الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما نفى الشّركة فهو لازم من لوازمها، فليس له من القوّة ما لما يدلّ عليه بوضعه، ولهذا يصحّ: زيد هو الجائى «1» لا عمرو، فثبت أنّ دلالة الأوّليّين على التخصيص أقوى، ودلالة الثالثة على نفى التشريك [أقوى «2» ] ، لكن الثالثة قد تقام مقام الأوّليّين فى إفادة التخصيص، كما اذا ادعى واحد أنك قلت قولا ثم قلت بخلافه، فقلت له:
ما قلت الآن إلا ما قلته قبل، وعليه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ
ليس المعنى أنى لم أزد على ما أمرتنى به شيئا، ولكن المعنى أنّى لم أدع مما أمرتنى به [أن «3» ] أقوله شيئا.
قال: وحكم «غير» حكم «إلّا» فاذا قلت: ما جاءنى غير زيد احتمل أن يكون المراد نفى أن يكون جاء معه إنسان آخر، وأن يكون المراد تخصيص الحكم بالمذكور لا نفيه عما عداه.
فصل إذا دخل ما وإلّا على الجملة المشتملة على المنصوب
كان المقصود بالذكر «4» ما اتصل بإلّا متأخّرا عنها، فاذا قلت: ما ضرب عمرا إلا زيد، فالمقصود المرفوع، واذا قلت: ما ضرب زيد إلا عمرا، فالمقصود المنصوب، واذا قلت:
ما ضرب [إلا «5» ] زيد عمرا، فالاختصاص للضارب، واذا قلت: ما ضرب إلا زيدا عمرو، فالاختصاص للمضروب، فاذا قلت: لم أكس إلا زيدا جبّة، فالمعنى تخصيص
زيد من بين الناس بكسوة الجبّة، وإن قلت: لم أكس إلا جبّة زيدا، فالمعنى تختصّ كسوة الجبّة من بين الناس بزيد؛ وكذلك الحكم حيث يكون بدل أحد المفعولين جارّ ومجرور، كقول السيد الحميرىّ:
لو خيّر المنبر فرسانه
…
ما اختار إلّا منكم فارسا.
وكذلك حكم المبتدإ والخبر والفعل والفاعل، كقولك: ما زيد إلا قائم، وما قام إلا زيد.
وأما إنما فالاختصاص فيها يقع مع المتأخر، فاذا قلت: إنما ضرب زيدا عمرو فالاختصاص فى الضارب، وقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ
فالغرض بيان المرفوع وهو أن الخاشين هم العلماء، ولو قدّم المرفوع لصار المقصود بيان المخشىّ منه، والأوّل أتمّ، ومنه قول الفرزدق:
أنا الذائد الحامى الذّمار وإنما
…
يدافع عن أحسابكم أنا أو مثلى
فإن غرضه أن يحصر المدافع بأنه هو لا المدافع عنه؛ ولو قال: إنما أنا أدافع عن أحسابكم، توجّه التخصيص الى المدافع عنه؛ [وحكم المبتدا والخبر «1» ] اذا أدخلت عليهما إنما، فإن قدّمت الخبر فالاختصاص للمبتدا، وإن لم تقدّمه فللخبر، فاذا قلت: إنما هذا لك فالاختصاص فى «لك «2» » ، بدليل أنك بعده تقول: لا لغيرك، فاذا قلت إنما لك هذا فالاختصاص فى «هذا» ، بدليل أنك بعده تقول: لا ذاك، وعليه قوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ
وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ
فالاختصاص فى الآية الأولى للبلاغ والحساب، وفى الثانية فى الخبر الذى هو على الذين دون المبتدإ الذى هو السبيل.
وإذا وقع بعدها الفعل فالمعنى أن ذلك الفعل لا يصح إلا من المذكور، كقوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ*
؛ ثم قد يجتمع معه حرف النفى، إما متأخرا عنه كقولك، إنما يجىء زيد لا عمرو: قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
وقال لبيد:
فإذا جوزيت قرضا فاجزه
…
إنما يجزى الفتى ليس الجمل «1»
وإما مقدّما «2» عليه، كقولك: ما جاءنى زيد وإنما جاءنى عمرو، فها هنا لو لم تقل: إنما، وقلت: ما جاءنى زيد وجاءنى عمرو لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا، وإذا أدخلتها فإن الكلام مع من غلط فى الجائى أنه زيد لا عمرو.
قال: واعلم أنّ أقوى ما تكون «إنّما» اذا كان لا يراد بالكلام الذى بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر هو مقتضاه، فإنا نعلم أنه ليس الغرض من قوله تعالى:
إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ*
أن يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذمّ الكفّار ويقال لهم: إنهم من فرط العناد فى حكم من ليس بذى عقل، وقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها
وإِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ
والتقدير إنّ من لم تكن له هذه الخشية، فهو كمن لم تكن له أذن تسمع وقلب يعقل، فالإنذار معه كلا إنذار، وهذا الغرض لا يحصل دون «إنما» لأن من شأنها تضمين الكلام معنى النفى بعد الإثبات، فإذا أسقطت لم يبق إلا إثبات الحكم للمذكورين، فلا يدلّ على نفيه [عن «3» ] غيرهم إلا أن يذكر فى معرض مدح الإنسان بالتيقّظ والكرم وأمثالهما، كما يقال:
كذلك يفعل العاقل، هكذا يفعل الكريم.