الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على صحة الكلام، والدالّ على الاطلاع، وكالرّقم فى الثوب، والشّذرة فى القلادة والواسطة فى العقد، إذ لا ينبغى للكاتب أن يخلى كلامه من نوع من أنواع المحاسن.
ويقرب من هذا النوع التلميح، وقد تقدّم ذكره فى بعض أبواب البديع، والذى يقع فى بعض استعماله فى مثل ذلك مثل قول الحريرىّ: وإنّى والله لطالما لقيت الشتاء بكافاته، وأعددت الأهبة له قبل موافاته. يشير الى بيتى ابن سكّرة:
جاء الشتاء وعندى من حوائجه
وهى مشهورة.
فإذا عرف الكاتب هذه العلوم، وأتى الصناعة من هذه الأبواب تعيّن عليه أمور أخر نذكرها الآن.
ذكر ما يتعين على الكاتب استعماله والمحافظة عليه والتمسّك به وما يجوز فى الكتابة وما لا يجوز
قال إبراهيم بن محمد الشّيبانىّ: فإن احتجت الى مخاطبة الملوك والوزراء والعلماء والكتّاب والأدباء والخطباء والشعراء وأوساط الناس وسوقتهم، فخاطب كلّا على قدر أبّهته وجلالته، وعلوّه وارتفاعه، وفطنته وانتباهه، ولكلّ طبقة من هذه الطّباق معان ومذاهب يجب عليك أن ترعاها فى مراسلتك إيّاهم فى كتبك، وتزن كلامك فى مخاطبتهم بميزانه، وتعطيه قسمته، وتوفيه نصيبه، فإنك متى أهملت ذلك وأضعته لم آمن عليك أن تعدل بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير مسلكهم، وتجرى شعاع بلاغتك فى غير مجراه، وتنظم جوهر كلامك فى غير سلكه، فلا تعتدّ بالمعنى الجزل ما لم تلبسه لفظا [لائقا بمن «1» كاتبته، وملامسا لمن راسلته] ، فإن إلباسك المعنى
- وإن صحّ وشرف- لفظا مختلفا عن قدر المكتوب اليه لم تجربه عادته تهجين للمعنى وإخلال بقدره، وظلم يلحق «1» المكتوب اليه، ونقص ما يجب له «2» ، كما أنّ فى اتباع تعارفهم، وما انتشرت به عادتهم، وجرت به سنّتهم، قطعا لعذرهم، وخروجا من حقوقهم، وبلوغا إلى غاية مرادهم، وإسقاطا لحجّة أدبهم.
وقال أحمد بن محمد بن عبد ربّه: فامتثل هذه المذاهب، واجر [على هذا «3» ] القوام، وتحفّظ فى صدور «4» كتبك وفصولها وافتتاحها وخواتمها، وضع كل معنى فى موضع يليق به، وتخيّر لكلّ لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فصولك فى موضع ذكر البلوى بمثل:«نسأل الله دفع المحذور، وصرف المكروه» وأشباه ذلك؛ وفى موضع ذكر المصيبة: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ
؛ وفى موضع ذكر النعمة: «الحمد لله خالصا، والشكر لله واجبا» وما يشاكل ذلك، فإن هذه المواضع مما يتعيّن على الكاتب أن يتفقّده ويتحفّظ منه، فإن الكاتب إنما يصير كاتبا بأن يضع كلّ معنى فى موضعه، ويعلّق كلّ لفظة على طبقتها فى المعنى.
قال: واعلم أنه لا يجوز فى الرسائل استعمال ما أتت به آى القرآن من الاختصار والحذف، ومخاطبة الخاصّ [بالعامّ «5» ] والعامّ بالخاصّ، لأن الله تعالى إنما خاطب
بالقرآن قوما فصحاء فهموا عنه- جلّ ثناؤه- أمره ونهيه ومراده، والرسائل إنما يخاطب بها قوم دخلاء «1» على اللغة لا علم لهم بلسان العرب؛ وكذلك ينبغى للكاتب أن يتجنّب اللفظ المشترك، والمعنى الملتبس، فإنه إن ذهب ليكاتب على معنى قول الله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
وكقوله تعالى:
بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
احتاج أن يبيّن أن معناه: اسأل أهل القرية، وأهل العير، وبل مكركم باليل والنهار؛ قال: وكذلك لا يجوز أيضا فى الرسائل والبلاغات المنثورة ما يجوز فى الأشعار الموزونة، لأن الشاعر مضطرّ، والشعر مقصور مقيّد بالوزن والقوافى، فلذلك أجازوا لهم صرف ما لا ينصرف من الأسماء، وحذف ما لا يحذف منها، واغتفروا «2» فيه سوء النّظم، وأجازوا فيه التقديم والتأخير، والإضمار فى موضع الإظهار، وذلك كله غير سائغ فى الرسائل، ولا جائز فى البلاغات؛ فمما أجيز فى الشعر من الحذف قول الشاعر:
قواطنا مكّة من ورق الحما
يريد الحمام، وكقول الآخر:
صفر الوشاحين صموت الخلخل
يريد الخلخال، وكقول الحطيئة:
فيها الرماح وفيها كلّ سابغة
…
جدلاء مسرودة من فعل «3» سلّام
يريد سليمان، وكقول الآخر:
وسائلة بثعلبة بن سير
…
وقد علقت بثعلبة العلوق «4»
يريد ثعلبة بن سيّار «1» ، وكقول الآخر:
فلست بآتيه ولا أستطيعه
…
ولاك اسقنى إن كان ماؤك ذا فضل
[أراد ولكن «2» ] قال: وكذلك لا ينبغى فى الرسائل أن يصغّر الاسم فى موضع التعظيم وإن كان ذلك جائزا، مثل قولهم: دويهية تصغير داهية، وجذيل وعذيق، تصغير جذل وعذق «3» . قال لبيد:
وكلّ أناس سوف تدخل بينهم
…
دويهية تصفّر منها الأنامل
قال: فتخيّر فى الألفاظ أرجحها وزنا، وأجزلها معنى، وأشرفها جوهرا وأكرمها حسبا، وأليقها فى مكانها، وأدر الكلام فى أماكنه، وقلّبه على جميع وجوهه، ولا تجعل اللفظة قلقة فى موضعها، نافرة عن مكانها، فإنك متى فعلت ذلك هجّنت الموضع الذى حاولت تحسينه، وأفسدت المكان الذى أردت إصلاحه فإنّ وضع الألفاظ فى غير أماكنها، والقصد بها إلى غير مظانّها، إنما هو كترقيع الثوب الذى إن لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه، خرج عن حدّ الجدّة، وتغيّر حسنه، كما قال الشاعر:
إنّ الجديد إذا ما زيد فى خلق
…
يبين للناس أنّ الثوب مرقوع
انتهى ما أورده ابن عبد ربّه.
وقال المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبىّ: ومما يتعيّن على الكاتب استعماله، والمحافظة عليه، والتمسّك به، إعطاء كلّ مقام حقّه، فإذا كتب فى أوقات
الحروب إلى نوّاب الملك عنه، وإلى مقدّمى الجيوش والسّرايا، فليتوخّ الإيجاز والألفاظ البليغة الدالّة على القصد من غير تطويل ولا بسط يضيّع المقصد، ويفصل الكلام بعضه من بعض، ولا تهويل لأمر العدو يضعف به القلوب، ولا تهوين لأمر يحصل به الاغترار. وذكر لذلك أمثلة من إنشائه.
