الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما الثانى فلأن أوّل الكلام يقتضى أن يكون زيد مضروبا، وآخره يقتضى ألا يكون مضروبا فيتناقضان. إذا عرف هذا فى جانب الفاعل فإنه مثله فى جانب المفعول، فإذا قلت: ما ضربت زيدا لم يقتض أن تكون ضاربا لغيره، وإذا قلت:
ما زيدا ضربت اقتضى ذلك، ولهذا صحّ ما ضربت زيدا ولا أحدا من الناس ولا يصح [ما «1» ] زيدا ضربت ولا أحدا من الناس.
وحكم الجار والمجرور حكم المفعول، فإذا قلت: ما أمرتك بهذا لم يقتض أن تكون قد أمرته بشىء غير هذا، وإذا قلت: ما بهذا أمرتك اقتضاه.
وإذا قدّمت صيغة العموم على السلب وقلت: كلّ ذا لم أفعله، برفع كلّ كان نفيا عامّا، ويناقضه الإثبات الخاصّ، فلو فعلت بعضه كنت كاذبا.
وإن قدّمت السلب وقلت: لم أفعل كلّ ذا كان نفيا للعموم ولا ينافى الإثبات الخاصّ، فلو فعلت بعضه لم تكن كاذبا، ومن هذا ظهر الفرق بين رفع كلّ ونصبه فى قول أبى النجم:
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعى
…
علىّ ذنبا كلّه لم أصنع
فإن رفعته كان النفى عامّا، واستقام غرض الشاعر فى تبرئة نفسه من جملة الذنوب، وإن نصبته كان النفى نفيا للعموم، وهو لا ينافى إتيان بعض الذنب فلا يتم غرضه.
الثالث فى التقديم والتأخير فى الخبر المثبت
- ما تقدّم فى الاستفهام والنفى قائم هنا، فإذا قدّمت الاسم وقلت: زيد فعل وأنا فعلت فالقصد الى الفاعل، إما لتخصيص ذلك الفعل به، كقولك: أنا شفعت فى شأنه مدّعيا الانفراد بذلك
أو لتأكيد إثبات الفعل له لا للحصر، كقولك: هو يعطى الجزيل، لتمكّن فى نفس السامع أن ذلك دأبه دون نفيه عن غيره، ومنه قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
فإنه ليس المراد تخصيص المخلوقية بهم، وقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ
وكقول درنى بنت عبعبة «1» :
هما يلبسان المجد أحسن لبسة
…
شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
وقول الآخر:
همو يفرشون اللّبد كلّ طمرّة «2»
…
وأجرد سبّاح يبذ «3» المغالبا
قال: والسبب فى هذا التأكيد أنك إذا قلت مثلا: زيد، فقد أشعرت بأنك تريد الحديث عنه فيحصل للسامعه تشوّق إلى معرفته، فإذا ذكرته قبلته النفس [قبول العاشق معشوقه «4» ] فيكون ذلك أبلغ فى التحقيق ونفى الشكّ والشبهة، ولهذا تقول لمن تعده: أنا أعطيك أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر، وذلك إذا كان من شأن من يسبق له وعد أن يعترضه الشك فى وفائه، ولذلك يقال فى المدح:
أنت تعطى الجزيل، أنت تجود حين لا يجود أحد، ومن هاهنا تعرف الفخامة فى الجمل التى فيها ضمير الشأن والقصّة كقوله تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ
وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ*
وأن فيها ما ليس فى قولك: فإن الأبصار لا تعمى، وإن الكافرين لا يفلحون؛ وهكذا
فى الخبر المنفىّ، فإذا قلت: أنت لا تحسن هذا، كان أبلغ من قولك لا تحسن هذا، فالأوّل لمن هو أشدّ إعجابا بنفسه وأكثر دعوى بأنه يحسن.
قال: واعلم أنه قد يكون تقديم الاسم كاللازم نحو قوله:
يا عاذلى دعنى من عذلكا
…
مثلى لا يقبل من مثلكا
وقول المتنبى:
مثلك يثنى الحزن عن صوبه
…
ويستردّ الدمع عن غربه
وقول الناس «1» : مثلك يرعى الحق والحرمة، وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه إلى إنسان سوى الذى أضيف اليه وجىء به للمبالغة، وقد عبّر المتنبى عن هذا المعنى فقال:
ولم أقل مثلك أعنى به
…
سواك يا فردا بلا مشبه.
وكذلك حكم «غير» اذا سلك فيه هذا المسلك، كقول المتنبى:
غيرى بأكثر هذا الناس ينخدع
…
إن قاتلوا جبنوا أو حدّثوا شجعوا
أى لست ممن ينخدع ويغترّ، ولو لم يقدّم «2» مثلا وغيرا فى هذه الصور لم يؤدّ هذا المعنى.
قال: ويقرب من هذا المعنى تقديم بعض المفعولات على بعض فى نحو قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ
فإن تقديم شركاء على الجن أفاد أنه ما ينبغى لله شركاء لا من الجنّ ولا من غيرهم، لأن شركاء مفعول ثان لجعلوا، ولله متعلّق به والجنّ مفعوله الأوّل، فقد جعل الإنكار على جعل الشريك لله على الإطلاق من غير اختصاص بشىء دون شىء، لأن الصفة إذا ذكرت مجرّدة عن مجراها على شىء كان