الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[التواضع في طلب العلم:]
وبالغ حتَّى كتب عَنْ تلميذه البقاعي وفاة التقيِّ الحصنيِّ الفقيه (1) الشافعي، لكنه لأجل بيان غلطه، فإنَّه قال ما نصه: ذكر لي رفيقنا -يعني في السَّفر- برهان الدين إبراهيم بن حسن البقاعي أنَّ الشيخ تقيَّ الدين الحِصني الفقيه الشافعي الأشعري مات بدمشق سنة ثمان وعشرين، وكان عالمًا زاهدًا، كثيرَ النَّفع للطلبة، والحط على الحنابلة، خصوصًا مَنْ ينتحل مقالة الشيخ تقي الدين ابن تيمية. انتهى.
وتعقَّبه بقوله: ثم تحرَّر لي أنَّه مات سنة تسع وعشرين.
قلت: وتنبَّه المذكورُ -وهو منسوب لجده- لذلك، فإنني قرأتُ بخطه (2) أنَّه مات في ليلة الأربعاء منتصف جمادى الآخرة سنة تسع، واللَّه الموفق.
وكتب أيضًا عن صاحبي محدِّث حلب الآن أبي ذر ابن شيخ الإسلام رحمه الله فيمن اسمه إلياس، بعد أن قال ما نصه، وكان قد ولع بنظم المواليَّا:
لك طرف أحور حوى رِقِّي غنج نعَّاسْ
…
وقَدّ قَدِّ القنا أهيف نضر ميَّاسْ
ريقتك ماء الحيَا يا عاطر الأنفاسْ
…
عِذارك الخِضر يا زيني وأنت إلياسْ
وأعلى من هذا كلِّه: قولُه في ترجمة رتَن من كتابه "الإصابة": وجدتُ بخط عمر بن محمد الهاشمي، وذكر شيئًا. فإنَّ عمرَ هذا هو صاحبنا محدث مكة نجم الدين بن فهد، دام النفع به.
ونَقْلُه في كتابه "تعجيل المنفعة"(3) عن بعض تلامذته، وهو حفيدُ (4) الحسيني مصنف "التذكرة" أصل "تعجيل المنفعة"، حيث قال
(1)"الفقيه" ساقطة من (ح).
(2)
"بخطه" من (ح) بخط المؤلف.
(3)
ص 56.
(4)
في (أ): "حينئذٍ"، تحريف.
في أيوب الحارثي ما نصه: أغفله الحسينيُّ في "الاحتفال" وفي "التذكرة"، وكذا الحافظان الهيثمي وأبو زُرعة، ونبَّهنَا عليه الشريف المحدِّثُ الفاضلُ عز الدين حمزة بن أحمد بن علي ابن مصنف "التذكرة" الحافظ شمس الدين الحسيني، فبحثتُ عنه، فوجدت حديثه أخرجه أحمد. انتهى.
وأما روايته عن قاضي الحنابلة شيخ المذهب عز الدين الكناني، حيث قال في خُطبة كتابه "رفع الإصر عن قضاة مصر" عقب منظومة ابن دانيال ما نصه: قد ذيّل عليها بعضُ أصحابنا إلى عصرنا هذا، فسرد الشافعية على منوال ابن دانيال، ثم سرد القضاة الثلاثة مذهبًا بعد مذهب إلى عصرنا. وهذا صورة ما نظم: أنشدنا العز أحمد بن إبراهيم العسقلاني لنفسه مكاتبة، وساق ذلك فأعلى من سائر ما تقدم وأجلَّ. ومن أدبه أنه حذف من المنظومة المشار إليها ما يتعلق بمدحه.
وكذا نقل عنه شيئًا في ترجمة شيخي بالإجازة قاضي الحنابلة المحب أحمد (1) بن نصر اللَّه [البغدادي، فقال: قرأت بخط العز ابن البرهان بن نصر اللَّه](2)، وافق القاضي محب الدين عمِّي موفق الدين يعني: الذي قبله، في اسمه واسم أبيه وجده ومذهبه ومنصبه وسكنه بالصالحية. قلت: وفارقه في اللَّقب وأصل البلد والنسبة إلى الجد الأعلى، وطول المدة، وسعة العلم والتبسط في بيع الأوقاف، ونحو ذلك. انتهى.