قال: فمن ذلك صورة كتاب أنشأته الى مقدّم سريّة كشف- ولم أكتب به- وهو:
لا زال أخفّ فى مقاصده من وطأة ضيف، وأخفى فى مطالبه من زورة طيف، وأسرع فى تنقّله من سحابة صيف، وأروع للعدا فى تطلّعه من سلّة سيف، حتى يعجب عدوّ الدّين فى الاطّلاع على عوراته من أين دهى وكيف؟ ويعلم [أنّ «1» ] من أوّل قسمته الّلقاء حصل عليه فى مقاصده الحيف «2» ؛ أصدرناها إليه نحثّه على الركوب بطائفة أعجل من السّيل، وأهول من الليل، وأيمن من نواصى الخيل؛ وأقدم من النّمر، وأوقع على المقاصد من الغيث المنهمر، وأروغ فى مخاتلة العدا من الذئب الحذر؛ على خيل تجرى ما وجدت فلاه، وتطيع راكبها مهما أراد منها سرعة أو أناه؛ تتسنّم الجبال الصّمّ كالوعل «3» ، وإذا جارتها البروق غدت وراءها
تمشى الهوينا كما يمشى الوجى «4» الوجل
…
وليكن كالنجم فى سراه، وبعد ذراه؛
إن جرى فكسهم، وإن خطر فكوهم؛ وإن طلب فكالليل الذى هو مدرك، وإن طلب فكالجنّة التى لا يجد ريحها مشرك؛ حتى يأتى على عدوّ الدّين من كل شرف،
ويرى جمعه من كل طرف، ولا يسرف فى الإقامة عليه إلا إذا علم أن الخير فى السّرف؛ وليحرز جمعهم، ويسبق إلى التحرّز منهم بصرهم وسمعهم؛ وينظرهم بعين منعها الحزم أن ترى العدد الكثير قليلا، وصدّها العزم أن ترى العدوّ الحقير جليلا؛ بل ترى الأمر على فصّه، وتروى الخبر على نصّه؛ وإن وجد مغرّرا فليأخذ خبره، إن قدر على الإتيان بعينه وإلّا فليذهب أثره؛ ولا يهيج فيما لديه نار حرب إلا بعد الثقة بإطفائها، ولا يوقظ [عليه «1» ] عين عدوّ مهما «2» ظهر له أن [المصلحة «3» فى إغفائها] ؛ وليكشف من أمورهم ما يبدى عند الملتقى عورتهم، ويخمد فى حالة الزّحف فورتهم؛ وليجعل قلبه فى ذلك ربيئة طرفه، وطليعة طرفه، وسريّة كشفه والله تعالى يمدّه بلطفه، ويحفظه بمعقّبات من بين يديه ومن خلفه.
واذا كتب عن الملك فى أوقات حركات العدوّ الى أهل الثغور يعلمهم بالحركة للقاء العدوّ، فليبسط القول فى وصف العزائم، وقوّة الهمم، وشدّة الحميّة للدين، وكثرة العساكر والجيوش، وسرعة الحركة، وطىّ المراحل، ومعالجة العدوّ، وتخييل أسباب النصر، والوثوق بعوائد الله فى الظّفر، وتقوية القلوب منهم، وبسط آمالهم، وحثّهم على التيقظ، وحضّهم على حفظ ما بأيديهم، وما أشبه ذلك، ويبرزه فى أمتن «4» كلام وأجلّه وأمكنه، وأقربه من القوّة والبسالة، وأبعده من اللّين والرقّة، ويبالغ فى وصف الإنابة إلى الله تعالى، واستنزال نصره وتأييده، والرجوع إليه فى تثبيت
الأقدام، والاعتصام به فى الصبر، والاستعانة به على العدوّ، والرغبة إليه فى خذلانهم، وزلزلة أقدامهم، وجعل الدائرة عليهم، دون التصريح بسؤال بطلان حركتهم، ورجاء تأخّرهم، وانتظار العرضيّات فى خلفهم، لما فى ذلك من إيهام الضّعف عن لقائهم واستشعار الوهن والخوف منهم، وليسلك فى مثل ذلك كما سلك المولى شهاب الدين محمود فى نحو ما كتب فى صدر كتاب سلطانىّ إلى بعض نوّاب الثغور عند حركة العدوّ، فإنه قال:
أصدرناها ومنادى النّفير قد أعلن: يا خيل «1» الله اركبى، ويا «2» ملائكة الرحمن اصحبى ويا وفود الظّفر والتأييد اقربى؛ والعزائم قد ركضت على سوابق الرّعب إلى العدا والهمم قد نهضت إلى عدوّ الإسلام فلو كان فى مطلع الشمس لاستقربت ما بينها وبينه من المدى؛ والسيوف قد أنفت من الغمود فكادت تنفر من قربها، والأسنة قد ظمئت الى موارد القلوب فتشوقت الى الارتواء من قلبها «3» ؛ والكماة قد زأرت كالليوث إذا دنت من «4» فرائسها، والجياد قد مرحت لما عودتها من الانتعال بجماجم الأبطال فوارسها؛ والجيوش قد كاثرت النجوم أعدادها، وسايرتها للهجوم على أعداء الله من ملائكته الكرام أمدادها؛ والنفوس قد أضرمت الحميّة نار غضبها، وعداها «5» حرّ الإشفاق على ثغور المسلمين عن برد الثغور وطيب شنبها؛ والنصر قد أشرقت
فى الوجود دلائله، والتأييد قد ظهرت على الوجوه مخايله، وحسن اليقين بالله فى إعزاز دينه قد أنبأت بحسن المآل أوائله؛ والألسن باستنزال نصر الله لهجه والأرجاء بأرواح القبول أرجه، والقلوب بعوائد لطف الله بهذه الأمّة مبتهجه والحماة وما منهم إلا من استظهر بإمكان قوّته وقوّة إمكانه، والأبطال وليس فيهم من يسأل عن عدد عدوّ بل عن مكانه؛ والنّيات على طلب عدوّ الله حيث كان مجتمعه والخواطر مطمئنّة بكونها مع الله بصدقها، ومن كان مع الله كان الله معه؛ وما بقى إلا طىّ المراحل، والنزول على أطراف الثغور نزول الغيث على البلد الماحل؛ والإحاطة بعدوّ الله من كل جانب، وإنزال نفوسهم على حكم الأمرين الأمرّين:
من عذاب واصب، وهمّ ناصب؛ وإحالة وجودهم إلى العدم، وإجالة السيوف التى [إن «1» ] أنكرتها أعناقهم فما بالعهد من قدم؛ واصطلامهم «2» على أيدى العصابة المؤيّدة بنصر الله فى حربها، وابتلاؤهم من حملاتها بريح عاد التى تدمّر كل شىء بأمر ربها؛ فليكن مرتقبا لطلوع طلائعها عليه، متيقّنا من كرم الله استئصال عدوّه الذى إن فرّ أدركته من ورئه، وإن ثبت أخذته من بين يديه؛ وليجتهد فى حفظ ما قبله من الأطراف وضمّها، وجمع سوام الرعايا من الأماكن المتخوّفة ولمّها، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه من مسالك الأرباض المتطرّفة ورمّها، فإنّ الاحتياط على كل حال من آكد المصالح الإسلاميّة وأهمّها؛ فكأنه بالعدوّ وقد زال طمعه، وزاد ظلعه؛ وذمّ عقبى مسيره، وتحقّق سوء منقلبه ومصيره، وتبرّأ منه الشيطان الذى دلّاه بغروره، وأصبح لحمه موزعا بين ذئاب للفلا وضباعها، وبين عقّبان الجوّ
ونسوره؛ ثقة من وعد الله الذى تمسّكنا منه باليقين، وتحقّقنا أن الله ينصر من ينصره وأن العاقبة للمتقين.
