الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتابُ الغَصْبِ
الغَصْبُ: هو الاسْتِيلَاءُ على مالِ غيرِه بِغَيْرِ حَقٍّ. وهو مُحَرَّمٌ بالكِتَابِ والسُّنَّةِ والإِجْمَاعِ. أمَّا الكِتَابُ فقولُ اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1). وقولُه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2). وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} (3). والسَّرِقَةُ نَوْعٌ مِن الغَصْبِ. وأمَّا السُّنَّةُ، فرَوَى جابِرٌ، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال في خُطْبَتِه يوم النَّحْرِ:"إنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذَا فِي شَهْرِكُمْ هذَا، فِي بَلَدِكُمْ هذَا". رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وغيرُه (4). وعن سَعِيدِ بن زَيْدٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ أخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْع أَرَضِينَ". مُتَّفَقٌ عليه (5). ورَوَى أبو حُرَّة الرَّقاشيُّ، عن عَمِّه وعَمْرِو بن يَثْربِيٍّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّه قال:"لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ، إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ". رَوَاهُ أبو إِسحاقَ الجُوزَجَانِيُّ (6). وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ على تَحْرِيمِ الغَصْبِ في الجُمْلَةِ، وإنَّما
(1) سورة النساء 29.
(2)
سورة البقرة 188.
(3)
سورة المائدة 38.
(4)
تقدم تخريجه في: 5/ 156.
(5)
أخرجه البخاري، في: باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، من كتاب المظالم. وفي: باب ما جاء في سبع أرضين، من كتاب بدء الخلق. صحيح البخاري 3/ 170، 4/ 130. ومسلم، في: باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، من كتاب المساقاة 3/ 1230، 1232.
كما أخرجه الدارمي، في: باب من أخذ شبرًا من الأرض، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 267. والإِمام أحمد، في: المسند 1/ 187 - 190.
(6)
تقدم تخريجه في: 6/ 606.
اخْتَلَفُوا في فُرُوعٍ مِنْه. إذا ثَبَتَ هذا، فمَن غَصَبَ شيئا لَزِمَهُ رَدُّه، ما كان بَاقِيًا، بغيرِ خِلَافٍ نَعْلَمُه. لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"عَلَى الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ"(7). ولأنَّ حَقَّ المَغْصُوبِ منه مُتَعَلِّقٌ (8) بعَيْنِ مالِه ومَاليَّتِه، ولا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بَردِّه. فإن تَلِفَ في يَدِه، لَزِمَهُ بَدَلُه؛ لقولِ اللهِ تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (9). ولأنَّه لما تَعَذَّرَ رَدُّ العَيْنِ، وَجَبَ رَدُّ ما يَقُومُ مَقَامَها في المالِيَّةِ. ثم يُنْظَرُ؛ فإن كان ممَّا تَتَمَاثَلُ أجْزَاؤُه، وتَتَفَاوَتُ صِفَاتُه، كالحُبُوبِ والأَدْهَانِ، وَجَبَ مِثْلُه، لأنَّ المِثْلَ أقْرَبُ إليه من القِيمَةِ، وهو [مُمَاثِلٌ له من طَرِيقِ الصُّورَةِ والمُشَاهَدَةِ والمَعْنَى، والقِيمَةُ](10) مُمَاثِلَةٌ من طَرِيقِ الظَّنِّ والاجْتِهَادِ، فكان ما طَرِيقُه المُشَاهَدةُ مُقَدَّمًا، كما يُقَدَّمُ النَّصُّ على القِيَاسِ، لكَوْنِ النَّصِّ طَرِيقهُ الإِدْرَاكُ بالسَّمَاعِ، والقِيَاسُ طَرِيقُه الظَّنُّ والاجْتِهَادُ. وإن كان غيرَ مُتَقَارِبِ الصِّفَاتِ، وهو ما عدا المَكِيلَ والمَوْزُونَ، وَجَبَتْ قِيمَتُه، في قول الجَمَاعَةِ. وحُكِىَ عن العَنْبَرِىِّ: يَجبُ في كلِّ شيءٍ مِثْلُه؛ لما رَوَتْ جَسْرَةُ بنتُ دَجاجَة، عن عائِشَةَ رَضِىَ اللهُ عنها، أنَّها قالتْ: ما رَأَيْتُ صَانِعًا مثلَ حَفْصَة، صَنَعَتْ طَعَامًا، فبَعَثَتْ به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأخَذَنِى الأَفْكَلُ (11) فَكَسَرْتُ الإِنَاءَ، فقلتُ: يا رسولَ اللَّه، ما كَفَّارَةُ ما صَنَعْتُ؟ فقال:"إِنَاءٌ مِثْلُ الْإِنَاءِ، وطَعَامٌ مِثْلُ الطَّعَامِ". رَوَاهُ أبو دَاوُدَ (12). وعن أَنَسٍ، أنَّ إحْدَى نِسَاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كَسَرَتْ قَصْعَةَ الأُخْرَى، فدَفَعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم-قَصْعَةَ الكاسِرَةِ إلى رسولِ صاحِبَةِ المَكْسُورَةِ، وحَبَسَ المَكْسُورَةَ في بَيْتِه. رَوَاهُ أبو دَاوُدَ مُطَوَّلًا، ورَوَاهُ
(7) تقدم تخريجه في صفحة 342.