وكان شيخُنا كثير الإجلال للعز المذكور؛ حتى قال في ترجمة أبيه من كتابه المذكور ما نصه: وأنجب البرهان ولده عز الدين أحمد، ففاق سلفه في سعة العلم ومعرفة الأدب، وناب في الحُكم، ثمّ تركه تعفُّفًا وتنزهًا، ودرَّس في عدة أماكن، أمتع اللَّه ببقائه.
وكان إذا سئل عن شيء مما يتعلَّق بمذهبهم، يكتب بخطه على
(1) ساقطة من (ب).
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ب).
السُّؤال: يُسأل عنها عالمُ الحنابلة القاضي عزّ الدين.
وكل هذا استطراد، لكنه أدلّ دليل على محبَّة صاحب الترجمة في العلم وأمانته، حيث ينسب كلَّ شيء إلى قائله، ولو كان من تلامذته. رحمه الله وإيّانا.
وسيأتي في الفتاوى الدمشقية مِنْ أواخر الباب السادس نقله في بعضها عن العلاء ابن خطيب الناصرية شيئًا في ترجمة التوربشتي (1).
وقد روينا في "الوصية" لأبي القاسم بن منده من طريق خارجة بن مصعب أنه قال: مَنْ سمع حديث مَنْ هو دونه، فلم يروه، فهو مراءٍ.
وفي "المدخل" للبيهقي من طريق العباس بن محمد الدَّوري، سمعت أبا عُبيد القاسم بن سلام يقول: إن من شُكرِ العلم أن تقعُدَ مع قوم فيذكرون شيئًا لا تُحسنه، فتتعلمه منهم، ثم تقعد بعد ذلك في موضع آخر، فيذكرون ذلك الشيء الذي تعلَّمتَه، فتقول: واللَّه ما كان عندي شيءٌ، حتَّى سمعت فلانًا (2) يقول كذا وكذا، فتعلمته. فإذا فعلت ذلك، فقد شكرت العلم (3).
وقد (4) نقل إمامُ الحرمين في الوصية مِنْ "نهايته" عن تلميذه أبي نصر بن أبي القاسم القُشيري شيئًا، فقال: التاج السُّبكي (5): إنّه أعظم ما عَظُمَ به أبو نصر، وهو فخارٌ لا يعدِلُه شيء.
(1) وردت هذه الفقرة هنا في هامش (ح) بخط المصنف، ووردت بعد التي تليها في (ط)، ووردتا معًا بعد قوله:"ونحوهم من هذا النوع" الآتي في الصفحة التالية. وسترد ترجمة التوربشتي في 2/ 913.
(2)
في (ط): "قائلًا".
(3)
وفي ذلك يقول أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن حسن الباجسرائي، كما في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/ 87:
إذا أفادك إنسانٌ بفائدةٍ
…
من العلوم فأدْمِنْ شكره أبدا
وقل: فلانٌ جزاه اللَّه صالحةً
…
أفادنيها، وألْقِ الكِبرَ والحسدا
(4)
من هنا إلى قوله: "في العلم وكفره" لم يرد في (ب).
(5)
في طبقات الشافعية الكبرى 5/ 162.
وكذا نقل الجمالُ الإسنوي في "مهماته" عن الزين العراقي شيئًا، مع كونه تلميذه، إلى غير ذلك مما بسطتُه في غير هذا المحل، مع ما اتفق لي مع كثيرٍ من شيوخي ونحوهم من هذا النوع، [ولذا رفع اللَّه أعلامهم ودفع بهم عن أول الابتلاء أسقامهم](1).
وصحّ عن سفيان الثَّوريِّ أنه قال ما معناه: نسبة الفائدة إلى مفيدها مِنَ الصِّدق في العلم وشُكره، وأن السكوت عن ذلك مِنَ الكذب في العلم وكُفْره] (2).
ووصل إلى الشام في النصف مِنْ شعبان، فنزل بالمدرسة العادلية الصُّغرى، فلما كان يوم الثلاثاء سادس عشرة، عقد مجلس الإملاء بجامع بني أُمية، فاستملى عليه برهانُ الدين إبراهيم العجلوني أحد تلامذة ابن ناصر الدين، وأظنُّ أنَّ ذلك بسفارته، وإلا فالرجل ليست فيه هذه الأهلية، أو لعدم اختلاط شيخنا به مشى أمرُه عليه. على أني قد رأيتُه وصفه بصاحبنا، بل كتب مرةً مِنْ أجلي إليه كتابًا وصفه في عوانه بالحافظ.