قال: وزيادة البسط فى ذلك ونقصها بحسب المكتوب إليه.
وإذا كتب فى التهانى بالفتوح، فليس إلّا بسط الكلام، والإطناب فى شكر نعم الله، والتبرّؤ من الحول والقوّة إلّا به، ووصف ما أعطى من النصر، وذكر ما منح من الثّبات، وتعظيم ما يسّر من الفتح؛ ثم ما وصف بعد ذلك من عزم وإقدام وصبر وجلد عن الملك وعن جيشه حسن وصفه، ولاق ذكره، وراق التوسيع فيه، وعذب بسط الكلام فيه؛ ثم كلّما اتسع مجال الكلام فى ذكر الواقعة ووصفها كان أحسن [وأدلّ على البلاغة، وأدعى لسرور المكتوب إليه، وأحسن «1» ] لموقع المنّة عنده، وأشهى إلى سمعه، وأشفى لغليل تشوّقه إلى معرفة الحال على جليّته، ولا بأس «2» بتهويل [أمر «3» ] العدوّ، ووصف جمعه وإقدامه، فإن تصغير أمره تحقير للظّفر به؛ وقد ذكرنا فى باب التهانى من ذلك ما تقدّم شرحه، فلنذكر فى هذا الموضع من كلامه فيه ما لم نورده فى باب التهانى؛ قال: وإن كان المكتوب إليه ملكا صاحب مملكة منفردة تعيّن أن يكون البسط أكثر، والإطناب أمدّ، والتهويل أبلغ، والشرح أتمّ؛ فمن ذلك فصل كتبته فى جواب ابن الأحمر صاحب غرناطة من جزيرة الأندلس، قال:
أما بعد حمد الله الذى أيّدنا بجنوده، وأنجز لنا من نصر الأمّة صادق وعوده وخصّنا من استدامة الفتوح بمزايا مزيده، وأيّدنا بنصره، ونصرنا بتأييده، والصّلاة
والسلام على سيدنا محمد أشرف رسله، وخاتم أنبيائه، وأكرم عبيده، وأعزّ من دعا الأمم وقد أنكرت خالقها الى الإقرار بتوحيده، وعلى آله وصحبه الذين أشرق أفق الدين منهم بكواكب سعوده؛ فإنا أصدرناها ونعم الله تعالى بنا مطيفه، ومواقع نصره عندنا لطيفه، وجنود تأييده لممالك الأعداء الى ممالكنا الشريفة مضيفه، وثغور الإسلام بذبّنا عن دين الله منيره، وبإعلائنا منار الهدى منيفه؛ ونحن نحمد الله على ذلك حمدا نستدرّ به أخلاف الظّفر، ونستديم به موادّ التأييد على من كفر؛ ونستمدّ به عوائد النصر التى كم أقدمها علينا إقدام، وأسفر لنا عنها وجه سفر؛ ونهدى إليه ثناء تعبق بنشر الرياض خمائله، وتنطق بمحض الوداد مخايله، وتشرق على أفق مفاخره غدواته وأصائله؛ يشافه مجده بمصونه «1» ، ويصارح فخره بمكنونه، ويجلو على حضرته العليّة عقائل الشّرف من أبكار الهناء وعونه؛ ونبدى لعلمه الكريم ورود كتابه الجليل مسفرا عن لوامع صفائه، منبئا بجوامع ودّه ووفائه؛ مشرقا بلآلئ فرائده، محدقا بروض كرمه الذى سعد رأى رائده؛ محتويا على سروره بما بلغه من أنباء النّصرة التى سارت بها إليه سرعان الرّكبان، وذلّت بعزّ ما تلى منها عليه عبّاد الصلبان؛ وطبّق ذكرها المشارق والمغارب، ومزّقت مواكب أعداء الله التّتار وهم فى رأى العين أعداد الكواكب، وخلطت التراب بدمائهم حتى لم يبح بها التيمّم، ومزجت بها الفرات حتى ما تحلّ لشارب؛ وهى النّصرة التى لا يدرك الوصف كنهها، ولا تعرف لها البلاغة مشبها فتذكر شبهها؛ ولا يتّسع نطاق النطق لذكرها، ولا تنهض الألسنة على طول الأبد بشكرها؛ فإنّ التّتار المخذولين اقبلوا كالرّمال، واصطفوا كالجبال؛ وتدفّقوا كالبحار الزّواخر، وتوالوا كالأمواج التى لا يعرف لها الأوّل من الآخر؛ فصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة بدّدت شملهم، وعلّمت الطير أكلهم؛ وحصرتهم
فى الفضاء، وطالبت أرواحهم الكافرة بدين دينها وأسرفت فى الاقتضاء؛ وحصدت منهم سيوفنا المنصورة ما يخرج عن وصف الواصف، ومزّقت بقيّتهم فى الفلوات فكانوا كرماد اشتدّت به الرّيح فى يوم عاصف؛ وأحاطت بهم كتائبنا المنصورة فلم ينج إلا من لا يؤبه له من فريقهم، وقسمتهم جيوشنا المؤيّدة من الفلوات الى الفرات بين القتل والأسر، فلم يخرج عن تلك القسمة غير غريقهم؛ وأعقبتهم تلك الكسرة أن هلك طاغيتهم أسفا وحسره، وحزنا على من قتل من تلك المقاتلة، وأسر من تلك الأسره، وأماته الرّعب من جيوشنا المنصورة فجاءه، واستولى عليه الوجل فجاءه من أمر الله ما جاءه؛ وقعد أخوه بعده مكانه، والخوف من عساكرنا يضعضع أركانه، والفرق من جيوشنا يفرّق أعوانه، ويمزّق إخوانه، ويوهى سلطانه ويبرّئ منه شيطانه؛ فلاذ بالالتجاء الى سلمنا، وعاذ بإسناد الرجاء الى كفّنا عنه وحلمنا؛ فكرّر رسله ورسائله مستعطفا، ووالى كتبه ووسائله مستعفيا من حربنا ومستسعفا؛ وهاهو الآن وجنوده يتوسّلون بالخضوع الى مراحمنا، ويتوصّلون ببذل الطاعة الى مكارمنا؛ ويسألون صفح الصّفاح الإسلاميّة عن رقابهم، ويبدون ما أظهره الله عليهم من الذلّ الذى جعلته تلك النّصرة خالدا فى أعقابهم؛ وسيوفنا تأبى قبول وسائلهم، وتصرّ على نهز سائلهم، وتمنع من الكفّ عن مقاتلهم، وتأنف أن تغمد إلّا فى قمم محاربهم ومقاتلهم؛ ونحن على ما نحن من الأهبة لغزوهم فى عقر دارهم، وانتزاع مواطن الخلافة وغيرها من ممالك الإسلام من بين نيوبهم وأظفارهم؛ مستنصرين بالله على من بقى فى خطّ «1» المشرق منهم، قائمين فيهم بفرض الجهاد الذى لولا دفاع الله به لم يمتنع خطّ المغرب عنهم؛ «ولينصرنّ الله من ينصره» ، ولو عددنا نعم الله علينا حاولنا عدّ ما لا نحصيه ولا نحصره.
