الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحظٍّ، القويِّ الحافظة في الرِّواية، الذَّكيِّ القريحة في الدِّراية، الضابط لقواعد السند والمتن بالتَّحقيق، العالم بمعاقد الاتصال والانقطاع والتَّعليق. العارف بأسماء الرِّجال وأحوالهم، المطلع على مبدأ أُمورهم ومآلهم. شيخ مشايخ الإسلام إلى دار السلام، أعلى اللَّه درجته في علِّيِّين، وجعل له لسان صدق في الآخرين.
قلت: هذا لعمري حين ذهاب علم الحديث وانقطاع خبره، وزوال طلبه، وانطماس أثره، فقيل: لا. بل ثمَّ علماء أعلام، وفقهاء حكام. وخلف تلامذةً ما بين حفاظ مُتفنِّنين وعلماء متقنين، فقلت مُصِرًّا على الدَّعوى:
حلف الزمانُ ليأتينَّ بمثله
…
حنَثتْ يمينُك يا زمانُ فكفِّر
هلا شققتم مثل ما شقَّ الدُّجا
…
جيبَ الصَّباحِ وشُقّت الأقلامُ
هلَّا لبستم للحداد ملابسًا
…
أو ما النَّجومُ حدادُها الإظلامُ
لا تحسبوا حُزنًا عليه قد مضى
…
للحزن فيه مع الزَّمان دَوامُ
ثم ذكر أسئلته، أدام اللَّه عليه نعمته.
[أبو ذر الحلبي]
ومنهم: محدث حلب الآن، الموفق العلامة أبو ذر ابن شيخ الإسلام البرهان الحلبي، رحمه الله.
فقرأت بخطه كرَّاسةً ترجم فيها صاحب الترجمة، قال فيها: قاضي القضاة بالممالك الإسلامية، إمامُ الأئمة، وعالمُ الأُمة، الشيخ الإمام العالم العلامة، الحافظ الناقد الجهبِذ، خاتمة الحُفَّاظ، حامِلُ راية الإسناد، من لم تر عيناي مثله، بل ولا عينُه في فنِّه.
إلى أن قال: وكتب، وخرَّج، وحصَّل، وأدَّب، وألَّف، واختصر، وسار ذكرُه في الآفاق، وانتشر أمره. وشرح "البخاري" شرحًا عظيمًا، لم
يُشرح "البخاري" مثله. وتلقَّاه النَّاس بالقَبُول، وسارعوا إلى كتابته وقراءته عليه، وطلبَه ملوك الآفاق إلى بلادهم، ويوم فراغه عمل ضيافةً للناس بالقاهرة، وكان يومًا مشهودًا، وبَعُدَ صيتُه، وأملى عدَّة أمالي، وناظر، وأفتى، ودرَّس. وانعقد الإجماعُ على فضله، وانتفع به العلماء من مشايخه في فنِّ الحديث، وسألته، وسمعتُ والدي يقول عند نظره "لمبهمات البخاري" للشيخ جلال الدين البلقيني: هذه الفوائد التي فيه، الظاهر أنَّها مِنْ كلام الشيخ شهاب الدين ابن حجر. فلما اجتمع والدي بالشيخ شهاب الدين المشار إليه، [قال له: إن الشيخ جلال الدِّين] (1) يفسِّرُ مبهمات ويعزوها إلى كُتُبٍ ما أظنُّها عنده، وأنا أقول: إن هذا منك، فقال: نعم.