وحضر الإملاء المذكور شيخُ المستملي المشار إليه، وهو الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين شيخ الحديث بالديار الشامية وأكرمه (3) المُملي غاية الإكرام، حتى قال: يقبُح بنا أن نتكلَّم بحضرتك. ومِنْ قضاة مصر، المالكي، والحنبلي، ومن قضاة الشام: القاضي شهاب الدين ابن الكشك، والقاضي المالكي، والتَّقيَّان: ابن قاضي شهبة فقيه الشام، والحريري، وجمع وافر مِنَ الأعيان والفضلاء والطلبة.
وأملى في هذا المجلس "الحديث المسلسل بالأولية"، ثم حديث ابن عباس رضي الله عنهما "احفظ اللَّه يحفظك"، ثم حديث ابن مسعود رضي الله عنه "نضر اللَّه أمرأً" والكلام عليهما (4).
(1) وردت هذه العبارة في (ط) بعد قوله: "في غير هذا المحل".
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ط).
(3)
في (ب): "وأكرم".
(4)
في (ب، ط): "عليها".
وأقاموا بالشام إلى العشرين منه، ثم رحلوا. وسمع في مدة إقامته بها، لكن في عوده إلى القاهرة [في ثاني عشري ذي الحجة](1) على المسندة عائشة ابنة إبراهيم بن خليل بن الشَّرائحي أخت الحافظ جمال الدين، "المسلسل بالأولية"، و"منتقى الذهبي من مشيخة الفخر ابن البخاري"، حيث أحضرها إلى عنده صاحبُنا الشيخ نجم الدين عمر بن فهد الهاشمي، بسؤال صاحب الترجمة له في ذلك. وكذا سأله في إحضار أبي الفرج ابن ناظر الصَّاحبة، لكنه ما تيسَّر له حينئذٍ وجودُه، كان مختفيًا مِنْ ديْنٍ عليه خشية طلبه من السلطان.
ولما قدمت عائشة على صاحب الترجمة، أكرمها وأجلسها على بساطه الذي يُصلِّي عليه، لكونها مِنْ بيت الحديث.
وهكذا كانت طريقته في تواضعه، قدم عليه حينئذٍ أيضًا الشيخ عبد الرحمن أبو شَعَر (2) فخرج لتلقِّيه مسرعًا إلى باب القاعة. وسمعت عنه أنه كان يقبِّل يد الشهاب الكلوتاتي في بعض الأحايين إذا لقيه، كما سيأتي الإلمامُ بشيء مِنْ ذلك في الباب السابع.
وروى هو لأهل الشام "جزء أبي الجهم"، سمعوه عليه بقراءة بن ناصر الدين حافظهم الماضي، وامتنع مِنَ التَّحديث به، إلا إن ساق القارىءُ أيضًا سنده فيه. فأجاب: لكنه اقتصر على بعض شيوخه فيه، ولم يستوعب أدبًا.
وكذا سمع على يحيى بن يحيى القِبابي (3)، وغيره بدمشق في ذي الحجة، وكتب عن ابن عرب شاه الذي كتبت عنه مِنْ نظمه قصيدةً في مدح صاحب الترجمة. وأشياء بالقابون التحْتاني شيئًا مِنْ نظمه.
(1) ما بين حاصرتين لم يرد في (ب).
(2)
في (ح)"أبو شعرة"، وانظر ترجمته في الضوء اللامع 4/ 82.
(3)
في الأصول: "القباني"، تحريف. وانظر ترجمته في الفيء اللامع 10/ 263 وفيه: القبابي -بموحدتين- نسبة إلى القباب، قرية من أشموم الرمان من الشرقية.
وتوجَّهُوا إلى حلب، فوصل (1) إلى حماة، فكتب بها عن شاعرها التقى ابن حَجَّة الحنفي أشياء مِنْ نظمه، وعن الشيخ نور الدين علي بن يوسف بن مكتوم الشيباني "جزءًا" فيه عشرة أحاديث من "عشرة الحدَّاد" وغيرها، وكذا عن الشمس محمد بن أحمد بن أبي بكر الحموي ابن الأشقر حديثًا من "البخاري".
وإلى حمص، فكتب بها عن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن القوَّاس المخزومي، عن شيخه ابن زَهرة حديثين سمعهما مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في المنام، وحكاية عن البِسَاطي بتلِّ السُّلطان.
