الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فليس ذلك مِنْ شكر العلم، واللَّه المستعان.
[شرح البخاري للعيني]
وقرأتُ بخطه أيضًا: "شرح البخاري" لبدر الدين العيني. أخذه من "فتح الباري" لابن حجر، ونقص منه وزاد فيه قليلًا، ولكن أكثرَهُ يسوقُه بحروفه، الورقةَ والورقتين وأقلَّ وأكثر، أو يعترض عليه اعتراضاتٍ واهية (1).
قلت: وقد بيَّنها صاحبُ الترجمة في مصنَّفه "انتقاض الاعتراض"، رحمهم الله أجمعين.
[مصنفات المقريزي]
وقرأت بخطه أيضًا في ترجمة الأديب المؤرخ الشهاب أحمد بن الحسن بن عبد اللَّه بن طوغان الأوحدي ما نصه: اعتنى بعمل خُطط القاهرة، ومات عنه مسوَّدة، فبيَّضه الشيخ تقي الدين المقريزي.
قلت: وكذا عَمل في "تاريخ مصر" للقطب الحلبي، فإنَّه لم يبيض منه غيرَ المحمدين وبعض الهمزة، فأخذ المسوَّدة بتمامها، ولخَّص تراجمها، ولم ينسُب له -فيما رأيتُ- ولا الترجمة الواحدة.
[قوة الاستحضار حال القراءة والدَّرس]
وكان رحمه الله، لسعة حفظه ووفور استحضاره، لا يمتنع مِنْ كتابة الفتاوى، بل والتَّصنيف وغيره في حالة الإسماع، كما أشير لشيء مِنْ ذلك في الباب الثاني. ويَردُّ مع ذلك على القارىء السَّقطَ في السَّند، والتحريفَ فيه، وفي المتن، وأمرُهُ في ذلك أجلُّ من أن يذكر.
ولقد حكى لي قاضي القضاة البدر ابن التَّنَسي المالكي رحمه اللَّه تعالى، قال: كنت آتيه للقراءة عليه، فلا أراه يترُكُ الكتابة حين قراءتي، فعل
(1) في (أ): "وتعرض عليه اعتراضات".
ذلك معي مرارًا. فقلت في نفسي: أنا أجيءُ مِنَ المكان البعيد، وهو لا يعبأ بي، فعسى أن يحصُل خللٌ أو تحريفٌ، وصِرْتُ في ألَمٍ بذلك. فأضمرتُ في نفسي يومًا أنَّني أتعمَّدُ إسقاط شيءٍ أمتحنُه به، ففعلت ذلك. فبمجرَّدِ أن مررتُ فيه، رفع رأسه وقال: أعِدْ، فأعدت القراءة على الصَّواب، فأطرق (1)، وعلمت أنه غيرُ غافلٍ عني.
قلت: ورأينا منه العجب في ذلك.
وقد قال الخطيب في "تاريخ بغداد": حدثني الأزهري، قال: بلغني أن الدارقطني حضر في حداثته مجلس إسماعيل الصّفار، فجلس ينسخُ جزءًا، والصَّفار يُملي، فقال له رجل: لا يصِحُّ سماعُك وأنت تنسخُ. فقال الدارقطني: فهمي للإملاء خلافُ فَهْمِك. تحفظ كم أملى الشيخ؟ فقال: لا. قال: أملى ثمانية عشر حديثًا، الحديث الأول: عن فلان عن فلان، ومتنه كذا. والحديث الثاني: عن فلان عن فلان، ومتنه كذا. ثم مرَّ في ذلك حتى أتى (2) على الأحاديث، فتعجب النَّاس منه، أو كما قال.
وحكى العماد ابن كثير عن شيخه المِزِّيّ أنَّه كان يكتب في مجلس السماع ويَنْعَس في بعض الأحيان، ويرُدُّ على القارىء ردًا جيدًا بيِّنًا واضحًا، بحيث يتعجَّبُ القارىءُ ومَنْ حضر.
وحكى ذلك الذهبيُّ أيضًا في ترجمته مِنَ "الحفَّاظ" فقال: وكان يطالع وينقُل الطِّباقَ إذا حدَّث، وهو في ذلك لا يكادُ يخفى عليه شيْءٌ ممَّا يقرأ، بل يَرُدُّ في المتن والإسناد ردًا مفيدًا، يتعجَّب منه فُضلاءُ الجماعة.
قلت: وهكذا كان صاحبُ الترجمة كما تقدم، بل ربما قُرىء عليه بعد العشاء وهو ناعس، فيرُد أيضًا، وإن لم يكن أهل الحديث يتركونه يتمادى في النُّعاس.
ومن أظرف ما رأيتُه في ذلك: أنَّ بعضَ طلبته مِنْ أصحابنا رآه مُطْرِقَ
(1)"فأطرق" ساقطة من (ب).
(2)
في (أ): "مرَّ".
الرَّأس، فتوهم أنَّه ناعسٌ، فأخذ يضربُ الأرض بمفتاحه مرَّةً بعد أخرى، وأكثرَ مِنْ ذلك، وصاحبُ الترجمة ينظرهُ، وهو يبالغ في ذلك، ولا يرفَعُ رأسه، إلى أن زاد، فعند ذلك قال له: يا أخي، ما مِنْ ضربةٍ إلا وأنا أراها بعيني، أو كما قال. وهذا لسَعَةِ حلمه وعلمه بأحوال الطَّلبة.
