الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سمعت ذلك مِنْ لفظه مرارًا - على طريقة الأذكياء في ذلك غالبًا.
[طلبه العلم:]
وأما طلبه للعلم، فإنه رحمه الله قرأ القرآن تجويدًا على الشهاب أحمد بن محمد ابن الفقيه علي الخيوطي، وبحث في سنة خمس وثمانين وسبعمائة -وهو ابن اثنتي عشرة سنة- في مجاورته بمكة، على القاضي الحافظ جمال الدين أبي حامد محمد بن عبد اللَّه بن ظهيرة المكي في كتاب "عمدة الأحكام" للحافظ عبد الغني المقدسي. [قال: وكان يعجبني سمتُه] (1)، فكان أوَّلَ شيخٍ بحث عليه في علم الحديث، ثم كان أوَّلَ شيخ سمع الحديث بقراءته بمصر بعد ذلك، كما سيأتي. على أني قرأت بخط صاحب الترجمة: وأول اشتغالي بالعلم في سنة سبع وثمانين وسبعمائة، وكتب بالهامش تجاه سبع: ست، وصحح عليه. قلت: لكن ما قدَّمته هو المعتمد.
ثم قرأ على الصدر سليمان بن عبد الناصر الإبشيطي شيئًا مِنَ العلم في السنة التي قَدِمَ فيها من مكة.
وفتَر عزمُه عن الاشتغال مِنْ أجل أنه لم يكن له من يحثُّه على ذلك، فلم يشتغل إلا بعد استكمال سبع عشرة سنة، لازم أحد أوصيائه العلامة شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن عيسى بن محمد بن أبي بكر بن القطان المصري، فحضر درسه في الفقه وأصوله والعربية والحساب وغيرها، وقرأ عليه شيئًا كثيرًا من "الحاوي الصغير"، وأجاز له هذا مع كون صاحب الترجمة (لم يحمد)(2) تصرُّفَه في تركته كما صرح بذلك في غير موضع، وقال: إنَّ مما خصم به في حساب المأتم وتوابعه (3) ألف مثقال. مع كون (أب)(4) الخرُّوبي حسبما بلغني أنه هو القائم بذلك أو أكثره، بل قال ممَّا هو في ديوانه:
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (ب).
(2)
ساقطة من (ط).
(3)
ساقطة من (أ).
(4)
"ابن" ساقطة من (ب).
أكل ابن القطان ماليَ ظلمًا
…
يا إله الورى فاصْلِهِ سعيرا
ربِّ وابسُط له العذاب بساطًا
…
ربِّ واجعل له الجحيم حصيرا
انتهى.
واشتغل بطلب ما غلب على العادة طلبه، من أصل وفرع ولغة ونحوها، وطاف على شيوخ الدِّراية، لكنه كان في مدة الفترة وهو في المكتب، وبعد ذلك حُبِّبَ إليه النَّظر في التواريخ وأيام الناس حتى إنه ربما (1) كان يستأجرها ممَّن هي عنده، فعلِقَ بذهنه الصافي الرائق شيءٌ كثيرٌ من أحوال الرواة. وكان ذلك بإشارة شخصٍ مِنْ أهل الخير، سماه صاحب الترجمة لي وأنسيتُه، وممَّن رغَّبه في ذلك أيضًا: البدر البَشْتكيُّ، وأعانه عليه بإعارة "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني وغيرها.
وفي أثناء الفترة سمع اتفاقًا من المسند نجم الدين أبي محمد عبد الرحيم بن عبد الوهاب بن عبد الكريم بن رزين غالب "صحيح البخاري" بقراءة الحافظ الجمال أبي حامد بن ظهيرة الماضي قريبًا في سنة ست وثمانين وسبعمائة بمصر [عن الخروبي أيضًا](2)، وكان شيخنا يعارض بنسخةٍ. قال (3): وما أظن فاتني عليه منه إلا اليسير. نعم لم أحضر مجلس الختم.
وكذا سمع مِنَ الصلاح أبي علي محمد بن محمد بن علي الزفتاوي "الصحيح" أيضًا بقراءة ولي الدين محمد بن الشهاب أحمد بن محمد بن عبد الكريم التِّزمنتي، ومن أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن المبارك الغَزِّي، وغيرهما.
ولو وَجَدَ من يعتني به في صغره لأدرك خلقًا ممَّن أخذ عن أصحابهم، إذ كان السماعُ مِنْ أصحاب الفخر ابن البخاري، ثم من أصحاب
(1) ساقطة من (أ).
(2)
ما بين حاصرتين ساقط من (ب).
(3)
في "المجمع المؤسس" 2/ 230.
الواسطي وابن مؤمن، ثم من أصحاب ابن تبع الأمناء والأبرقوهي، ثم من أصحاب الدِّمياطي ممكنًا، أو الإجازة منهم، لكنه لم يتَّفق ذلك لفقد من يعتني بهذا الفن من الآل (1) والأصحاب في هذا الزمن الأخير.
