الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيان ما وصفت، من أنه لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، كما كان المبتدئ لفرضه، فهو المزيل المُثبِتُ لما شاء منه جل ثناؤه.
ولا يكون ذلك لأحد من خلقه.
وفي كتاب اللَّه دلالة عليه: قال اللَّه: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
فأخبر اللَّه بما أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله وقال:
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) الآية.
وهكذا سنة رسول الله: لا ينسخها إلا سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أحدث اللَّه لرسوله في أمر سنَّ فيه غير ما سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - لسن فيما أحدث الله إليه، حتى يبين
للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلهما مما يخالفها.
وهذا مذكور في سنته صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال الله عز وجل: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
الرسالة: باب (البيان الخامس) :
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فأقام - الله عز وجل حجته بأن كتابه عربي - في كل آية ذكرناها -، ثم أكَّد ذلك بأن نفى عنه - جل ثناؤه - كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه.
الأولى: فقال تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .
الثانية: وقال: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) الآية.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فقال منهم قائل: إن في القرآن عربياً وأعجمياً.
والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه، تقليداً له، وتركا للمسألة له عن حجته، ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم، والله يغفر لنا ولهم.
ولعل من قال: إن في القرآن غير لسان العرب - وقُبِلَ ذلك منه - أو
ذهب إلى أن من القرآن خاصاً يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبيٍّ، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من لا يعرفه، والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه.
لا نعلم رجلاً جمع السنَن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جُمِع علم عامة أهل العلم بها أتِيَ على السنن، وإذا فُرِّق علم كل واحد منهم، ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجوداً عند غيره.
وهم في العلم طبقات: منهم الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم
الجامع لأقل مما جمع غيره، وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلاً على أن يطلب علمه، عند غير طبقته من أهل العلم، بل يطلب عند نظرائه
ما ذهب عليه، حتى يُؤتى على جميع سنن رسول الله - بأبي هو وأمي - فيتفردُ جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وَعَوا منها.
وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها، لا يذهب منه شيء عليها، ولا
يطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قَبِلَه عنها، ولا يَشرَكُها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قَبِلَه منها فهو من أهل لسانها، وإنَّما صار غيرهم من غير أهله بتركها فإذا صار إليه صار من أهله، وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في العلماء.
قال الشَّافِعِي رحمه الله: فإن قال قائل: قد نجد من العجم من ينطق بالشيء
من لسان العرب؛ فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن
تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو ثبع
للعرب فيه، ولا ننكر إذ كان اللفظ قيل تعلماً، أو نطق به موضوعاً، أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلاً من لسان العرب، كما يا تفق القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها، واختلاف لسانها، وبُعد الأوامر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها.
فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب اللَّه محضٌ بلسان العرب، لا يخلطه فيه
غيره؛ فالحجة فيه كتاب الله، قال اللَّه:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) .
فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يُرسلون إلى قومهم خاصة، وإن محمداً بعث إلى الناس كافة، فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة، ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه ما أطاقوا منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم، فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم.
وإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون
بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتَّبَع على التابع، وأولى الناس