ، ومحمد بن الحسن

(2)

، ونَسَبَه أبو عبد الله الصيمري إلى أبي يوسف أيضًا

(3)

. ونَسَبَه ابنُ القصار

(4)

إلى الإمامِ مالكٍ، وجماعةٍ مِن الفقهاءِ

(5)

، وجعلَ أبو الوليد الباجي هذا القولَ هو الأشبه بقولِ الإمامِ مالكٍ

(6)

.

وهذا القولُ هو ظاهرُ قولِ الإمامِ الشافعي

(7)

. ونَسَبَه أبو الوفاءِ بنُ عقيل إلى إسحاقَ بن راهويه

(8)

(1)

انظر: المعتمد (2/ 942).

(2)

انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 283). ومحمد بن الحسن هو: محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني مولاهم الكوفي، أبو عبد الله، ولد بواسط بالعراق سنة 132 هـ وقيل: سنة 131 هـ نشأ بالكوفة، كان محدثًا فقهيًا عالمًا صدوقًا، وأحد أئمة المذهب الحنفي، وأشهر أصحاب الإمام أبي حنيفة، تفقه بأبي حنيفة وأبي يوسف، وكتب عن الإمام مالك كثيرًا، وقد انتهت إليه رئاسة الفقه في العراق بعد أبي يوسف، ولي القضاء للرشيد، وكان يُضرب بذكائه المثل، من مؤلفاته: الأصل، والجامع الصغير، والجامع الكبير، والزيادات، والسير الصغير، والسير الكبير، توفي بالري سنة 189 هـ وقال الرشيد:"دفنت الفقه بالري". انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (2/ 561)، والانتقاء في فضائل الأئمة لابن عبد البر (ص/ 337)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص / 128)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (4/ 184)، وسير أعلام النبلاء (9/ 134)، والجواهر المضية للقرشي (3/ 122)، وتاج التراجم لقطلوبغا (ص/ 237).

(3)

انظر: مسائل الخلاف في أصول الفقه (ص/ 378)، والعدة (4/ 1230).

(4)

هو: علي بن عمر بن أحمد البغدادي، أبو الحسن، المعروف بابن القصار، من كبار تلامذة القاضي أبي بكر الأبهري، كان فقيهًا أصوليًا نظارًا علامةً ثقةً، من كبار علماء المذهب المالكية في وقته، قليل الحديث، ولي قضاء بغداد، قال عنه أبو ذر الهروي:"هو أفقه من رأيت من المالكيين"، من مؤلفاته: المقدمة في أصول الفقه، وعيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار، توفي سنة 398 هـ وقيل: 397 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (13/ 396)، وطبقات الفقهاء للشيرازي (ص / 157)، وترتيب المدارك للقاضي عياض (7/ 70)، وسير أعلام النبلاء (17/ 107)، والديباج المذهب لابن فرحون (2/ 100)، وشجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 92).

(5)

انظر: مقدمة في أصول الفقه (ص/ 140 - 141).

(6)

انظر: إحكام الفصول (ص / 721).

(7)

انظر: البحر المحيط (6/ 285).

(8)

انظر: الواضح في أصول الفقه (5/ 244).

ص: 358

وهو ظاهرُ كلامِ الإمامِ أحمدَ بن حنبل

(1)

.

ونَسَبَه أبو الحسين البصري

(2)

، والآمديُّ

(3)

، وتاجُ الدينِ بنُ السبكي

(4)

إلى أكثر الفقهاءِ. ونَسَبَه الباجيُّ إلى أكثرِ المالكيةِ البغداديين

(5)

. ونَسَبَه الفخرُ الرازي إلى أكثرِ الشافعيةِ

(6)

. ونَسَبَه شهابُ الدين القرافي

(7)

، وابنُ جزي المالكي

(8)

إلى أكثرِ أهلِ السنةِ.

واختاره جمعٌ مِن محققي الأصوليين، منهم: القاضي أبو بكرٍ الباقلاني

(9)

، وأبو إسحاقَ الإسفراييني

(10)

، والقاضي أبو يعلى

(11)

، وأبو الوليد الباجي

(12)

، وأبو إسحاقَ الشيرازي

(13)

، وأبو الخطاب

(14)

، وأبو الوفاءِ بن عقيلٍ

(15)

، والفخرُ الرازي

(16)

، والآمديُّ

(17)

، وابنُ الحاجبِ

(18)

، ومحيي الدين النووي

(19)

، والقاضي البيضاوي

(20)

،

(1)

انظر: العدة (4/ 1229)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 408)، والواضح في أصول الفقه (5/ 244).

(2)

انظر: المعتمد (2/ 942).

(3)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 204).

(4)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2952).

(5)

انظر: إحكام الفصول (ص/ 721).

(6)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 83).

(7)

انظر: شرح تنفيح الفصول (ص/ 443)،

(8)

انظر: تقريب الوصول (ص/ 456).

(9)

انظر: إحكام الفصول (ص / 721)، والمنخول (ص/ 476)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 204).

(10)

انظر: شرح اللمع (2/ 1012)، والمنخول (ص/ 476).

(11)

انظر: العدة (4/ 1229).

(12)

انظر: إحكام الفصول (ص/ 721).

(13)

انظر: التبصرة (ص/ 403)، وشرح اللمع (2/ 1012).

(14)

انظر: التمهيد في أصول الفقه (4/ 408).

(15)

انظر: الواضح في أصول الفقه (5/ 244).

(16)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 84).

(17)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 204).

(18)

انظر: مختصر منتهى السول (2/ 1232).

(19)

انظر: روضة الطالبين (1/ 100).

(20)

انظر: منهاج الوصول (2/ 1087) مع شرحه السراج الوهاج.

ص: 359

والطوفي

(1)

.

القول الثاني: يجوزُ للمجتهدِ أنْ يُقلِّدَ مجتهدًا آخر مطلقًا، سواء مع ضيقِ الوقتِ أو سعتِه، وسواءٌ أكان أعلمَ منه أم لا.

نَسَبَ أبو عبدِ الله الصيمريُّ هذا القول إلى الإمامِ أبي حنيفةَ، ومحمد بن الحسن

(2)

، ونَسَبَه أبو الوليدِ الباجي إلى بعضِ أصحاب الإمامِ أبي حنيفةَ

(3)

. ونَسَبَه الباجي

(4)

أيضًا، وأبو إسحاقَ الشيرازي

(5)

، وأبو حامدٍ الغزالي

(6)

، والفخرُ الرازي

(7)

، والآمديُّ

(8)

، وتاجُ الدينِ بنِ السبكي

(9)

إلى الإمامِ أحمدَ بن حنبل، وإسحاقَ بنِ راهويه، وسفيانَ الثوري.

واختاره المزنُّي

(10)

مِن الشافعيةِ

(11)

.

وقد تعقَّبَ جمعٌ مِنْ محققي الحنابلةِ نسبةَ القولِ بالجوازِ مطلقًا إلى

(1)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 629).

(2)

انظر: مسائل الخلاف في أصول الفقه (ص/378). وتبع الصيمريَّ في نسبة القول بعضُ الحنفية. انظر: تيسير التحرير (4/ 228)، وفواتح الرحموت (2/ 393).

(3)

انظر: إحكام الفصول (ص/ 721).

(4)

انظر: المصدر السابق.

(5)

انظر: التبصرة (ص/ 403)، وشرح اللمع (2/ 1013).

(6)

انظر: المستصفى (2/ 458).

(7)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 83).

(8)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 204).

(9)

انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2953).

(10)

هو: إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو، أبو إبراهيم المزني المصري، ولد سنة 175 هـ كان أحد أئمة مذهب الإمام الشافعي، وناصر مذهبه، فقيهًا أصوليًا زاهدًا ورعًا متقللًا من الدنيا حافظًا صدوقًا، جبلًا في العلم، مناظرًا محجاجًا، قال الإمامُ الشافعي في وصفه:"لو ناظر الشيطان لغلبه"، وكان قليل الرواية، لكنه رأس في الفقه، من مؤلفاته: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمختصر، والمنثور، والترغيب في العلم، توفي بمصر سنة 264 هـ. انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 97)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 196)، وسير أعلام النبلاء (12/ 492)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 93)، وطبقات الشافعية لابن هداية الله (ص/ 20)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 148).

(11)

انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني (3/ 448).

ص: 360

الإمامِ أحمدِ؛ يقولُ أبو الخطاب: "وحَكَى أبو إسحاقَ الشيرازي أنَّ مذهبَنا: جوازُ تقليدِ العالمِ للعالمِ.

وهذا لا نعرفه عن أصحابِنا! وقد بينّا كلامَ صاحبِ مقالتِنا"

(1)

.

ومقالةُ الإمامِ أحمدَ هي: "لا تقلِّدْ دينك الرجالِ؛ فإنَّهم لن يسلموا أنْ يغلطوا"

(2)

.

ويقول الطوفيُّ: "ما حكاه - أيْ: الآمدي - عن أحمدَ مِنْ جوازِ تقليدِ العالمِ للعالمِ مطلقًا، غيرُ معروفٍ عندنا، وإنَّما المشهورُ عنه الأخذ بقولِ الصحابي، لا تقليدًا له، بلْ بنوعِ استدلالٍ"

(3)

.

ويقولُ تقيُّ الدينِ بنُ تيمية: "حَكَى بعضُهم هذا - أيْ: جواز تقليدِ العالمِ للعالمِ - عن أحمدَ، كما ذكره أبو إسحاقَ في:(اللمع).

وهو غلطٌ على أحمدَ؛ فإنَّ أحمدَ إنَّما يقولُ هذا في أصحابه

(4)

فقط - على اختلافٍ عنه في ذلك - وأمَّا مِثْل مالكٍ والشافعي وسفيانَ، ومثل إسحاقَ بن راهويه وأبي عبيد، فقد نصَّ في غيرِ موضعٍ على أنَّه لا يجوزُ للعالمِ القادرِ على الاستدلالِ أنْ يقلِّدَهم"

(5)

.

ونسبَ بعضُ الأصوليين القولَ الثاني إلى جماعةٍ مِن الظاهريين!

(6)

.

وقد نَسَبَ الطوفيُّ في كتابِه: (مختصر الروضة)

(7)

القولَ الثاني إلى

(1)

التمهيد في أصول الفقه (4/ 409 - 410).

(2)

نقل كلام الإمام أحمد أبو يعلى في: العدة (4/ 1229 - 1230)، وأبو الخطاب في: التمهيد في أصول الفقه (4/ 408).

(3)

شرح مختصر الروضة (3/ 631).

(4)

هكذا في المطبوع من مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 225): "أصحابه"، ولعل الصواب "الصحابة".

(5)

المصدر السابق (20/ 225 - 226). وانظر: منهاج السنة النبوية (2/ 244).

(6)

انظر: السراج الوهاج للجاربردي (2/ 1088).

(7)

انظر: (3/ 629) مع شرحه.

ص: 361

الظاهريةِ، ثمَّ قالَ في شرحِه:"قلتُ هذا عن الظاهريةِ، لا أعلمُ الآن مِنْ أين نقلتُه في المختصر؟ ولم أرَه في: (الروضةِ)، ولا أحسبُه إلا وهمًا ممَّنْ نقلتُه عنه، أو في النسخةِ التي كان منها الاختصارُ؛ فإنَّ الظاهريةَ أشدُّ الناسِ في منعِ التقليدِ لغيرِ ظواهرِ الشرعِ"

(1)

.

القول الثالث: يجوزُ للمجتهدِ أنْ يقلِّد مَنْ هو أعلمُ منه مطلقًا، ولا يجوزُ له أنْ يقلِّدَ مَنْ هو مثلُه، أو دونه في العلمِ.

جَعَلَ أبو الحسين البصري هذا القولَ إحدى الروايتين عن الإمامِ أبي حنيفةَ

(2)

. ونسبه أبو الحسين

(3)

، وأبو بكرِ الجصاص

(4)

، وأبو الوليدِ الباجي

(5)

، وأبو إسحاقَ الشيرازي

(6)

إلى محمد بن الحسن.

وهذا القول روايةٌ عن ابنِ سريج

(7)

.

وقد قيّدَ أبو الحسينِ البصري

(8)

، والآمديُّ

(9)

قولَ ابنِ سريجٍ لجوازِ تقليدِ الأعلمِ بتعذرِ الاجتهادِ علي المجتهدِ.

واختار هذا القولَ: أبو الحسنِ الكرخي

(10)

، وابنُ رشدٍ

(11)

.

القول الرابع: يجوزُ للمجتهدِ أنْ يقلِّدَ مجتهدًا آخر، إذا خافَ فوات وقتِ الحادثةِ.

نَسَبَ أبو الوليدِ الباجي هذا القولَ إلى القاضي عبدِ الوهاب

(1)

شرح مختصر الروضة (3/ 630).

(2)

انظر: المعتمد (2/ 942).

(3)

انظر: المصدر السابق.

(4)

انظر: الفصول في الأصول (4/ 283).

(5)

انظر: إحكام الفصول (ص/ 721).

(6)

انظر: التبصرة (ص/ 403)، وشرح اللمع (2/ 1013).

(7)

انظر: التمهيد في أصول الفقه (4/ 409)، والتحبير (8/ 3990).

(8)

انظر: المعتمد (2/ 942).

(9)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 204).

(10)

انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 284)، والتقرير والتحبير (3/ 330).

(11)

انظر: الضروري في أصول الفقه (ص/ 144).

ص: 362

المالكي

(1)

.

ونسبه إلى ابنِ سريجٍ جمعٌ من الأصوليين، منهم: القاضي أبو يعلى

(2)

، وأبو الوليد الباجي

(3)

، وأبو إسحاقَ الشيرازي

(4)

، وأبو الخطاب

(5)

، وأبو الوفاءِ بن عقيلٍ

(6)

، والفخرُ الرازي

(7)

، ومحيي الدين النووي

(8)

، وبدرُ الدين الزركشي

(9)

.

وقيَّد الرازيُّ والنوويُّ والزركشيُّ قولَ ابنِ سريجٍ بأنَّه يجوزُ للمجتهدِ أنْ يقلِّد مجتهدًا آخر مع ضيقِ الوقتِ فيما يخصُّه.

