الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بابُ المُزَارَعةِ *
888 -
مسألة؛ قال: (وتَجُوزُ الْمُزَارَعةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ (1) الْأَرْضِ)
مَعْنَى المُزَارَعةِ: دَفْعُ الأرْضِ إلى مَن يَزْرَعُها ويَعْمَلُ عليها، والزَّرْعُ بينهما. وهى جائِزَةٌ في قولِ كَثِيرٍ من أهْلِ العِلْمِ، قال البُخَارِىُّ (2): قال أبو جعفرٍ: ما بالمَدِينَةِ أهْلُ بَيْتٍ إلَّا ويَزْرَعُونَ على الثُّلُثِ والرُّبْعِ، وزَارَعَ علِىٌّ وسَعْدٌ، وابنُ مسعودٍ، وعمرُ بن عبد العَزِيزِ، والقاسِمُ، وعُرْوَةُ، وآلُ أبى بَكْرٍ، وآلُ عَلِىٍّ، وابنُ سِيرِينَ. وممَّن رَأَى ذلك سَعِيدُ بن المُسَيَّبِ، وطَاوُسٌ، وعبدُ الرحمنِ بن الأسْوَدِ، وموسى بن طَلْحَةَ (3)، والزُّهْرِيُّ، وعبدُ الرَّحْمَنِ بن أبي لَيْلَى، وابْنُه، وأبو يوسفَ، ومحمدٌ. ورُوِىَ ذلك عن مُعَاذٍ، والحَسَنِ، وعبدِ الرَّحْمنِ بن يَزِيدَ. قال البُخَارِيُّ (2): وعامَلَ عمرُ الناسَ على أنَّه إن جاءَ عُمَرُ بالبَذْرِ من عندِه، فلَه الشَّطْرُ، وإن جاءُوا بالبَذْرِ، فلهم كذا. وكَرِهَها عِكْرِمَةُ، ومجاهِدٌ، والنَّخَعِىُّ، وأبو حنيفةَ. ورُوِى عن ابنِ عَبَّاسٍ الأمْرانِ جَمِيعًا. وأجَازَها الشافِعِىُّ في الأرْضِ بين النَّخِيلِ، إذا كان بَيَاضُ الأرْضِ أقَلَّ، فإن كان أكْثَرَ فعلى وَجْهَيْنِ. ومَنَعَها في الأرْضِ البَيْضَاءِ؛ لما رَوَى رافِعُ بن خَدِيجٍ قال: كُنَّا نُخَابِرُ على عَهْدِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم. [فذَكَرَ أنَّ بعضَ عُمُومَتِه أتاه، فقال: نَهَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم](4) عن أمْرٍ كان لنا نافِعًا، وطَوَاعِيةُ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم أنْفَعُ. قال، قُلْنا: ما ذاك؟ قال: قال
(*) هذا العنوان لم يرد في الأصل.
(1)
سقط من الأصل.
(2)
في باب المزارعة بالشطر، من كتاب الحرث. صحيح البخاري 3/ 137.
(3)
موسى بن طلحة بن عبيد اللَّه التيمى، كان يسمى في زمانه المهدى، توفى سنة ثلاث ومائة. العبر 1/ 126.
(4)
سقط من: ب. نقلة نظر.
رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، ولا يُكْرِيها بثُلُثٍ ولا بِرُبْعٍ، ولا بِطَعَامٍ مُسَمًّى"(5). وعن ابن عمرَ، قال: ما كُنّا نَرَى بالمُزَارَعةِ بَأْسًا حتى سمعتُ (6) رافِعَ بن خَدِيجٍ يقولُ: نَهَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عنها (7). وقال جابِرٌ: نَهَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المُخَابَرةِ (8). وهذه كلها أحَادِيثُ صِحَاحٌ، مُتَّفَقٌ عليها. والمُخَابَرةُ: المُزَارَعةُ. واشْتِقَاقُها من الخَبَارِ، وهى الأرْضُ اللَّيِّنَةُ، والخَبِيرُ: الأَكَّارُ. وقيل: المُخَابَرَةُ مُعَامَلَةُ أهْلِ خَيْبَرَ. وقد جاء حَدِيثُ جابرٍ مُفَسِّرًا، فرَوَى البُخَارِيُّ (9)، بإسْنادِه (10) عن
(5) أخرجه البخاري، في: باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسى بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة، من كتاب الحرث والمزارعة، صحيح البخاري 3/ 141. ومسلم، في: باب كراء الأرض بالطعام، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1181.