(8)
في ب، م:"معلق".
(9)
سورة البقرة 194.
(10)
سقط من: الأصل.
(11)
الأفكل: الرعدة من بردٍ أو خوف، والمراد هنا من الغيرة.
(12)
في: باب في من أفسد شيئا يغرم مثله، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 267.
كما أخرجه النسائي، في: باب الغيرة، من كتاب عشرة النساء. المجتبى 7/ 66. والإِمام أحمد، في: المسند 6/ 148، 277.
التِّرْمِذِيُّ نحوَه (13)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ بَعِيرًا، وَرَدَّ مثلَه (14). ولَنا؛ ما رَوَى عبدُ اللَّه بن عُمَرَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال:"مَنْ أعْتَقَ شِرْكًا لَهُ في عَبْدٍ، قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ". مُتَّفَقٌ عليه (15). فأَمَرَ بالتَّقْوِيمِ في حِصَّةِ الشَّرِيكِ؛ لأنَّها مُتْلَفَةٌ بالعِتْقِ، ولم يَأْمُرْ بالمِثْلِ. ولأنَّ هذه الأَشْيَاءَ لا تَتَسَاوَى أجْزَاؤُها، وتَتَبَايَنُ صِفَاتُها، فالقِيمَةُ فيها أَعْدَلُ وأَقْرَبُ إليها، فكانت أَوْلَى. وأما الخَبَرُ فمَحْمُولٌ على أنَّه جَوَّزَ ذلك بالتَّراضِي، وقد عَلِمَ أنَّها تَرْضَى بذلك.
فصل: وما تَتَماثَلُ أَجْزاؤُه، وتَتَقَارَبُ صِفَاتُه، كالدَّرَاهِمِ والدَّنَانِيرِ والحُبُوبِ والأَدْهانِ، ضُمِنَ بِمِثْلِه. بغير خِلَافٍ. قال ابنُ عبدِ البَرِّ: كلُّ مَطْعُومٍ، من مَأْكُولٍ أو مَشْرُوبٍ، فمُجْمَعٌ على أنَّه يَجبُ على مُسْتَهْلِكِه مِثْلُه لا قِيمَتُه. وأمَّا سائِر المَكِيلِ والمَوْزُونِ، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ أنَّه يُضْمَنُ بمِثْلِه أيضًا؛ فإنَّه قال: في رِوَايَةِ حَرْبٍ،
(13) أخرجه أبو داود، في: باب في من أفسد شيئا يغرم مثله، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 267. والترمذي، في: باب في من يكسر له الشيء ما يحكم له من مال الكاسر، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 113.
كما أخرجه البخاري، في: باب إذا كسر قصعة أو شيئا لغيره، من كتاب المظالم. صحيح البخاري 3/ 179.
(14)
أخرجه مسلم، في: باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه. . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1224، 1225، وأبو داود، في: باب في حسن القضاء، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 222. والترمذي، في: باب ما جاء في استقراض البعير. . .، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذي 6/ 56 - 58. والنسائي، في: باب استسلاف الحيوان واستقراضه، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 256. وابن ماجه، في: باب السلم في الحيوان، من كتاب التجارات. سنن ابن ماجه 2/ 767. والدارمي، في: باب في الرخصة في استقراض الحيوان، من كتاب البيوع. سنن الدارمي 2/ 254. والإِمام مالك، في: باب ما يجوز من السلف، من كتاب البيوع. الموطأ 2/ 680. والإِمام أحمد، في: المسند 6/ 390.
(15)
أخرجه البخاري، في: باب تقويم الأشياء بين الشركاء بقيمة العدل، وباب الشركة في الرقيق، من كتاب الشركة، وفي: باب إذا أعتق عبدًا بين اثنين، وباب إذا أعتق نصيبا في عبد. . .، من كتاب العتق. صحيح البخاري 3/ 182، 184، 185، 189، 190. ومسلم، في: أول كتاب العتق، وفي: باب من أعتق شركا له في عبد، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 2/ 1139، 1140، 3/ 1286، 1287.