القول الخامس: يجوزُ للمجتهدِ أنْ يقلِّد غيرَه فيما يخصُّه ليعملَ به، ولا يجوزُ للمجتهدِ في إفتائه أن يقلِّد غيرَه.

ذكرَ هذا القولَ أبو إسحاقَ الشيرازيُّ

(10)

، والفخرُ الرازي

(11)

، وشهابُ الدين القرافي

(12)

ولم ينسبوه إلى أحدٍ.

وحكاه ابنُ القاصِّ

(13)

(1)

انظر: إحكام الفصول (ص / 721).

(2)

انظر: العدة (4/ 1231).

(3)

انظر: إحكام الفصول (ص/ 721).

(4)

انظر: التبصرة (ص/ 412)، وشرح اللمع (2/ 1012).

(5)

انظر: التمهيد في أصول الفقه (4/ 409).

(6)

انظر: الواضح في أصول الفقه (5/ 244).

(7)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 84).

(8)

انظر: روضة الطالبين (11/ 100).

(9)

انظر: البحر المحيط (6/ 287).

(10)

انظر: شرح اللمع (2/ 1013).

(11)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه (6/ 84).

(12)

انظر: شرح تنقيح الفصول (ص/ 443).

(13)

هو: أحمد بن أبي أحمد الطبري ثم البغدادي، أبو العباس، كان إمام الشافعية في وقته، فقيهًا أصوليًا، زاهدًا ورعًا، تتلمذ لأبي العباس بن سريج، وقد أخذ أهل طبرستان الفقه عنه، من مؤلفاته: أدب القاضي، والتلخيص في الفقه، والمفتاح، ودلائل القبلة، توفي مرابطًا بطرسوس سنة 335 هـ. انظر ترجمته في: طبقات الفقهاء للشيرازي (ص/ 107)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 86)، وسير أعلام النبلاء (15/ 371)، والوافي بالوفيات للصفدي =

ص: 363

عن ابنِ سريجٍ

(1)

. ونَسَبَه الآمديُّ

(2)

، والطوفيُّ

(3)

، وجمالُ الدِّينِ الإسنويُّ

(4)

إلى بعضِ أهلِ العراقِ. ونَسَبَه أمير باد شاه إلى أهلِ العراقِ

(5)

.

القول السادس: يجوزُ للمجتهدِ أنْ يقلِّدَ مجتهدًا آخر، إذا عَجَزَ عن الاجتهادِ.

وهذا قولُ تقيّ الدينِ بن تيمية

(6)

، ومثّل للعجزِ عن الاجتهادِ بتكافؤِ الأدلةِ، وضيقِ الوقتِ عن الاجتهادِ، وعدمِ ظهورِ دليلٍ للمجتهدِ

(7)

.

• أدلة الأقوال:

أدلةُ أصحاب القولِ الأولِ: استدلَّ أصحابُ القولِ الأولِ (القائلون بمنع المجتهد من تَقليد غيره مطلقًا) بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: عمومُ الأدلةِ الدالةِ على المنعِ مِن التقليدِ في أصلِه، وعمومُ الأدلةِ الموجبةِ للنظرِ في الأدلةِ

(8)

، والمجتهدُ داخلٌ تحتَ عمومِها دخولًا أوليًا.

الدليل الثاني: قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}

(9)

.

وجه الدلالة: أنَّ الله تعالى أَمَرَ بردِّ المتنازَعِ فيه إليه وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم،

= (6/ 227)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (3/ 59)، وطبقات الشافعية للإسنوي (2/ 297)، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (1/ 106).

(1)

انظر: البحر المحيط (6/ 286 - 287).

(2)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام (4/ 204).

(3)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 630).

(4)

انظر: نهاية السول (4/ 589).

(5)

انظر: تيسير التحرير (4/ 228).

(6)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإِسلام (20/ 254).

(7)

انظر: المصدر السابق.

(8)

انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 410).

(9)

انظر: من الآية (59) من سورة النساء.

ص: 364

ويكون الردُّ بالرجوعِ إلى الكتابِ والسنةِ، وأخذُ المجتهدِ قولَ مجتهدٍ آخر تقليدًا له ليس واحدًا ممَّا ذُكِرَ في الآيةِ

(1)

.

مناقشة وجه الدلالة: أنَّ المجتهدَ إذا قلَّدَ مجتهدًا آخر، فقد ردَّ الحكمَ إلى الله تعالى وإلى رسولِه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ المجتهدَ المقلَّدَ عالمٌ بطرقِ الاجتهادِ، ولا يفتي إلا بحكمِ الله تعالى

(2)

.

الجواب عن المناقشة: أنَّ المجتهدَ مأمورٌ باتباعِ الكتابِ والسنةِ، وبالردِّ إليهما، فإذا تَرَكَ ذلك، وقلَّدَ مجتهدًا آخر، فقد تَرَكَ ما أُمر به مِن اتباعِ الكتابِ والسنةِ، وعَمِل بغيرِهما

(3)

.

الدليل الثالث: قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ}

(4)

.

وجه الدلالة: أنَّ المجتهدَ مأمورٌ بالاعتبارِ، فإذا قلَّد غيرَه لم يأتِ بالاعتبارِ المأمورِ به في الآيةِ، فيكون تاركًا للمأمورِ

(5)

.

مناقشة وجه الدلالة: يلزمُ مِن استدلالكم بالآيةِ الكريمةِ أمرُ العامي بالاجتهادِ، ومنعُه مِن التقليدِ، وأنتم لا تقولون بهذا

(6)

.

الجواب عن المناقشة: خَرَجَ العاميُّ مِنْ عموم الأمرِ في الآيةِ؛ لعجزِه عن الاجتهادِ؛ فيبقى عمومُ الأمرِ في حقِّ المجتهدِ

(7)

.

(1)

انظر: مقدمة في أصول الفقه لابن القصار (ص/ 142)، والعدة (4/ 1231)، والتبصرة (ص/ 404)، وشرح اللمع (2/ 1015)، والتبصرة (4/ 410)، والواضح في أصول الفقه (5/ 245).

(2)

انظر: التبصرة (ص/ 404)، وشرح اللمع (2/ 1015)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 410)، والواضح في أصول الفقه (5/ 245).

(3)

انظر: المصادر السابقة.

(4)

من الآية (9) من سورة الحشر.

(5)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازى (6/ 84)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2955).

(6)

انظر: المصدرين السابقين.

(7)

انظر: المصدرين السابقين.

ص: 365

الدليل الرابع: قال الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}

(1)

.

وجه الدلالة: أنَّ اللهَ أَمَرَ بردِّ ما اخْتُلِفَ فيه إليه سبحانه، وهذا يدلُّ على أنَّ المجتهدَ لا يقلِّدُ غيرَه مِن المجتهدين؛ لأنَّ في التقليدِ في هذه الحالةِ تركًا لحكمِ الله تعالى

(2)

.

الدليل الخامس: قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}

(3)

.

وجه الدلالة: أنَّ المجتهدَ إذا قلَّدَ غيرَه فقد أَخَذَ بما لا علمَ له به، وهذا ما نهى اللهُ عنه في الآيةِ الكريمةِ

(4)

.

الدليل السادس: حديثُ معاذٍ

(5)

رضي الله عنه حين بعثه النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى اليمنِ، فقال له صلى الله عليه وسلم:(كيف تقضي إذا عَرَضَ لك قضاءٌ؟ ). فقال: أقضي بما في كتاب الله. قال صلى الله عليه وسلم: (فإنْ لم يكنْ في كتابِ الله؟ ). قال: فبسنةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: (فإنْ لم يكن في سنةِ رسولِ الله؟ ). قال: أجتهدُ رأيي، ولا آلو

(6)

.

(1)

من الآية (10) من سورة الشورى.

(2)

انظر: العدة (4/ 1231)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 410)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 209).

(3)

من الآية (36) من سورة الإسراء.

(4)

انظر: التبصرة (ص/ 404)، وشرح اللمع (2/ 1016)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 410)، والواضح في أصول الفقه (5/ 245).

(5)

هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، أبو عبد الرحمن المدني، شهد بدرًا، وما بعدها من المشاهد، كان من أعلم الصحابة بالحلال والحرام، وأحد السبعين الذين شهدوا بيعة العقبة، بعثه النبي - صلي الله عليه وسلم - إلى اليمن قاضيًا ومعلمًا، ولم يرجع إلا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، قال عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(من أراد الفقه فليأتِ معاذ بن جبل)، توفي رضي الله عنه بالشام سنة 18 هـ وقيل: سنة 17 هـ. انظر ترجمته في: الاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 650)، وتهذيب الكمال للمزي (28/ 105)، وسير أعلام النبلاء (1/ 443)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 19)، والإصابة لابن حجر (3/ 426).

(6)

معنى قوله: "لا آلو" أي: لا أقصّر في الاجتهاد، ولا أترك بلوغ الوسع فيه. انظر: معالم السنن للخطابي (5/ 212)، والإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (6/ 36 - 37).

ص: 366

فقال صلى الله عليه وسلم: (الحمدُ لله الذي وفّقَ رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله)

(1)

.

(1)

جاء هذا الحديث من طريق الحارث بن عمرو عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ عن معاذ رضي الله عنه، وأخرجه: أبو داود في: سننه، كتاب: الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء (ص/ 544)، برقم (3593)؛ والترمذي في: جامعه، كتاب: الأحكام عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، باب: ما جاء في القاضي كيف يقضي؟ (ص / 314)، برقم (1328)، وقال:"وليس إسناده عندي بمتصل". وعلَّق ابن حجر في: النكت الظراف (8/ 421 - 422) على قول الترمذي، فقال:"أراد بنفي الاتصال المشي على اصطلاح من يرى أنَّ الإسناد إذا كان فيه مبهمٌ - لم يسم - يكون منقطعًا، وإلا فالجمهور على أنه متصل، في سندِه مبهمٌ".

وأخرجه أيضًا: عبد بن حميد في: المنتخب (1/ 151)، برقم (124)؛ والطيالسي في: المسند (1/ 454)، برقم (560)؛ وابن سعد في: طبقات الكبرى (2/ 347)؛ وأحمد في: المسند (36/ 333)، برقم (22007)، و (36/ 416)، برقم (22100)؛ والدارمي في: سننه، في: المقدمة، باب: الفتيا وما فيه من الشرط (1/ 267) برقم (170)؛ والعقيلي في: الضعفاء (1/ 554)؛ والطبراني في: المعجم الكبير (20/ 170)، برقم (362)؛ وابن حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 26، 35)، و (7/ 111)، وقال في:(7/ 112): "هذا حديثٌ ساقطٌ". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: آداب القاضي، باب: ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي (10/ 114)؛ وفي: معرفة السنن والآثار، باب: الاجتهاد (1/ 173)، برقم (291)؛ والخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (1/ 397) برقم (413)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم (2/ 845) برقم (1593)؛ وابن الجوزي في: العلل المتناهية، كتاب: الأحكام والقضايا، باب: حديث في كيفية الحكم والقضاء (2/ 272)، برقم (1264)، وقال في:(2/ 273): "هذا حديث لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم، ويعتمدون عليه، ولعمري إن كان معاه صحيحًا، وإنما ثبوته لا يعرف؛ لأنَّ الحارث بن عمرو، مجهولٌ، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، وما هذا طريقه، فلا وجه له". والمزي في: تهذيب الكمال (5/ 266).

وجاء الحديث مرسلًا عن أصحاب معاذ رضي الله عنه عن النبي - صلي الله عليه وسلم -، وأخرجه: أبو داود في: سننه، كتاب: الأقضية، باب: اجتهاد الرأي في القضاء (ص/ 544)، برقم (3592)؛ والترمذي في: جامعه، كتاب: الأحكام عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، ياب: ما جاء في القاضي كيف يقضي؟ (ص/ 313)، برقم (1327)؛ وأحمد في: المسند (36/ 382)، برقم (22061)؛ والعقيلي في: الضعفاء (1/ 556).

واختلف العلماء في تصحيح الحديث وتضعيفه:

فأكثر المحدثين على تضعيفه، وممن ضعفه: البخاري في: التاريخ الكبير (2/ 277)، والترمذي - كما تقدم - والدارقطني في: العلل (6/ 89)، وعبد الحق الإشبيلي في: الأحكام الوسطى (3/ 342)، وابن الملقن في: البدر المنير (9/ 534) ط: هجر، وابن حجر في: التلخيص الحبير (6/ 3163)، والألباني في: سلسلة الأحاديث الضعيفة (2/ 273). =

ص: 367

وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يذكرْ لمعاذٍ رضي الله عنه تقليدَ غيرِه مِن المجتهدين

(1)

.

يمكن أن يناقش الدليل السادس: بأنَّ في الحديثِ ضعفًا، فلا تقومُ به الحجةُ.

الدليل السابع: قولُ النبي - صلي الله عليه وسلم -: (اجتهدوا، فكلٌّ ميسرٌ لما خُلِقَ له)

(2)

.

وجه الدلالة: أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: (اجتهدوا) أمرٌ، والأمرُ للوجوبِ، ويلزمُ

= ويقول الجوزقاني في: الأباطيل والمناكير (1/ 106): "أعلم أنني تفحصت عن هذا الحديث في: المسانيد الكبار والصغار، وسألتُ مَنْ لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقًا غبر هذا، والحارث بن عمرو هذا مجهول، وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، وبمثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة".

وانظر: التلخيص الحبير لابن حجر (6/ 3164).

وقال ابن الملقن في: البدر المنير (9/ 534): "هذا الحديث كثيرًا ما يتكرر في كتب الفقهاء والأصول والمحدثين، ويعتمدون عليه، وهو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل، فيما أعلم".

وذهب بعضُ العلماء إلى تصحيح الحديث أو تحسينه، منهم: ابن العربي في: عارضة الأحوذي (6/ 72 - 73)، والذهبي في: سير أعلام النبلاء (18/ 472)، وابن كثير في: تفسيره (1/ 7)، وابن القيم في: إعلام الموقعين (2/ 344)، والشوكاني في: فتح القدير (3/ 227).