ونظر في فنون الأدب مِنْ أثناء سنة اثنتين وتسعين، ففاق فيها، حتى كان لا يسمع شعرًا إلا ويستحضر من أين أخده النَّاظم. وتولَّع بذلك وما زال يتبعه خاطره حتى فاق فيه وساد، وطارح الأدباء، وقال الشعر الزائق والنَّثر الفائق، ونظم مدائح نبويةً، ومقاطيع، وكتب عنه الأئمة من ذلك.
وكان رحمه الله واللَّه عجبًا في استحضار ذلك، والمذاكرة به؛ بحيث رأيت النواجي وهو ممَّن علمت جلالته في فنون الأدب ومداومته على خدمته، وشيخنا صاحب الترجمة يربو عليه، حتى يقضي هو العجب من ذلك. هذا وهو لم ينظر من بعد القرن في كتب الفن ودواوينه إلا اتفاقًا، كما صرح هو بذلك، بل أكثر نظمه قبل سنة ست عشرة وثمانمائة.
ورأيته قد كتب بخطه على بيتين في ضمن كراسة مِنْ نظم البدر البَشْتَكي ما نصه: يا سيدي، أحسن اللَّه إليكم. رأيت هذين البيتين بخطكم الكريم في "طوق الحمامة" لأبي محمد بن حزم، فلعلكم طالعتموها ونسيتم.
وحبَّب اللَّه عز وجل إليه فن الحديث النبوي، فأقبل عليه بكلِّيته، وأول ما طلب بنفسه في سنة ثلاث وتسعين، لكنه لم يكثر مِنَ الطَّلب إلا في سنة ست وتسعين. فإنه -كما كتب بخطه رضي الله عنه رفع الحجاب، وفتح الباب، وأقبل العزم المصمم على التحصيل، ووفق للهداية إلى سواء السبيل. فأخذ عن مشايخ ذلك العصر وقد بقي منهم بقايا. وواصل الغُدوَّ والرواح إلى المشايخ بالبواكر والعشايا. واجتمع بحافظ العصر زين الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، فلازمه عشرة أعوام. وتخرَّج به، وانتفع بملازمته. وقرأ عليه "الألفية" له و"شرحها" له بحثًا،
(1) في (أ): "الأول"، خطأ.
وانتهى ذلك في يوم الجمعة ثالث عشري رمضان سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، بمنزل المصنف بجزيرة الفيل على شاطىء النيل. ثم قرأ عليه "النكت على علوم الحديث" لابن الصَّلاح له، في مجالس، آخرها في جمادى الأولى سنة تسع وتسعين. وهو أول مَنْ أذِنَ له في التدريس في علوم الحديث. وكان إذنُه له -على ما قرأته بخط صاحب الترجمة- في سنة سبع وتسعين.
وكان طلبه على الأوضاع المتعارفة بين أهله، فقرأ وسمع على مسندي القاهرة ومصر الكثير في أسرع مدة، ووقع له حديث السلفي بالسماع المتصل عاليًا عن ابن الشيخة المذكور، وعن التاج أبي محمد عبد الواحد بن ذي النون الصُّردي وغيرهما، فمما سمعه من التاج "جزء سفيان بن عيينة" يرويه عن أبي الحسن الواني صاحب صاحب السِّلفي بالسماع المتصل إليه. وهو أعلى ما يقع حينئذٍ من حديث السِّلفي. وكذا وقع له حديث الرازي بالسَّماع المتصل عاليًا أيضًا.
وأعلى ما سمعه من الأجزاء المنثورة مطلقًا "جزء أبي الجهم العلاء بن (1) موسى" صاحب الليث بن سعد، فإنه وقع له بالسَّماع المتصل إلى أبي القاسم البغوي، الذي ساوى البخاري ومسلمًا وغيرهما في كثير من الشيوخ، فبينه وبينه ستة أنفس، وقد مات منذ خمسمائة سنة وأكثر من عشر سنين. ويليه مما هو في نحو طبقته "جزء ابن مخلد"، ويليه مما يلحق به لكن في الطريق إجازة - كالجزء الثاني من "حديث ابن مسعود"، وكتاب "البعث" لابن أبي داود. ويليه ما في طريقه إجازتان. كالأول الكبير من "حيث أبي طاهر المخلِّص"، والثاني من الثاني منه. و"جزء مأمون بن هارون".
ودون هذه الطبقة في العلوّ قليلًا، لكن بالسمع المتصل، كالمنتخب من "مسند عبد بن حميد"، و"مسند الدارمي"، وهو على الأبواب، ويليهما
(1) في (ب)"أبي"، تحريف. وهو العلاء بن موسى بن عطية، أبو الجهم الباهلي البغدادي. مترجم في السير" 10/ 525.