الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من طريقه: ثلاثة ليس لأصحاب الحديث عنها غنى: الحفظ، والصدق، وصحة الكتب، فإن أخطأته واحدة، وكانت فيه ثنتان لم تضره. إن أخطأ (1) الحفظ ورجع إلى الصدق وصحة الكتب (لم يضرّه)(2).
إذا علم هذا، فقد قال النووي رحمه الله -وناهيك به ديانةً وورعًا وعلمًا- في "زوائد الروضة" (3) من باب الوقف: والمراد بأصحاب الحديث: الفقهاء الشافعية، وأصحاب الرأي: الفقهاء الحنفية. انتهى.
وما أحقَّهم بالوصف بذلك، فإن إمامهم الإمام الأعظم المجتهد المقدم ثبت عنه بالسند الصحيح الذي لا غُبار عليه -مع تعدد الطرق إليه- أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وللَّه الحمد.
وروى الخطيب في مقدمة "جامعه" من طريق محمد بن سهل بن عسكر، قال: حضرت المأمون بالمصِّيصة، فقام إليه رجل بيده محبرة، فقال: يا أمير المؤمنين، صاحبُ حديث منقطع به. قال: فوقف له المأمون، وقال: أيْشٍ تحفظُ في باب كذا؟ قال: فسكت، فقال المأمون: حدثنا ابنُ عُلَيَّة بكذا، وحدثنا حجاجٌ الأعور بكذا، وسرد عدَّة أحاديث، ثم قال: وأيْشٍ تحفظ في باب كذا؟ قال: فسكت، فسرد له المأمون أيضًا عدة أحاديث، ثم قال: أحدُهم يطلبُ الحديث ثلاثة أيام، ثم يقول: أنا صاحب حديث، أعطوه ثلاثة دراهم. واللَّه المستعان.
[الحافظ]
وأما الحافظ، فقد روينا عن الحافظ الثقة الحجة أبي بكر الخطيب البغدادي ما نصه: إنَّ مِنْ صفات الذي يجوز إطلاقُ هذا اللفظ في تسميته: أن يكون عارفًا بسنُن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بصيرًا بطُرقها، مميّزًا لأسانيدها، يحفظ منها ما أجمع أهلُ المعرفة على صحته، وما اختلفوا فيه للاجتهاد في
(1) في (ب): "أخطأه".
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
في (ب): "الوصية" تحريف.
حال نَقَلته، يعرف فرق ما بين قولهم: فلان حجة، فلان ثقة، ومقبول، ووسط، ولا بأس به، وصدوق، وصالح، وشيخ، وليِّن، وضعيف، ومتروك، وذاهب الحديث، ويُمَيِّز الروايات بتغاير العبارات، نحو: عن فلان، وإن فلانًا، ويعرف اختلاف الحكم في ذلك بين أن يكون المسمَّى صحابيًّا أو تابعيًّا، والحكم في قول الراوي: قال فلان، وعن فلان، وأن ذلك غير مقبول من المدلِّسين، دون إثبات السماع على اليقين، ويعرف اللَّفظة في الحديث تكون وهمًا وما عداها صحيحًا، ويميز الألفاظ التي أُدرجت في المتون، فصارت بعضَها لاتصالها بها، ويكون قد أمعن النَّظر في حال الرواة بمعاناة علم الحديث دون ما سواه: لأنه علم لا يَعْلَق (1) إلا بمن وقف نفسه عليه، ولم يضمَّ غيره من العلوم إليه.
ثم ساق أن الشافعي رضي الله عنه مر بيوسف بن عمرو بن يزيد، وهو يذكر شيئًا من الحديث، فقال: يا يوسف، تريد أن تحفظ الحديث وتحفظ الفقه؟ هيهات.
وقد تقدم قريبًا قولُ عمر بن هارون: مَن لم يجعل عمره كلَّه في طلب الحديث، لم يكن صاحبَ حديث.
وعند البيهقي في "المناقب" من طريق الربيع: سمعت الشافعي يقول لأبي علي بن مقلاص: تريد تحفظُ الحديث وتكون فقيهًا؟ هيهات، ما أبعدك من ذلك. وقال البيهقي عَقِبَه: وإنما أراد به حفظه على رسم أهل الحديث، من حفظ الأبواب، والمذاكرة بها، وذلك علم كبير، إذا اشتغل به ربما لم يَفْرغ إلى الفقه؛ فأما الأحاديث التي يُحتاج إليها في الفقه، فلا بد من حفظها معه، فعلى الكتاب والسنة بناء أصول الفقه.
وحمل البيهقي قول الشافعي لإسحاق بن راهويه وقد ذاكره: لو كنت أحفظ كما تحفظ، لغلبت أهل الدنيا على هذا، حيث قال: إن إسحاق كان يحفظه على رسم أهل الحديث، ويسْرُد أبوابه سَرْدًا، وكان لا يهتدي لما
(1) في (ط): "يليق".