ولمَّا أشرفُوا على حلب تلقَّاهم أهلها، فكان من جملة مَنْ لقِيَ صاحبَ الترجمة: العلامة محب الدين ابن الشِّحنة، فسلم عليه، وهنأه بالسَّلامة، وسأله شيخنا عَنِ الشيخِ الحافظ محدِّث البلاد الحلبية برهان الدين سبط ابن العجمي، فذكر له أنه بخير، فقال له: لم أشدَّ الرحل، ولا استبحت القَصْر إلا للقيِّه. فرحمه اللَّه. ما أوفر ديانته وتواضعه، ورياسته.
ودخلوها في خامس شهر رمضان، فنزل شيخُنا عند قاضي الشافعية بها العلامة علاء الدين ابن خطيب الناصرية، فأقاموا بحلبَ خمسةَ عشرَ يومًا، وفي أول يوم منها سمع على البرهان المشارِ إليه "الحديث المسلسل بالأولية" بقراءة برهان الدين البقاعي، ومرَّ في سنده من أسماء شيوخه علي ابن الهبل. قال شيخنا: فراجعتُه، فأصرَّ. ثم وجدته في "ثبته" بخطه كذلك في مواضع، وهو غلط. إنَّما هو حسنُ بن أحمد بن هلال، وكذا وجدته في "ثبته" بخط الياسوفي في الاستدعاء الذي فيه اسم صاحب "الثبت" على الصواب، ووقفت الشيخَ عليه، فرجع وللَّه الحمد.
وقرأ صاحب الترجمة بنفسه على المذكور "مشيخة الفخر ابن البخاري" تخريج ابن الظاهري في أربعة مجالس من بعد صلاة العصر في كل يوم إلى
(1) في (ط): "فوصلوا".
وقت الغروب، آخرها في أواخر ذي القعدة، لكونه لم يكن يروي منها بالسماع غير منتقى منها، بسماع البرهان لها على الصلاح ابن أبي عمر، عنه.
والعجب أنَّه لم يكن بحلب من "المشيخة" نسخة، فجهز شيخنا مَنْ أحضرها له مِنْ دمشق، كما اتفق لي في "سنن الدارقطني" أُحضِرَت لأجلي من الشَّام إلى حلب مع بعض السُّعاة. ولما حضرت المشيخةُ، قال للبرهان -كما قرأته بخط والده-: أقرأتها على الصلاح أم سمعتها؟ فقال له في الجواب: ومَنْ كان يقرأ لي؟ قال: ثم كان الوالد يستحيي بعدُ مِنْ هذا الجواب، لما فيه مِنَ الإشعار بالمدح. انتهى.
ولم يكن البرهانُ منفردًا -حينئذٍ - برواية الكتاب المذكور، بل كان بالشَّام غيرُ واحدٍ ممّن سمعه على الصلاح ابن أبي عمر أيضًا. وأحضر بعضهم إلى الديار المصرية بعد ذلك، فحدَّث به، وقرأته على بعض أصحاب الصَّلاح [بل واستمر أصحاب الصلاح](1) حتى كان آخرُهم موتًا في سنة سبعين بعد هذا الأوان بدهر.
وسمع على البرهان أشياء غير ذلك. وسمع بعض "عشرة الحداد" على شيخنا بالإجازة القاضي أبي جعفر ابن الضياء، والشهاب أحمد بن إبراهيم بن العديم، وكتب عن القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية السابق، وغير واحد أشياء من نظمٍ وغيره.
وهكذا كان دأبُه عدمُ التَّحاشي عن التقاط الفائدة والسماع مِمَّن هو أعلى سندًا منه، ولو كان دُونَه في المرتبة، على جاري عادة الأئمة، لا يصدُّه عن ذلك علُوُّ منصبه، بل يتظاهر بفعله، مع إمكان خلاف ذلك.
اتفق أنه أحضر خاتمة المسندين الشهابَ أحمد بن أبي بكر الواسطي، وكان يجلس عند الأميين لمجلس إملائه الحافل بالبيبرسية، فسمع هو وولده والجماعة عليه، وذلك في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وثمانمائة، وكذا
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (أ).