وإن اضطرّ أن يكتب بمثل ذلك الى ملك غير مسلم لكنّه غير محارب، فالحكم فى ذلك أن يذكر من أسباب المودّة ما يقتضى المشاركة فى المسارّ، وأنّ أمر هذا العدد مع كثرته أخذ بأطراف الأنامل، وآل أمره الى ما آل، ويعظّم ذكر ما جرى عليه من القتل والأسر، وتلك عوائد نصر الله، وانتقامه «1» ممّن عادانا؛ فمن ذلك ما أنشأه المشار اليه لبعض ملوك البحر- ولم يكتب به- وهو:
صدرت هذه المكاتبة مبشّرة له بما منحنا الله من نصرة أجزل الصفاء منها سهمه، وأكمل الوفاء من التهنئة بها قسمه؛ وخصّه الوداد بأجلّ أجزائها، وأجلسه الاتحاد على أسرّة مسرّتها إذا أجلس العناد غيره على بساط عزائها؛ علما بأنه الصديق الذى تبهجه مسارّ صديقه، والصاحب الذى يرى مساهمة صاحبه فى بشرى الظّفر بأعدائه أدنى حقوقه؛ وذلك أنه قد علم ما كان من أمر هؤلاء التّتار فى حركاتهم الذميمة، وعزماتهم التى ما احتفلوا لها إلا وكان أحدّ سلاحهم فيها الهزيمة، وغاراتهم التى ما حشدوا لها إلّا وقنعوا فها بالإياب من الغنيمه؛ وأنهم ما أقدموا علينا إلا وعدموا، ولا سلكوا الينا إلّا وهلكوا؛ حتى إنّ الأرض الى الآن لم تجفّ من دمائهم، وإنّ الفرات يكاد يشفّ «2» للمتأمّل عن أشلائهم؛ وأن الشيطان بعد ذلك جدّد طمعهم، وسكّن هلعهم؛ وأنساهم مصارع إخوانهم، وأسلاهم بما زيّن لهم من بلوغ أوطارهم عن أوطانهم؛ وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس، وتلك الوقائع التى أصبتم فيها قد لا يجرى الأمر فيها على القياس؛ وحسّن لهم المحال وغرّهم وجرّأهم على قصد البلاد المحروسة، وفى الحقيقة استجرّهم؛ فحشدوا جموعهم
وجمعوا حشودهم، واستفرغوا فى الاستنفار والاستظهار طاقتهم ومجهودهم؛ ومالأهم على ذلك من المجاورين من أبطن شقاقه، وكنتم نفاقه، وأنساه الشيطان ما سلف من تنفيسنا عنه وقد لازم الحتف خناقه؛ ونحن فى ذلك نوسعهم إمهالا؛ ونبسط لهم فى التّوغل آمالا، ونأخذا أمرهم بالأناة استدرجا لهم لا إهمالا؛ الى أن بعدوا عن مواطن الهرب، وحصل من استدراجهم الأرب؛ فوثبنا عليهم وثوب الليث إذا ظفر بصيده، ونهضنا نحوهم نهوض الحازم إذا وقع [عدوّه «1» ] فى أحبولة كيده؛ وصدمتهم جيوشنا المنصورة صدمة فللت غربهم، وأبطلت طعنهم وضربهم، وصبغت بدمائهم تربهم؛ وحكّمت السيوف فى مقاتلهم، [ومكّنت الحتوف من صاحب رأيهم ومقاتلهم «2» ] ؛ وسلّطت العدم على وجودهم، وحطّتهم عن سروجهم الى مصارعهم أو قيودهم؛ «فغلبوا هنا لك وانقلبوا صاغرين» ، وعادوا على عادتهم خاسئين، ورجعوا على أعقابهم خاسرين؛ وما أغنى عنهم جمعهم، وما أفادهم بصرهم فيما شاهدوه من قبل ولا سمعهم؛ فركن من بقى منهم الى الفرار، وعاذ ببرد الهرب من لهب تلك السيوف الحرار وظنّ من انهزم منهم أنه فات الرماح، فتناولته بأرماح من العطش القفار؛ فولّوا والرعب يزلزل أقدامهم، والذّعر يقلّل إقدامهم؛ والصّفاح تتخطّفهم من ورائهم والجراح تطمع الطّير فى أكلهم حتى تقع على أحيائهم؛ حتى أصبحوا هشيما تلعب «3» بهم الصّبا والدّبور، أو أحياء يئس منهم أهلهم «كما يئس الكفّار من أصحاب القبور» وصفحنا عمّن نافقنا ووافقهم ولولا ذلك لما نجا، ورجا عواطفنا فى الإبقاء على نفسه، فأجابه حلمنا- وعلمنا أنه فى القبضة- الى ما رجا؛ فليأخذ الملك حظّه من
هذه البشرى التى تسرّ قلب الولىّ المحبّ بوادرها، وتشرح صدر الحفىّ «1» المحقّ مواردها ومصادرها؛ والله تعالى يبهجه عنا بسماع أمثالها، ويديم سروره بما جلوناه عليه من مثالها «2» .
