الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويأْخُذَ أرْشَ نَقْصِه. وقال أبو حنيفة: يتخَيَّرُ بينَ إمْساكِه ولا شىءَ له، أو تَسْلِيمهِ إلى الغاصِب ويأخذُ منه قِيمَتَه؛ لأنَّه لو ضَمِنَ النَّقْصَ لَحَصَلَ له مثلُ كَيْلِه وزيادةٌ، وهذا لا يجوزُ، كما لو باع قَفِيزًا جَيِّدًا بقَفِيِزٍ رَدِىءٍ ودِرْهَمٍ. ولَنا، أنَّ عَيْنَ مالِه باقيةٌ، وإنَّما حدَث فيه نَقْصٌ، فوجَب فيه ما نَقَص، كما لو كان (39) عبدًا فمَرِض. وقد وافَق بعضُ أصْحابِ الشَّافِعِيِّ علَى هذا في العَفَنِ. وقال (40): يَضْمَنُ ما نَقص، قولًا واحدًا، ولا يَضْمَنُ ما تَولَّد منه؛ لأنَّه ليس من فِعْلِه. وهذا الفَرْقُ لا يصِحُّ؛ لأنَّ البَلَلَ (41) قد يكونُ من غيرِ فِعْلِه أيضًا، وقد يكونُ العَفَنُ بسَبَبٍ منه. ثم إنَّ ما وُجِدَ في يَدِ الغاصِبِ، فهو مَضْمُونٌ عليه، لِوُجُودِه في يَدِه، فلا فَرْقَ. وقولُ أبي حنيفةَ لا يَصِحُّ؛ لأنَّ هذا الطَّعَامَ عَيْنُ مالِه، وليس بِبَدَلٍ عنه. وقولُ أبي الخَطَّابِ لا بَأْسَ به.
863 - مسألة؛ قال: (وَإِنْ كَانَ زَرَعَها، فأَدْرَكَها رَبُّها والزَّرْعُ قائِمٌ، كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الأَرْضِ، وعَلَيْهِ النَّفَقَةُ، وإنِ اسْتُحِقَّتْ بَعْدَ أَخْذِ الغاصِبِ الزَّرْعَ، فَعَلَيْهِ أُجْرَةُ الأَرْضِ)
قوله: "فَأَدْرَكَها رَبُّها" يَعْنِى اسْتَرْجَعَها من الغاصِبِ، أو قَدَرَ على أَخْذِهَا منه. وهو مَعْنَى قولِه:"اسْتُحِقَّتْ". يعني أخَذَهَا مُسْتَحِقُّها. فمتى كان هذا بعدَ حَصَادِ الغاصِبِ الزَّرْعَ، فإنَّه لِلْغاصِبِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلَافًا؛ وذلك لأنَّه نَمَاءُ مَالِه، وعليه الأُجْرَةُ إلى وَقْتِ التَّسْلِيمِ وضَمَانُ النَّقْصِ. ولو لم يَزْرَعْها، فنَقَصَتْ لِتَرْكِ الزِّرَاعَةِ، كأرَاضِى البَصْرَةِ، أو نَقَصَتْ لغير (1) ذلك، ضَمِنَ نَقْصَها أيضًا؛ لما قَدَّمْنَا في المَسْأَلَةِ التي قبلَ هذه. فأمَّا إن أخَذَها صاحِبُها والزَّرْعُ قائِمٌ فيها، لم يَمْلِكْ إِجْبَارَ الغاصِبِ على قَلْعِه، وخُيِّرَ المالِكُ بينَ أن يُقِرَّ الزَّرْعَ في الأَرْضِ إلى الحَصَادِ، ويَأْخُذَ من الغاصِبِ أَجْرَ
(39) في م: "باع".
(40)
في م زيادة: "لا".
(41)
في الأصل: "المال".
(1)
في الأصل: "بغير".
الأَرْضِ وأَرْشَ نَقْصِها، وبين أن يَدْفَعَ إليه نَفَقَتَه ويكونَ الزَّرْعُ له. وبهذا قال أبو عُبَيْدٍ. وقال أكْثَرُ الفُقَهاءِ: يَمْلِكُ إِجْبَارَ الغاصِبِ على قَلْعِه، والحُكْمُ فيه كالغَرْسِ سواء، لقولِه عليه السلام:"لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حَقٌّ"(2). ولأنَّه زَرَعَ في أَرْضِ غيرِه ظُلْمًا، أشْبَه الغِرَاسَ. ولَنا، ما رَوَى رافِعُ بن خَدِيِجٍ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ زَرَعَ في أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَىْءٌ، وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ". رَوَاهُ أبو دَاوُدَ، والتِّرْمِذِىُّ (3)، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فيه دَلِيلٌ على أنَّ الغاصِبَ لَا يُجْبَرُ على قَلْعِه؛ لأنَّه مِلْكٌ لِلْمَغْصُوبِ منه. ورُوِىَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى زَرْعًا في أرضِ ظُهَيْرٍ (4)، فأعْجَبَه، فقال:"مَا أَحْسَنَ زَرْعَ ظُهَيْرٍ". فقال: إنَّه ليس لِظُهَيْرٍ، ولكنَّه لفلان. قال:"فَخُذُوا زَرْعَكُمْ، ورُدُّوا عَلَيْهِ نَفَقَتَهُ" قال رافِع: فأخَذْنا زَرْعَنا، ورَدَدْنَا عليه نَفَقَتَه (5). ولأنَّه أمْكَنَ رَدُّ المَغْصُوبِ إلى مالكِه منٍ غيرِ إتْلافِ مالِ الغاصِبِ، على قُرْبٍ من الزَّمانِ، فلم يَجُزْ إتْلافُه، كما لو غَصَبَ سَفِينةً، فحمَل فيها مالَهُ. وأدْخَلَها البحرَ، أو غَصَب لَوْحًا. فرَقَّع به سَفِينةً، فإنَّه لا يُجْبَرُ على رَدِّ المغْصُوبِ في اللُّجَّةِ، ويُنْتَظَرُ حتى تُرْسَى، صِيانةً للمالِ عن التَّلَفِ. كذا ههُنا. ولأنَّه زرعٌ حصَل في مِلْكِ غيرِه، فلم يُجْبَرْ على قَلْعِه على وَجْهٍ يضُرُّ به. كما لو كانتِ الأرضُ مُسْتعارَةً أو مَشْفُوعةً. وفارَق الشَّجَرَ والنَّخْلَ؛ لأنَّ مُدَّتَه تَتَطاوَلُ، ولا يُعْلَمُ متى يَنْقَطِعُ من الأرضِ، فانْتِظارُه يُؤَدِّى إلى تَرْكِ رَدِّ الأصلِ بالكُلِّيَّةِ. وحَدِيثُهم وَرَدَ في الغَرْسِ، وحَدِيثُنا في الزَّرْعِ، فيُجْمَعُ بين الحديثَيْنِ، ويُعْمَلُ بكلِّ واحدٍ منهما في مَوْضعِه. وذلك أوْلَى مِن إبْطَالِ أحَدِهما. إذا
(2) تقدم تخريجه في: 6/ 558.