كان الشافعي يهتدي إليه من الاستنباط والفقه، مع حفظه من الحديث لما كان يحتاج إليه، وكان لشدة اتقائه للَّه عز وجل، وخشيته منه، واحتياطه لدينه، لا يستنكف من الرجوع إلى أهله فيما اشتبه عليه منه وباللَّه التوفيق (1).
وأخبرني الشيخ أبو محمد اللخمي شفاهًا بمكة حرسها اللَّه تعالى، عن أبيه، أن (2) أبا الفتح (3) ابن سيِّد الناس اليَعْمُرِيَّ الحافظ قال -وقد سأله الحافظ شهاب الدين أحمد بن أيْبك عن حدِّ المحدِّث والحافظ- ما نصه: المحدث في عصرنا، وساق ما أسلفته عنه، ثم قال: فإن انبسط في ذلك، وعرف أحوال مَن تقدَّمه وشيوخه وشيوخهم وشيوخ شيوخهم، طبقةً طبقة، بحيث تكون السلامة من الوهم في المشهورين غالبة عليه، ويكون ما يعلمه من أحوال الرواة في كل طبقة أكثر مما يجهله، فهو حافظ.
وأنبأني الإمام أبو محمد النحوي رحمه الله، عن أبي حفص الدمشقي، أنه سمع الحافظ أبا الحجَّاج المِزِّي -وقد سئل عن الحد الذي إذا انتهى إليه الرجل، جاز أن يُطلق عليه الحافظ. فأجاب بأنه يرجع إلى أهل العرف، فقيل له: وأين أهلُ العرف؟ قال: هم قليل، لكن أقلَّ شيء أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبُلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم، ليكون الحكم للغالب، فقيل له: إن هذا عزيز في الزمان، فهل أدركت أحدًا كذلك؟ فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين، يعني الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، ولكن أين الثريا من الثرى؟ فقيل له: هل كان يصل إلى هذا الحد؟ فقال: ما هو إلا أن كان يشارك (4) مشاركةً جيدة في هذا، أعني الأسانيد، وكان في المتون أكثر لأجل الفقه، والأصول.
(1) عبارة: "وباللَّه التوفيق" من (ب).
(2)
"أن" ساقطة من (أ).
(3)
في (ط): "أبا القاسم"، خطأ.
(4)
في (ب): أن يشارك.
وقال الحافظ شمس الدين ابن (1) ناصر الدين في "شرح منظومته في الحفاظ": وهو -أي الحافظ في المتأخرين- المكثرُ من الحديث حفظًا ورواية. المتقن لأنواعه ومعرفة رواته درايةً، المدرك للعلل، السالم -في الغالب- من الخلل. قال: وأقلُّ محفوظ المحدثين عند المتقدمين، وساق قول أبي بكر بن أبي شيبة الماضي في المحدث.
وقرأت بخط صاحب الترجمة رحمه الله ما نصه: للأئمة شروط، إذا اجتمعت في الرَّاوي سموه حافظًا، وهي: الشهرة بالطلب، والأخذ من أفواه الرجال لا من الصُّحُف، والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم، والمعرفة بالتجريح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم، حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره، مع استحضار لكثيرٍ من المتون، فهذه الشروط إذا اجتمعت في الراوي سمَّوْهُ حافظًا.
وقال في موضع آخر -وقد وقف على قول أبي الفضل السليماني في آخر كتابه "الحث على طلب الحديث": الحديث أصل، والفقه فرع، والعالمُ من يعرف الإسناد والمتن؛ مثل: مالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. والفقيه: الذي يعرف المتن، ولا يعرف الإسناد، مثل: أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والشافعي، والمُزني. والحافظ: الذي يعرف الإسناد ولا يعرف المتن؛ مثل: الأعمش، وشعبة، والقطان، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني- ما نصه: اصطلحوا بعد ذلك على أنَّ الحافظ: مَنْ يعرف العلل والجرح، وطرق الحديث (2)، والمحدّث: من يعرف الأسانيد، ويفرق بين عاليها ونازلها.
ولشيخه حافظ الوقت أبي الفضل العراقي رحمهما اللَّه تعالى في ذلك كلامٌ حسنٌ كتب به يليه، وقد سأله عن الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمان الآخر، استحق أن يُسمَّى حافظًا، وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها الحافظان أبو الحجاج وأبو الفتح في ذلك لنقص
(1)"ابن" ساقطة من (ب).
(2)
في هامش (أ) ما نصه: بلغ مطالعة.