وممن بلَّغني عنه مِنَ المتأخرين أنَّه كان يقرِّر "شرح الألفية" لابن المصنِّف وهو ناعسٌ، لشدة إتقانه للفن، الشَّيخُ العارف باللَّه تعالى شمس الدين البوصيري، كما أخبرني بذلك تلميذُه شيخُ المذهب الحنبلي العزُّ العسقلاني.
وقد قال الرافعي رحمه الله في "أماليه": كان أبو الحسن الطالقاني شيخُنا ربما قُرِىءَ عليه الحديثُ وهو يصلِّي، ويصغي إلى ما يقول القارىء، وينبِّهُه إذا زلَّ، يعني بالإشارة. انتهى.
وكذا حُكي عن الدَّارقطني، قال الصُّوري: سمعت رجاء بن محمد يقول: كُنَّا عند الدارقطني وهو يصلي، فقرأ القارىء "نسير بن ذعلوق" فغيَّره "يسير" فسبَّح الدارقطني، فقال القارىء:"بشير" فتلا الدارقطني: {ن وَالْقَلَمِ} .
وحكى حمزةُ نحوها، لكن قال: إنَّ القارىء قرأ عمرو بن سعيد، فسبَّح الدارقطني، [فوقف القارىء](1)، فقرأ الدارقطني:{يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ} .
قلت: والنَّاس في ذلك متفاوتون؛ وأعلاهم رُتبة ما يُعزى لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنَّه أصيب بسهمٍ في بعض الحُروب، فجذب السَّهمَ، وبقي النَّصلُ في عُضوه، فقيل له: إن لم يخرج العضو لا يمكن إخراجُ النَّصلِ، ويُخاف مِنْ إيذائك، فقال لهم: إذا اشتغلتُ بالصلاة فاستخرجوه (2)، ففعلوا ذلك، ولم يشعر به. فإنَّه لمَّا فرغ مِنْ صلاته، قال:
(1) ساقطة من (أ).
(2)
في (أ): "فأخرجوه".
لِمَ لَمْ تستخرجوا (1) النَّصل؟ فقالوا: قد فعلنا.
ونحوه ما حُكِيَ عن عُروة بن الزُّبير رضي الله عنهما، أنَّه حصلت له أَكِلَةٌ، فأشير بقطع العُضو. وفُعِلَ ذلك وهو في الصَّلاة، فما تضوَّر وجهُه، وهذا لشدة الخشوع.
إذا عُلِمَ هذا، فلم يكن صاحبُ الترجمة بالمتشدِّد في الإسماع، بل كان -كما حكاها ابن كثير عن المِزِّي- يحضرُ عنده مَنْ يفهم ومَنْ لا يفهم. والبعيدُ مِنَ القارىء، والنَّاعس والمتحدِّث، والصبيان الذين لا يضبط أحدهم، بل يلعبون (2) غالبًا، ولا يشتغلون بمجرَّد السماع، ويكتب للكلِّ بحضور المِزِّي السماع.
ثمَّ قال ابنُ كثير: وبلغني عَنِ القاضي التَّقيِّ سليمان بن حمزة، أنَّه زُجر في مجلسه الصِّبيان عَنِ اللَّعب، فقال: لا تزجرُوهم، فإنَّا إنَّما سمعنا مثلهم.
وكفى بهذين الإمامين (3) سلفًا، بل فعلُه هو حجة لغيره.
ولو تتبعت مَنْ جرى مجراهم في ذلك، لخرجتُ عن المقصود، لا سيما وقد أوضحتُ المسألة في "حاشية الألفية وشرحها"، واللَّه الموفق.
وقد سُئِلَ عمَّن يحضُر مجلسَ الحديث ممَّن لا يفهم العربي، أيكتُب له حضورٌ أو سماع؟ فقال: سماع.
ومِنْ سَعَةِ حفظه: أنَّه حضر ليلةً مِنْ ليالي رمضان بجانب الحاكم للصَّلاة خلف ابن الكُويز، إذ صَلَّى للناس التراويح عقب ختمه القرآن على جاري عادة الأولاد. فجلس بجانب المحراب ينتظر مجيء المذكور، وكان الشيخُ شهابُ الدين بن أسد يقرأ في "الترغيب والترهيب" للمنذري للجماعة الحاضرين إلى أذان العشاء. فلمَّا انتهت القراءةُ ثمَّ الصلاة، ومشي القاريءُ
(1) في (أ): "تُخرجوا".
(2)
في (أ): "لا ينضبط أحدهم بل يلقنون".
(3)
في (أ): "بهذا الإمام".
المذكور في خدمته مع الجماعة. قال له شيخنا: يا شيخ شهاب الدين، سقط مِنْ نسختك حديثُ كذا، حديث كذا. فقال: واللَّه يا مولانا شيخ الإسلام، بل حذفتُ ذلك عمدًا، لعدم إتقاني للفظهما (1) الساعة، وما تيسَّر لي قبلَ المجيء تحريرُهما فسكت.
حكى لي ذلك الشيخ شهاب الدين الحجازي، واستغرب ذلك، والأمرُ وراء هذا:
نزلوا بمكة في قبائل نَوْفَلٍ
…
ونزلت بالبيداء أبعدَ منزلِ
رحمه الله وإيانا.
(1) في (ب): "لحفظهما".