يقول الخطيب البغدادي في: الفقيه والمتفقه (1/ 472): "فإن اعترض المخالف بأنْ قال: لا يصح هذا الخبر؛ لأنه يروى عن أناس من أهل حمص لم يُسموا، فهم مجاهيل، فالجواب: أن قول الحارث بن عمرو: "عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ" يدل على شهرة الحديث، وكثرة رواته، وقد عرف فضل معاذ وزهده، والظاهر من حال أصحابه الدينُ والثقةُ والزهدُ والصلاحُ".

ويقول ابن عبد البر في: جامع بيان العلم وفضله (2/ 894): "حديث معاذ صحيح مشهور، رواه الأئمة العدول".

ويقول تقي الدين بن تيمية في: مجموع الفتاوى (13/ 364): "وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد".

ونقل الزركشيُّ في: المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج (ص/ 66 - 69) كلام بعض العلماء في تصحيح الحديث.

(1)

انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 285).

(2)

لم أقف على هذا الحديث بهذا اللفظ، والذي وجدته:

أولًا: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولفظه:(اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، وأخرجه: =

ص: 368

مِنْ تقليدِ المجتهدِ لمجتهدِ آخر ترك الاجتهادِ المأمورِ به في الحديثِ

(1)

.

مناقشة الدليل السابع: نوقش الدليل من وجهين:

الوجه الأول: عدمُ ثبوتِ الحديثِ بلفظِ: (اجتهدوا فكلٌّ ميسر

).

الوجه الثاني: لو صحتْ روايةُ: (اجتهدوا)، لَمَا صحَّ حملُها على خصوصِ الاجتهادِ في استنباطِ الأحكامِ مِن الأدلةِ؛ فإنَّه اصطلاحٌ حادثٌ

(2)

.

الدليل الثامن: لو جازَ للمجتهدِ تقليدُ غيرِه مِن المجتهدين، لجازَ للصحابةِ رضي الله عنهم تقليدُ بعضِهم بعضًا، ولو جازَ ذلك لما كان لمناظراتهم فائدةٌ، ولم يُنقلْ عن أحدٍ منهم أنَّه قلَّدَ غيرَه، وهذا إجماعٌ منهم

(3)

.

مناقشة الدليل الثامن: نوقش الدليل من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أنَّ سببَ مناظرةِ الصحابةِ رضي الله عنهم بعضهم لبعضِ؛ كونُ العملِ على الاجتهادِ أولى مِن التقليدِ، ولأنَّ للاطلاعِ على المأخذِ؛ بسببِ المناظرةِ تقويةً للظنّ بالحكمِ

(4)

.

= البخاري في: صحيحه، كتاب: التفسير، باب: فسنيسره للعسرى (ص/ 981)، برقم (4949)؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله

(2/ 1222)، برقم (2647).

ثانيًا: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، ولفظه:(كلٌّ يعمل لما خلق له)، وأخرجه: البخاري في: صحيحه، كتاب: القدر، باب: جف القلم على علم الله (ص/ 1261)، برقم (6596)، واللفظ له؛ ومسلم في: صحيحه، كتاب: القدر، باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، ومتابة رزقه وأجله

(2/ 1222)، برقم (2649).

(1)

انظر: التبصرة (ص/ 404)، وشرح اللمع (2/ 1016)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 410)، والواضح في أصول الفقه (5/ 245)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 79)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 209).

(2)

انظر: تعليق الشيخ عبد الرزاق عفيفي على: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 209).

(3)

انظر: المعتمد (2/ 943)، وقواطع الأدلة (5/ 104)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 411)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 205)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3913).

(4)

انظر: المعتمد (2/ 943)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 411)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3913).

ص: 369

الجوب عن الوجه الأول: أنَّ الدليلَ الذي دلَّ على أنَّ الاجتهادَ أولى مِن التقليدِ، هو الذي مَنَعَ مِن التقليدِ

(1)

.

الوجه الثاني: أنَّ الوثوقَ باجتهادِ الصحابي؛ لمشاهدتِه الوحي والتنزيل، ومعرفتِه التأويل، والاطلاع على أحوالِ النبي - صلي الله عليه وسلم -، وزيادة اختصاصه بالتّشددِ في البحثِ عنْ قواعدِ الدين، وعدمُ تسامحهم فيها أشدُّ مِن غيرِهم، وعلى هذا، فلا يلزمُ مِنْ جوازِ تقليدِ غيرِ الصحابي للصحابي تقليدُ الصحابي للصحابي

(2)

، وتقليدُ غيرِ الصحابي لغيرِ الصحابي.

الوجه الثالث: لم ينقلْ عن بعضِ الصحابةِ، كطلحةَ

(3)

والزبيرِ بنِ العوام

(4)

وعبدِ الرحمن بنِ عوفٍ

(5)

، وهم مِنْ أهلِ الشورى، نظرٌ في

(1)

انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 411).

(2)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 205 - 206).

(3)

هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمي، أبو محمد، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد السابقين إلى الإِسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر رضي الله عنه، وقد أوذي في الله وصبر، ولما قدم المدينة آخى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين كعب بن مالك، لم يشهد طلحة غزوة بدر؛ لأنه كان بالشام في تجارة، وقد أسهم له رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بسهمٍ، وشهد أحدًا وما بعدها، وقد أبلى في غزوة أحدٍ بلاءً حسنًا، ووقى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، واتقى النُّبل عنه بيده حتى شلت يده، وهو أحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب فيهم الشورى، قتل رضي الله عنه وهو ابن ستين سنة، وقيل: ابن اثنتين وستين سنة، يوم الجمل سنة 36 هـ. انظر ترجمته في: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/ 471)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 87)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 359)، وتهذيب الكمال للمزي (13/ 412) وسير أعلام النبلاء (1/ 23)، والإصابة لابن حجر (3/ 529).

(4)

هو: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى القرشي، أبو عبد الله المدني، صاحب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وحواريه، وابن عمته صفية، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أسلم وهو ابن ست عشرة سنة، شهد بدرًا والمشاهد مع رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، ولم يتخلف عن غزواته صلى الله عليه وسلم، قتل يوم الجمل سنة 36 هـ. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (3/ 100)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 89)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 261)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (3/ 255)، وتهذيب الكمال للمزي (9/ 319)، وسير أعلام النبلاء (1/ 41)، والإصابة لابن حجر (2/ 553).

(5)

هو: عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف، أبو محمد القرشي الزهري رضي الله عنه، ولد بعد عام =

ص: 370

الأحكامِ، مع ظهورِ الخلافِ، والظاهرُ أنَّهم أخذوا بقولِ غيرِهم تقليدًا، فلا تستقيمُ لكم دعوى الإجماعِ

(1)

.

الجواب عن الوجه الثالث: أنَّ تركَ بعضِ الصحابةِ رضي الله عنهم للفتيا، بسببِ اكتفائهم بغيرِهم في الفتوى، أمَّا عملهم في حقّ أنفسِهم فكان على سبيلِ الاجتهادِ

(2)

.

الدليل التاسع: أنَّ المجتهدَ متمكنٌ مِن الاجتهادِ؛ لتكاملِ الآلةِ له، فلم يجزْ مع تمكنِه مِن العملِ باجتهادِه أنْ يصيرَ إلى قولِ غيرِه تقليدًا، كما لم يجزْ له أنْ يصيرَ إلى قولِ غيرِه في العقلياتِ؛ لتمكنِه مِن النظرِ والاستدلالِ

(3)

.

مناقشة الدليل التاسع: نوقش الدليل من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أنَّا لا نُسلّمُ إلحاقَ المسائل الاجتهادية بالعقلياتِ؛ لأنَّ المطلوبَ في العقلياتِ العلمُ، والعلمُ لا يحصلُ بالتقليدِ، والمطلوبُ في المسائلِ الاجتهاديةِ العملُ التابعُ للظنِّ؛ وقد يحصلُ الظنُّ بتقليدِ المجتهدِ

(4)

.

= الفيل بعشر سنوات، صاحب رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، ومن السابقين إلى الإِسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، هاجر الهجرتين، وشهد بدرًا، وصلى النبي - صلي الله عليه وسلم - وراءه في سفره، كان اسمه عبد عمرو فغيّره النبي - صلي الله عليه وسلم - إلى عبد الرحمن، توفي رضي الله عنه سنة 32 هـ ودفن بالبقيع، وصلى عليه عثمان بن عفان رضي الله عنه. انظر ترجمته في: التاريخ الكبير للبخاري (5/ 240)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (5/ 247)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 442)، وتهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 30)، وتهذيب الكمال للمزي (17/ 324)، وسير أعلام النبلاء (1/ 68)، والإصابة لابن حجر (5/ 346).

(1)

انظر: المستصفى (2/ 460)، وروضة الناظر (3/ 1011).

(2)

انظر: المصدرين السابقين.

(3)

انظر: المعتمد (2/ 943 - 944)، والعدة (4/ 1232)، والتبصرة (ص / 404)، وشرح اللمع (2/ 1016)، وقواطع الأدلة (5/ 168)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 411)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 85)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 204).

(4)

انظر: المعتمد (2/ 944)، والعدة (4/ 1232)، والتبصرة (ص / 404)، وشرح اللمع (2/ 1016)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 411)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 85).

ص: 371

الجواب عن الوجه الأول: أنَّا أوجبنا على المكلَّفِ تحصيلَ العلم في العقلياتِ؛ لأنَّه قادرٌ عليه، والدليلُ حاضرٌ؛ وهذا المعنى حاصلٌ في مسألتِنا؛ لأنَّ المجتهدَ قادرٌ، والدليلُ المعيِّنُ للظنِّ حاصلٌ، فَوَجَبَ تحصيلُه

(1)

.

الوجه الثاني: ما ذكرتموه في دليلِكم منقوضٌ بقضاءِ القاضي على المجتهدِ، فإنَّه لا يجوزُ خلافُ ما قضى به القاضي، وإنْ كانَ المجتهدُ قد يرى خلافَه

(2)

.

الجواب عن الوجه الثاني: أنَّ قبولَ المجتهدِ لحُكمِ الحاكمِ - وإنْ كانَ يرى خلافَ ما قضَى به - ليس بتقليدٍ؛ فإنَّ التقليدَ ما يلزمُ قبولُه واعتقادُه، ولا يجبُ على المجتهدِ أنْ يقبلَ ما حَكَمَ به الحاكمُ، ولا أنْ يعتقدَ صحتَه، وإنَّما تلزمُه طاعتُه فيما ألزمه بالحكم، وذلك ليس بتقليدٍ

(3)

.

الوجه الثالث: أنَّ ما ذكرتموه في دليلِكم منقوضٌ بمَنْ دنا مِن النبي - صلي الله عليه وسلم -، فإنَّه متمكنٌ مِن الوصولِ إلى الحكمِ بالأخذِ مِن النبي - صلي الله عليه وسلم -، مع أنَّه يجوزُ له أنْ يسألَ مَنْ أخبرَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

(4)

.

الجواب عن الوجه الثالث، أجيب عنه من وجهين:

الوجه الأول: لا نُسلِّمُ جوازَ الاكتفاءِ بسؤالِ غيرِ النبي - صلي الله عليه وسلم - عند القدرةِ على سؤالِه صلى الله عليه وسلم

(5)

.

الوجه الثاني: على فرضِ التسلمِ لكم، فإنَّ ما ذكرتموه عدولٌ عن

(1)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 85).

(2)

انظر: التبصرة (ص/ 405)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 85).

(3)

انظر: المصدرين السابقين، وشرح اللمع (2/ 1016).

(4)

انظر: المصادر السابقة.

(5)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 86).

ص: 372

طريقٍ إلى طريقٍ، وذلك جائزٌ؛ لأنَّ في الحالين جميعًا أخذًا لحكمِ النبي - صلي الله عليه وسلم -، ونظيرُه في مسألتنا: أنْ يقفَ المجتهدُ على دليلٍ يقتضي حكمًا، ثم يظهرُ له طريقٌ آخر يقتضي الحكمَ نفسَه، فيجوزُ والحالُ هذه أنْ يعدلَ عن الأولِ إلى الثاني؛ لأنَّ الحكمَ في الحالين واحدٌ، وإنَّما اختلفَ الطريقانِ؛ بخلافِ مسألتِنا، فإنَّ المقتضي للحكمِ هو اجتهادُ المجتهدِ، وقد تَرَكَه إلى اجتهادٍ يقتضي حكمًا آخر، ونظيرُه - من مناقشتكم - أنْ يتركَ المجتهدُ نصًّا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى حكمٍ يخالفُه

(1)

.

الدليل العاشر: لو أدَّى اجتهادُ المجتهدِ إلى خلافِ قولِ مَنْ هو أعلمُ منه، لما جازَ للمجتهدِ تركُ رأيه، والأخذُ بقولِ الأعلمِ، فَوَجَبَ أنْ لا يجوز له الأخذُ بقولِ غيرِه مِن المجتهدين، وإنْ لم يجتهدْ؛ لأنَّه لا يأمن أنْ لو اجتهدَ أنْ يؤديه اجتهادُه إلى خلافِ ذلك القولِ

(2)

.

مناقشة الدليل العاشر: نوقش الدليل من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أنَّه لا يمتنعُ أنْ تكونَ مصلحةُ المجتهدِ إذا اجتهدَ العملَ على ما يؤديه إليه اجتهادُه، وتكون مصلحةُ المجتهدِ إنْ لم يجتهدْ الأخذ بما يختارُه مِن أقاويل السلفِ

(3)

.

الوجه الثاني: أنَّ ثمة فرقًا بين حالِ ما إذا اجتهدَ المجتهدُ، ثمَّ توصّلَ إلى رأي محددٍ، وحالِ ما إذا لم ينظرْ في المسألةِ أصلًا؛ لأنَّ وثوقَ المجتهدِ برأيه واجتهادِه أتمُّ مِنْ وثوقِه بما يقلِّدُ فيه غيرَه؛ لأنَّه مع مساواة اجتهادِه لاجتهادِ غيرِه، يحتملُ أنْ لا يكونَ غيرُه صادقًا فيما أخبرَ به عن اجتهادِه، والمجتهدُ لا يكابرُ نفسَه فيما أدَّى إليه اجتهادُه، وقبل أنْ يجتهدَ لم يحصلْ له الوثوقُ بحكمٍ ما، فلا يلزمُ مِن امتناعِ التقليدِ مع الاجتهادِ

(1)

انظر: التبصرة (ص/ 405)، وشرح اللمع (2/ 1017).