استدعى بالمعمر الفخر عثمان بن أحمد بن عثمان الدَّنديلي، فسمع هو وابنه والجماعة عليه جزءًا في ربيع الآخر سنة ثمان وعشرين، وقرأ بعد ذلك على تِجار ابنة محمد بن مسلم البالسي جزءًا، وسمعه بقراءته سبطه. وكذا استدعى الشيخ يونس الواحي بالمقياس مِنَ الرَّوضة، وأمر بعض طلبته باستصحاب شيءٍ من مروياته، فقُرىء عليه بحضرة جَمْع. لكني ما تحقَّقتُ كونَه فيهم. نعم، رأيته نقل عنه أنَّه سمعه يقول: تركُ العادة عداوة مستفادة. وهو مرويٌّ لنا مِنْ طريق أبي (1) إبراهيم المزني، قال: سمعت محمد بن أبي الليث يقول: قطع العادة عداوة مستفادة.
وكتب عن شيخنا قاضي الحنفية سعد الدين ابن الديري بظاهر شبرا في سنة إحدى وأربعين أشياء من نظمه، سمعته مِنْ ناظمه بعدُ.
وكذا كتب عن القيّم محمد الفالاتي عمّ صاحبنا أحد جماعته قطعةً مِنْ عمله، أثبتها بخطه في "تذكرته"، سمعناها من ناظمها أيضًا، وكذا عن مُعلِّمي ومعلم والدي الشيخ شمس الدين السعودي جارنا ماجريَّةً، إلى غير ذلك مما لو سردته لطال، مع تعذُّرِ استقصائه. رحمةُ اللَّه عليهم أجمعين.
ورأيت بخطه: سمعتُ بعض "الصحيح" من أواخره في كتاب التوحيد مِنْ لفظ علاء الدين علي ابن الخطيب عفيف الدين عبد المحسن الدواليبي بن الخراط، وذكر أنه سمعه على والده، وعلى الشمس الكرماني، وأنه سمع "مسند أحمد" على والده، بسماعه له على جده محمد بن عبد المحسن، وساق شيخُنا السند بخطه، وهو عندي في "المجموع السابع والتسعين". قال: قطعًا (2)، وأفاد أنَّ ابنَ المُذْهِب فاته على القطيعي مسند عوف بن مالك، ومسند فضالة بن عُبيد، وخمسة وثلاثون (3) حديثًا مِنْ مسند جابر وعيّنها، وأن القطيعيَّ فاته على عبد اللَّه ابن الإمام وبيَّض. انتهى.
(1)"أبي" لم ترد في (أ). وهو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني، تلميذ الإمام الشافعي. "السير" 12/ 492.
(2)
ساقطة من (ب، ط).
(3)
في (ب، ط): "وثلاثين"، خطأ.
وابن الدواليبي هذا ضعيف كما سيأتي الإشارة إلى ذلك مِنْ كلام صاحب الترجمة عند إيراد القصائد التي امتدح بها. وقد لقيتُه وأخذت عنه، سامحه اللَّه وإيانا.
وحدث [صاحب الترجمة](1) بحلب هو والبرهان الحلبي معًا باشياء، مِنْ ذلك: كتاب "المحدث الفاصل بين الراوي والواعي" للرامهُرْمُزي قرأه عليهما البقاعي. ونَظَمَ القارىءُ إسنادهما، وزعم -جريًا على عادته فيما يصدُر عنه- أنه لم يُسبَقْ لذلك، كما سمعته من لفظه. وقد سُبِقَ لذلك حتى مِنْ شيخه بقوله: زاهد العصر شهاب الدين (2) ابن رسلان رحمه الله. وكذا الشمس ابن الجزري وغيرهما.
وأملى بمحراب الحنابلة مِنَ الجامع الكبير بها مجلسًا في يوم الثلاثاء خامس عشر رمضان افتتحه "بالحديث المسلسل بالأولية"، حديث الرحمة، وأنشد بعض الحاضرين:
يا رحمةَ اللَّه للمُمْلي بجامعنا
…
حديثَ أشرف خلق اللَّه في القدمِ
دومي عليه برضوانٍ ومغفرة
…
على الدَّوام كمُزنٍ هلَّ بالدِّيَمِ
ورحلوا (3) مع السلطان والعسكر إلى الجسر المعَدّ على الفرات بعد أن استؤذن لكلٍّ مِنَ المالكي والحنبلي في الإقامة بحلب، لعجزهما حسًّا ومعنى، فأذن لهما. بل وأرفد كل واحدٍ منهما بثلاثمائة دينار. كل ذلك بسفارة [المهتار علي](4) الزيبق.
وسمع شيخُنا بظاهر البيرة مِنْ لفظ القاضي كمال الدين محمد ابن القاضي ناصر الدين محمد ابن البارزي صاحب ديوان الإنشاء في يوم السبت
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في (ب، ط): الشهاب.