قال: فإن كان المكتوب إليه متّهما بممالأة العدوّ كتب اليه بما يدلّ على التقريع والتهكّم، وإبراز التهديد فى معرض الإخبار، كما كتب المشار اليه عن السلطان الى متملّك سيس «3» - وكان قد شهد الوقعة مع العدوّ- قال منه:
بصّره الله برشده، وأراه مواقع غيّه فى الإصرار على مخالفته ونقض عهده وأسلاه بسلامة نفسه عمّن روّعته السيوف الإسلاميّة بفقده؛ صدرت تعرّفه أنه قد تحقّق ما كان من أمر العدوّ الذى دلّاه بغروره، وحمله التمسّك بخداعه على مجانبة الصواب فى أموره؛ وأنهم استنجدوا بكلّ طائفه، وأقدموا على البلاد الإسلاميّة بنفوس طامعة وقلوب خائفه؛ وذلك بعد أن أقاموا مدّة يشترون «4» المخادعة بالموادعه، ويسرّون المصارمة فى المسالمه؛ ويظهرون فى الظاهر أمورا، ويدبّرون فى الباطن أمورا، ويعدون كل طائفة من أعداء الدين مثله ويمنّونهم «وما يعدهم الشّيطان إلّا غرورا» ؛ وكنّا بمكرهم عالمين، وعلى معالجتهم عاملين؛ وحين تبيّن مرادهم وتكمّل احتشادهم؛ استدرجناهم الى مصارعهم، واستجريناهم «5» ليقربوا فى القتل من مضاجعهم، ويبعدوا فى الهرب عن مواضعهم؛ وصدمناهم بقوّة أو صدمة
لم يكن لهم بها قبل، وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها الى ذلك الجبل، وهل تعصم من أمر الله حيل؟ فحصرناهم فى ذلك الفضاء المتّسع، وضايقناهم كما قد رأى ومزّقناهم كما قد سمع، وأنزلناهم على حكم السيف الذى نهل من دمائهم حتى روى وأكل من لحومهم حتى شبع، وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطّفهم رماحها، وتتلقّفهم صفاحها، ويبدّدهم فى الفلوات رعبها، ويفرّقهم فى القفار طعنها المتدارك وضربها؛ ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع، ويخيّل للحىّ منهم أنّ وطنه كالدنيا التى ليس للميت اليها رجوع؛ ولعله قد رأى ذلك فوق ما وصف عيانا، وتحقّق من كل ما لا يحتاج أن نزيده به علما ولا نقيم له عليه برهانا؛ وقد علم أنّ أمر هذا العدوّ المخذول ما زال معنا على هذه الوتيره، وأنهم ما أقدموا إلا ونصر الله عليهم فى مواطن كثيره؛ وما ساقتهم الأطماع فى وقت إلا الى حتوفهم، ولا عاد منهم قطّ فى وقعة إلا آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم؛ ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعم الله عليه بطاعتنا التى كان فى مهاد أمنها، ووهاد يمنها؛ وحماية عفوها، وبرد رأفتها التى كدّرها بالمخالفة بعد صفوها؛ يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والإسار، ويحمى أهل ملّته بالحذر من الحركات التى ما نهضوا اليها إلا وجرّوا ذيول الخسار؛ ولقد عرّض نفسه وأصحابه لسيوفنا التى كان من سطواتها فى أمان، ووثق بما ضمن له التّتار من نصره وقد رأى ما آل اليه أمر ذلك الضّمان؛ وجرّ لنفسه بموالاة التتار عناء كان عنه فى غنى، وأوقع روحه بمظافرة المغول فى حومة السيوف التى تخطّفت أولياءه من هنا ومن هنا؛ واقتحم بنفسه موارد هلاك سلبت رداء الأمن عن منكبيه واغترّ هو وقومه بما زيّن لهم الشيطان من غروره «فلمّا تراءت الفئتان نكص على عقبيه» وما هو والوقوف فى هذه المواطن التى تتزلزل فيها أقدام الملوك الأكاسره وأنّى لضعاف النّقاد قدرة على الثّبات لوثبات الأسود الضارية واللّيوث الكاسره؛
لقد اعترض بين السهم والهدف بنحره، وتعرّض للوقوف بين ناب الأسد وظفره؛ وهو يعلم أننا مع ذلك نرعى له حقوق أسلافه التى ماتوا عليها، ونحفظ له خدمة آبائه التى بذلوا نفوسهم ونفائسهم فى الوصول اليها؛ ونجريه وأهل بلاده مجرى أهل ذمّتنا الذين لا نؤيسهم من عفونا مهما «1» استقاموا، ونسلك بهم حكم من فى أطراف البلاد من رعايانا الذين هم فى قبضتنا نزحوا أو أقاموا؛ ونحن نتحقّق أنه ما بقى ينسى ملازمة ربقة الحتف خناقه، ولا يرجع يهوّر «2» نفسه فى موارد الهلاك، وهل يرجع الى الموت «3» [من] ذاقه؟ فيستدرك باب الإنابة قبل أن يغلق دونه، ويصون نفسه وأهله قبل أن تبذل السيوف الإسلاميّة مصونه، ويبادر الى الطاعة قبل أن يبذلها فلا تقبل، ويتمسّك بأذيال العفو قبل أن ترفع دونه فلا تسبل؛ ويعجّل بحمل أموال القطيعة وإلّا كان أهله وأولاده فى جملة ما يحمل منها الينا، ويسلّم مفاتح ما عدا عليه من فتوحنا، وإلّا فهو يعلم أنها وجميع ما تأخّر فى بلاده بين يدينا؛ ويكون هو السبب فى تمزّق شمله، وتفرّق أهله، وقلع «4» بيته من أصله؛ وهدم كنائسه، وابتذال نفسه ونفائسه؛ واسترقاق حرمه، واستخدام أولاده قبل خدمه؛ واقتلاع «5» قلاعه، وإحراق
ربوعه ورباعه «1» ، وتعجيل رؤية ما أوعد «2» به قبل سماعه، ومن لقازان بأن يجاب الى مثل ذلك، أو يسمح له مع الأمن من سيوفنا ببعض ما فى يده من الممالك؛ ليقنع بما أبقت جيوشنا المؤيّدة فى يده من الخيل والخول، ويعيش فى الأمن ببعض ما نسمح له به، ومن للعور «3» بالحول؛ والسيوف الآن مصغية الى جوابه لتكفّ إن أبصر سبل الرشاد، أو تتعوّض برءوس حماته وكماته عن الأغماد إن أصرّ على العناد، والخير يكون.
وأما التقاليد والمناشير والتواقيع وما يتعلّق بذلك- فالأحسن فيها بسط الكلام، وتعتبر كثرته وقلّته بحسب الرتب، ويجب أن يراعى فيها أمور:
منها براعة الاستهلال بذكر الرتبة أو الحال، أو قدر النعمة، أو لقب صاحب التقليد أو اسمه بحيث لا يكون المطلع أجنبيّا من هذه الأحوال، ولا بعيدا منها، ولا مباينا لها، ثم يستصحب ما يناسب الغرض ويوافق المقصد من أوّل الخطبة
الى آخرها؛ قال: ويحسن أن يكون الكلام فى التقليد منقسما إلى أربعة أقسام متقاربة المقادير، فالرّبع الأوّل الخطبة، والثانى ذكر موقع الإنعام فى حقّ المقلّد، وذكر الرتبة وتفخيم أمرها، والثالث فى أوصاف المقلّد وذكر ما يناسب تلك الرتبة ويناسب حاله من عدل وسياسة ومهابة وبعد صيت، وسمعة وشجاعة إن كان نائبا، ووصف العدل والرأى وحسن التدبير، والمعرفة بوجوه الأموال، وعمارة البلاد، وصلاح الأحوال، وما يناسب ذلك إن كان وزيرا؛ وكذلك فى كلّ رتبة بحسبها، والرابع فى الوصايا؛ ومنها [أن يراعى «1» ] المناسبة وما تقضيه الحال، فلا يعطى أحدا فوق حقّه، ولا يصفه بأكثر مما يراد من مثله، ويراعى أيضا مقدار النعمة والرتبة، فيكون وصف المنّة على مقدار ذلك.
