الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرع الخامس: التوقف
إذا توقّفَ
(1)
إمامُ المذهب في مسألةٍ مِن المسائلِ، فهل يُعدُّ توقفُه قولًا، بحيثُ تصحُّ نسبتُه إليه؟
قبلَ ذكرِ الأقوالِ؛ تحسنُ الإشارةُ إلى
طُرقِ معرفةِ توقّفِ إمامِ المذهبِ
.
طرق معرفة توقف إمام المذهب:
يُعْرَفُ توقفُ إمامِ المذهبِ بطُرقٍ، منها:
الطريق الأول: تصريحُ إمامِ المذهبِ نفسِه بالتوقفِ.
قد يصرِّحُ إمامُ المذهبِ في مسألةٍ ما بأنَّه متوقفٌ فيها، فيُعلم توقفُه في هذه الحالةِ بنصِّه الصريحِ.
مثال ذلك: سُئِلَ الإمامُ أحمد بن حنبل عن الإكراه بالتوعّدِ بغيرِ ضربٍ؟ فقالَ: "لا أقولُ فيها شيئًا، قد اختلف الناسُ فيها"
(2)
.
الطريق الثاني: إجابةُ إمامِ المذهبِ التي يُفهم منها التوقّف
(3)
.
قد يُسألُ إمامُ المذهبِ، فيجيب بإجابةٍ يُفْهَمُ منها أنه متوقفٌ في المسألةِ، ويُفْهَمُ التوقفُ بأمورٍ، منها:
(1)
عرَّف تقيُّ الدين بنُ تيمية في: المسودة (2/ 948) التوقف بأنه: ترك الأخذ بالأول والثاني، والنفي والإثبات، إن لم يكن فيها قول؛ لتعارض الأدلة وتعادلها. وانظر تعريفات أخرى في: شرح مختصر الروضة (1/ 391)، والحدود الأنيقة للأنصاري (ص/ 75)، والمدخل المفصَّل إلى مذهب الإمام أحمد (1/ 260).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 535).
(3)
انظر: المدخل المفصَّل إلى مذهب الإمام أحمد (1/ 262). وأنبه إلى أن بعض الألفاظ المذكورة - التي يفهم منها التوقف - محل خلاف بين العلماء في إفادتها للتوقف، وسيأتي الحديث عن بعضها.
أولًا: جوابُ الإمام بلفظٍ مشعرٍ بالتوقّفِ؛ كقولِه مثلًا: أجبنُ عنه، أو: لا أجرُؤ عليه، أو: أَتهيبُه، أو: أتوقاه
(1)
.
فهذه الألفاظُ ونحوها وإنْ لم تكن صريحةً في توقّفِ الإمامِ؛ إلا أنَّها مشعرةٌ به، وهنا عددٌ مِن الأمثلةِ:
المثال الأول: سألَ إسحاقُ بنُ منصورٍ
(2)
الإمامَ أحمدَ بنَ حنبل: عن الرجلِ إذا قال: إنْ اشتريتُ فلانًا، فهو حرٌّ؟ فقالَ:"إنِّي أجبنُ عنه بعضَ الجبنِ". وقالَ إسحاقُ بنُ راهويه
(3)
: "وأنا أجبنُ عنه"
(4)
.
(1)
انظر: تهذيب الأجوبة (2/ 680)، وصفة الفتوى (ص/ 62)، والإنصاف (2/ 482)، والمدخل إلى أصول الإمام أحمد للدكتور عبد الله التركي (ص/ 715)، ومفاتيح الفقه الحنبلي للدكتور سالم الثقفي (2/ 30).
(2)
هو: إسحاق بن منصور بن بهرام الكوسج، أبو يعقوب المروزي، ولد بمرو، كان أحد الأعلام الثقات، فقيهًا حافظًا حجةً ثقةً مأمونًا، روى عن الإمام أحمد عددًا من المسائل، وشاركه في الأخذ عن بعض شيوخه، توفي بنيسابور سنة 251 هـ. انظر ترجمته في: تاريخ مدينة السلام للخطيب (7/ 385)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 303)، وتهذيب الكمال للمزي (2/ 474)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (2/ 201)، وسير أعلام النبلاء (12/ 258)، والوافي بالوفيات للصفدي (8/ 426)، والمقصد الأرشد لابن مفلح (1/ 253)، والمنهج الأحمد للعليمي (1/ 212)، والدر المنضد له (1/ 57)، وشذرات الذهب لابن العماد (2/ 123).