كما أخرجه أبو داود، في: باب في من أعتق نصيبا له من مملوك، وباب من ذكر السعاية في هذا الحديث، وباب في من روى أنه لا يستسعى، من كتاب العتاق. سنن أبي داود 2/ 348 - 350. والترمذي، في: باب ما جاء في العبد يكون بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذى 6/ 92 - 94. والنسائي، في: باب الشركة بغير مال، وباب الشركة في الرقيق، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 280، 281. وابن ماجه، في: باب من أعتق شركا له في عبد، من كتاب العتق. سنن ابن ماجه 2/ 844. والإِمام أحمد، في: المسند 2/ 2، 15، 4/ 37.
وإبراهيمَ بنَ هَانِئٍ (16): ما كان من الدَّرَاهِمِ والدَّنَانِيرِ، وما يُكَالُ ويُوزَنُ، فعليه مِثْلُه دُونَ القِيمَةِ. فظَاهِرُ هذا وُجُوبُ المِثْلِ في كلِّ مَكِيلٍ ومَوْزُونٍ، إلَّا أن يكونَ ممَّا فيه صِنَاعَةٌ، كمَعْمُولِ الحَدِيدِ والنُّحَاسِ والرَّصَاصِ من الأَوَانِى والآلاتِ ونحوِها. والحَلْىِ من الذَّهَبِ والفِضَّةِ وشِبْهِه، والمَنْسُوجِ من الحَرِيرِ والكَتَّانِ والقُطْنِ والصُّوفِ والشَّعْرِ، والمَغْزُولِ من ذلك، فإنَّه يُضْمَنُ بِقِيمَتِه؛ لأنَّ الصِّنَاعَةَ تُؤَثِّرُ في قِيمَتِه، وهى مُخْتَلِفَةٌ، فالقِيمَةُ فيه أَحْصَرُ، فأَشْبَه غيرَ المَكِيلِ والمَوْزُونِ. وذَكَرَ القاضي أنَّ النُّقْرَةَ (17) والسَّبِيكَةَ من الأَثْمَانِ، والعِنَبَ والرُّطَبَ والكُمَّثْرَى إنَّما (18) يَضْمَنُه (19) بقِيمَتِه. وظاهِرُ كلامِ أحمدَ يَدُلُّ على ما قُلْنا. وإنَّما خَرَجَ منه ما فيه الصِّنَاعَةُ؛ لما ذَكَرْنَا. ويَحْتَمِلُ أنَّ يَضْمَنَ النّقْرَةَ بقِيمَتِها، لِتَعَذُّرِ وُجُودِ مِثْلِها إلَّا بِتَكْسِيرِ الدَّرَاهِم المَضْرُوبَةِ وسَبْكِها، وفيه إِتْلَافٌ. فعلَى هذا، إن كان المَضْمُونُ بِقِيمَتِه من جِنْسِ الأَثْمانِ، وَجَبَتْ قِيمَتُه من غَالِبِ نَقْدِ البَلَدِ، فإن كانتْ من غيرِ جِنْسِه، وَجَبَتْ بكلِّ حالٍ، وإن كانتْ من جِنْسِه، فكانت مَوْزُونةً وَجَبَتْ (20). وإن كانت أقَلَّ أو أكْثَرَ، قُوِّمَ بغير جِنْسِه، لئلَّا يُؤَدِّىَ إلى الرِّبَا. وقال القاضي: إن كانتْ فيه صِنَاعَةٌ مُبَاحَةٌ، فزَادَتْ قِيمَتُه من أَجْلِها، جَازَ تَقْوِيمُه بِجِنْسِه؛ لأنَّ ذلك قِيمَتُه، والصِّناعَةُ لها قِيمَةٌ، وكذلك لو كُسِرَ الحَلْىُ، وَجَبَ أرْشُ كَسْرِه، ويُخَالِفُ البَيْعَ، لأنَّ الصِّنَاعَةَ لا يُقَابِلُها العِوَضُ في العُقُودِ، ويُقَابِلُها في الإِتْلَافِ، ألَا تَرَىَ أنَّها لا تَنْفَرِدُ بالعَقْدِ، وتَنْفَرِدُ بِضَمَانِها بالإتْلَافِ. قال بعضُ أصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: هذا مذهبُ الشّافِعِىِّ. وذكر بعضُهم مثلَ القولِ الأَوَّلِ، وهو الذي ذَكَرَه أبو الخَطَّابِ؛ لأنَّ القِيمَةَ مَأخُوذَةٌ على سَبِيلِ العِوَضِ، فالزِّيَادَةُ فيه رِبًا،
(16) أبو إسحاق إبراهيم بن هانئ النيسابورى، نقل عن الإِمام أحمد مسائل كثيرة، وكان ورعا صالحا، صبورا على الفقر، توفى سنة خمس وستين ومائتين. طبقات الحنابلة 1/ 97، 98.
(17)
النقرة: القطعة المذابة من الذهب والفضة.
(18)
سقط من: أ، م.
(19)
في ب، م:"يضمن".
(20)
في م زيادة: "قيمته".