كما أخرجه أبو داود، في: باب في التشديد في ذلك، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 233. والنسائي، في: باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهى عن كراء الأرض. . .، من كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 39. وابن ماجه، في: باب استكراء الأرض بالطعام، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 823، 824.
وأخرج البخاري نحوه في: باب ما كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسى بعضهم بعضا في الزراعة والثمرة، من كتاب الحرث والمزارعة. صحيح البخاري 3/ 141.
(6)
في م: "سمعنا".
(7)
أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود في المواضع السابقة، كما أخرجه النسائي، في: باب كراء الأرض بالثلث والربع، من كتاب المزارعة. المجتبى 7/ 36، 37. وابن ماجه، في: باب كراء الأرض، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 820.
(8)
أخرجه البخاري، في: باب الرجل يكون له ممر أو ضرب في حائط أو في نخل، من كتاب المساقاة. صحيح البخاري 3/ 151. ومسلم، في: باب النهى عن المحاقلة والمزابنة وعن المخابرة. . . .، وباب كراء الأرض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1174، 1175، 1177.
كما أخرجه أبو داود، في: باب في المخابرة، من كتاب البيوع. سنن أبي داود 2/ 235. والترمذي، في: باب ما جاء في النهى عن الثنيا، وباب ما جاء في المخابرة والمعاومة، من أبواب البيوع. عارضة الأحوذى 5/ 290، 6/ 52. والنسائي، في: باب بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، وباب الزرع بالطعام، وباب النهى عن بيع الثنيا حتى تعلم، من كتاب البيوع. المجتبى 7/ 231، 232، 237، 260. والإِمام أحمد، في المسند: 3/ 313، 356، 391.
(9)
في: باب فضل المنيحة، من كتاب الهبة. صحيح البخارى 3/ 217.
كما أخرجه مسلم، في: باب كراء الأرض، من كتاب البيوع. صحيح مسلم 3/ 1177. وابن ماجه، في: باب المزارعة بالثلث والربع، من كتاب الرهون. سنن ابن ماجه 2/ 819.
(10)
سقط من: م.
جابِرٍ، قال: كانوا يَزْرَعُونَها بالثُّلُثِ والرُّبْعِ والنِّصْفِ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ كانَتْ لَهُ أرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أوْ لِيَمْنَحْهَا، فإنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلْيُمْسِكْ أرْضَهُ". ورُوِى تَفْسِيرُها عن زَيْدِ بن ثابتٍ، فرَوَى أبو دَاوُدَ (11)، بإسْنادِه عن زَيْدٍ قال: نَهَى رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن المُخَابَرَةِ. قلتُ: وما المُخَابَرةُ؟ قال: أن يَأْخُذَ (12) الأرْضَ بِنِصْفٍ أو ثُلُثٍ أو رُبْعٍ. ولَنا، ما رَوَى ابنُ عمرَ، قال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامَلَ أهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ ما يَخْرُجُ مِنْها، مِنْ زَرْعٍ أو ثَمَرٍ. مُتَّفَقٌ عليه (13). وقد رُوِىَ ذلك عن (14) ابنِ عَبّاسٍ وجابِرِ بن عبدِ اللَّه. وقال أبو جعفرٍ: عامَلَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم أهْلَ خَيْبَرَ بالشَّطْرِ، ثم أبو بكرٍ، ثم عمرُ، وعثمانُ، وعلىٌّ، ثم أهْلُوهُم إلى اليومِ يُعْطُون الثُّلُثَ والرُّبْعَ (15). وهذا أمْرٌ صَحِيحٌ مَشْهوُرٌ عَمِلَ به رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى ماتَ، ثم خُلَفاؤُه الرَّاشِدُون حتى ماتُوا، ثم أهْلُوهُم من بَعْدِهم، ولم يَبْقَ بالمَدِينةِ أهْلُ بَيْتٍ إلَّا عَمِلَ به، وعَمِلَ به أزْوَاجُ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم من بعدِه، فرَوَى البُخَارِىُّ (16)، عن ابنِ عمرَ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عامَلَ أهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ ما يَخْرُجُ منها، من زَرْعٍ أو ثَمَرٍ، فكان يُعْطِى أزْوَاجَه مائةَ وَسْقٍ، ثَمانُون وَسْقًا تَمْرًا، وعِشْرُونَ وَسقًا شَعِيرًا، فَقَسَّمَ عمرُ خَيْبَرَ، فخَيَّرَ أزْوَاجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يَقْطَعَ لَهُنَّ من الأرْضِ والماءِ، أو يُمْضِىَ لهنَّ الأَوْسُقَ، فمِنْهُنَّ مَن اخْتَارَ الأرْضَ، ومِنْهُنَّ من اخْتارَ الأَوْسُقَ، فكانت عائِشَةُ اخْتارَتِ الأرْضَ. ومثلُ هذا لا يجوزُ أن يُنْسَخَ؛ لأنَّ النَّسْخَ إنَّما يكونُ في حياةِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأمَّا شيءٌ عَمِلَ به إلى أن ماتَ، ثم عَمِلَ به خُلَفاؤُه بعدَه، وأجْمَعَتِ الصَّحابةُ رِضْوانُ اللَّه عليهم عليه، وعَمِلُوا
(11) في: باب في المخابرة، من كتب البيوع. سنن أبي داود 2/ 235.
