الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[القول في رواية ميمون بن أبي شبيب عن عائشة]
هذا حديث حسن، أورده مسلم في مقدمة "صحيحه" بلا إسناد، حيث قال: ونذكر عن عائشة إلى آخره، فقال النووي نقلًا عن ابن الصلاح ما معناه: أن ذلك لا يقتضي الحكم له بالصحة، نظرًا لعدم الجزم في إيراده، ويقتضيه نظرًا لاحتجاجه به وإيراده إيراد الأصول والشواهد. انتهى.
لكن قد جزم الحاكم بتصحيحه في النوع السادس عشر من "معرفة علوم الحديث" له، فقال: صحَّت الرواية عن عائشة رضي الله عنها، وساقه بلا إسناد، وكذا صححه ابن خزيمة، لأنه أخرجه في كتاب السياسة من "صحيحه" وكذا أخرجه البزَّار في "مسنده"، كلاهما عن إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، ورواه أبو داود في الأدب من "سننه" عن يحيى بن إسماعيل، وابن أبي خلف، ثلاثتهم عن ابن يمان به، وأخرجه أبو أحمد العسكري في كتاب "الأمثال" له عن عبد الوهاب بن عيسى، وصالح ابن أحمد، فرَّقهما، كلاهما عن محمد بن يزيد الرفاعي - هو أبو هشام. ورواه أبو يعلى في "مسنده" عن أبي هشام، فوافقناه هو وابن خزيمة في شيخيهما، وكذا البزار بعُلوٍّ، ووقع لنا بدلًا للباقين مع العلو أيضًا.
وقد رواه البيهقي في "الأدب"(1) من طريق أبي هريرة محمد بن أيوب الجبلي (2)، عن يحيى بن يمان بالمتن فقط، فوقع لنا عاليًا [من طريق أبي هريرة هذا، أخرجه أبو نُعيم في "الحِلْيَة"، بلفظ: أنها كانت في سفر، فأمرت لناس من قريش بغداءٍ، فمر رجل غنيٌّ ذو هيئة، فقالت: ادْعوه ينزل فأكل ومضى، وجاء سائل فأمرت له بكِسرة، فقالت: إن هذا لغنيٌّ لم يجمُل بنا إلا ما صنعنا به، وإنَّ هذا السائل سأل، فأمرتُ له بما يرضاه، وإن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نُنزل الناس منازلهم](3).
وقال أبو داود عقيب تخريجه: حديث يحيى مختصرًا بالمتن دون
(1) ص 193 - 194 برقم 322.
(2)
في (أ): أبي هريرة عن أيوب الجيلي، وهو خطأ.
(3)
ما بين حاصرتين ساقط من (ب).
القصة، وميمون بن أبي شبيب لم يدرك عائشة، وتعقبه ابن الصلاح بأنه أدرك المغيرة، وهو قد مات قبل عائشة، وأشار إلى أنه على شرط مسلم؛ لاكتفائه بالتَّعاصر، مع إمكان التلاقي، وأقرَّه النووي على ذلك، وفيما أشار إليه نظر، فإن الاكتفاء بالتعاصر محله في غير المُدلِّس، وميمون قد قال فيه عمرو بن علي الفلاس: ليس يقول في شيء من حديثه: سمعت، ولم أُخبَر أن أحدًا يزعم أنه سمع من الصحابة. انتهى.
وصرح غيره بأنه روى عن جماعة من الصحابة لم يدركهم؛ منهم معاذ، وأبو ذرّ، وعلي، رضي الله عنهم، فلذلك قال أبو حاتم: إن روايته عنهم مُرسلة، بل صرح أيضًا بأن روايته عن عائشة غيرُ متصلة، وكذا قال البيهقي: إن حديثه عنها مرسل، وقال ابن معين: إنه ضعيف.
نعم، حَسَّن له الترمذي حديثًا من روايته عن أبي ذرّ رضي الله عنه، بل في بعض النسخ تصحيحه، وحديثه عن المغيرة خرَّجه مسلم في مقدمة "صحيحه" استشهادًا، وكذا أخرجه الترمذي وصححه، وساق له الترمذي، وابن ماجه عن علي حديثًا، والترمذي -عن محمود بن غيلان- حديث:"اتق اللَّه حيث ما كنت" عن معاذ وأبي ذرّ من طريقين. قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر، وحديثه عن معاذ:"اتق اللَّه" خرَّجه الترمذي أيضًا، وكذا خرَّج له النسائي عن معاذ حديث "الصوم جُنَّة"، وهو والترمذي وابن ماجه عن سَمُرة حديث:"البَسُوا البياض، وكفِّنوا فيها موتاكم".
قال بعض الحفاظ: وهذا كله مُشعِر بإدراك ميمون لعائشة، ثم إنَّ الجواب عن أبي داود ممكنٌ بأن يكون مرادُه أنه لم يدرك السماع منها، وجزم ابن القيِّم بفساد التعقب المشار إليه، وأشار إلى أن ميمونًا كان بالكوفة، فسماعه من المغيرة لا يُنكَر، لأنه كان معه بها، بخلاف عائشة، فإنها كانت بالمدينة، قال: وأئمةُ هذا الشأن لهم في ذلك أمر وراء المعاصرة، ولو كان الأمر في ذلك مع هذا الإطلاق، لكان كل من روى عن كل أحد يُحمل على الاتصال، انتهى.