الزمان أم لا؟ فأجابه بما نصه كما قرأته من خطه:
الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غَلَبَةِ الظنِّ في وقتٍ ببلوغ بعضهم للحفظ وغلبته، يعني بنقصه في وقت آخر، وباختلاف مَنْ يكون كثير المخالطة الذي يصفه بذلك، أو قليل المخالطة، ومن ذلك اختلاف المتقدمين أيضًا في التوثيق والتجريح، حتى يقع في الشخص الواحد اختلاف في توثيق واحد أو جرحه، كالإمام أحمد، ويحيى بن معين، وابن حبان، فذكر جماعة في "الضعفاء"(1) وذكرهم في "الثقات". وقد يتساهل بعضهم في التوثيق، كالحاكم وابن حبّان، وقد يُشدّد إما باعتبار اشتراط أوصافٍ لم يشترطها بعضهم، وكلام الحافظ أبي الحجاج المزِّي في ذلك فيه ضيق، بحيث إنه لم يُسَمِّ ممن رآه (2) بهذا الوصف إلا الدمياطي.
وأما كلام أبي الفتح اليعمري. فهو أسهل (3): بأن ينتشط بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه، وما فوق، ولا شك أن جماعة من الحفاظ المتقدمين كانوا شيوخهم التابعين أو أتباع التابعين. وشيوخ شيوخهم الصحابة أو التابعين، فكان الأمر في ذلك الزمان أسهل باعتبار تأخر الزَّمان، فإن اكتفي بكون الحافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه، أو طبقةً أخرى، فهو سهل لمن جعل فنَّه ذلك دون غيره مِنْ حفظ المتون والأسانيد، ومعرفة أنواع علوم الحديث كلها، ومعرفة الصحيح مِنَ السقيم، والمعمول به من غيره، واختلاف العلماء، واستنباط الأحكام، فهو أمر ممكنٌ، بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر، فإنه يحتاج إلى فراغٍ، وطول عمر، وانتفاء الموانع.
قلت: ويقرُب مِنْ كلام أبي الفتح ابن سيد الناس في تسهيل الأمر في مَنْ يُطلَقُ عليه الحافظ: قول الحافظ الزكي المنذري: قلت للحافظ أبي الحسن المقدسي -هو ابن المفضّل-: أقول: حدثنا القاسم بن علي الحافظ، بالكسر نسبةً إلى والده؟ فقال: بالضَّمِّ؛ فإني اجتمعت به بالمدينة،
(1)"الضعفاء" ساقطة من (أ).
(2)
من قوله: "بحيث كانت له معرفة. . . " ص 77 إلى هنا سقط من نسخة (ح).
(3)
"أسهل" ساقطة من (ب).
فأملى عليَّ أحاديثَ مِنْ حفظه، ثم سيَّر إليَّ الأصول، فقابلتها، فوجدتها كما أملاها، وفي بعض هذا يُطلق عليه الحفظ، لكن قال الحافظ الذهبي عقب حكايته: وليس هذا هو الحفظ العُرفي.
ثم قال العراقي: وقد وقفت على كلام للزُّهريِّ يدلّ على قلَّة مَنْ يُوصفُ بالحفظ، ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، في ترجمة الوليد بن عُبيد اللَّه، فقال: روي عن الزهريّ أنه قال: لا يُولَدُ الحافظ إلا في كل أربعين سنة، روى عمار بن رجاء عن محمد بن بشير بن عطاء بن مروان الكندي [عنه. هكذا في نسختي من "الجرح والتعديل"، ولعله عن محمد بن بشير بن مروان الكندي](1). هكذا ذكره ابن الجوزي في "الضعفاء" والذهبي في "الميزان"، قال فيه يحيى: ليس بثقة، وقال الدارقطنيُّ: ليس بالقويِّ في حديثه، فعلى هذا لم يصح هذا الكلام عنه، [وعلى تقدير صحته عنه](2)، فيكون المراد رُتبة الكمال في الحفظ والإتقان، وإن وُجد في زمانه مَنْ يُوصَفُ بالحفظ، [وكم من حافظ](3) وغيرُه أحفظ منه. انتهى.
وقد ظفرت بما يُستأنس به لما رُوي عن الزهري من حديث الزهري نفسه، فذكر أبو عبيد اللَّه المرزُبانيُّ عن أحمد بن محمد العَرُوضي أن أبا مُحَلِّم كان يقول: لزمتُ ابن عيينة، فلم أفارق مجلسه، فقال لي: أراك حَسَن الملازمة. ولا أراك تحظى من ذاك بشيء؛ لأنك لا تكتب، فقلت: أنا أحفظ، قال: فكلّ ما حدثتُ به حفظته؟ قلت: نعم، فأخذ دفتر إنسانٍ بين يديه، فقال لي: أعِدْ عليَّ ما حدثت به اليوم، فما أخرمْتُ منه حرفًا، فأخذ مجلسًا من الماضي، فأمررته عليه، فقال: حدَّثنا الزهري عن عكرمة، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: يقال: إنه يُولَدُ في كل سبعين سنة من يحفظ كل شيء، قال ابن عُيَينة: أراك صاحب السبعين. انتهى.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (أ، ط).
(2)
و (3) ما بين حاصرتين ساقط من (أ).