كما أخرجه الإِمام أحمد، في: المسند 5/ 187، 188.
(12)
في الأصل: "تأخذ".
(13)
تقدم تخريج حديث ابن عمر صفحة 527، وحديث ابن عباس صفحة 529 وحديث جابر صفحة 550.
(14)
سقط من: ب، م.
(15)
تقدم في صفحة 527.
(16)
في: باب المزارعة بالشطر ونحوه، من كتاب الحرث والمزارعة. صحيح البخاري 3/ 137، 138.
كما أخرجه مسلم، في: باب المساقاة والمعاملة. . .، من كتاب المساقاة. صحيح مسلم 3/ 1186.
به، ولم يُخَالِفْ فيه منهم أحدٌ، فكيف يجوزُ نَسْخُهُ، [ومتى كان نَسْخُه](17)؟ فإن كان نُسِخَ في حياةِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فكيف عُمِلَ به بعدَ نَسْخِه، وكيف خَفِى نَسْخُه، فلم يَبْلُغْ خُلَفَاءَه، مع اشْتِهارِ قِصَّةِ خَيْبَرَ، وعَمَلِهِم فيها؟ فأين كان راوِى النَّسْخِ، حتى لم يَذْكُرْه، ولم يُخْبِرْهُم به؟ فأمَّا ما احْتَجُّوا به، فالجوابُ عن حَدِيثِ رافِعٍ، من أرْبَعةِ أوْجُهٍ؛ أحدُها، أنَّه قد فَسَّرَ المَنْهِىَّ عنه في حَدِيثِه بما لا يُخْتَلَفُ في فَسَادِه، فإنَّه قال: كُنَّا من أكْثَرِ الأنْصارِ حَقْلًا، فكُنَّا نُكْرِى الأرْضَ على أنَّ لنا هذه، ولهم هذه، فربَّما أَخْرَجَتْ هذه ولم تُخْرِجْ هذه، فنَهانَا عن ذلك، فأمَّا بالذَّهَبِ والوَرِقِ، فلم يَنْهَنَا، مُتَّفَقٌ عليه (18). وفى لَفْظٍ: فأمَّا بشَىْءٍ (19) مَعْلُومٍ مَضْمُونٍ، فلا بَأْسَ. وهذا خارِجٌ عن مَحلِّ الخِلَافِ، فلا دَلِيلَ فيه عليه، ولا تَعَارُضَ بين الحَدِيثَيْنِ. الثاني، أنَّ خَبَرَه وَرَدَ في الكِرَاءِ بِثُلُثٍ أو رُبْعٍ، والنِّزَاعُ في المُزَارَعةِ، ولم يَدُلَّ حَدِيثُه عليها أصْلًا، وحَدِيثُه الذي فيه المُزَارَعةُ يُحْمَلُ على الكِرَاءِ أيضًا؛ لأنَّ القِصَّةَ واحِدَةٌ، رُوِيَتْ بألْفَاظٍ مُخْتَلِفَة، فيَجِبُ تَفْسِيرُ أحدِ اللَّفْظَيْنِ بما يُوافِقُ الآخَرَ. الثالث، أنَّ أحَادِيثَ رافِعٍ مُضْطَرِبَةٌ جِدًّا، مُخْتَلِفَةٌ اخْتِلَافًا كَثِيرًا. يُوجِبُ تَرْكَ العَمَلِ بها لو انْفَرَدَتْ، فكيفَ يُقَدَّمُ على مثلِ حَدِيثِنا؟ قال الإِمامُ أحمدُ: حَدِيثُ رافِعٍ أَلْوانٌ. وقال أيضًا: حَدِيثُ رافِعٍ ضُرُوبٌ. وقال ابنُ المُنْذِرِ: قد جاءتِ الأخْبارُ عن رافِعٍ بِعِلَلٍ تَدُلُّ على أنَّ النَّهْىَ كان لذلك، منها، الذي ذَكَرْناه، ومنها خَمْسٌ أُخْرَى. وقد أنْكَرَه فَقِيهانِ من فُقَهاءِ الصَّحابةِ؛ زَيْدُ بن ثابِتٍ، وابنُ عَبّاسٍ. قال زَيْدُ بن ثابتٍ: أنا أعْلَمُ بذلك منه، وإنَّما سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ قد اقْتَتَلا، فقال:"إنْ كَانَ هذَا شَأْنَكُمْ، فَلَا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ". رَوَاه أبو دَاوُدَ والأثْرَمُ (20). ورَوَى البُخَارِىُّ (20)، عن عَمْرِو بن دِينارٍ،
(17) سقط من: ب.