(2)

انظر: المعتمد (2/ 944)، والعدة (4/ 1232)، وقواطع الأدلة (5/ 168)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 412)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 205).

(3)

انظر: المعتمد (2/ 944).

ص: 373

امتناعُه مع عدمِه

(1)

.

يقولُ صفيُّ الدينِ الهندي: "الفرقُ ظاهرٌ - أيْ: بين الحالِ التي توصّلَ المجتهدُ فيها إلى رأي، والحالِ التي لم يجتهدْ فيها - وهو: أنَّ بعدَ الاجتهادِ حَصَلَ له الظنُّ القوي بالحكمِ، فلا يجوزُ له العدولُ عنه إلى الظنِّ الضعيفِ، بخلافِ ما قبلَ الاجتهادِ؛ فإنّه لم يحصلْ له هذا الظنُّ، وانْ كانت القدرة عليه حاصلةً"

(2)

.

الوجه الثالث: يلزم مِنْ دليلِكم عدمُ جوازِ التقليدِ للعامي؛ فإنَّه لا يأمن لو تفقّه أنْ يؤديه اجتهادُه إلى خلافِ ما أفتاه به العالمُ، مع أنَّ العاميَّ يجوزُ له التقليدُ في هذه الحالةِ

(3)

.

الجواب عن الوجه الثالث: أنَّ ثمة فرقًا بين المجتهدِ والعامي؛ فالعاميُّ ليس معه آلةُ الاجتهادِ أصلًا، ولو أرادَ أنْ يتعلمَ علومَ الاجتهادِ لخَرَجَ وقتُ الحادثةِ، وانقطع عن مصالحِ دنياه، ثم بعد ذلك رُبَّما وصلَ إلى رتبةِ الاجتهادِ، ورُبَّما لم يصلْ، بخلافِ المجتهدِ

(4)

.

الدليل الحادي عشر: لا يجوزُ للمجتهدِ بعد اجتهادِه وتوصّلِه إلى رأي محددٍ أنْ يقلِّدَ أحدًا، فكذلك لا يجوزُ له التقليدُ قبلَ الاجتهادِ؛ لوجودِ الجامعِ بين الحالين، وهو الاتصافُ بالاجتهادِ

(5)

.

مناقشة الدليل الحادي عشر: نوقش الدليل بالوجهِ الثاني في مناقشةِ الدليلِ العاشرِ.

الدليل الثاني عشر: أنَّ المجتهدَ في القِبلةِ لا يقلِّدُ غيرَه في تحديدِها؛

(1)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 405).

(2)

نهاية الوصول (8/ 3913).

(3)

انظر: المعتمد (2/ 944)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 412).

(4)

انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 412).

(5)

انظر: تيسير التحرير (4/ 229)، وفواتح الرحموت (2/ 393).

ص: 374

لأنَّه عالمٌ بأدلتِها، فكذلك المجتهدُ في الشرعِ، لا يجوزُ له التقليدُ في الفروعِ؛ لأنَّه عالمٌ بأدلتِها

(1)

.

الدليل الثالث عشر: أنَّ المجتهدَ يتمكنُ مِن الوقوفِ على الحكمِ باجتهادِه، فلم يجزْ له العدولُ عن الوقوفِ على الحُكمِ باجتهادِه إلى ما هو أنقص منه، كما لا يجوزُ للمتمكنِ مِن العلمِ العدولُ إلى الظنِّ

(2)

.

مناقشة الدليل الثالث عشر: نوقش هذا الدليل من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ العقلَ لا يمنعُ مِنْ أنْ تكونَ مصلحةُ المتمكِّنِ مِن العلمِ العملَ على ظنِّه، فالأصلُ في قياسِكم غيرُ مسلَّمٍ

(3)

.

ويمكن الجواب عن الوجه الأول: بأنَّ المستقرَّ في العقلِ أنَّ اتباعَ الإنسانِ الطريقَ الموثوقَ به أرجحُ ممَّا هو أقلُّ وثوقًا.

الوجه الثاني: يلزمُ مِنْ دليلِكم عدمُ جوازِ التقليدِ للعامي إذا تمكّنَ مِن التفقه

(4)

.

ويجاب عن الوجه الثاني: بالجواب المتقدمِ عن المناقشةِ الثالثةِ في الدليلِ العاشرِ.

الدليل الرابع عشر: أنَّ المجتهدَ متعبَّدٌ باجتهادِه وبعملِه بما توصّل إليه؛ لأنَّه بذلك يكونُ مطيعًا لله تعالى؛ لأنَّ اللهَ تعالى أرادَ مِن المجتهدين أنْ يجتهدوا في أدلةِ الشرعِ، وليس بعضُ المجتهدين أولى بذلك مِنْ بعضٍ، ولا يصحُّ إثباتُ بَدَلٍ لما أرادَه اللهُ مِن المجتهدين إلا لدلالةٍ سمعيةٍ أو عقليةٍ، ولا دليلَ يدلُّ عليها، فَوَجَبَ نفيُه

(5)

.

(1)

انظر: أدب القاضي للماوردي (1/ 648)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 413).

(2)

انظر: المعتمد (2/ 945)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 412).

(3)

انظر: المعتمد (2/ 945).

(4)

انظر: المصدر السابق.

(5)

انظر: المعتمد (2/ 945)، وقواطع الأدلة (2/ 169)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 412).

ص: 375

الدليل الخامس عشر: لو جازَ للمجتهدِ تقليدُ غيرِه مِن المجتهدين، لوَجَبَ أنْ لا يجوزَ له العملُ على اجتهادِه؛ لأنَّ الحادثةَ إذا اشتبهتْ بعلتين، وكان شبهُها بأحدِ الأصلين أقوى، لم يجزْ ردّها إلى الأصلِ الآخر

(1)

.

الدليل السادس عشر: القولُ بجوازِ التقليدِ للمجتهدِ حكمٌ شرعي، ولا بُدَّ له مِنْ دليلٍ، والأصلُ عدمُ ذلك الدليل، فمَن ادَّعاه احتاجَ إلى بيانِه

(2)

.

مناقشة الدليل السادس عشر: يُعارضُ دليلكم بأنَّ عدمَ جوازِ تقليدِ المجتهدِ حكمٌ شرعيٌ، فلا بُدَّ له مِنْ دليلٍ، والأصلُ عدمُه

(3)

.

الجواب عن المناقشة: أنَّ عدمَ الجوازِ نفي، والنفي يكفي فيه انتفاءُ دليلِ الثبوتِ، بخلافِ الثبوتِ، فلا يكفي فيه انتفاءُ دليلِ النفي

(4)

.

الدليل السابع عشر: أنَّ الاجتهادَ أصلٌ في الأحكامِ الاجتهاديةِ، كالوضوءِ في الطهارةِ، والتقليدُ بدلٌ عن الاجتهادِ، كالتيممِ عن الوضوءِ، ولا يُصارُ للبدلِ مع إمكانِ المبدلِ، فلا يختارُ المجتهدُ التقليدَ إلا عند تعذّرِ الاجتهادِ

(5)

.

مناقشة الدليل السابع عشر: نوقش الدليل من وجهين:

الوجه الأول: لا نُسلّمُ أنَّ التقليدَ بدلٌ، بلْ كلٌّ مِن الاجتهادِ والتقليدِ أصلٌ للعملِ

(6)

.

(1)

انظر: مسائل الخلاف في أصول الفقه للصيمري (ص/ 382).

(2)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 206)، ومختصر منتهى السول لابن الحاجب (2/ 1235)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3914)، وتيسير التحرير (4/ 228 - 229).

(3)

انطر: بيان المختصر للأصبهاني (3/ 330)، ورفع الحاجب (4/ 564)، وتيسير التحرير (4/ 229).

(4)

انظر: المصادر السابقة.

(5)

انظر: تيسير التحرير (4/ 229)، وفواتح الرحموت (2/ 393).

(6)

انظر: المصدرين السابقين.

ص: 376

الوجه الثاني: على فرضِ التسليمِ بما ذكرتُم في دليلِكم، فإنَّه يدلُّ على جوازِ التقليدِ للمجتهدِ عند تعذّرِ الاجتهادِ، وأنتم لا تقولون به.

أدلةُ أصحاب القولِ الثاني: استدلَّ أصحابُ القولِ الثاني (القائلون بجواز تقليد المجتهَد لغيره من المجتهدين مطلقًا) بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(1)

.

وجه الدلالة: أنَّ المجتهدَ قبلَ اجتهادِه لا يعلمُ هذا الحكمَ بخصوصِه، فيتناوله عمومُ الآية، فجازَ له التقليدُ، كالعامي

(2)

.

مناقشة وجه الدلالة: نوقش وجه الدلالة من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: ليس في الآيةِ ما يدلُّ على قولِكم، بلْ هي دالةٌ على خلافِه؛ لأنَّها شَرَطَتْ أنْ لا يعلمَ، والمجتهدُ عالمٌ بطُرقِ الاجتهادِ، وبطرقِ الأدلةِ

(3)

.

الوجه الثاني: أنَّ الآيةَ واردةٌ في العامي، والخطابُ فيها متوجّه إليه، ويدلُّ عليه أمران:

الأمر الأول: أن اللهَ تعالى أَوجبَ السؤالَ - كما في الآية - والمجتهدُ لا يجبُ عليه السؤالُ، فتعيّن أنْ يكونَ الخطابُ فيها للعامي؛ لأنَّه هو الذي

(1)

وردت الآية في موضعين في القرآن: الأول: من الآية (43) من سورة النحل. والثاني: من الآية (7) من سورة الأنبياء.

(2)

انظر: التبصرة (ص/ 406)، وشرح اللمع (2/ 1017)، وقواطع الأدلة (5/ 102)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 413)، والواضح في أصول الفقه (5/ 248)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 86)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 206)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3914)، وشرح مختصر الروضة (3/ 633).

(3)

انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 413).

ص: 377

يجبُ عليها السؤال

(1)

.

الأمر الثاني: أن قولَه تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(2)

يقتضي أنْ يكونَ المخاطَبُ ليس مِنْ أهلِ الذِّكرِ؛ لأنَّ اللهَ جعل الناسَ فريقين - كما في الآية - فَوَجَبَ أنْ يكونَ أحدُهما غيرَ الآخرِ

(3)

.

الوجه الثالث: على فرضِ التسليمِ بدخولِ المجتهدِ تحتَ عمومِ الآيةِ، فإنَّ تقديرَ السؤالِ في حقِّه: سلو؛ لتعلموا، أيْ: اسألوا عن الدليلِ؛ لتحصيلِ العلمِ

(4)

.

الدليل الثاني: قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

(5)

.

وجه الدلالة: أنَّ المرادَ بأولي الأمرِ في الآية هم العلماءُ

(6)

، وقد أَمَرَ الله بطاعتِهم، وذلك بتقليدِهم فيما يخبرون به عن الشرعِ، والخطابُ عامٌّ للمؤمنين، ويتناول المجتهدَ وغيرَه

(7)

.

(1)

انظر: التبصرة (ص/ 406)، وشرح اللمع (2/ 1017)، وقواطع الأدلة (5/ 105)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 413)، والواضح في أصول الفقه (5/ 250)، وشرح مختصر الروضة (3/ 634).

(2)

وردت الآية في موضعين في القرآن: الأول: من الآية (43) من سورة النحل. والثاني: من الآية (7) من سورة الأنبياء.

(3)

انظر: التبصرة (ص/ 406)، وشرح اللمع (2/ 1017)، وقواطع الأدلة (5/ 105)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 413)، والواضح في أصول الفقه (5/ 250)، وشرح مختصر الروضة (3/ 634).

(4)

انظر: المستصفى (2/ 459).

(5)

من الآية (59) من سورة النساء.

(6)

انظر أقوال المفسرين في تفسير أولي الأمر في: جامع البيان للطبري (7/ 176 - 184)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (6/ 428 - 432)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/ 136 - 137)، والدر المنثور للسيوطي (4/ 504 - 514).

(7)

انظر: التبصرة (ص/ 407)، وشرح اللمع (2/ 1019)، والتمهيد في أصول الفقه لأبى الخطاب (4/ 414)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 86)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 206)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3915)، وشرح مختصر الروضة (3/ 633)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2957).

ص: 378

مناقشة وجه الدلالة: نوقش وجه الدلالة من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ المرادَ بأولي الأمرِ في الآيةِ الأمراءُ والولاةُ؛ لأنَّ اللهَ تعالى أوجبَ طاعتَهم، ولا يجبُ على المجتهدِ اتباع المجتهلِه، وإذا كانَ أولو الأمرِ هم الأمراءُ، فطاعتُهم في أمورِ الدنيا مِنْ تدبيرِ الممالك وتجهيزِ العساكرِ وغيرِهما، ويدلُّ على ذلك: أنَّ الطاعةَ تُستعملُ في أمرِ السلاطين، فأمَّا في فتوى المجتهدِ، فلا يُقال لها: طاعةٌ

(1)

.

الوجه الثاني: سلمنا لكم أنَّ المرادَ بأولي الأمرِ هم العلماء، لكنَّ المأمورَ بطاعتِهم هم العوام، لا المجتهدون؛ لأنَّ طاعةَ المجتهدِ على المجتهدِ غيرُ واجبةٍ، فلا تكون مرادةً مِن الآيةِ

(2)

.

الدليل الثالث: قال الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ}

(3)

.

وجه الدلالة: أنَّ المرادَ بأولي الأمرِ في الآيةِ هم المجتهدون، ويكونُ الردُّ إليهم مِنْ قِبَل العامةِ والمجتهدين؛ إذ الآيةُ عامّةٌ، ولم تفصِّلْ.

