الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والاستمرارِ على القولِ المرجوحِ، والاعتداءِ على المخالفين، والحطِّ مِنْ قدرِهم، ثمَّ الوقوع في التفرّقِ.
العلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:
تقدّمَ لنا أنَّ مِنْ معاني التعصبِ في اللغةِ: المحاماةَ والمدافعةَ، وهذا المعنى مناسبٌ للمعنى الاصطلاحي، إلا أنَّ المعنى الاصطلاحيَّ أخصُّ؛ لأنَّ المحاماةَ والمدافعةَ مِنْ أَتْبَاعِ المذهبِ عن مذهبِهم، فالعلاقةُ بينهما هي العمومُ والخصوصُ المطلقُ.
وللتعصبِ صورٌ متعددةٌ، سيأتي الحديثُ عنها - إنْ شاءَ الله - في مبحثٍ مستقلٍّ في البابِ الثاني، وقد حذَّر جمعٌ مِن العلماءِ مِنْ داءِ التعصبِ المذهبي، ولنستمعْ إلى قولِ تقيِّ الدين بنِ تيميةَ: "وبلادُ المشرقِ مِنْ أسبابِ تسليطِ الله التترَ عليها: كثرةُ التفرقِ والفتنِ بينهم في المذاهبِ وغيرِها، حتى تجد المنتسبَ إلى الشافعي يتعصبُ لمذهبِه على مذهبِ أبي حنيفةَ حتى يخرج عن الدّينِ، والمنتسبَ إلى أبي حنيفةَ يتعصبُ لمذهبِه على مذهبِ الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدّينِ، والمنتسبَ إلى مالكٍ يتعصبُ لمذهبِه على هذا وهذا.
وكلُّ هذا مِن التفرقِ والاختلافِ الذي نهى اللهُ ورسولُه عنه"
(1)
.
العلاقة بين التمذهب والتعصب:
مِنْ خلالِ تأمّلِ حقيقةِ كلٍّ مِن التمذهبِ والتعصبِ، نجد أنَّهما يجتمعانِ في: أن كلًّا منهما أخذٌ لمذهبِ إمامٍ معيَّنٍ في الأصولِ، أو في الفروعِ.
ويفترقُ التمذهبُ والتعصبُ في الآتي:
أولًا: التمذهبُ أسبقُ وجودًا مِنْ التعصب المذهبي؛ إذ الذي ولّد
(1)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام (22/ 254).
التعصبَ المذهبي هو التمذهب، فالتعصبُ أثرٌ مِنْ آثارِ التمذهبِ؛ لأنَّ ممارسةَ المتمذهبين في بعضِ العصورِ هي التي أَظهرت التعصَّبَ المذهبيَّ.
يقولُ أبو إسحاقَ الشاطبي: "اعتيادُ الاستدلالِ لمذهبٍ واحدٍ رُبّما يكسبُ الطالبَ نفورًا وإنكارًا لمذهبِ غيرِ مذهبِه"
(1)
.
ثانيًا: ليس في التمذهب إعراضٌ عن الأدلةِ أو هدمٌ لها، متى ما أُحِسنَ تطبيقُه، بخلافِ التعصّبِ، فإنَّه هادمٌ للدليل؛ فتَجِدُ المتعصبَ يقفُ موقفَ الهادمِ لدليلِ المخالفِ لَمذهبه؛ لمجرَّد المخالفة، أو يقفُ موقفَ الرادِّ للدليلِ.
فردُّ الدليلِ المخالفِ للمذهبِ، أو تأويله تأويلًا بعيدًا؛ لمجرّدِ مخالفتِه للمذهبِ مِن التعصبِ، وليس مِنْ حقيقةِ التمذهبِ.
ثالثًا: يؤديْ التعصبُ إلى تفريقِ المسلمينَ، وإحداثِ النزاع والشقاقِ بينهم، أمّا التمذهبُ، فليس كذلك.
رابعًا: قد يكونُ البقاءُ على المذهبِ؛ لأجلِ قوةِ الدليلِ أو لمكانةِ الإمامِ أو لعدم الاطلاع على ما لدى المذاهبِ الأخرى، وقد يكونُ لهوى المتمذهب؛ أمَّا في التعصبِ فنُصْرةُ المذهبِ والبقاءُ عليه؛ للهوى، دونَ اعتبارٍ للدلَيلِ.
يقولُ ابنُ القيّمِ: "أمّا المتعصبون، فإنَّهم عكسوا القضيةَ، ونظروا في السنةِ: فما وافق أقوالَهم منها قَبلُوه، وما خالفها تحيّلوا في ردِّه أو ردّ دلالته
…
"
(2)
.
وإذا أردنا معرفةَ النسبةِ بين التمذهبِ والتعصبِ، نَجِدُ أنَّهما يصدقانِ على المتمذهبِ الذي يتعصبُ لمذهبِه ولأقوالِ إمامِه.
(1)
الموافقات (3/ 131 - 132).
(2)
إعلام الموقعين (2/ 143).
وينفرد التمذهبُ عن التعصبِ في الآتي:
الأول: المجتهدُ الذي ينتسبُ إلى مذهبٍ معيّنٍ، دونَ تعصبٍ لرأي إمامِه.
الثاني: المتمذهبُ الذي يخرجُ عن رأي إمامِه؛ لمخالفتِه الدليل.
الثالث: المتمذهبُ الذي يأخذُ برأي إمامِه، دونَ أنْ يظهرَ عليه أثرٌ مِنْ آثارِ العصبيةِ لمذهبِه.
وكل المتعصبين لمذاهبِهم هم متمذهبون، فالتعصبُ تمذهبٌ وزيادةٌ، وهذه الزيادة ليستْ مِنْ حقيقةِ التمذهبِ
(1)
.
وبناءً على ما سَبَقَ، فالنسبةُ بين التمذهبِ والتعصبِ هي: العمومُ والخصوصُ المطلقُ.
* * *
(1)
فإن قال قائل: ينفرد التعصب عن التمذهب في الشخص الذي يتعصب لعالمه الذي لا ينتمي لمذهب معين، فالجواب: حقيقة صنيع المتعصب في هذه الحال أنه متمذهب.