(18)
تقدم تخريجه في صفحة 528.
(19)
في ب، م:"شيء".
(20)
تقدم التخريج في صفحة 529.
قال: قلتُ لِطَاوُسٍ: لو تَرَكْتَ المُخَابَرةَ، فإنَّهمِ يَزْعُمُونَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عنها. قال: إنَّ أعْلَمَهُم - يَعْنِى ابن عَبّاسٍ - أخْبَرَنِى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْهَ عنها، ولكنْ قال:"أنْ يَمْنَحَ أحَدُكُمْ أخَاهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرَاجًا مَعْلُومًا". ثم إنَّ أحَادِيثَ رافِعٍ منها ما يُخَالِفُ الإِجْماعَ، وهو النَّهْىُ عن كِرَاءِ المَزَارِعِ على الإِطْلَاقِ، ومنها ما لا يُخْتَلَفُ في فَسَادِه، كما قد بَيَّنَّا، وتارَةً يُحَدِّثُ عن بعض عُمُومَتِه، وتارَةً عن سَمَاعِه، وتارةً عن ظَهِيرِ بن رافعٍ، وإذا كانت أخْبارُ رافِعٍ هكذا، وَجَبَ اطِّراحُها (21) واسْتِعْمالُ الأخْبَارِ الوارِدَةِ في شَأْنِ خَيْبَرَ، الجارِيَةِ مَجْرَى التَّوَاتُرِ، التي لا اخْتِلَافَ فيها، وبها عَمِلَ الخُلَفاءُ الرَّاشِدُون وغيرُهم، فلا مَعْنَى لِتَرْكِها بمثلِ هذه الأحَادِيثِ الواهِيَةِ. الجواب الرابع، أنَّه لو قُدِّرَ صِحَّةُ خَبَرِ رافِعٍ، وامْتَنَعَ تَأْوِيلُه، وتَعَذَّرَ الجَمْعُ، لوَجَبَ حَمْلُه على أنَّه مَنْسُوخٌ؛ لأنَّه لا بُدَّ من نَسْخِ أحَدِ الخَبَرَيْنِ، ويَسْتَحِيلُ القولُ بِنَسْخِ حَدِيثِ خَيْبَرَ؛ لِكَوْنِه مَعْمُولًا به من جِهَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى حينِ مَوْتِه، ثم (22) مِن بعدِه إلى عَصْرِ التَّابِعِينَ، فمتى كان نَسْخُه؟ وأمَّا حَدِيثُ جابرٍ في النَّهْىِ عن المُخَابَرةِ، فيَجِبُ حَمْلُه على أحدِ الوُجُوهِ التي حُمِلَ عليها خَبَرُ رافِعٍ؛ فإنَّه قد رَوَى حَدِيثَ خَيْبَرَ أيضًا، فيَجِبُ الجَمْعُ بين حَدِيثَيْه، مهما أمْكَنَ، ثم لو حُمِلَ على المُزَارَعةِ، لكان مَنْسُوخًا بقِصَّةِ خَيْبَرَ؛ لِاسْتِحالَةِ نَسْخِها كما ذَكَرْنا، وكذلك القولُ في حَديِثِ زَيْدِ بن ثابتٍ. فإن قال أصْحابُ الشّافِعِىِّ: تُحْمَلُ أحادِيثُكُم على الأرْضِ التي بين النَّخِيلِ، وأحادِيثُ النَّهْىِ عن الأرْضِ البَيْضَاء جَمْعًا بينهما. قُلْنا: هذا بَعِيدٌ لِوُجُوهٍ خَمْسَةٍ؛ أحَدُها، أنَّه يَبْعُدُ أن تكونَ بَلْدَةٌ كَبِيرَةٌ يأتى منها أَرْبَعُونَ أَلْفَ وَسْقٍ، ليس فيها أرْضٌ بَيْضَاء، ويَبْعُدُ أن يكونَ قد (23) عامَلَهُم على بعضِ الأرْضِ دُونَ بعضٍ، فيَنْقُلُ الرُّواةُ كلُّهم القِصَّةَ على العُمُومِ من غيرِ تَفْصِيلٍ، مع الحاجَةِ إليه. الثاني، أنَّ ما يَذْكُرُونَه من التَّأْوِيلِ لا دَلِيلَ
(21) في ب، م:"إخراجها".