(3)
في (أ): "ورجعوا".
(4)
ساقطة من (ب، ط).
سادس عشري (1) رمضان "قصيدة الأديب شيخ علي" التي امتدح بها البدر ابن الشهاب محمود، وهي مشهورة، كان الكمال سمِعَها مِنْ ناظمها، وكان صاحب الترجمة أيضًا سمعها قبل ذلك مِنَ القاضي ناصر الدين والد الكمال المذكور، وأولها:
ألا يا نسمة الرِّيحِ
…
قفي أُبديك تبريحي
قفي أسألكِ عَنْ قلبي
…
وإنْ شئتِ أقُلْ رُوحي
قال: وهي طويلة، وقَعَتْ له فيها أشياء مستحسنة، فعرضها الممدوحُ على الشيخ أبي بكر المنجم، فقرَّضَها بأبيات في قافيتها ووزنها، ومدح في آخرها الممدوح المذكور، وأرسلها إليه، فشرع شيخ علي ينتقد فيها أبياتًا يدعي على (2) المنجم فيها الخطأ، فبلغ ذلك المنجم، فناقض القصيدة الأولى بقصيدة مُجونٍ على طريق ابن الحجاج، أجاد فيها إلى الغاية، أولها:
ضُراطُ البغلِ في الرِّيحِ
…
على فرش مِنَ الشِّيحِ
وأذن السلطان لشيخنا في الرجوع، فرجع مع البدر العنتابي إلى بلده عين تاب، فصلَّيا عيد الفطر بها، وكان يوم الخميس. وسمع عليه بظاهرها -قال-: بقراءة رفيقنا -يعني في السفر- ناصر الدين محمد ابن المرحوم شهاب الدين ابن المهندس ثلاثة أحاديث، أحدها من "مسند أحمد"، والآخران من "صحيح مسلم". ثم توجَّها إلى حلب، فدخلاها يوم السبت ثالت شوال، فأقاما بها. وعقد مجلس الإملاء أيضًا في ثالث عشر شوال، فحضره أعيانُ الحلبيين، ومنهم: الشيخ برهان الدين المذكور قبلُ، والعلامة البدر ابن سلامة، وأعيان المصريين، ومنهم: رفيقُه القاضي الحنفي. وقرأ الشمس ابن خليل بجوقته المُطربة، وفُرِّقت الرَّبعة، واستمر يُملِي (3) بها كلَّ يوم ثُلاثاء حتى أكمل ستة مجالس غير الأول. وكان انتهاء إملائه فيها في
(1) في (أ): "عشر".
(2)
"على" ساقطة من (أ).
(3)
"يملي" ساقطة من (ب).
يوم الثلاثاء تاسع عشري (1) ذي القعدة، وكان المستملي عليه في كلِّها تلميذه ورفيقه في السفر القاضي العلامة نور الدين ابن سالم المارديني، لكونه (2) لم يكن معه أجلَّ منه عنده، ولا أحبَّ، مع ما هو متَّصِفٌ به مِنَ اللّين والرفق والتواضع وعدم الدعوى وغيرها.
ورحل منها في غضون ذلك إلى جبرين -قرية مشهورة بشرقِيِّها- فقُرىء بها عليه وعلى القاضي علاء الدين ابن خطيب النَّاصرية كتاب "الأربعين" لابن المجبِّر في يوم السبت سبع عشر شوال (3) روياها معًا عن علي بن إبراهيم بن علي بن يعقوب بن محمد بن صقر الحلبي، فبالسمع: القاضي علاء الدين، وبالإجازة: صاحب الترجمة. لكنه روى لهم أحاديثها مِنَ الأماكن المخرَّج منها بعلُوّ مِنْ حفظه، حتى تعجَّبَ الجماعة.
قلت: وهذا القدر سهلٌ بالنِّسبةِ لعلي مقامه. وقد كنت أسأله عن أسانيدَ، فيكتبها لي بخطِّه مِنْ حفظه.
وبلغني أن الظاهر جقمق أمرَ القاضي وفي الدين السفطي بإسماع عدَّةٍ مِنْ كتب الحديث بالجامع الأزهر، ففعل ذلك، وأمر بإخفاء يوم الختم عَن صاحب الترجمة، خوفًا مِنْ أن يكون هو صاحبَ المجلس، فاتفق أنه علم، فحضر وبقي كلَّما أخذ القارىء -وهو الحاكي لي ذلك -كتابًا يسرُدُ شيخنا سَنده مِنْ حفظه، حتى خُتِمَتِ الكتُبُ كلُّها، فتعجب النَّاسُ، وكاد السفطي -رحمهما اللَّه- أن يُقدَّ غبنًا. والمقام وراء هذا كله.