(3)
أخرجه أبو داود، في: باب في زرع الأرض بغير إذن صاحبها، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 234. والترمذي، في: باب ما جاء في من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 125.
كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 824. والإِمام أحمد، في: المسند 3/ 465.
(4)
في م هنا وفيما يأتي: "طهير".
(5)
أخرجه أبو داود، في: باب في التشديد في ذلك [المزارعة]، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 233، 234.
ثبت هذا، فمتى رَضِىَ المالِكُ بتَرْكِ الزَّرْعِ للغاصِبِ. ويأخُذُ منه أجْرَ الأرضِ. فله ذلك؛ لأنَّه شغَل المغْصُوبَ بمالِه، فمَلَكَ صاحِبُه أخْذَ أَجْرِه، كما لو تَرَكَ في الدَّارِ طَعامًا أو أحْجارًا يَحْتاجُ في نَقْلِه إلى مُدَّةٍ. وإن أحَبَّ أخْذَ الزَّرْعِ، فله ذلك، كما يَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ أخْذَ شَجَرِ المُشْتَرِى بقِيمَتِه. وفيما يُرَدُّ على الغاصِبِ روايتان؛ إحْداهما، قِيمةُ (6) الزَّرْعِ؛ لأنَّه بَدَلٌ عن الزَّرْعِ. فيُقَدَّرُ بقِيمَتِه، كما لو أتْلَفَه. ولأنَّ الزَّرْعَ للغاصِبِ إلى حينِ انْتِزَاعِ المالِكِ له منه، بدليلِ أنَّه لو أخَذَه قبلَ انْتِزَاعِ المالِكِ له، كان مِلْكًا له. ولو لم يَكُنْ مِلْكًا له لَما مَلَكَهُ بأخْذِه. فيكونُ أخْذُ المالِكِ له تَمَلُّكًا له، إلَّا أنْ يُعَوِّضَه، فيجِبُ أن يكونَ بقِيمَتِه، كما لو أخَذَ الشِّقْصَ (7) المشْفُوعَ. ويَجِبُ على الغاصِبِ أجْرُ الأرضِ إلى حينِ تَسْلِيمِ الزَّرْعِ؛ لأنَّ الزَّرْعَ كان مَحكْومًا له به، وقد شغَل به أرْضَ غيرِه. والرِّواية الثانية، أنَّه يَرُدُّ على الغاصِبِ ما أنْفَقَ مِن البَذْرِ (8)، ومُؤْونةِ الزَّرْعِ في الحَرْثِ والسَّقْىِ، وغيرِه. وهذا الذي ذَكَرَهُ القاضي. وهو (9) ظَاهِرُ كلامِ الخِرَقِيِّ، وظَاهِرُ الحَدِيثِ، لقولِه عليه السلام:"عَلَيْهِ نَفَقَتُه". وقِيمَةُ الشىءِ لا تُسَمَّى نَفَقَةً له. والحَدِيثُ مَبْنِيٌّ على هذه المَسْأَلَةِ؛ فإنَّ أحْمدَ إنَّما ذَهَبَ إلى هذا الحُكْمِ (7) اسْتِحْسَانًا، على خِلَافِ القِيَاسِ، فإنَّ القِيَاسَ أنَّ الزَّرْعَ لِصَاحِبِ البَذْرِ (8)؛ لأنَّه نَمَاءُ عَيْنِ مالِه، فأشْبَه ما لو غَصَبَ دَجَاجَةً فحَضَنَتْ بَيْضًا له. أو طَعَامًا فعَلَفَهُ دَوَابَّ له، كان النَّماءُ له. وقد صَرَّحَ به أحمدُ، فقال: هذا شيءٌ لا يُوَافِقُ القِيَاسَ، أسْتَحْسِنُ أن يَدْفَعَ إليه نَفَقَتَه؛ للأَثَرِ. ولذلك جَعَلْنَاهُ لِلْغاصِبِ إذا اسْتُحِقَّتِ الأَرْضُ بعدَ أَخْذِ الغاصِبِ له، وإذا كان العَمَلُ بالحَدِيثِ، فيَجِبُ أن يُتَّبَعَ مَدْلُولُه.
(6) في م: "فيه".
(7)
سقط من: الأصل.
(8)
في ب، م:"البذرة".
(9)
في الأصل، م:"وهذا".