مناقشة وجه الدلالة: أنَّ الخطابَ في الآيةِ متوجهٌ إلى العامةِ، لا إلى المجتهدين؛ بدليلِ قولِ الله تعالى:{لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}

(4)

؛ لأنَّ المجتهدَ مِنْ أهل الاستنباطِ، فَظَهَرَ أنَّ الخطابَ موجهٌ إلى العامةِ، لا إلى أهلِ الاستنباطِ

(5)

.

الدليل الرابع: قال الله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}

(6)

.

(1)

انظر: المصادر السابقة، والمستصفى (2/ 459).

(2)

انظر: المستصفى (2/ 459 - 460)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3915 - 3916)، وشرح مختصر الروضة (3/ 634).

(3)

من الآية (83) من سورة النساء.

(4)

من الآية (83) من سورة النساء.

(5)

انظر: العدة (4/ 1232).

(6)

من الآية (122) من سورة التوبة.

ص: 379

وجه الدلالة: أنَّ الله تعالى أوجب قبولَ ما ينذر به الفقهاءُ إذا رجعوا إلى أهلِهم، ولم يفرِّقْ بين أنْ يكون أهلُهم من العامة، أو من مجتهدين

(1)

.

مناقشة وجه الدلالة: نوقش وجه الدلالة من وجهين:

الوجه الأول: لا نُسلِّمُ دخولَ المجتهدِ تحتَ الآيةِ، بل الآيةُ متوجهةِ إلى العوامِّ

(2)

.

الوجه الثاني: أنَّ المرادَ مِن الآيةِ قبولُ ما سمعه المجتهدُ مِنْ أخبارِ النبي - صلي الله عليه وسلم - وسننِه، فتكونُ الآيةُ متوجهةً إلى الروايةِ، دونَ الفتوى

(3)

.

الدليل الخامس: انعَقَدَ إجماعُ الصحابةِ رضي الله عنهم على جوازِ تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين

(4)

ويدلُّ على هذا الإجماعِ ما يأتي:

أولًا: قولُ عبدِ الرحمن بن عوف رضي الله عنه لعثمانَ بنِ عفان رضي الله عنه: (أبايعك على كتابِ الله، وسنةِ رسول الله، وسيرةِ الشيخين)، فبايعه عثمان

(5)

.

فحينَ قَبِلَ عثمانُ بن عفان رضي الله عنه ذلك، مع أنَّه مِنْ أهلِ الاجتهادِ،

(1)

انظر: التبصرة (ص/ 407)، وشرح اللمع (2/ 1019)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 86)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3915).

(2)

انظر: المصادر السابقة، وقواطع الأدلة (5/ 105).

(3)

انظر: المصادر السابقة.

(4)

انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 283)، والمعتمد (2/ 946)، ومسائل الخلاف للصيمري (ص/ 378)، والعدة (4/ 1233)، والتبصرة (ص / 407)، وشرح اللمع (2/ 1020)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 86)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 207)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3916)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2957).

(5)

أخرج قصة البيعة بهذا اللفظ: أحمد في: المسند (1/ 560)، برقم (557). وسندها ضعيف، انظر: تعليق محققي المسند.

وأخرج الحادثةَ: البخاريُّ في: صحيحه، كتاب: الأحكام، باب: كيف يبايع الإمام الناس؟ (ص/ 1375)، برقم (7207) بسياق طويل، وفيها قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:(أبايعك على سنة الله، ورسوله، والخليفتين من بعده).

وانظر: فتح الباري لابن حجر (13/ 198).

ص: 380

وكان ذلك بمحضرِ الصحابةِ رضي الله عنهم، ولم يُنكرْ عليه أحدٌ، دلَّ على انعقادِ الإجماعِ على جوازِ تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين

(1)

.

ثانيًا: قولُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنِّي كنتُ رأيتُ في الجدِّ رأيًا، فإنْ رأيتم أنْ تتبعوه، فاتبعوه). فقال له عثمانُ بن عفان: (إنْ نتبعْ رأيَك، فرأي رُشْدٍ، وإنْ نتبعْ رأي الشيخِ فنِعْمَ ذو الرأي كان)

(2)

.

وجه الدلالة: أنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه دعا الناسَ - وفيهم: المجتهدون، والعوام - إلى اتباعِ رأيه، وتقليدِه فيه، وأقرّه عثمانُ بن عفان رضي الله عنه على ذلك

(3)

.

ثالثًا: أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أرسلَ إلى امرأةٍ مُغَيّبةٍ، كان يُدخل عليها، فقيل لها: أجيبي عمر. فقالت: يا ويلها، ما لها ولعمرَ. فَبَيْنَا هي في الطريقِ، فَزِعَتْ، فضربها الطلْقُ، فدخلتْ دارًا، فألقتْ ولدَها، فصاحَ الصبي صيحتين، ثمْ ماتَ.

فاستشار عمرُ الصحابةَ رضي الله عنهم، فقالَ عثمانُ بن عفان وعبدُ الرحمن بن عوف:(إنَّما أنتَ مودبٌ، ولا شيءَ عليك)، وعليٌّ ساكتٌ. فقالَ له عمرُ: (ما

(1)

انظر: المصادر المذكورة في توثيق صدر الدليل الخامس، وفتح الباري لابن حجر (13/ 198).

(2)

أخرج أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الفرائض، باب: فرض الجد (10/ 263)، بالرقمين (19051 - 19052)؛ والدارمي في: السنن، في: المقدمة، باب: اختلاف الفقهاء (1/ 490)، برقم (655)، وفي: كتاب: الفرائض، باب: قول عمر في الجد (4/ 1916)، برقم (2959)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: الفرائض (4/ 418)، برقم (7983)، وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي؛ وابن حزم في: المحلى (10/ 373)، وقال عن إسناده في:(10/ 393): "أصح إسناد". والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: الفرائض، باب: من لم يورث الإخوة مع الجد (6/ 246).

وإسناد أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه صحيح. انظر: التحجيل لعبد العزيز الطريفي (1/ 323).

(3)

انظر: التبصرة (ص/ 407)، والواضح في أصول الفقه (5/ 248).

ص: 381

تقولُ يا أبا الحسنِ؟ ). فقالَ: (إنْ كانوا قالوا برأيهم، فقد أخطأَ رأيُهم، وإنْ كان قالوا في هواك، فلم ينصحوا لك، أرى أنْ ديته عليك، فإنَّك أفزعتها

). فأَمَرَ عمرُ عليًا أنْ يقسمَ عقلَه

(1)

على قريشٍ

(2)

.

وجه الدلالة: أن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه وهو مِنْ أهلِ الاجتهادِ قلَّد عليًا رضي الله عنه

(3)

، ولم يُنكر عليه أحدٌ، فكانَ إجماعًا

(4)

.

رابعًا: ما جاءَ مِنْ أنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه سأل عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه عن مسألةٍ في الصرفِ؟ فأجابَ فيها بأنَّه لا بأسَ به. فقال عمر: (لكنّي أكرهُه). فقال ابنُ مسعود: (قد كرهتُه إذ كرهتَه)

(5)

.

وجه الدلالة: أنَّ عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه وهو مِنْ أهلِ الاجتهادِ، تَرَكَ قولَه تقليدًا لعمرَ رضي الله عنه

(6)

.

مناقشة الدليل الخامس: لا نُسلّمُ انعقادَ إجماعِ الصحابةِ رضي الله عنهم على

(1)

العقل: الدية. انظر: القاموس المحيط، مادة:(عقل)، (ص/ 1336).

(2)

جاء أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه من طريق الحسن، وأخرجه: عبدُ الرزاق في: المصنف، كتاب: العقول، باب: من أفزعه السلطان (9/ 457)، برقم (18010)؛ والبيهقيُّ في: السنن الكبرى، كتاب: الإجارة، باب: الإمام يضمن والمعلم يغرم (6/ 123).

والأثر منقطع، يقول ابن الملقن في: البدر المنير (8/ 494): "هذا منقطع؛ الحسن لم يدرك عمر".

وانظر: التلخيص الحبير لابن حجر (5/ 2674).

وذكر البيهقي في: السنن الكبرى، كثاب: الأشربة والحد فيها، باب: الشارب يضرب زيادة على الأربعين (8/ 322) أنَّ الإمام الشافعي بلغه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فذكر الأثر.

(3)

انظر: العدة (4/ 1234).

(4)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 207).

(5)

ذكر أثر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عدد من الأصوليين - كما سيأتي توثيقه في حاشية وجه الدلالة منه - ولم أقف عليه مسندًا - فيما رجعت إليه من مصادر - ولم أقف على ذكر له في غير كتب أصول الفقه، ويغني في الاستدلال عنه قول ابن مسعود رضي الله عنه:(إنَّ عمر كره الصلاة بعد العصر، وإني أكره ما كره عمر). وسيأتي تخريج هذا الأثر.

(6)

انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 284)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 415)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (4/ 336).

ص: 382

جوازِ تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين، وما ذكرتموه مِن الوقائع، لكلٍّ منها مناقشةٌ:

أولًا: مناقشة ما جاء عن عبد الرحمن بن عوف، نوقش من أربعة أوجه:

الوجه الأول: أنَّ عليًّا رضي الله عنه خالفَ عثمانَ بن عفان رضي الله عنه، ولم يقبلْ ما قاله عبدُ الرحمن بن عوف رضي الله عنه

(1)

، فلا تصحُّ دعوى الإجماعِ

(2)

.

الجواب عن الوجه الأول: كونُ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يقبل ذلك، لا يدلُّ على عدمِ جوازِ قبولِه، بلْ على عدمِ وجوب قبولِه، ونحن نقول: إنَّه غيرُ واجبِ القبولِ، بلْ هو جائزُ القبولِ

(3)

.

الوجه الثاني: المرادُ بسيرةِ الشيخين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، سيرتُهما في حراسةِ الإِسلام، والذبِّ عنه وحمايتِه، والدعوةِ إليه، وسياسةِ الرعيّةِ والعدلِ بينهم، لا أَقوالهما الفقهية؛ يدلُّ عليه: أنَّ سيرةَ الشيخين في النوازلِ والحوادثِ مختلفةٌ، فلكلِّ واحدٍ منهما أقوالٌ تخالفُ الآخر، فتعيّنَ حملُه على ما ذُكِرَ

(4)

.

الوجه الثالث: المرادُ بسيرةِ الشيخين طريقتُهما في الاجتهادِ، والبحثِ عن الدليلِ، لأنَّ في سيرةِ أبي بكرٍ وعمر رضي الله عنهما الاجتهادَ وطلبَ الدليلِ، والحكمَ بما يقتضيه الاجتهادُ، لا تقليدهما في أعيانِ المسائلِ

(5)

.

(1)

فقال علي رضي الله عنه لما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه البيعة: (فيما استطعت). وتقدم في: (ص/ 380) تخريج الحادثة.

(2)

انظر: العدة (4/ 1234)، والتبصرة (ص / 408)، وشرح اللمع (2/ 1021)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 87).

(3)

انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 87)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3917)، وفتح الباري لابن حجر (13/ 198).

(4)

انظر: أدب القاضي للماوردي (1/ 648)، والعدة (4/ 1234)، والتبصرة (ص / 408)، وشرح اللمع (2/ 1020)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 415)، والواضح في أصول الفقه (5/ 250).

(5)

انظر: المصادر السابقة.

ص: 383

الوجه الرابع: يحتملُ أنَّ عثمانَ بن عفان رضي الله عنه أجابَ عبدَ الرحمن بن عوف في قولِه، أخذا مِنْ قولِه صلى الله عليه وسلم:(اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكرٍ وعمرَ)

(1)

،

(1)

جاء الحديث عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بهذا اللفظ، وبلفظ:(إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي)، وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأخرجه: الترمذي في: جامعه، كتاب: المناقب عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم -، باب: مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما (ص/ 832)، برقم (3662)، وقال:"حديث حسن". وابن ماجه في: سننه، في: المقدمة، باب: فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (ص/ 64)، برقم (97)؛ والحميدي في: مسنده (1/ 413)، برقم (454)؛ وابن سعد في: الطبقات الكبرى (2/ 334)؛ وابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الفضائل، باب: ما ذكر في أبي بكر الصديق رضي الله عنه (17/ 35)، برقم (32605)؛ وأحمد في: المسند (38/ 280)، برقم (23245)، و (38/ 309)، برقم (23276)، و (38/ 399)، برقم (23386)، (38/ 418)، برقم (23419)؛ وفي: فضائل الصحابة (1/ 228)، برقم (198)، و (1/ 406)، برقم (478)؛ وابن أبي عاصم في: السنة، باب: في ذكر خلافة الراشدين المهديين (2/ 774) برقم (1182)؛ والفسوي في: المعرفة والتاريخ (1/ 480)؛ وابن أبي عاصم في: السنة، باب: في ذكر خلافة الراشدين (ص/ 531)، بالرقمين (1148 - 1149)؛ والبزار في: مسنده (7/ 248 - 251)، بالأرقام (2827 - 2829)؛ والروياني في: مسنده (3/ 103) - المستدرك من النصوص الساقطة - برقم (79)؛ والخلال في: السنة، باب: جامع أمر الخلافة بعد رسول الله - صلي الله عليه وسلم - (1/ 274 - 275) برقم (335 - 336)؛ والطحاوي في: شرح مشكل الآثار، باب: بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - في أمره للناس بالاقتداء بأبي بكر وعمر (3/ 256 - 259) بالأرقام (1224 - 1233)؛ والعقيلي في: الضعفاء (2/ 559)؛ وابن حبان في: صحيحه، كتاب: مناقب الصحابة رضي الله عنه، باب: ذكر أمر المصطفى المسلمين بالاقتداء بأبي بكر وعمر بعده (15/ 327)، برقم (6902)؛ والطبراني في: الأوسط (5/ 344)، برقم (5503)؛ وأبو بكر الآجري في: الشريعة (4/ 1871 - 1873)، بالأرقام (1341 - 1343)؛ والحاكم في: المستدرك، كتاب: معرفة الصحابة (3/ 91)، وصححه؛ وأبو نعيم في: حلية الأولياء (9/ 109)؛ والبيهقي في: السنن الكبرى، كتاب: قتال أهل البغي، باب: ما جاء في تنبيه الإمام على من يراه أهلًا للخلافة بعده (8/ 153)؛ وابن عبد البر في: جامع بيان العلم باب: الحض على لزوم السنة والاقتصار عليها (2/ 1165 - 1167) بالأرقام (2307 - 2309)، وقال عنه في:(2/ 1165): "حديثُ حذيفة حديثٌ حسنٌ". والخطيب البغدادي في: تاريخ مدينة السلام (5/ 569)، و (13/ 467)؛ والبغوي في: شرح السنة، باب: في فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما (14/ 101)، بالرقمين (3894 - 3895).