ومنها أن لا يصف المتولّى بما يكون فيه تعريض بالمعزول وتنقّص له، فإنّ ذلك مما يوغر الصدور، ويؤرّث الضغائن فى القلوب، ويدلّ على ضعف الآراء فى اختيار الأوّل، وله أن يصف الثانى بما يحصل به المقصود من غير تعريض بالأوّل؛ ومنها أن يتخيّر الكلام والمعانى، فإنه مما يشيع ويذيع، ولا يعذر «2» المقصّر فى ذلك بعجلة ولا ضيق وقت، فإنّ مجال الكلام عليه متّسع، والبلاغة تظهر فى القليل والكثير، والأمر الجارى فى ذلك على العادة معروف، لكن تقع أشياء خارجة عن العادة، نادرة الوقوع، فيحتاج الكاتب فيها الى حسن التصرّف على ما تقتضيه الحال؛
فمن ذلك تقليد [من «1» ] إنشاء المولى الفاضل شهاب الدين محمود الحلبىّ كتبه لمتملّك سيس بإقراره على ما قاطع النهر من بلاده، وهو:
الحمد لله الذى خصّ أيامنا الزاهرة باصطناع ملوك الملل، وفضّل دولتنا القاهرة بإجابة من سأل بعض ما أحرزته لها البيض والأسل، وجعل من خصائص ملكنا إطلاق الممالك وإعطاء الدّول، والمنّ بالنفوس التى جعلها النصر لنا من جملة الخول، وأغرى عواطفنا بتحقيق رجاء من مدّ إلى عوارفنا كفّ الأمل، وأفاض بمواهب نعمائنا على من أناب الى الطاعة حلل الأمن بعد الوجل، وانتزع بآلائنا [لمن تمسّك «2» بولائنا] أرواح رعاياه من قبضة الأجل، وجعل برد العفو عنه وعنهم بالطاعة نتيجة ما أذاقهم العصيان من حرارة الغضب، إذ ربما صحّت الأجسام بالعلل؛ نحمده على نعمه التى جعلت عفونا ممن رجاه قريبا، وكرمنا لمن دعاه بإخلاص الطاعة مجيبا، وبرّنا لمن أقبل اليه منيبا بوجه الأمل مثيبا، وبأسنا مصيبا لمن لم يجعل الله له فى التمسّك بمراحمنا نصيبا؛ ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تعصم دم من تمسّك بذمامها، وتحسم موادّ من عاندها بانتقام حسامها، وتفصم عرا الأعناق ممن أطمعه الغرور فى انفصال أحكامها وانفصامها، وتقصم من قصد إطفاء ما أظهره الله من نورها، وانقطاع ما قضاه من دوامها، وتجعل كلمة حملتها هى العليا، فلا تزال أعناق جاحديها فى قبضة أوليائها وتحت أقدامها؛ ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحق الى كلّ أمّه، المنعوت فى الكتب المنزّلة بالرأفة والرحمه، المخصوص مع عموم المعجزات بخمس منهنّ الرعب الذى كان يتقدّمه الى من قصده، ويسبقه مسيرة شهر الى [من «3» ] أمّه، المنصوص
فى الصحف المحكمة على جهاد أمته، الذى لا حياة لمن لم يتمسّك من طاعته بذمته؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فتحوا بدعوته الممالك، وأوضحوا بشرعته الى الله المسالك، وجلوا بنور سنّته عن وجه الزمن كلّ حال حالك، وأوردوا من كفر بربهم ورسله موارد المهالك، ووثقوا بما وعد الله نبيّه حين زوى له مشارق الأرض ومغاربها من أنّ ملكهم سيبلغ ما زوى الله له من ذلك؛ صلاة لا تزال الأرض لها مسجدا، ولا يبرح ذكرها مغيرا فى الآفاق ومنجدا؛ ما استفتحت ألسنة الأسنّة النصر بإقامتها، وأبادت أعداءها باستدامتها، وسلم تسليما كثيرا؛ وبعد، فإنه لمّا آتانا الله ملك البسيطه، وجعل دعوتنا بأعنّة ممالك الأقطار محيطه؛ ومكّن لنا فى الآفاق «1» ، وأنهضنا من الجهاد فى سبيله بالسنّة والفرض، وجعل كلّ يوم تعرض [فيه «2» ] جيوشنا من أمثلة يوم العرض؛ وأظلّتنا بوادر الفتوح، وأظلّت على الأعداء سيوفنا التى هى على من كفر بالله وكفر النعمة دعوة نوح وأيّدنا بالملائكة والرّوح، على من جعل الواحد سبحانه ثلاثة فانتصر بالأب والابن والرّوح؛ وألقت إلينا ملوك الأقطار السّلم، وبذلت كرائم بلادها رغبة فى الالتجاء من عفونا الى ظل أعلى من علم؛ وتوسّل من كان منهم يظهر الغلظة بالذلّة والخضوع وتوصّل من كان منهم يبدى القوّة بالإخلاص الذى رأوه لهم أقوى الجنن وأوقى الدروع؛ عاهدنا الله تعالى ألّا نردّ منهم آملا، ولا نصدّ عن مشارع كرمنا ناهلا؛ ولا نخيّب من إحساننا راجيا، ولا نجلى عن ظلّ برّنا لاجيا؛ علما أنّ ذلك شكر للقدرة التى جعلها الله لنا على ذلك الآمل، ووثوقا بأنه حيث كان فى قبضتنا كما نشاء
نجمع عليه الأنامل؛ اللهمّ إلّا أن يكون ذلك اللّاجئ للغلّ مسرّا، وعلى عداوة الإسلام مصرّا؛ فيكون هو الجانى على نفسه، والجانى على موضع رمسه؛ ولمّا كان من تقدّم بالمملكة الفلانية قد زيّن له الشيطان أعماله، وعقد بحبال الغرور آماله؛ وحسّن له التمسّك بالتّتار الذين هم بمهابتنا محصورون فى ديارهم، مأسورون فى حبائل إدبارهم؛ عاجزون عن حفظ ما لديهم، قاصرون عن ضبط ما استلبته سرايانا المنصورة من يديهم؛ ليس منهم إلا من له عند سيوفنا ثار، ومن يعلم أنه لا بدّله عندنا من خطّتى خسف: إما القتل أو الإسار؛ وحين تمادى المذكور فى غيّه، وحمله الغرور على ركوب جواد بغيه؛ أمرنا جيوشنا المنصورة فجاست خلال تلك الممالك وداست حوافر خيلها ما هنالك، وساوت فى عموم القتل والأسر بين العبد والحرّ والمملوك والمالك؛ وألحقت رواسى جبالهم بالصّعيد، وجعلت حماتهم كزروع فلاتهم منها قائم وحصيد؛ فأسلمهم الشيطان ومرّ، وتركهم وفرّ، وماكرهم وما كرّ وأعلمهم أن الساعة موعدهم «والسّاعة أدهى وأمرّ» وأخلقهم ما ضمن لهم من العون وقال لهم:«إنّى برىء منكم إنّى أرى ما لا ترون» ؛ وكان الملك فلان ممّن يريد طرق النجاة فلم ير إليها بسوى الطاعة سبيلا، ويأمل أسباب النجاح فلم يجد عليها غير صدق الانتماء دليلا؛ فأبصر بالخدمة موضع رشده، وأدرك بسعيه نافر سعده؛ وأراه الإقبال كيف تثبت قدمه فى الملك الذى زلّت عنه قدم من سلف، وأظهر له الإشفاق على رعاياه مصارع من أورده سوء تدبير أخيه موارد التّلف، وعرّفه التمسّك بإحساننا كيف احتوت يده على ما لم يبق غضبنا فى يد أخيه منه إلا الأسى والأسف؛ وحسّنت له الثقة بكرمنا كيف يجمل الطلب، وعلّمته الطاعة كيف تستنزل عوارفنا عن بعض ما غلبت عليه سيوفنا وإنما الدنيا لمن غلب؛ وانتمى إلينا فصار من خدم أيّامنا، وصنائع إنعامنا، وقطع علائقه من غيرنا؛ فلجأ منا الى