(22)
سقط من الأصل.
(23)
سقط من: ب.
عليه، وما ذَكَرْناهُ دَلَّتْ (24) عليه بعضُ الرِّواياتِ، وفَسَّرَهُ الرّاوِى له بما ذَكَرْناه، وليس مَعَهُم سِوَى الجَمْع بين الأحَادِيثِ، والجَمْعُ بينهما بِحَمْلِ بعضِها (25) على ما فَسَّرَهُ راويه به، أَوْلَى من التَّحَكُّمِ بما لا دَلِيلَ عليه. الثالث، أنَّ قولَهم يُفْضِى إلى تَقْيِيدِ كلِّ واحدٍ من الحَدِيثَيْنِ، وما ذَكَرْناه حَمْلٌ لأحَدِهِما وَحْدَه الرَّابع، أنَّ فيما ذَكَرْناه مُوَافَقَةَ عَمَلِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ، وأَهْلِيهِم، وفُقَهاءِ الصَّحَابةِ، وهم أعْلَمُ بحَدِيثِ رسولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وسُنَّتِه ومَعَانِيها، وهو أَوْلَى من قولِ من خَالَفَهُم. الخامس، أنَّ ما ذَهَبْنا إليه مُجْمَعٌ عليه، فإنَّ أبا جعفرٍ رَوَى ذلك (26) عن كلِّ أهْلِ بَيْتٍ بالمَدِينةِ، وعن الخُلَفاءِ الأَربَعَةِ وأهْلِيهِم، وفُقَهَاءِ الصَّحَابةِ واسْتِمْرَار ذلك (27)، وهذا ممَّا لا يجوزُ خَفَاؤُه، ولم ينكِرْه من الصَّحَابةِ مُنْكِرٌ، فكان إجْماعًا. وما رُوِىَ في مُخَالَفَتِه، فقد بَيَّنَّا فَسَادَه، فيكون هذا إجْماعًا من (28) الصَّحابةِ رَضِىَ اللهُ عنهم، لا يَسُوغُ لأحدٍ خِلَافُه. والقِيَاسُ يَقْتَضِيه، فإن الأرْضَ عَيْنٌ تُنَمَّى بالعَمَلِ فيها، فجازَتِ المُعَامَلَةُ عليها ببعضِ نَمَائِها، كالأثْمانِ في المُضَارَبةِ، والنَّخْلِ في المُسَاقاةِ، أو نقولُ: أرْض، فجازَتِ المُزَارَعةُ عليها، كالأرْضِ بين النَّخِيلِ. ولأنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إلى المُزَارَعةِ؛ لأنَّ أصْحابَ الأرْضِ قد لا يَقْدِرُونَ على زَرْعِها، والعَمَلِ عليها، والأَكَرَةُ يَحْتَاجُونَ إلى الزَّرْعِ. ولا أرْضَ لهم، فاقتَضَتْ حِكْمةُ الشَّرْعِ جَوَازَ المُزَارَعةِ، كما قُلْنا في المُضَارَبةِ والمُسَاقَاةِ، بل الحاجَةُ ههُنا آكَدُ؛ لأنَّ الحاجَةَ إلى الزَّرْعِ آكَدُ (29) منها إلى غيرِه، لكَوْنِه مُقْتَاتًا، ولكَوْنِ الأرْضِ لا يُنْتَفَعُ بها إلَّا بالعَمَلِ عليها، بخِلَافِ المالِ، ويَدُلُّ على ذلك قولُ رَاوِى حَدِيثِهِم: نَهَانَا رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أمْرٍ كان لنا نافِعًا (30). والشَّارِعُ لا يَنْهَى عن
(24) في الأصل، م:"دل".
(25)
سقط من: ب.
(26)
سقط من: الأصل، م.
(27)
تقدم في صفحة 527.
(28)
في ب: "من النبي صلى الله عليه وسلم ومن".
(29)
في ب: "أكثر".
(30)
تقدم تخريجه في صفحة 556.