لكن قد قال شيخُ صاحب الترجمة الحافظ الحجة أبو الفضل العراقي
رحمهما اللَّه: إنه لم يأت في خبر قط إدراك ميمون للمغيرة، وإنما أخذه ابن الصلاح من كون مسلم روى له في المقدمة عن المغيرة حديثًا استشهادًا، وقال فيه: إنه حديث مشهور.
قلت: وقد قال البزّار عقب تخريجه: وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه، ويُروى عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفًا، يشير إلى ما رواه أبو أُسامة عن أُسامة بن زيد، عن عمر بن مِخْراق، عن عائشة لكن قد أخرجه الخطيب في "المتفق والمفترق"، و"الجامع"، كلاهما له، والبيهقي في "الشعب"، والطبراني، كلهم من طريق أحمد بن أسد البجلي الكوفي، والبيهقي، والطبراني أيضًا، من طريق محمد بن عمار الموصلي، والبيهقي وحده من طريق مسروق بن المرْزُبان، ثلاثتهم عن يحيى بن يمان، عن سفيان الثوري، عن أُسامة، به مرفوعًا، وأخرجه البيهقي في "الأدب" من طريق الطبراني من جهة الثلاثة المذكورين، وقال الطبراني: لم يروه عن سفيان إلا ابن يمان.
وكذا أخرجه الدارقطني في "العلل" عن أبي سعيد العدوي، عن أبي همام الخارَكي -هو الصلت بن محمد- عن يحيى، لكنه صوَّب الموقوف.
وقد قال الإمام أحمد: إن رواية عمر عن عائشة مرسلة، وكذا قال البيهقي في "الشُّعَب"، وقال البخاري: عُمر (1) بن مِخْراق عن رجل، عن عائشة: مُرسَل، روى عنه أُسامة، وكذا ذكره ابن حبَّان له في أتباع التابعين من "ثقاته"، يدلّ على أنه لم يسمع من الصحابة رضي الله عنهم. وحينئذٍ، فهذه الرواية أيضًا مرسلة، والصحيح عن يحيى ما نقدم.
قال البيهقي في "الأدب": وكان يحيى رواه على الوجهين جميعًا، قال: وقوله: فأقعدته معها، إن صح، يريد به خارج الحجاب. انتهى.
[وبالجملة، فحديث عائشة حسن، وفي "الإحياء": روي أن عائشة كانت في سفر، ننزلت منزلًا، فوضعت طعامها، فجاء سائل، فقالت عائشة
(1) في (ب): عمرو.
رضي اللَّه عنها: ناولوا هذا المسكين قُرصًا، ثم مرَّ رجل آخر على دابة، فقالت: ادعوه إلى الطعام، فقيل لها: تُعطين المسكين وتَدْعين هذا الغنيَّ، فقالت: إن اللَّه تعالى قد أنزل الناس منازل، لا بد لنا أن ننزلهم تلك المنازل، هذا المسكين يرضى بقُرص، وقبيحٌ بنا أن نعطي هذا الغنيَّ على هذه الهيئة قُرصًا، وفيه زيادة على لفظ "الحلية" الذي أسلفناه] (1).
وفي الباب عن معاذ، وجابر رضي الله عنهما:
فأما الأول، فرواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" له، من رواية عبد الرحمن بن غَنْم، عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنزِلِ الناسَ منازلَهم من الخير والشرِّ، وأحسنْ أدبهم (2) على الأخلاق الصالحة"، ولا يصح إسناده.
وأما الثاني، فرويناه في "جزء الغسولي" بسند ضعيف، ولفظه في حديث:"جالسوا الناس على قدر أحسابهم، وخالطوا الناس على قدر أديانهم، وأنزلوا الناس على قدر منازلهم، وداروا الناس بعقولكم".
وكذا رويناه في حديث أوله: "أنا أشرفُ الناس حسبًا" في "مسند الفردوس" من حديث جابر أيضًا بلفظ: "أنزلوا الناس على قدر مروءاتهم".
وقد أورد الغزالي رحمه الله في أواخر الباب الخامس من العلم من كتاب "الإحياء" هذا الحديث بلفظ: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "نحن معاشرَ الأنبياء أُمرنا أن نُنزلَ الناس منازلهم، ونكلّمَ النلس على عقولهم"، وما وقفت عليه بهذا اللفظ في حديث واحد، بل الشقُّ الأول في حديث كما مضى، والثاني رويناه فيي الجزء الثاني من "حديث ابن الشِّخِّير" من حديث ابن عمر مرفوعًا:"أُمرنا معاشر الأنبياء أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم".
[ورويناه في "أُنس العاقل وتذكرة الغافل" لأُبيِّ النَّرْسي من طريق أبي
(1) من قوله: وبالجملة، إلى هنا، لم يرد في (ب)، وورد في نسخة (ح) بالهامش متبوعًا بعلامة التصحيح.
(2)
في (ب): آدابهم.