وقال العقيلي عن الحديث في: الضعفاء (5/ 314 - 315): "يروى عن حذيفة عن النبي بإسنادٍ جيدٍ ثابتٍ".=

ص: 384

فحَمَلَ الحديثَ على عمومِه

(1)

.

ثانيًا: مناقشة الاستدلال بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الجدِّ:

المرادُ بقولِه: "فاتبعوني": اتباعُه في الدليلِ، وذلك كما يدعو العلماءُ غيرَهم إلى ما يرونه مِن الأقوالِ، بالدليلِ، دونَ التقليدِ

(2)

.

والمرادُ بقولِ عثمانَ بنِ عفان رضي الله عنه "رأي رشد"، أيْ: في هذا الدليلِ، ورأيُ أبي بكر رضي الله عنه في دليله نِعْم الرأي

(3)

.

يقولُ أبو الخطاب: "إنَّ هذا - أيْ: ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم لا يدلُّ على التقليدِ، لكنْ يدلُّ على أنَّ بعضَهم تنبّه على الدليلِ بقولِ البعضِ، وهذا كما يتردد الإنسانُ بين رأيين في الحرب - لم يصمّمْ على أحدِهما - فيقولُ له قائلٌ: ليس هذا بصوابٍ، بل الصوَابُ كذا وكذا، فيقول له: صدقتَ، فيعلم الحاضرون لذلك إنَّما صدّقه ليتنبه

(4)

على وجهِ الرأي والمصلحةِ؛ لأن

(5)

قول ذلك عنده أصوب مِنْ رأيه"

(6)

.

= وقال الخليلي في: الإرشاد (1/ 378) عن الحديث: "والحديث صحيح معلول"، ولعله يقصد أنَّ الحديث أعل بعلةٍ غيرِ قادحة.

وقال ابن الملقن في: البدر المنير (9/ 578) عن الحديث: "هذا الحديث حسن".

وصحح الألبانيُّ الحديثَ في: تخريجه كتاب السنة لابن أبي عاصم (ص/ 531).

وذهب ابن حزم في: الإحكام في أصول الأحكام (6/ 80) إلى عدم صحة الحديث؛ لأن الحديث مروي عن مولى لرِبْعي، وهو مجهول، وعن المفضل الضبي، وليس بحجة.

وقد أجاب ابنُ الملقن في: البدر المنير (9/ 581) عما أورده ابنُ حزمٍ بان للحديث طريقًا أخرى يثبت بها ليس فيها مولى رِبْعِي، ولا يعلم أنَّ المفضل الضبي ورد في طرف الحديث.

(1)

انظر: العدة (4/ 1234).

(2)

انظر: التبصرة (ص/ 407)، وشرح اللمع (1022)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 416)، والواضح في أصول الفقه (5/ 251).

(3)

انظر: العدة (4/ 1235)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 416).

(4)

هكذا في المطبوع في: التمهيد في أصول الفقه (4/ 416)، ولعل الصواب:"للتنبيه".

(5)

هكذا في المطبوع في: المصدر السابق "لأن"، ولعل الصواب:"لا أنَّ".

(6)

التمهيد في أصول الفقه (4/ 415 - 416).

ص: 385

ثالثًا: مناقشة الاستدلال بقصة قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المرأة المغيّبة:

أنَّ أَخْذَ عمر رضي الله عنه قولَ علي رضي الله عنه؛ لأنَّ اجتهادَه أدَّى إلى صحةِ ما قاله علي رضي الله عنه في المسألةِ، فكان ذلك عملًا بالدليلِ، لا بالتقليدِ

(1)

.

رابعًا: مناقشة الاستدلال بقول عبد الله بن مسعود في الصرف، نوقش من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ ما قاله ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه محمولٌ على اجتهادِه، أيْ: أنَّه إذ كرهه عمرُ رضي الله عنه بانَ لي وجهُ الكراهةِ، فكرهتُ ذلك

(2)

.

الوجه الثاني: يحتملُ أنَّ أخذَ ابنِ مسعود رضي الله عنه قول عمر رضي الله عنه؛ لقولِ النبي - صلي الله عليه وسلم -: (اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي أبي بكرٍ وعمرَ)

(3)

، فحَمَلَ الحديثَ على عمومِ الأقوالِ.

الدليل السادس: أنَّ المجتهدَ يجوزُ له أنْ يقلِّدَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وأنْ يقلِّدَ الصحابيَّ، ويتركَ اجتهادَه، فكذلك يجوزُ له أنْ يُقلِّدَ مجتهدًا آخر

(4)

.

مناقشة الدليل السادس: أنَّ أخذَ المجتهدِ بقولِ النبي - صلي الله عليه وسلم -، وبقولِ الصحابي لا يُسمَّى تقليدًا، بلْ هو أخذٌ بالحجةِ - هذا على القولِ بأنَّ قولَ الصحابي حجةٌ، وأمَّا على القولِ بعدمِ حجيتِه، فلا يجوزُ تقليدُه - ويدلُّ على الفرقِ بين الأخذِ بقولِ النبي صلى الله عليه وسلم وقولِ الصحابي، والأخذِ بقولِ المجتهدِ: أنَّه يجبُ على المجتهدِ تركُ اجتهادِه، والأخذ بقولِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وبقولِ الصحابي، ولا يجبُ عليه تركُ اجتهادِه، وتقليدُ غيرِه، فَظَهَرَ الفرقُ

(5)

.

(1)

انظر: العدة (4/ 1235)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 416)، والإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 208).

(2)

انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 416).

(3)

تقدم تخريج الحديث في: (ص/ 384).

(4)

انظر: التبصرة (ص/ 409)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 416).

(5)

انظر: المصدرين السابقين.

ص: 386

الدليل السابع: إذا جازَ للمجتهدِ تقليدُ المجمعين فيما أفتوا به، وأجمعوا عليه، وإنْ لم يعلم الطريقَ الذي أفتوا عنه، جازَ له تقليدُ آحادِ العلماءِ، وإنْ لم يعلم الطريقَ الذي أفتى عنه العالمُ

(1)

.

مناقشة الدليل السابع: جوازُ الأخذِ بقولِ المجمعين - وإن لم يُعلمْ طريقُ اجتهادِهم - للأدلةِ الدالةِ على عصمةِ إجماعِ الأمّةِ، فالإجماعُ حجةٌ في الشرعِ، ولذا لا يجوزُ للمجتهدِ العملُ على اجتهادِه، وتركُ الإجماعِ، والواحدُ مِن العلماءِ يجوزُ عليه الخطأُ، وليس قولُه حجةً، فلم يجزْ للمجتهدِ قبولُه، وتركُ اجتهادِ نفسِه

(2)

.

الدليل الثامن: لو كانَ تقليدُ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين غيرَ جائزٍ؛ لجوازِ الخطأِ على مَنْ يقلِّدُه، لجازَ أنْ يُمنعَ مِنْ قبولِ خبرِ الواحدِ؛ لجوازِ الخطأِ على ناقلِه، ولَّما بَطَلَ هذا في قبولِ الأخبارِ، بَطَلَ في تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين

(3)

.

مناقشة الدليل الثامن: نوقش الدليل من وجهين:

الوجه الأول: أنَّ ما ذكرتموه في دليلِكم غيرُ لازمٍ، فإنَّ خبرَ الواحدِ ظَهَرَ مِنْ غيرِ نكيرٍ، فهو بمنزلةِ قولِ الواحدِ مِن الصحابة إذا انتشرَ مِنْ غيرِ خلافٍ، وفي مسألتِنا، اختلفَ العلماءُ وتعددتْ أقوالُهم، فقياسُ مسألتنا ممَّا ذكرتُم: أنْ يُروى خبرانِ متعارضانِ، فلا يجوزُ المصيرُ إلى واحدٍ منهما قبلَ النظرِ والاجتهادِ

(4)

.

الوجه الثاني: أنَّا لو أوجبنا على المجتهدِ البحثَ عن الرواةِ، والنظرَ في جميعِ أحوالِ الإسنادِ حتى يساوي الراوي في طريقِه، لأدَّى إلى مشقةٍ

(1)

انظر: التبصرة (ص/ 409)، وشرح اللمع (2/ 1024)، والواضح في أصول الفقه (5/ 249).

(2)

انظر: المصادر السابقة.

(3)

انظر: المصادر السابقة، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 417)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3918).

(4)

انظر: التبصرة (ص/ 409 - 415)، وشرح اللمع (2/ 1024)، والواضح في أصول الفقه (5/ 252).

ص: 387

عظيمةٍ، ورُبَّما تعذّرَ عليه ذلك بتعذّرِ الطريقِ بينه وبين المروي عنه، أو بموتِه، فَسَقَطَ عنه ذلك، كما سَقَطَ الاجتهادُ عن العامي، بخلافِ مسألتنا، فإنَّه لا مشقةَ على المجتهدِ في إدراكِ الحكمِ باجتهادِه

(1)

.

الدليل التاسع: أنَّ قولَ المجتهدِ صوابٌ؛ لأنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، وكلُّ قولٍ وُصِفَ بالصوابِ يجوزُ الأخذُ به، وتقليدُه

(2)

.

مناقشة الدليل التاسع: لا نُسلّمُ لكم أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، بل الصوابُ أنَّ الحقَّ واحدٌ

(3)

، وبناءً عليه، لا يصحُّ لكم الاستدلالُ بهذه القاعدةِ

(4)

.

الدليل العاشر: أنَّ الحُكْمَ الذي يقلِّدُ المجتهدُ فيه غيرَه، حُكْمٌ يسوغُ فيه الاجتهادُ، فجازَ لمَنْ لم يكنْ عالمًا به تقليدُ مَنْ علمَه، كالعامي، والجامعُ حصولُ الظنِّ بقولِ المفتي

(5)

.

مناقشة الدليل العاشر: نوقش الدليل من وجهين:

الوجه الأول: أن ثمة فرقًا بين المجتهدِ والعامي؛ فالعاميُّ ليس معه آلةٌ يتوصّلُ بها إلى معرفةِ الحكمِ، فكانَ فرضُه التقليد، بخلافِ المجتهدِ؛ إذ عنده الآلةُ التي يتوصلُ بها إلى معرفةِ حكمِ الحادثةِ، لذا لا يجوزُ له التقليدُ

(6)

.

(1)

انظر: المصادر السابقة، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 417).

(2)

انظر: المعتمد (2/ 947)، وقواطع الأدلة (5/ 172)، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (2/ 276).

(3)

انظر مسألة: (تصويب المجتهدين وتخطئتهم) في: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 375 وما بعدها)، والعدة (5/ 1540 وما بعدها)، وشرح اللمع (2/ 1043 وما بعدها)، والبرهان (2/ 859)، وقواطع الأدلة (5/ 11 وما بعدها)، والمنخول (ص/ 451)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 307 وما بعدها)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 438).

(4)

انظر: المعتمد (2/ 947)، وقواطع الأدلة (5/ 172).

(5)

انظر: التبصرة (ص/ 408)، وشرح اللمع (2/ 1022)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 416)، والمحصول في علم أصول الفقه للرازي (6/ 87 - 88)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3917).

(6)

انظر: المصادر السابقة.

ص: 388

الوجه الثاني: أنَّه يجبُ التقليدُ على العاميّ، ولو كان المجتهدُ مثله لَوَجَبَ عليه التقليدُ، ولمّا قلتم: لا يجبُ على المجتهدِ التقليد، بلْ هو بالخيارِ، دلَّ ذلك على بطلانِ دليلِكم

(1)

.

الدليل الحادي عشر: أنَّ مطلوبَ المجتهدِ في اجتهادِه حصولُ الظنِّ، وتقليدُ المجتهدِ فيما ذَهَبَ إليه مفيدٌ للظنِّ، والظن معمولٌ به في الشريعةِ، فكان تقليدُه جائزًا

(2)

.

مناقشة الدليل الحادي عشر: أنَّ ظنَّ المجتهدِ حين يقلِّدُ غيرَه مِن المجتهدين أضعفُ مِنْ ظنِّه بالحكمِ حين يجتهدُ، وهذا أمرٌ معلومٌ، ولا يجوزُ العملُ بالظنِّ الضعيفِ مع القدرةِ على الظنِّ القوي

(3)

.

الدليل الثاني عشر: أنَّ الاجتهادَ مِنْ فروضِ الكفايات، كالجهادِ، ويجوزُ في الجهادِ الاتكالُ ممَّنْ له آلةُ الجهادِ، واجتمعتْ فيه شروطُه، على قيامِ آخرين به، فكذا الاجتهادُ يجوزُ للمجتهدِ الاتكالُ على غيرِه في اجتهادِه

(4)

.

مناقشة الدليل الثاني عشر: لا نسَلِّم أنَّ الاجتهادَ فرضُ كفايةٍ لمَنْ حصلتْ له أهليةُ الاجتهادِ، ونزلتْ به نازلةٌ، ولم يكنْ حكمُها معلومًا عنده، بل الاجتهادُ في هذه الحالةِ فرضُ عينٍ على المجتهدِ، ونظيرُه في الجهادِ، أنْ يحضرَ العدوُّ، ويقربَ مِنْ موضعِه، فيكون الجهاد حينئذٍ فرضَ عينٍ

(5)

.

(1)

انظر: المصادر السابقة.

(2)

انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (4/ 207)، ونهاية الوصول للهندي (8/ 3917)، وتيسير التحرير (4/ 230)، وفواتح الرحموت (2/ 394).

(3)

انظر: المصادر السابقة، ما عدا الإحكام في أصول الأحكام للآمدي.

(4)

انظر: التبصرة (ص/ 410)، وشرح اللمع (2/ 1026)، وقواطع الأدلة (5/ 102، 107)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 418)، والواضح في أصول الفقه (5/ 249، 253).