(3)
هو: إسحاق بن إبراهيم بن مخلد التميمي الحنظلي المروزي، أبو يعقوب المعروف بابن راهويه، ولد سنة 161 هـ أحد الأئمة الكبار، وشيخ علماء المشرق، وسيد الحفاظ، جمع بين الفقه والحديث، عابدٌ زاهدٌ ثقةٌ مأمون، قال عن نفسه:"ما سمعتُ شيئًا إلا حفظته، ولا حفظتُ شيئًا قط فنسيته"، وقال أيضًا:"أحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلب"، وقال عنه الإمام أحمد:"إسحاق عندنا إمامٌ"، من مؤلفاته: المسند، والتفسير، توفي بنيسابور سنة 243 هـ. انظر ترجمته في: الثاريخ الكبير للبخاري (1/ 379)، وحلية الأولياء لأبي نعيم (9/ 234)، وتاريخ مدينة السلام للخطيب (7/ 362)، ووفيات الأعيان لابن خلكان (1/ 199)، وطبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 286)، وتهذيب الكمال للمزي (2/ 373)، وطبقات علماء الحديث لابن عبد الهادي (2/ 85)، وسير أعلام النبلاء (11/ 358)، وتذكرة الحفاظ للذهبي (2/ 433)، وطبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي (2/ 83)، وطبقات المفسرين للداودي (1/ 103).
(4)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق برواية إسحاق بن منصور (8/ 4286).
المثال الثاني: سُئلَ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل عن الضفدعِ، والسلحفاةِ؟ فقالَ:"ما أجترِئُ عليه، ولا بأسَ بأكلِ السلحفاةِ"
(1)
.
ثانيًا: جوابُ الإمامِ بتعارضِ الأدلةِ، أو باختلافِ الصحابةِ أو باختلافِ الناسِ، دونَ بيانِ مذهبِه، فيُحكم بتوقّفِه في المسألةِ
(2)
.
يقولُ ابنُ حامدٍ: "قد يتخرَّجُ في المسألةِ - جواب الإمامِ باختلافِ الصحابةِ - وجهٌ آخر، وهو أنَّه لا يُنسبُ إليه في ذلك مذهبٌ بحالٍ"
(3)
.
ويقولُ - أيضًا -: "المذهبُ عندي فيما كان هذا طريقُه - أيْ: جواب الإمامِ باختلافِ العلماءِ - لم يقارِن ذلك في مكانٍ مِنْ مذهبِه تفسيرٌ منه: يُكْسِبُنا التوقّفَ"
(4)
.
أمثلة ذلك:
المثال الأول: سألَ صالحٌ الإمامَ أحمدَ بن حنبل عن رجلٍ ماتتْ امرأتُه، هل يجوزُ له أنْ ينظرَ إلى شيءٍ مِنْ محاسنِها؟ فقالَ: "الناسُ يختلفون في هذا، وقد رُويَ عنْ عمرَ أنَّه قال في امرأةٍ لمَّا تُوفيتْ فقال
(5)
لأوليائها: (أنتم أحقُّ به)
(6)
، ورُوي عن أبي بكرةَ
(7)
(1)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (1/ 5 - 6).
(2)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 444، 500، 534 - 536)، وصفة الفتوى (ص/ 100).
(3)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 444).
(4)
انظر: المصدر السابق (1/ 536).
(5)
هكذا ورد في المطبوع من مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (1/ 271)، وقد ساق ابنُ حامد المسالة في تهذيب الأجوبة (1/ 439) دون لفظة:"فقال".
(6)
لفظ أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: عن مسروقٍ قال: ماتت امرأة لعمر، فقال:(أنا كنت أولى بها إذ كانت حية، أما الآن، فأنتم أولى بها)، وأخرجه: ابن أبي شيبة في: المصنف، كتاب: الجنائز، باب: في الزوج والأخ، أيهما أحق بالصلاة؟ (7/ 424)، برقم (12084).
وأخرجه عبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الجنائز، باب: من أحق بالصلاة على الميت؟ (3/ 472)، برقم (6373) بلفظ:(الوليّ أحق بالصلاة عليها).