إلى أن قال ما معناه: رأيته يومًا بحضرة والدي قال يحيى بن أكتم -يعني بالمثنَّاة- فقال له والدي: هو بالمثلثة، واستند إلى ضبط النَّووي له كذلك في "تهذيب الأسماء واللغات"، وكلٌّ منهما صحيح. فقد حكاهما المؤيَّدُ صاحب حماة في ترجمته، قال: وهو الرَّجلُ العظيمُ المبْطِنُ والشَّبعان أيضًا. وسمعته ذكر النَّجم المعروف بالزُّهرة مسكَّن الهاء، فقال له والدي: هو بفتحها، وهو الذي في "التهذيب" أيضًا. بل قال: لا، بإسكانها، وكذا ضبطه في "الجمهرة" بفتح الهاء. وكان يسمع عليه بالمدرسة الشَّرفية وهو يطالع، فيقول للقارىء: سقط لك رجل تارة أو رجلان على قدر ما يتَّفِق، وهما فلان وفلان، أو فلان، ونطلبُ الكتب، فيكون كما قال. وما أحقَّه يقول القائل:
عَقِمَ النساء فلا يَلدن شبيهَهُ
…
إنَّ الزَّمانَ بمثله لَعقيمُ
وخرجنا والقاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية ومن شاء اللَّه معه إلى جبرين، لنسمع عليهما "الأربعين" لابن المجبر، فأخذ الجزء بيده، واستدعى بالدَّواة والقلم، وخرَّج أحاديثها مِنْ مسموعاته مِنْ حفظه، بأعلى مِنْ طريق "الأربعين".
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (أ).
إلى أن قال: وأخبرني العلاءُ ابن خطيب الناصرية، قال: أخبرنا الشيخ ولي الدين العراقي أنَّ أوَّلَ اشتغاله بالحديث في سنة ثلاث وتسعين. ورأيت بخطي: بلغت مصنَّفاتُه إلى مائتي مصنف. والذي أعرف منها "فتح الباري"، لم يُنسج على منواله، ولم تسمح قريحة بمثاله، و"تغليق التعليق" لم يُسبق إليه، ولم يعرِّجُ أحدٌ قبلَه عليه.
إلى أن قال: وبالجملة، ليس له مؤلَّفٌ إلا وهو فَردٌ في بابه، ويسمي مؤلفاته بألطف الأسماء، وإن اختصر كتابًا، فقد أتى فيه بزوائدَ يُحتاج إليها. وكتبَ الخطَّ المنسوبَ في أوَّلِ أمره. وكان حسنَ الشِّكالة، لطيفًا حمولًا، كثير الصَّدقات، متحريًا.
ولما كان بحلب صحبة السُّلطان، كان له راتبُ لحم يُؤتى به إليه في كلِّ يوم مِنَ السلطان. فكان لا يأكلُه، ويشتري له لحمًا. وعلي وجهه نور السنة، وبلغني عن العلاء البخاري أنه قال: على وجهه نور السنة.
وأخبرني أنه رأى الشيخ شهاب الدين الظاهري -يعني ابن البرهان- في النَّوم بعد موته قال: فقلت له: أنت ميت (1)؟ قال: نعم. فقلت: ما فعلَ اللَّه بك؟ فتغير تغيرًا شديدًا، حتى ظننتُ أنَّه غاب، ثم أفاق، فقال: نحن الآن بخير.
قلت: وساق باقي المنام الذي سمعتُ شيخنا يحكيه، وأورده كذلك في ترجمة ابن البرهان من "معجمه"، لكني حذفته عمدًا.
قال: وأما لطائفه وملاطفته للطلبة والإحسان إليهم، فلا تكاد تُوصف. وقد كنت أسمع به وبأوصافه، فلما شاهدته رأيته فوق ذلك.
كانت مُساءلةُ الرُّكبان تُخبرني
…
عن أحمد بن عليِّ أحسن الخبرِ
لمَّا التقينا فلا واللَّه ما سَمِعَتْ
…
أُذْنِي بأحسنَ ممَّا قد رأى بَصَرِي
(1) في (ب)"متَّ".
قلت: وهذان البيتان معزوَّان لأبي القاسم محمد بن هانىء (1) الأندلسي [الشاعر المشهور](2)، ويقال: إنهما لجعفر بن فلاح، [ويقال: لأبي تمام. قال ابن خلكان: وهو غلط، بل هما لابن هانىء المذكور، والممدوح جعفر بن فلاح، ولفظ أولهما:
كانت مُسائلة الرُّكبان تخبرني
…
عن جعفر بن فلاح أطيبَ الخَبرِ
ومن قال: "عن أحمد بن دُؤاد"، بَدَل "جعفر بن فلاح"، فقد أخطأ] (3).