(5)

انظر: المصادر السابقة.

ص: 389

الدليل الثالث عشر: أنَّ الأصلَ جوازُ التقليدِ؛ لامتناعِ حصولِ شروطِ الاجتهادِ في كلِّ أحدٍ عادةً، تُرِك هذا الأصل فيمَن اجتهدَ، وظنَ الحكمَ؛ لظهورِ الصواب له بالفعلِ، فيبقى مَنْ عداه على الأصلِ، وهو جوازُ التقليدِ

(1)

.

مناقشة الدليل الثالث عشر: قولكم: "الأصل جواز التقليد"، غيرُ مسلّمٍ؛ لأنَّ التقليدَ أخذٌ بغيرِ دليلٍ.

وقولكم: "لامتناع حصول شروط الاجتهاد في كل أحد عادة"، لا يجيزُ التقليدَ للمجتهدِ، ثمَّ الكلامُ فيمَن اجتمعتْ فيه شروطُ الاجتهادِ

(2)

.

أدلةُ أصحاب القول الثالث: استدلَّ أصحابُ القول الثالث (القائلون بجواز تقليد المجتهد للأعلم فقط، دون المساوي والأدون) بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(3)

.

وجه الدلالة: أنَّ المجتهدَ قبلَ اجتهادِه لا يعلمُ الحُكْمَ، ومَنْ لا يعلمُ الحكمَ يسألُ أهلَ الذّكرِ، وهم المجتهدون، ولا يسأل مَنْ يساويه في العلمِ، فضلًا عمَّنْ هو دونه؛ لأنَّه لا مزيةَ للمساوي عليه، بلْ يسألُ مَنْ هو أعلمُ منه؛ لزيادةِ علمِه.

مناقشة وجه الدلالة: تقدمتْ مناقشةُ الاستدلالِ بهذه الآية الكريمة في أدلةِ أصحابِ القول الثاني.

الدليل الثاني: قولُ عبدِ الرحمن بن عوف لعثمانَ بن عفان رضي الله عنهما:

(1)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 633).

(2)

انظر: المصدر السابق.

(3)

وردت الآية في موضعين في القرآن: الأول: من الآية (43) من سورة النحل. والثاني: ومن الآية (7) من سورة الأنبياء.

ص: 390

(أبايعك كتابِ الله، وسنةِ رسولِ الله، وعلى سيرةِ الشيخين)، فبايعه عثمان، ولم يفعلْ علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقال:(أقضي بالكتابِ والسنةِ، وأجتهدُ رأيي)

(1)

.

وجه الدلالة: أنَّ عثمانَ وعبد الرحمن رضي الله عنهما قلَّدا أبا بكرٍ وعمرَ رضي الله عنهما؛ لأنَّهما أعلمُ منهما، وتَرَكَ عليٌّ رضي الله عنه تقليدَ أبي بكرٍ وعمر؛ لأنَّه مساوٍ لهما في العلمِ

(2)

.

مناقشة الدليل الثاني: تقدمت مناقشةُ الاستدلالِ بما جاءَ عن عبدِ الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي الله عنهما في أدلةِ أصحابِ القولِ الثاني.

ويضاف هنا وجه آخر، وهو: مِنْ أينَ لكم أنَّ امتناع علي رضي الله عنه عن المبايعةِ على سيرةِ الشيخين؛ لأنَّه اعتقدَ أنَّه مثلهما في العلمِ؟ ! إذ يحتملُ أنَّه امتنعَ، وهو يرى أنّه دونهما في العلمِ؛ لأنَّه يمنعُ المجتهدَ مِن تقليدِ غيرِه

(3)

.

الدليل الثالث: ما جاءَ أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه سألَ عبدَ الله بنَ مسعود رضي الله عنه عن مسألةٍ في الصرفِ؟ فأجابَ فيها بأنَّه لا بأسَ به. فقال عمر: (لكنَّي أكرهه). فقالَ ابنُ مسعود: (قد كرهتُه إذ كرهتَه)

(4)

.

وجه الدلالة: أنَّ عبدَ الله بن مسعود رضي الله عنه تَرَكَ رأيه تقليدًا لعمر؛ لأنَّه لا يمكن أنْ يكون قد اجتهدَ في انتقالِه عن قولِه الأول؛ إذ لم يكنْ بين القولين مدةٌ يمكنُه معها النظرُ والاستدلالُ

(5)

.

(1)

لم أقف على من أخرج قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا اللفظ، وقد أورده بعض الأصوليين باللفظ المذكور - كما سيأتي في توثيق وجه الدلالة - وقد تقدم تخريج حادثة البيعة في:(ص/ 380).

(2)

انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 283 - 284)، ومسائل الخلاف للصيمري (ص/ 378)، وقواطع الأدلة (5/ 103)، والواضح في أصول الفقه (5/ 253).

(3)

انظر: شرح اللمع (2/ 1029).

(4)

تقدم بيان حال الأثر في: (ص/ 382).

(5)

انظر: الفصول في الأصول للجصاص (4/ 284).

ص: 391

مناقشة الدليل الثالث: تقدمتْ مناقشةُ الاستدلالِ بقولِ ابنِ مسعودِ رضي الله عنه في أدلةِ أصحابِ القولِ الثاني.

الدليل الرابع: أنَّ تقليدَ المجتهدِ لمنْ هو أعلمُ منه ضربٌ مِن الاجتهادِ في تقويةِ رأي الأعلمِ، فإذا كان للمجتهدِ أنْ يحكمَ في الحادثةِ باجتهادِه، كان له أنْ يقلِّدَ مَنْ هو أعلمُ منه؛ لأنَّ اجتهادَ الأعلمِ أوثقُ عنده مِن اجتهادِ نفسِه

(1)

.

مناقشة الدليل الرابع: نوقش الدليل من وجهين:

الوجه الأول: لو جوَّزنا للمجتهدِ تقليدَ الأعلمِ؛ لأنَّ اجتهادَ الأعلمِ أقوى، للزمَ منه أنْ لا يعملَ المجتهدُ باجتهادِه، ولا يترك تقليدَ الأعلمِ في جميعِ الحوادثِ، ولا أحدَ يقولُ بهذا

(2)

.

الوجه الثاني: لا تصحُّ تسميتكم تقليد المجتهدِ للأعلمِ ضربًا مِن الاجتهادِ؛ لأن هذا الضربَ مِن الاجتهادِ هو اجتهادٌ فيمَنْ يقلِّدُه، لا اجتهاد يعتمدُ على النظرِ في الأدلةِ

(3)

.

ثم إنْ قلتُم: إنَّه لا يخلو عن اجتهادٍ في مأخذِ قولِ المجتهدِ خَرَجْتُم عن محلِّ الخلافِ، ولم نسمِّ فعلَ المجتهدِ حينئذٍ تقليدًا.

الدليل الخامس: إذا كانَ المجتهدُ أعلمَ مِنْ غيرِه فله مزيةٌ، وهي كثرةُ علمِه، وحسنُ بصيرتِه بطرقِ الاجتهادِ، وأمَّا اجتهادُ الإنسانِ نفسِه، فله مزيةٌ مِنْ وجهٍ آخر، وهي أنَّه على ثقةٍ مِن اجتهادِه، ومِنْ إحاطتِه بالدليلِ، وليس المجتهدُ على ثقةٍ وإحاطةٍ مِن اجتهادِ الأعلمِ، فإذا اجتمعا - أي: الأعلم ومن هو دونه - تساويا، فخُيّرَ بينهما

(4)

.

(1)

انظر: المصدر السابق، ومسائل الخلاف للصيمري (ص/ 378)، والعدة (4/ 1235).

(2)

انظر: العدة (4/ 1235).

(3)

انظر: المصدر السابق (4/ 1236).

(4)

انظر: التبصرة (ص/ 410)، وشرح اللمع (2/ 1029)، وقواطع الأدلة (5/ 103)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 418)، والواضح في أصول الفقه (5/ 253).

ص: 392

مناقشة الدليل الخامس: نوقش الدليل من وجهين:

الوجه الأول: يبطلُ دليلُكم بالأمرين الآتيين:

الأمر الأول: مَنْ طالتْ صحبتُه مِن الصحابةِ رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم مع مَنْ لم تطلْ صحبتُه؛ إذ لمَنْ طالتْ صحبتُه مزيةٌ بطولِ الصحبةِ، وكثرةِ السماعِ مِن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لا يجوزُ لمَنْ لم تطلْ صحبتُه تقليدَ مَنْ طالتْ صحبتُه، إذا تساويا في العلم، ولا يُقال: إنَّ له مزيةً بطولِ الصحبةِ وكثرةِ السماعِ، ولاجتهادِ مَنْ لم تطلْ صحبتُه مزيةٌ بالثقةِ فيه، فَوَجَبَ أنْ يتخيّرَ من لم تطلْ صحبتُه بينهما! فكذلك في مسألتِنا

(1)

.

الأمر الثاني: التابعيُّ مع الصحابي إذا تساويا في العلمِ، فإنَّ للصحابي مزيةَ الصحبةِ، والمشاهدةِ للنبي صلى الله عليه وسلم، والسماعِ منه صلى الله عليه وسلم، وهذه الصفاتُ غيرُ موجودةٍ في التابعي، ثمَّ لا يجوزُ القولُ بأنَّ للتابعي تقليدَ الصحابي لهذه المزيةِ، فكذلك في مسألتِنا

(2)

.

الوجه الثاني: لا تصحُّ التسويةُ بين اجتهادِ المجتهدِ، وتقليدِ الأعلم؛ لأنَّ المجتهدَ إذا عمل باجتهادِ نفسِه، كان عالمًا بما يعملُ به، وإذا قلّد غيرَه كان جاهلًا، ولا يتساوى حالُ العلمِ مع الجهلِ، ومِن المعلومِ أنَّ التقليدَ مِنْ عملِ الجُهّالِ، والاجتهادَ مِنْ عملِ العلماءِ، ولا يجوزُ أنْ يُقال للمجتهدِ: لك أنْ تتركَ عملَ العلماءِ إلى عملِ الجُهالِ

(3)

.

ثمَّ إنَّ الإحاطةَ في حالِ اجتهادِ المجتهدِ، لا يوازيها زيادةُ علمِ المجتهدِ الآخر؛ لأنَّ المجتهدَ على يقينٍ مِنْ اجتهادِ نفسِه، وشكٍّ مِنْ اجتهادِ الأعلمِ؛ هل اجتهدَ على الوجهِ الصحيح؟ والشكُّ لا يساوي العلمَ

(4)

.

(1)

انظر: التبصرة (ص/ 410 - 411)، وشرح اللمع (2/ 1029 - 1030)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 108)، والواضح في أصول الفقه (5/ 253).

(2)

انظر: المصادر السابقة.

(3)

انظر: التبصرة (ص/ 411)، وشرح اللمع (2/ 1030)، وقواطع الأدلة (5/ 108).

(4)

انظر: التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 419).

ص: 393

الدليل السادس: ما تقدم مِن أدلةِ أصحابِ القولِ الثاني الدالةِ على جوازِ تقليدِ المجتهدِ لغيرِه - ممَّا لم يُذكرْ في الأدلةِ الآنفةِ الذكر - إلا أنَّ أصحابَ القولِ الثالث يخصونها بالأعلمِ، دونَ المساوي والأدون؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ اجتهادَ الأعلمِ أقربُ إلى الصوابِ

(1)

.

وقد تقدمت مناقشة أدلة أصحاب القول الثاني.

أدلةُ أصحاب القول الرابع: استدلَّ أصحابُ القولِ الرابع (القائلون بجواز التقليد للمجتهد عند ضيق الوقت) بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

(2)

.

وجه الدلالة: إذا ضاقَ الوقتُ على المجتهدِ، فإنَّه - والحالةُ هذه - غيرُ عالمٍ، وإذا كان غيرَ عالمٍ جازَ له سؤالُ غيرِه مِن العلماءِ

(3)

.

مناقشة وجه الدلالة: تقدمتْ مناقشةُ الاستدلالِ بهذه الآيةِ في أدلةِ أصحابِ القولِ الثاني.

الدليل الثاني: إذا ضاقَ الوقتُ على المجتهدِ فإنه لنْ يتمكنَ مِن التوصّل إلى معرفةِ الحكمِ عن طريقِ الاجتهادِ، فكان له التقليدُ، قياسًا على العامي

(4)

.

(1)

انظر: شرح تنقبح الفصول (ص / 444)، وشرح مختصر الروضة (3/ 636 - 637)، ورفع النقاب للشوشاوي (6/ 163).

(2)

وردت الآية في موضعين في القرآن: الأول: من الآية (43) من سورة النحل. والثاني: من الآية (7) من سورة الأنبياء.

(3)

انظر: شرح اللمع (2/ 1014)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 419 - 420)، والواضح في أصول الفقه (5/ 255).

(4)

انظر: العدة (4/ 1237)، وشرح اللمع (2/ 1014)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 419 - 420)، والواضح في أصول الفقه (5/ 255).

ص: 394

مناقشة الدليل الثاني: هناك فرقٌ واضحٌ بين المجتهدِ والعامي؛ إذ العامي عاجزٌ عن الاجتهادِ؛ لفقدِه آلته، بخلافِ المجتهدِ، فإنَّه متمكنٌ مِن الاجتهادِ، وبناءً عليه لا يصحُّ إلحاقُ المجتهدِ بالعامي، ونظيرُهما مَنْ لم يجدْ ماءً ولا سترةً، لا يُلْحَقُ به مَنْ يقدرُ على الماءِ والسترةِ، لكنَّه يخافُ فوات الوقتِ لمن استعملهما

(1)

.

وقولُكم عن المجتهد: "لا يتمكن من الوصول إلى الحكم"، غيرُ مسلّمٍ؛ بلْ للمجتهدِ قدرةٌ على الاجتهادِ، وهذه القدرةُ توصلُه إلى تحصيلِ الحُكمِ

(2)

.