(7)
هو: نفيع بن الحارث - وقيل: ابن مسروق - بن كلدة بن عمر بن علاج بن أبي سلمة، أبو بكرة، مشهور بكنيته، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف، فأسلم في غلمان من غلمان أهل الطائف، وأعلَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنه عبدٌ، فأعتقه صلى الله عليه وسلم، كان أبو بكرة =
أنَّه واثب
(1)
إخوة امرأتِه حتى أدخلها القبرَ"
(2)
.
المثال الثاني: سألَ صالحٌ الإمامَ أحمدَ بن حنبل: الرجلُ يُغسّل امرأته؟ فقالَ: "فيه اختلافٌ"
(3)
.
المثال الثالث: سُئل الإمام أحمد بن حنبل عن شهادةِ العبدِ؟ فقالَ: "فيها اختلافٌ"
(4)
.
ثالثًا: إطلاقُ الإمام القولين في وقتٍ واحدٍ مِنْ غيرِ ترجيحٍ؛ كأنْ يقولَ: في المسألةِ قولان
(5)
.
= يقول: (أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناه بأبي بكرة؛ لأنه تعلق ببكرة من حصن الطائف، فنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى عنه صلى الله عليه وسلم جملةً من الأحاديث، وكان من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم وفضلائهم، سكن البصرة، وكان أولاده أشرافًا بالولايات والعلم، وله عقب كثير، توفي رضي الله عنه بالبصرة سنة 51 هـ وقيل: سنة 52 هـ وقد أوصى أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي. انظر ترجمته في: الطبقات الكبرى لابن سعد (7/ 15)، والاستيعاب لابن عبد البر (ص/ 782)، وتهذيب الكمال للمزي (30/ 5)، وسير أعلام النبلاء (3/ 5)، والعقد الثمين للفاسي (7/ 347)، والإصابة لابن حجر (6/ 467).
(1)
واثب: لهذه الكلمة عدة معانٍ، أنسبها للمقام معنى: طالَب، أو بادر وسارع. انظر: شمس العلوم للحميري، مادة:(وثب)، (11/ 7067)، والمغرب في ترتيب المعرب للمطرزي، مادة:(وثب)، (2/ 341)، والمصباح المنير للفيومي، مادة:(وثب)، (ص/ 531).
(2)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (1/ 271).
ولفظ أثر أبي بكرة رضي الله عنه: عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: ماتت امرأة لأبي بكرة، فجاء إخوتها ينازعونه في الصلاة عليها.
فقال أبو بكرة: (لولا أني أحق بالصلاة عليها ما نازعنكم في ذلك).
قال: فتقدَّم، فصلى عليها، ثم دخل القبر
…
)، وأخرجه: عبد الرزاق في: المصنف، كتاب: الجنائز، باب: من أحق بالصلاة على الميت؟ (3/ 473)، برقم (6374).
وأخرجه ابن أبي شيية في: المصنف، كتاب: الجنائز، باب: في الزوج والأخ، أيهما أحق بالصلاة؟ (7/ 425)، برقم (12591) مقتصرًا على قول أبي بكرة:(لولا أني أحقكم بالصلاة عليها ما صليت عليها).
(3)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 440)، ولم أعثر على هذه المسألة في مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح.
(4)
انظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (2/ 313).
(5)
انظر: نهاية السول (4/ 439)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2711). وسيأتي مزيد كلام عن مسألة:(إطلاق القولين) في مسألة: (عمل المتمذهب إذا تعددت أقوال إمامه).
يقولُ تاجُ الدّينِ بنِ السبكي: "إذا نُقِلَ عن مجتهدٍ واحدٍ في مسألةٍ واحدةٍ، قولان، ولم يُعقبْ بما يشعرُ بترجيحِ أحدِهما: فيدلُّ على توقّفِه في المسألةِ؛ لعدمِ ترجيحِ دليلِ أحدِ الحُكمين في نظرِه"
(1)
.
مثال ذلك: قولُ الإمامِ الشافعي: "فإنْ خَطَبَ - أي: الجمعة - بأربعين، ثمَّ كبَّر بهم، ثمَّ انفضوا مِنْ حوله: ففيها قولان
…
".
(2)
.
رابعًا: إعراضُ الإمامِ عن المسألةِ، بقولِه مثلًا: دعها، أو: لا أعرفُها، أو: لا أدري، أو: ما سمعتُ
(3)
، أو: لا أقولُ فيها شيئًا
(4)
.