ومِنَ النُّكت التي عملها مع السفطي أيضًا، وانزعج لذلك، أنَّ شيخنا كان يقدِّمُه في كثير مِنَ المواطن للإمامة لجهورية صوته وفصاحته، وحُسّنِ تلاوته، ومحبَّته لذلك. فاتفق أن السفطي جاء ليعوده مِنْ رمدٍ أصابه، وصاحب الترجمة إذ ذاك متغيِّرُ الخاطر منه. وحضرت صلاةُ المغرب، فتقدم
(1) في (ط): "عشر".
(2)
"لكونه" ساقطة من (أ).
(3)
في (أ): "سبع شوال".
شيخنا وقرأ سورة المرسلات وقد عُلِمَتْ آياتها. وانقضى المجلس، فلم يحتمل السفطيُّ ذلك، وصرّح بحصول نكايته مِنْ خصوص قراءة السورة المشار إليها. وذكرتُ ذلك هنا استطرادًا.
وكتب عن الشرف يحيى بن أحمد بن العطار الموقِّع، وهُما بالزاوية المعروفة بخضر ظاهر حلب في يوم الثلاثاء سادس شوال عن أخيه ناصر الدين حكاية. وقال إن الشَّرف أنشده بالمكان المذكور، قال: أنشدنا شمسُ الدين محمد بن أحمد بن البَردَدَار الحلبي لنفسه قصيدة يهجو فيها الشيخ شرف الدين يعقوب بن جلال التّباني، وهو يومئذٍ وكيل بيت المال وناظر الكسوة.
يا بَنِي التَّبان أنتم
…
أجْوَرُ النَّاس وأخْسَرْ
كسوةَ البيت سرقتُم
…
وفعلتم فعلَ مُنكرْ
هل رأيتم حنفيًّا
…
باع بيتَ المالِ يجهرْ
. . . الأبيات.
وقد سمع صاحب الترجمة مِنَ الشرف أيضًا غيرَ ذلك، فقرأت بخطه بظاهر "معجمه": سمعت بالقرب مِنْ صَرفند مِنْ عمل فلسطين مِنْ لفظ شرف الدين يحيى بن العطار الموقع منامًا رآه، فيلحق في "فوائد الرحلة" في الجزء الرابع. انتهى.
وسمع في حادي عشر شوال على البرهان إبراهيم بن علي بن ناصر الدمياطي، بقراءة ابن سالم جزءًا فيه "منتقى من مسند الحارث"، و"منتقى من العلم لأبي خيثمة"، وذلك بالقرب من السحلولية ظاهر حلب، وكتب عنه أبياتًا مِنْ قصيدة لشيخنا البلقيني، وسمع بالباب وبُزَاعة مِنَ الشهاب أحمد بن أبي بكر بن أحمد بن الرسام شيئًا، وبقرية سَرْبَس في يوم الأحد رابع عشرين ذي القعدة بقراءة ابن المهندس على الزين عمر بن السفاح كاتب سر حلب يومئذٍ حديثًا مِنْ "عشرة الحداد"، ومن لفظ نقيبه الشهاب أحمد بن يعقوب بظاهر النَّبْك حديثًا من "البخاري" بسماعه مِنْ شيخه الزين العراقي.
وعاد إلى حلب، فأقام بها إلى أن رجعتِ العساكرُ، فتوجَّه معهم في يوم السبت سابع ذي الحجة، ووصلوا إلى القاهرة -كما قرأته بخطه- في يوم الأحد العشرين مِنَ المحرم سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، بعد أن خطب صاحبُ الترجمة بالسلطان -إذ أمره بذلك- في جامع بني أُمية يوم الجمعة سابع عشري ذي الحجة في وداع السَّنة، وارتحلوا مِنْ دمشق في اليوم الذي يليه، وهو السبت، ووصلوا غزة يوم الثلاثاء ثامن (1) المحرم، وارتحلوا منها بعد يوم الخميس عاشر المحرم.