ووقعت فيهما اتفاقية غريبة، فيحكى أنَّ العز أيْدَمُر السَّنَائي الدَّوادار أنشدهما للتاج أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير الحلبي كاتب السرّ، عندما خدم بديوانِ الإنشاء في الأيَّام الظَّاهرية، أول اجتماعه به، وقبل معرفة اسمه واسم أبيه، فقال:
كانت مُساءلة الرُّكبان تُخبرني
…
عن أحمد بن سعيد أحسن الخَبرِ
ثم التقينا. . . إلى آخرهما.
فقال له التاج: يا مولانا، أتعرف أحمد بن سعيد؟ قال: لا واللَّه. فقال: هو المملوك. فتعجَّبا من غرابة الاتفاق.
ونحوه أنَّ أبا الغنائم محمد بن علي بن فارس بن علي، المعروف بابن المعلّم، اجتاز يومًا ببغداد بمكان فيه زحامٌ كثير، فسأل عن سببه، فقيل: إن أبا الفرج بن الجوزي الواعظ هناك يعظ، فزاحَمَ وتقدَّم حتى سمعه، وهو يذكر، فكان مِنْ كلماته مستشهدًا لبعض إشاراته: ولقد أحسن ابنُ المعلم حيث يقول:
يزدادُ في مسمعي تكرارُ ذكركُم
…
طِيبًا ويَحْسُن في عيني مكرَّرُهُ
(1) في (ب): "معزوان لابن هانىء".
(2)
و (3) ما بين حاصرتين لم يرد من (ب).
قال: فتعجبتُّ مِنْ اتفاف حضوري، واستشهاده بما هو من نظمي. وهو ومَنْ حضر لا يعلمون بي.
ويقُرب مِنْ هذه الاتفاقية: أنَّ الطبراني والجِعابي تذاكرا غرائب أحاديثهما، وكان الطبرانيُّ يغلبه بكثرة حفظه، والآخر يَغْلبِه بفطنته، حتى ارتفعت أصواتهما، فقال الجِعابي: عندي حديثٌ ليس في الدُّنيا إلا عندي. فقال له الطبراني: هات. فقال: حدثنا أبو خليفة، حدثنا سليمانُ بنُ أيوبَ، وساق حديثًا. فقال له الطبراني: أنا سليمانُ بن أيوب، ومِنِّي سمعه أبو خليفة، فاسْمَعْه مني عاليًا. فخجل الجِعَابي.
قال ابن العميد -حاكيها- عن مشاهدته: ما كنتُ أظنُّ أنَّ في الدنيا كحلاوة الوزارة والرئاسة التي أنا فيها، حتى شاهدتُ ذلك، فوددت أنَّ الوزارة لم تكن، وكنت أنا الطبراني، وفرحت كفرحه. انتهى.
ويحكى أيضًا أن الشيخ أبا الفتح أحمد بن أبي الوفاء بن الصائغ الحنبلي سافر في الطلب إلى خراسان، وغاب مدَّة، ثمَّ رجع إلى بلده ببغداد، وقصد الدَّرب الذي كان يعهد أهله فيه. فجلس في مسجد هناك، وسأل عن أهله، فأخبروه أنَّه لم يبق في ذلك الدرب أحد. واتَّفقَ أنه تكلَّم مع قاضي الشَّارع في مسألة، واختلفا فيها. فلمَّا رأى خصمُه على نفسه الغلبةَ، وقهره المذكور بالحُجَّة، قال: واللَّه لو أنَّكَ أبو الفتح ابن الصَّائغ، ما سلّمتُ إليك! فقال: يا أخي، أنا أبو الفتح ابن الصَّائغ، فقام إليه واحترمه.
وفي معنى البيتين الأولين، قولُ الشَّمس أبي عبد اللَّه محمد بن محمد بن عبد الكريم بن الموصلي:
ما زلت أسمَعُ عن (1) إحسانكم خَبَرًا
…
الفضلُ يُسنِدُه عنكم ويرفَعُهُ
حتى التقينا فشاهدت الذي سَمِعَتْ
…
أُذْني وأضعافَ ما قد كنتُ أسمعُهُ
(1) في (ط): "من".