يقولُ ابنُ حامدٍ تحتَ باب: (البيان عن مذهبِه إذا صَدَرَ منه الجوابُ بأنْ يَدَعَ عنه السؤال): "ظاهرُ جوابِه بهذا يُؤْذِنُ بأنَّه متوقفٌ عن القطعِ في الحالِ"
(5)
. وقال أيضًا: "إذا صَدَرَ الجوابُ مِنْ أبي عبدِ الله بـ: ما سمعتُ، ولا أعرفُ، فذلك لا يكسبُ قطعًا بتحريمٍ ولا تحليلٍ، بلْ يقتضي ذلك الوقف لا غير"
(6)
.
ويقولُ ابنُ عابدين: "توقّف فيه - أيْ: فيما لو حَلَفَ لا يكلمه دهرًا، هل هو للأبد؟ - أبو حنيفةَ، وقال: لا أدريْ ما هو"
(7)
.
أمثلة ذلك:
المثال الأول: سأل إسحاقُ بن منصور الإمامَ أحمدَ بن حنبل عن الصبي إذا أمَّ قبلَ أنْ يحتلمَ؟ فقالَ: "دعْها"
(8)
.
(1)
الإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2705) بتصرف.
(2)
الأم (2/ 380).
(3)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 504، 573)، و (2/ 674، 694، 705، 728)، وشرح العمدة لابن تيمية، كتاب الطهارة (ص/ 456)، والإنصاف (2/ 177).
(4)
انظر: المغني لابن قدامة (14/ 589).
(5)
تهذيب الأجوبة (1/ 574).
(6)
المصدر السابق (2/ 674) بتصرف يسير.
(7)
رد المحتار على الدر المختار (11/ 514).
(8)
مسائل الإمام أحمد وإسحاق برواية إسحاق بن منصور (1/ 704).
المثال الثاني: سُئِلَ الإمامُ أحمدُ بن حنبل عن السَلَمِ
(1)
في الفاكهةِ؟ فقالَ: "ما أدري"
(2)
.
المثال الثالث: قولُ أبي حنيفة في الخنثى المشكلِ: "لا أدري ما أقولُ في هذا"
(3)
.
الطريق الثالث: حكايةُ تلاميذِ الإمامِ أو أصحابِه عنه أنَّه متوقفٌ
(4)
.
كما ينقلُ تلامذةُ وأصحابُ الإمامِ أقوالَه وأفعالَه، فإنَّهم أيضًا ينقلون توقفاته، ويُعَدُّ هذا طريقًا لمعرفةِ توقفِ إمامِ المذهبِ.
أمثلة ذلك:
المثال الأول: يقول ابن مفلحٍ: "هل صلاةُ مَنْ أذَّن لصلاتِه بنفسِه أفضلُ؟
…
أم يُحتمل أنَّها وصلاةُ مَنْ أُذنَ له سواء؟
…
ذَكَرَ القاضي أنَّ أحمدَ توقّفَ"
(5)
.
المثال الثاني: يقولُ المرداويُّ: "لو أدّاها - أيْ: الشهادة - بخطِّه: فقد توقّفَ الإمامُ أحمدُ، رحمه الله"
(6)
.
فإذا توقَّف الإمامُ في حكمِ مسألةٍ، فهل يُعَدُّ توقفُه قولًا، بحيث تصحُّ نسبتُه إليه؟
* تحرير محل النزاع:
أولًا: إذا توفف الإمامُ، ثم تبيّنَ له رأيٌّ محددٌ، فليس متوقفًا
(7)
.
(1)
السَلَم: بيع شيءٍ موصوفٍ في الذمّة، ببدلٍ يعطى عاجلًا. انظر: نهاية المطلب للجويني (6/ 5)، والبيان للعمراني (5/ 394)، ومنهاج الطالبين للنووي (2/ 71)، وشرح المهذب للسبكي (13/ 94)، وأسنى المطالب للأنصاري (2/ 122).
(2)
مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (3/ 64).
(3)
البناية في شرح الهداية للعيني (12/ 665).
(4)
انظر: المدخل المفصَّل إلى مذهب الإمام أحمد (1/ 263).
(5)
الفروع (2/ 7).
(6)
الإنصاف (12/ 39).
(7)
انظر: تهذيب الأجوبة (1/ 443، 508)، وصفة الفتوى (ص/ 101)، والإبهاج في شرح المنهاج (7/ 2705).
ثانيًا: إذا ثَبَتَ توقّفُ الإمامِ، ولم يأْتِ ما يدلُّ على قولِه، فهذا محلُّ النزاعِ.