ركن شديد، وظلّ مديد، ونصر عتيد؛ وحرم يأوى آمله إليه، وكرم تقرّ نضارته ناظريه، وإحسان يمتّعه بما أقرّه عطاؤنا فى يديه، وامتنان يضع عنه إصره والأغلال التى كانت عليه؛ اقتضى إحساننا أن نغضى له عن بعض ما حلّت جيوشنا ذراه وحلّت سطوات عساكرنا عراه؛ وأضعفت عزمات سرايانا قواه، ونشرت طلائع جنودنا ما كان ستره صفحنا عنهم من عورات بلادهم وطواه؛ وأن نخوّله بعض ما وردت خيولنا مناهله، ووطئت جيادنا غاربه وكاهله؛ وسلكت كماتنا فملكت دارسه واهله؛ وأن نبقى مملكة البيت الذى مضى سلفه فى الطاعة عليه، ويستمرّ ملك الأرمن الذى أهمل «1» السعى فى مصالحه بيديه؛ ليتيمّن رعاياه به، ويعلموا أنهم أمنوا على أرواحهم وأولادهم بسببه؛ ويتحقّقوا أنّ أثقالهم بحسن توصّله الى طاعتنا قد خفّت، وأنّ بوادر الأمن بلطف توسّله الى مراضينا قد أطافت بهم وحفّت وأنّ سيوفنا التى كانت مجرّدة على مقاتلهم بجميل استعطافه قد كفتهم بأسنا وكفّت وأنّ سطواتنا الحاكمة على أرواحهم قد عفت [عنهم بملاطفته «2» وعفت] ؛ فرسم أن يقلّد كيت وكيت من المملكة الفلانية، ويستقرّ بيده استقرار لا ينازع فى استحقاقه ولا يعارض فيما سبق من إعطائه وإطلاقه؛ ولا يطالب عنه بقطيعه «3» ، [ولا يطلب منه بسببه غير طويّة مخلصة ونفس مطيعه] ؛ ولا يخشى عليه يدا جائره، ولا سريّة فى طلب الغرّة سائره؛ ولا يطرق كناسه أسد جيوش مفترسه، ولا سباع نهاب مختلسه؛ بل تستمرّ بلاده المذكورة فى ذمام رعايتنا، وحصانة عنايتنا؛ وكنف إحساننا، ووديعة برّنا وامتناننا؛ لا تطمح اليها عين معاند، ولا يمتدّ اليها إلّا ساعد
مساعد، وعضد معاضد؛ فليقابل هذه النعمة بشكر الله الذى هداه الى الطاعه وصان بإخلاص ولائه نفسه ونفائس بلاده من الإضاعه؛ وليقرن ذلك بإصفاء موارد المودّه، وإضفاء ملابس الطاعة التى لا تزداد بحسن الوفاء إلا جدّه؛ واستمرار المناصحة فى السّرّ والعلن، واجتناب المخادعة ما ظهر منها وما بطن، وأداء الأمانة فيما استقرّ معه الحلف «1» عليه، ومباينة ما يخشى أن يتوجّه بسببه وجه عتب إليه؛ واستدامة هذه النعمة بحفظ أسبابها، واستقامة أحوال هذه المنّة برفض موجبات الكدر واجتنابها، وإخلاص النيّة التى لا تعتبر ظواهر الأحوال الصالحة إلّا بها.
ومن تقليد كتبه المشار اليه أيضا لسلامش بمملكة الروم حين ورود كتابه يسأل ذلك قبل حضوره، أوّله:
الحمد لله الذى أيّدنا بنصره، وأمدّنا من جنود الظّفر بما لم يؤت ملك فى عصره، وجعل مهابتنا قائمة فى جهاد عدوّ الدين، إن قرب مقام كسره، وإن بعد مقام حصره، ونشر دعوة ملكنا فى الأقطار كلّها اذا اقتصرت دعوة غيرنا من ملوك الأمصار على مصره، وأنجد من نادانا بلسان الإخلاص من جنود الله وجنودنا بالجيش الذى لم تزل أرواح العدا بأسرها فى أسره، وعضد من تمسّك بطاعة الله وطاعتنا من إجابة عساكرنا بما هو أقرب الى مقاتل عدوّه من بيضه المرهفة وسمره، وأعاد بنا من حقوق الدّين كلّ ضالّة ملك ظنّ العدوّ أنّ أمره غالب عليها والله غالب على أمره؛ فجنودنا إلى نصرة من دعاها بالإيمان أقرب من رجع نفسه اليه، وأسرع من ردّ «2» الصدى جوابه عليه؛ وأسبق الى عدوّ
الدين من مواقع عيانه، وأقدر على التصرّف فى أرواح أهل الشّرك من تصرّف الكمىّ فى عنانه؛ وأذب عن حمى الدين من الجفون عن نواظرها، وأضرى على نفوس المعتدين من أسود عنت الفرائس «1» لكواسرها؛ قد عوّدها النصر الإلهىّ ألّا تسلّ ظباها فتغمد حتى تستباح ممالك، وضمن لها الوعد المحمّدىّ أنها الطائفة الذين لا يزالون ظاهرين الى يوم القيامة حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك؛ نحمده على نعمه التى لم نزل نصون بها حمى الدين ونصول، ونقلّد بيمنها من لجأ إلينا سيف نصر يصدع به ليل العدا ولو أن النجوم نصول، ونورد بآسمها من انتصر بنا مورد عزّ يحرّمه «2» لمع الأسنّة فوقه، فليس لظمآن من العدا إليه وصول؛ وبعد، فإن أولى من أصغت عزائمنا الشريفة إلى نداء إخلاصه، وأجابت مكارمنا العميمة دعاء تميّزه بالولاء واختصاصه، وقابلت مراسمنا انتصاره فى الدين بالنّفير لإعانته على ما ظفر باقتلاعه من يد الكفر واقتناصه، وتكفلت له مهابتنا بالأمن على ملك مذ وسمه باسمنا الشريف يئس العدوّ من استخلاصه؛ وأجيبت كتبه فى الاستنجاد بسرعان «3» الكتائب، ولمعان القواضب، وتتابع أمداد جيوشنا التى تنوء بحملها كواهل المشارق والمغارب، وتدفّق أمواج عساكرنا التى تنشد طلائعها ملوك العدا:
«أين الفرار ولا مفرّ لهارب» وتألّق بروق النصر من خفق ألويتنا الشاهدة بأن قبيلنا «إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب» .