وكان قد علَّق بخطِّه في حال إقامته بالشام وحلب أشياء كثيرةً جدًّا، تزيد على مجلدين، فمن ذلك: أنه انتقى من "شرح البخاري" للحافظ برهان الدين الحلبي مجلدًا، وانتقى "تاريخ قزوين" للرافعي المسمى "بالتدوين"، وانتقى "زوائد الألغاز للغَزِّي" ولخص "ثبت البرهان الحلبي"، وطالع "تاريخ العلاء ابن خطيب الناصرية"، إلى غير ذلك مما لا يمكنني ضبطه. وقُرئَتْ عليه هناك أشياء كثيرةٌ روايةً ودرايةً، فمن الرواية:"مسند الشافعي"، ومن الدراية "شرح التحفة"، وسمعته يقول: استفدت في هذه الرحلة أن اسم أبي عُمير بن أبي طلحة حفصٌ، نقلته من كتاب "فاضلات النساء" لابن الجوزي، وألحقته في الأدب مِنَ الشرح. ولم يكن صاحب الترجمة وقف على الكتاب المذكور قبل ذلك، بل أرسل الشيخ برهان الدين الحلبي إلى مَنْ هو عنده مِنْ أهلِ حلب، فأحضر إليه وهو المنبِّه له على ذلك أولًا. وكان رحمه الله يقول: لم أستفد مِنَ البرهان المذكور غيرَ ذلك.
ورافقه في هذه السفرة قريبُه شعبان، ونقيبه الشهاب ابن يعقوب، وموقِّعُه ناصر الدين ابن المهندس، وخصيصه مِنْ تلامذته القاضي نور الدين ابن سالم، وأحد تلامذته: البقاعي. وغيرهم مِنَ الأتباع.
وبيَّن في هذه السفرة بسائر البلاد التي اجتاز بها فساد ما بثَّه الشمس
(1) في (أ): "من المحرم".
محمد بن أحمد الفُرَّياني المغربي من الأسانيد المركَّبة المختلقة في تلك النواحي، ورجع كثيرٌ عن الرواية عنه.
والمذكور -كما قال شيخنا في حوادث سنة ثمان وأربعين من "أنباء الغمر"(1) فيه- أطنب الجَوَلَانَ في قرى الرِّيف الأدنى، يعمل المواعيد، ويذكِّرُ النَّاسَ، وكان يستحضر مِنَ التاريخ والأخبار الماضية شيئًا كثيرًا، ولكن كان يخلِطُ في غالبها، ويدَّعي معرفة الحديث النبويِّ، ورجال الحديث، ويبالغ في ذلك عند مَنْ يستجهله، ويقصر في المذاكرة بذلك عند من يعرف أنه مِنْ أهل الفن، وراج أمرُه في ذلك دهرًا طويلًا. وذكر أنه وليَ قضاء نابلس، وأنَّه توجَّه إلى الجبال المقدسة، وأورد شيئًا مِنْ منكر أفاعيله.
وقال قبل ذلك في حوادث سنة سبع وثلاثين (2). إنه تحوَّل شافعيًّا لما وَلِيَ قضاء نابلس. قال: وهو كثير الاستحضار للتواريخ، وكان يتعانى عمل المواعيد بقُرى مصر وبدمياط وبلاد السواحل، وصَحِبَ الناس، وهو حسنُ العشرة، نَزِهٌ عفيف. وقد حدَّث بحلب عن أبي الحسن البطرني، وما أظنُّه سمع منه. فإنه ذكر لنا أن مولده سنة ثمانين ببلده، وكان البطرني بتونس، ومات بعد سنة تسعين. ورأيت له عند أصحابنا بحلب إسنادًا "للمسلسل بالأولية" مختلقًا إلى السِّلَفي، وآخرَ أشد اختلاقًا منه إلى أبي نصر الوائلي، وسُئلتُ عنهما، فبيَّنتُ لهم فسادهما. ثم وقفت مع جمال الدين ابن السابق الحموي على كراسة كتبها عنه بأسانيده في الكتب الستة أكثرها مختلق، وجلُّها مركب، وأوقفني الشيخ تقي الدين المقريزي له على تراجم كتبها له بخطه، كلُّها مختلقة إلا الشيء اليسير، غفر اللَّه لنا وله.
قلت: وقد كان التقي المقريزي كثير الاعتماد على هذا فيما يخبره به مما يتعلق بالتاريخ، من غير إفصاح (3) بالنَّقل عنه على عادته، واللَّه الموفق.
(1) 9/ 226 - 228.
(2)
إنباء الغمر 8/ 304.
(3)
في (أ): "إيضاح".