* الأقوال في المسألة:
اختلفَ العلماءُ في هذه المسألةِ على قولين:
القول الأول: أنَّ التوقفَ قولٌ، فتصحُّ نسبتُه إلى إمامِ المذهبِ.
وهذا قولُ أبي الوفاءِ بنِ عقيل
(1)
، والمرداوي
(2)
، وابنِ النجار
(3)
.
وقال عنه المرداويُّ: "هو المعمولُ به عندَ العلماءِ"
(4)
.
القول الثاني: أنَّ التوقفَ ليس بقولٍ، فلا تصحُّ نسبتُه إلى إمامِ المذهبِ.
وهذا قولُ أبي حامدٍ الغزالي
(5)
، وابنِ رشدٍ
(6)
، والفخرِ الرازي
(7)
، ومحمدٍ الدسوقي
(8)
.
وذَكَرَ القولَ الثاني: أبو الوفاءِ ابنُ عقيلٍ
(9)
، وابنُ مفلحٍ
(10)
، ولم ينسباه إلى أحدٍ.
* أدلة القولين:
دليلُ أصحاب القولِ الأول: أنَّ المتوقفَ يفتي بقولِه، ويدعو إليه ويقرره، ويناظرُ لنصَرتِه، وما كان هذا شأنه، فإنَّه قولٌ، وإذا ثَبَتَ أنَّه قولٌ، صحّتْ نسبتُه إلى الإمامِ
(11)
.
(1)
انظر: الواضح في أصول الفقه (1/ 31 - 32).
(2)
انظر: التحبير (2/ 812).
(3)
انظر: شرح الكوكب المنير (1/ 344).
(4)
انظر: التحبير (2/ 812).
(5)
انظر: المستصفى (2/ 72).
(6)
انظر: الضروري في أصول الفقه (ص/ 142).
(7)
انظر: المحصول في علم أصول الفقه (5/ 391).
(8)
انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 56).
(9)
انظر: الواضح في أصول الفقه (1/ 31).
(10)
انظر: أصول الفقه (1/ 184).
(11)
انظر: الواضح في أصول الفقه (1/ 31)، والتحبير (2/ 812).
دليلُ أصحابِ القولِ الثاني: أنَّ حقيقةَ التوقفِ خروجٌ عن الأقوالِ، وتعطيلٌ لها، وإذا كانت تلك حقيقةُ التوقفِ، فإنَّه لا يُعَدُّ قولًا
(1)
.
* الموازنة والترجيح:
مِنْ خلالِ النظرِ في القولين، وما استدلوا به، يظهرُ لي أنَّ الراجحَ في المسألةِ هو التفصيلُ الآتي:
- إنْ كان سببُ التوقفِ تعارضَ الأدلة، مع عدمِ المرجّحِ، فالتوقفُ حينئذٍ قولٌ.
- إنْ كان سببُ التوقفِ عدمَ النظرِ في المسألةِ ابتداءً، أو عدمَ استكمالِه، فلا يُعَدّ التوقف حينئذٍ قولًا.
* سبب الخلاف:
بيّن عبدُ الله العلوي أنَّ الخلافَ في المسألةِ عائدٌ إلى الشكِّ، أهو حكمٌ أم لا؟
فإنْ قلنا: الشكُّ حكمٌ، كان التوقفُ حينئذٍ قولًا، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الأولِ.
وإنْ قلنا: الشكُّ ليس بحُكمٍ، لم يكن التوقفُ حينئذٍ قولًا، وهذا ما سارَ عليه أصحابُ القولِ الثاني
(2)
.
وهناك قولٌ ثالثٌ في المسألةِ، وهو أنَّ الشاكَّ إنْ نَشَأَ شكُّه عن تعارضِ الأدلةِ، فهو حاكمٌ بالترددِ، وإنْ نَشَأَ شكُّه؛ لعدمِ النظرِ، فهو غيرُ حاكمٍ، وهذا يتفقُ مع ما رجحتُه
(3)
.
(1)
انظر: الواضح في أصول الفقه (1/ 31).
(2)
انظر: نشر البنود (1/ 63). وتبع عبد الله العلوي في ذكر سبب الخلاف: المرابط في: مراقي السعود (ص/ 88)، ومحمد الأمين الشنقيطي في: نثر الورود (1/ 48).
(3)
انظر: المصادر السابقة.