ومنه:
وفوّضت إليه مراسمنا الحكم فى الرعايا بالعدل والإحسان، وقلّدته «1» أوامرنا من عقود النظر فى تلك الممالك [ما تودّ جباه الملوك «2» ] لو حلّت «3» بدرّها معاقد التيجان، وعلّقت «4» به من الأوامر ما بنا تنفذ مواقعه، وكذا الأمور المعتبرة لا تنفذ إلا بسلطان؛ من ألقى الله الإيمان فى قلبه، وهداه إلى دين الإسلام فأصبح فيه على بيّنة من ربّه، وأراد به خيرا فنقله من حزب الشيطان إلى حزبه، وأنقذه بطاعته من موارد الهلاك بعد أن كان قد أذن بحرب من الله ورسوله، ولقد خسر الدين «5» والدنيا والآخرة من أذن من الله بحربه؛ وأيقظه من طاعتنا التى أوجبها على الأمم لما أبصر به رشده، ورأى قصده، وعلم به أن الذى كان فيه كسراب بقيعة «6» لم يجده شيئا، وأنّ الذى انتقل إليه وجد الله عنده؛ وأنهضه من موالاتنا بما حتّم به النّهوض على كل من كان مسلما، وأخرجه بنور الهدى من عداد أعدائه الذين تركهم خوفنا «كأنّما أغشيت وجوههم قطعا من اليّل مظلما» ؛ وأراه الرشد ما علم به أن الله تعالى أورثنا ملك الإسلام فبطاعتنا يتمّ الانتماء إليه، وأعطانا مقاليد البسيطة فمن اغتصب منها شيئا انتزعه الله لنا بجنوده المسوّمة من يديه؛ فلجأ من أبوابنا العالية الى الظلّ الذى يلجأ اليه كلّ ذى منبر وسرير، ورجا من كرمنا الاعتصام بجيوشنا التى ما رمينا بها
عدوّا إلا ظنّ أن الرمال تسيل والجبال تسير؛ وتحيز منّا إلى فئة الإسلام، وانتصر بسيوفنا التى هو يعلم كيف تسلّها على العدا الأحلام؛ ومتّ إلينا بذمّة الإسلام وهى عندنا أبرّ الذمم، وطلب تقليده الحكم منا من عرف «1» بإعاذته «2» النظرات الصادقة أنه كان يحسب الشحم فيمن شحمه ورم؛ وعقد بنا بناء رجائه، وهل لمسلم عن ملك الإسلام من معدل؟ وأنزل بنا ركائب آماله، وهل بعد رامة لمرام «3» من منزل؟ فتلقّت نعمنا كرائم قصده بالترحيب، وأحلّت وفادة انتمائه «4» بالحرم الذى شأوه بعيد ونصره قريب؛ وتسارعت إلى نصرته جنودنا التى أيّامها مشهورة فى عدوّها، وآثارها مشكورة فى رواحها وغدوّها، وأعلامها منصورة فى انتزاحها ودنوّها؛ وتتابعت يتلو بعضها بعضا تتابع الغمام المتراكم، والموج المتلاطم؛ تقدم عليه بالنصر القريب من الأمد البعيد، وتعلم بوادرها أنّ طلائعها عنده وساقتها بالصعيد؛ ولما كان فلان هو الذى أراد الله به من الخير ما أراد، ووطّد له بعنايته أركان الرشاد؛ وجعل له بعد الجهل به علما، وتداركه برحمته، فما أمسى للإسلام عدوّا حتى أصبح هو ومن معه له سلما؛ «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» ، وبكرمه العميم فليفسحوا صدورهم ويشرحوا، وبإرشاده الجلىّ وهدايته فليدعوا قومهم الى ذلك وينصحوا؛ وحين وضحت له هذه الطرق أرشدته من خدمتنا الشريفة الى الطاعة، ودلّته على
موالاة ملك الإسلام التى من لم يتمسّك [بها «1» ] فقد فارق الجماعة؛ فإن الله تعالى قرن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بطاعة أولى الأمر، وحثّ على ملازمة الجماعة فى وقت يكون المتمسّك فيه بدينه كالقابض على الجمر؛ وهذا فعل من أراد الله به خيرا، وسعى من يحسن فى دين الله سيرة وسيرا؛ ولذلك اقتضت آراؤنا الشريفة إمضاء عزمه على الجهاد بالإمجاد، وإنفاذ سهمه فى أهل العناد بالإسعاف والإسعاد؛ وأرسلنا الجيوش الإسلاميّة كما تقدّم شرحه يطئون الصّحاصح، ويستقربون المدى النازح، ويأخذون كلّ كمىّ فلو استطاع السّماك لم يتسمّ بالرامح، ويحتسبون الشّقّة فى طلب عدوّ الإسلام علما أنهم لا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح؛ فرسم بالأمر الشريف- لا زال يهب الدّول، ويقلّد أجياد العظماء ما تودّ لو تحلّت ببعض فرائده تيجان الملوك الأوّل- أن تفوّض إليه نيابة الممالك الفلانيّة تفويضا يصون به قلاعها، [ويصول «2» بمهابته على من حاول انتزاعها من يده واقتلاعها] ؛ ويجريها على [ما «3» ] ألفت مما لكنا من أمن لا يروّع سربه، ولا يكدّر شربه؛ ولا يوجد فيه باغ تخاف السبيل بسببه، ولا من يجرّد سيف بغى وطن جرّده قتل به؛ وليحفظ من الأطراف ما استودعه الله وهذا التقليد الشريف حفظه، وليعمل فى قتال محاربيه من العدا بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً.
ومنه: وليعلم أن جيوشنا فى المسير إليه متى قصدت عدوّا سابقت خيولها خيالها، وجارت جيادها ظلالها، وأنفت سنابكها أن تجعل غير جماجم الأعداء نعالها؛ وها هى قد تقدّمت ونهضت لإنجاده، فلو سامها أن تخوض البحار فى سبيل الله لخاضت، أو تصدم الجبال لصدمت.
ومنه: والشرع الشريف مهمّه المقدّم، وأمره السابق على كلّ ما تقدّم؛ فليعل مناره، ويستشفّ من أموره أنواره؛ وينفّذ أحكامه، ويعاضد حكّامه؛ ومن عدل عن حكمه معاندا، أو ترك شيئا من أحكامه جاحدا؛ فقد برئت الذمّة من دمه حتى يفىء الى أمر الله، ويرجع عن عناده وينيب إلى الله؛ فإن الله يهدى إليه من أناب «وهو الّذى يقبل التّوبة عن عباده» .
وأما الرسائل التى تتضمّن أوصاف السلاح وآلات الحرب وأوصاف الخيل والجوارح وأنواع الرياضات وما أشبه ذلك، فالكاتب فيه مطلق العنان، مخلّى بينه وبين فصاحته، موكول إلى اطّلاعه وبلاغته؛ وقد تقدّم من أوصاف السلاح ما فيه كفاية لمن يريد ذلك.
وأما الخيل والجوارح وما يلتحق «1» بذلك من الفهود والضّوارى فلا غنية للكاتب عن معرفته جيادها، والأمارات الدالّة على فراهتها، وكلّ طير من الجارح وأفعاله واستطالته، وكيفيّة فعله، وتمكّنه من الطير والوحش؛ وسنورد إن شاء الله تعالى فى فنّ الحيوان الصامت- وهو الفنّ الثالث من هذا الكتاب- ما يقتدى الكاتب بمثاله، وينسج على منواله.