الدليل الثالث: أنَّ المجتهدَ في حالِ ضيقِ الوقتِ مضطرٌ إلى التقليدِ؛ فإنَّه لو اجتهدَ فاتته العبادةُ، وأخرّها عن وقتِها، وهذا لا يجوز؛ فساغَ له التقليدُ

(3)

.

مناقشة الدليل الثالث: إذا كانت العبادةُ مِن العبادات التي يجوزُ تأخيرُها لعذرٍ، صار عدمُ اجتهادِ المجتهدِ عذرًا له في التأخيرِ، وإنْ كانت العبادةُ مِن العباداتِ التي يجوزُ تأخيرُها عن وقتِها، أدّاها على حسب حالِه، ثم يعيدُها إذا اجتهدَ، فلا تُوجدُ ضرورةٌ إلى التقليدِ

(4)

.

يقولُ أبو الوفاءِ بنُ عقيلٍ: "أمَّا دعواهم أنَّه - أي: المجتهد - مضطرٌ إلى التقليدِ، فغيرُ صحيح؛ لأنَّه إذا نَظَرَ وصدقَ الاجتهاد، هَجَمَ به على الحكمِ، فلا ضرورةَ إلى ما تشيرُ إليه مِنْ ضيقِ الوقتِ.

والوقتُ ظرفٌ، والاجتهادُ شرطٌ، فلا يسقط الشرطُ؛ لضيقِ الظرفِ،

(1)

انظر: المصادر السابقة.

(2)

انظر: الواضح في أصول الفقه (5/ 256).

(3)

انظر: التبصرة (ص/ 413)، وشرح اللمع (2/ 1014)، وقواطع الأدلة (5/ 109)، والتمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب (4/ 420)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 444)، ورفع النقاب (6/ 163).

(4)

انظر: المصادر السابقة.

ص: 395

كسائرِ العباداتِ المؤقتةِ، لا يجوزُ تركُ شروطِها؛ لخوفِ فواتِها، ولأن يُجعل الإشكالُ في الدليلِ عذرًا مبيحًا للتأخيرِ، أولى مِنْ أن يُجعلَ عذرًا لإسقاطِ الاجتهادِ، والرجوعِ إلى التقليدِ"

(1)

.

وأجيب عن تجويزِهم أداء العبادةِ في وقتِها مع عدمِ التقليدِ: بأنَّه لا يجوزُ أداءُ العبادةِ مع الجهلِ، مع إمكانيةِ حصولِ أدنى ظنٍّ بحكمِها، فإذا أدَّى المجتهدُ العبادةَ بتقليدِ غيرِه، فقد حصّلَ أدنى ظنٍّ بحكمِها، وهذا خيرٌ مِنْ أدائِها مع الجهلِ

(2)

.

الدليل الرابع: في تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين مع ضيقِ الوقتِ، تحصيلٌ للعملِ في الوقتِ المحددِ بقولِ مجتهدٍ ما، وهذا أولى مِنْ إخلاءِ الوقتِ عن وظيفتِه؛ لتوقّعِ ظهورِ الحكمِ بالاجتهادِ

(3)

.

أدلة أصحاب القول الخامس: استدلَّ أصحابُ القولِ الخامسِ (القائلون بجواز تقليد المجتهد لغيره من المجتهدين فيما يخصه، دون ما يفتي فيه) بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: يجوزُ للمجتهدِ التقليدُ في الأمورِ التي تخصّه؛ لأنَّه محتاجٌ إلى التقليدِ؛ ليعملَ، أمَّا في الفتوى، فهو غيرُ محتاجٍ إلى التقليدِ، فلا تجوزُ له الفتوى بناءً على التقليدِ، لأنَّ له أنْ يحيلَ على غيرِه

(4)

.

مناقشة الدليل الأول: لا نُسلّمُ لكم أنَّ المجتهدَ محتاجٌ إلى التقليدِ فيما إذا عملَ؛ بلْ هو محتاج إلى معرفةِ الحكمِ الشرعي، وتحصلُ معرفةُ الحكمِ بالاجتهادِ، لا بالتقليدِ

(5)

.

(1)

الواضح في أصول الفقه (5/ 256).

(2)

انظر: أصول الفقه عند القاضي عبد الوهاب للدكتور عبد المحسن الريس (ص/ 582).

(3)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 636).

(4)

انظر: شرح اللمع (2/ 1030)، وشرح تنقيح الفصول (ص/ 444)، ورفع النقاب (6/ 163).

(5)

انظر: شرح اللمع (2/ 1030).

ص: 396

الدليل الثاني: أنَّ غرضَ المستفتي للمجتهدِ الأخذُ برأي المجتهدِ نفسِه، لا رأي غيرِه، وما دام المسؤولُ ليس عنده رأي في المسألةِ، فليس له أنْ يفتيَ فيها برأي غيرِه؛ لعدمِ السؤالِ عنه.

أمَّا في خاصة نفسِه، فله أنْ يقلِّدَ مَنْ شاء؛ لوثوقِه به

(1)

.

ويمكن مناقشة الدليل الثاني: بأنَّه لا فرقَ بين الحالين: عمل المجتهدِ، وإفتائه؛ لأنَّ القولَ إنْ كان راجحًا يجوزُ الأخذُ به للعملِ وللإفتاءِ، وإنْ كان مرجوحًا لم يجز العمل به، ولا الإفتاءُ

(2)

.

أدلةُ أصحاب القولِ السادس: استدلَّ أصحابُ القولِ السادسِ (القائلون بجواز تقلَيد المجتهد لغيره من المجتهدين عند تعذر الاجتهاد) بأدلةٍ، منها:

الدليل الأول: أنَّ الواجبَ في الشرعِ يسقطُ بالعجزِ عنه، وهنا المجتهدُ عاجزٌ عن الاجتهادِ، فينتقلُ إلى بدلِه، وهو التقليد، ويكونُ حالُ المجتهدِ كحالِ مَنْ عَدِم الماءَ ينتقلُ إلى التيمم

(3)

.

الدليل الثاني: أنَّ المجتهدَ في حالِ عجزِه عن الاجتهادِ - لأي سبب - بمنزلةِ العامي، فيجوزُ له التقليدُ

(4)

.

• الموازنة والترجيح:

بعد عرضِ أهمِّ الأقوالِ في المسألة وأدلتها، وما وَرَدَ عليها مِنْ مناقشاتٍ، يظهرُ لي رجحانُ القولِ السادسِ، وهو منعُ المجتهدِ مِنْ تقليدِ

(1)

انظر: نزهة المشتاق شرح اللمع (ص/ 787)، بواسطة: التقليد في الشريعة لعبد الله الشنقيطي (ص/117).

(2)

انظر: التقليد في الشريعة لعبد الله الشنقيطي (ص / 117).

(3)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (20/ 204).

(4)

انظر: أصول الفقه للدكتور عياض السلمي (ص/ 485).

ص: 397

غيرِه مِن المجتهدين إلا إذا تعذَّرَ عليه الاجتهادُ تعذرًا حقيقًا؛ لأي سببٍ كان، إذا ظنَّ أنَّه لنْ يتوصلَ إلى رأي راجحٍ في المسألة، لكنْ لا بُدَّ أن تطمئنَ نفسُه إلى القولِ الذي قلَّدَ فيه المجتهدَ الآخر.

وقد رجحتُ ما سبقَ للآتي:

أولًا: عمومُ الأدلةِ الدالةِ على المنعِ مِن التقليدِ، وأَوْلى مَنْ تتوجه إليه تلك الأدلة هو المجتهدُ، واستثني مِنْ هذا العموم المجتهدُ إذا تعذَّر عليه الاجتهادُ.

ثانيًا: أنَّ أهمَّ ما يتميز به المجتهدُ عن غيرِه مِن العلماء الذين لم يبلغوا رتبةَ الاجتهادِ، والعوامِّ، هو: إمكانيةُ التوصلِ إلى الحكمِ الشرعي بطريقٍ صحيحٍ، فإذا تَرَكَ الاجتهادَ في الشرع، ورَكَنَ إلى التقليدِ، فقد تَرَكَ أهمَّ خصلةٍ تُميزه عن غيرِه.

ثالثًا: أنَّ المجتهدَ عالمٌ بالحكِم الشرعي، وإنْ لم يجتهدْ في المسألةِ؛ وذلكَ بالقوةِ القريبةِ مِن الفعلِ؛ لاجتماعِ شروطِ الاجتهادِ وأدواتِه فيه

(1)

، وبناءً عليه، فعلى المجتهدِ الاجتهاد، ما لم يتعذرْ عليه.

رابعًا: أنَّ الاجتهادَ كمالٌ، والتقليدَ نقصٌ، والأَولى بالمجتهدِ الأخذ بالكمالِ ما استطاع، وترك ما فيه نقصٌ.

خامسًا: في منعِ المجتهدِ مِن التقليدِ إثراءٌ للشريعةِ الإسلاميةِ؛ بتعددِ الاجتهاداتِ في المسألةِ الواحدةِ، الأمر الذي يؤدي إلى تعددِ الاستدلالاتِ، والجوابِ عن الأدلةِ الضعيفةِ، وكل ذلك يؤدّي إلى نماءِ الفقهِ وازدهارِه.

سادسًا: أنَّ فرضَ المجتهدِ الاجتهادُ، والفرضُ يسقطُ بالعجزِ عنه، وعدمِ القدرةِ عليه

(2)

؛ يقول الله تبارك وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}

(3)

،

(1)

انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 635).

(2)

انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (26/ 243).

(3)

من الآية (16) من سورة التغابن.

ص: 398

فهذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ كلَّ واجبٍ عَجَزَ عنه المكلّفُ، فإنَّه يسقطُ عنه

(1)

.

يقولُ شمسُ الدين بنُ القيّمِ: "إنَّ ما أوجبه اللهُ ورسولُه

مقيّدٌ بحالِ القدرةِ؛ لأنَّها الحال التي يُؤْمرُ فيها به، وأمَّا في حالِ العجزِ، فغيرُ مقدورٍ ولا مأمورٍ"

(2)

.

وبناءً على ما تقدم آنفًا، فإن العالم إذا بلغَ رتبةَ الاجتهادِ، ونَسَبَ نفسَه إلى مذهب أحدِ الأئمةِ، ولعل يقلِّدْ مذهبَه، إلا أنَّه التزمَ الأخذَ بقولِ إمامِه - في الجَملة - فيما إذا تعذَّر عليه الاجتهاد، فإنَّ تمذهبَه في هذه الحالةِ جائزٌ.

• سبب الخلاف:

بتأمّلِ المسألة بأقوالها وأدلتها، يظهرُ أنَّ للخلافِ عدةَ أسباب:

السبب الأول: تعارضُ عموماتِ الأدلةِ الشرعيةِ، فقد وَرَدَت في الكتابِ الكريمِ، والسنةِ المطهرةِ عموماتٌ دالةٌ على المنعِ مِن التقليدِ، وأخرى جاءت دالة على إباحتِه.

فمَنْ نَظَرَ إلى عموماتِ الأدلةِ المانعةِ، قالَ بمنعِ المجتهدِ مِن تقليدِ غيرِه مِن المجتهدين.

ومَنْ نَظَرَ إلى عموماتِ الأدلةِ المبيحةِ للتقليدِ قالَ بإباحةِ التقليدِ للمجتهدِ.

ومَنْ فصَّلَ في المسألةِ، أَخَذَ بعموماتِ الأدلةِ المانعةِ أو المبيحة، وفضلَ، أو استثنى؛ لأدلةٍ خاصةٍ.

السبب الثاني: الترددُ في إلحاقِ المجتهدِ الذي لم ينظرْ في المسألةِ أصلًا، أو لم يتوصلْ فيها إلى رأي محددٍ، بالمجتهدين، أو بالعوامِّ:

(1)

انظر: تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي (4/ 1841).

(2)

تهذيب السنن (1/ 118 - 119).

ص: 399

فمَنْ نَظَرَ إلى اجتماعِ شروطِ الاجتهادِ في المجتهدِ، وتوافر آلةِ الاجتهادِ فيه، ألحقه بالمجتهدين، وألزمه بالاجتهادِ، ومنعَه مِن التقليدِ.

ومَنْ نَظَرَ إلى عدمِ علمِ المجتهدِ بحكمِ المسألةِ، ألحقه بالعوامِّ، وأباح له التقليدَ، ولم يمنعْه منه.

يقولُ الطوفيُّ: "المسألةُ المتنازَعُ فيها واسطةٌ بين طرفين؛ فتجاذباها، وذلك؛ لأنَّ العاميَّ يقلِّدُ باتفاقٍ، والمجتهدُ إذا ظنَّ الحكمَ باجتهادٍ لا يقلِّد باتفاقٍ.

أمَّا المجتهدُ الذي لم يجتهدْ في الحكمِ، ولم يظهرْ له، فهو مترددٌ بين الطرفين:

فبالنظرِ إلى أنَّه لم يحصلْ له ظنُّ الحكمِ يُلحقُ بالعامي، وبالنظرِ إلى أنَّ فيه أدواتِ الاجتهادِ - وهو قادرٌ على معرفةِ الحكمِ بقوتِه القريبةِ مِن الفعلِ - يُلحقُ بالمجتهدِ الذي ظنَّ الحكمَ، في عدمِ جوازِ التقليدِ"

(1)

.

السبب الثالث: هل كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ؟

تُعدُّ مسألة: (التصويب والتخطئة) إحدى المسائلِ الأصوليةِ التي طالَ الحديثُ والخلافُ فيها، ولها أثرٌ في عددٍ مِن المسائلِ الأصوليةِ، ويمكن ردُّ الخلافِ في مسألةِ: هل للمجتهد أنْ يُقلِّدَ غيرَه من المجتهدين؟ إليها.

فمَنْ قال: الحقُّ واحدٌ، وليس كلّ مجتهدٍ مصيبًا، مَنَعَ مِنْ تقليدِ المجتهدِ لغيرِه مِن المجتهدين.

ومَنْ قال: الحقُّ متعددٌ، وكلّ مجتهدٍ مصيبٌ، جوّز للمجتهدِ أنْ يقلِّد غيرَه مِن المجتهدين؛ لأنَّ المجتهدين جميعَهم مصيبون.

(1)

شرح مختصر الروضة (3/ 635).

ص: 400