الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[اختصاص العرب بسرعة الحفظ]
وقد كان العرب مخصوصين بالحفظ، مطبوعين عليه؛ بحيث كان بعضهم يحفظ أشعار بعضٍ في سمعة واحدة، كما جاء أن ابن عباس رضي الله عنهما حفظ قصيدة عمر بن أبي ربيعة (أمن آل نُعْم أنت غاد فمبكُر) في سَمْعةٍ واحدة، وعن ابن شهاب أنه كان يقول: إنِّي لأمّرُّ بالبقيع، فأسدُّ أذنيَّ مخافة أن يدخُلَ فيها شيءٌ من الخنا، فواللَّه ما دخل أُذنيَّ شيءٌ قطُّ فنسيته، وعن الشعبيِّ نحوه، وليس أحد اليوم على هذا، نعم بلغنا عن البُلْقَيني أنه حفظ قصيدةً مِن مرةٍ واحدة في آخرين، وهو نادر جدًّا، ونحوه حفظ الزين العراقي نصف "الحاوي الصغير" في اثني عشر يومًا.
قال الخطيب: ولقلَّة مَنْ يُوجد من أهل الحفظ والإتقان، قيل: إن أحدهم يُولَدُ بعد بُرهةٍ مِنَ الزمان، ثم أسند من طريق موسى بن داود، عن أبي مشعر، قال: الحافظ يُولَدُ في بعض (1) الزمان، وعن هُشَيْم قال: من يحفظُ الحديث قليل، ثم قال: هم أقلُّ مِنْ ذلك، انتهى.
ولهذا قال أبو محمد السمرقنديُّ: سمعت أبا بكر الخطيب يقول: لم أر أحدًا أطلق عليه اسم الحفظ غير رجلين: أبو نُعَيْم الأصفهاني، وأبو حازم العَبْدَوي.
ثم إنَّ الوصف بالحافظ، كما قاله الحافظ الخطيب رحمه الله عند الإطلاق ينصرف إلى أهل الحديث خاصة، وهو سِمَةٌ لهم، لا يتعداهم، ولا يُوصَفُ بها أحد سواهم، لأن الراوي يقول: حدثنا فلان الحافظ، فيحسُن منه إطلاق ذلك، إذ كان مستعملًا عندهم، يوصف به علماء أهل النقل، ونُقّادهم، ولا يقول القارىء: لقنني فلان الحافظ، ولا النحوي: علَّمني فلان الحافظ، فهي أعلى صفات المحدثين، وأسمى درجات الناقلين، من وُجدت فيه قُبِلت أقاويله، وسُلِّم له تصحيح الحديث وتعليله، غير أنّ المستحقين لها يقلُّ معدودهم، ويعزّ بل يتعذر وجودهم، فهم في قلتهم بين
(1)"بعض" ساقط من (ب، ط، ح).
المنتسبين إلى مقالتهم أعزُّ مِنْ مذهب السنة بين سائر الآراء والنحل، وأقلّ من عدد المسلمين في مقابلة جميع الملل.
قلت: وقد روينا مِنْ طريق المسيِّب بن واضح، عن أبي إسحاق الفَزاري، عن الأوزاعي، عن الزهري، قال: مثل أصحاب الحديث مثلُ التِّمساح يبيضُ مائة بيضة، تفسُد تسعة وتسعون، وتسلم واحدة.
ومن طريق العباس بن محمد الدُّوري: حدثنا شاذان، أنبأنا إسرائيل، قال: كنت فيمن (1) يطلب الحديث أيام الأعمش، فقيل له: يا أبا محمد، ما ترى إليهم؟ ما أكثرهم. فقال: لا تنظروا إلى هذا، ثلث هؤلاء يموتون، وثلثهم يعجبون (2) بالأعمال، وثلث من كل مائة يُفلح واحد. انتهى.
ولذلك قال البخاري فيما رواه الخطيب في مقدمة "جامعه" من طريقه: أفضل المسلمين رجل أحيا سنةً مِنْ سنن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد أُميتَتْ، فاصبروا يا أصحاب السُّنن رحمكم اللَّه، فإنكم أقلُّ الناس. وقال الخطيب عقبه: عنى البخاريُّ بذلك الحفاظ للحديث، العالمين بطُرقه، المميزين لصحيحه من سقيمه، وقد صدق في قوله، لأنك إذا اعتبرت لم تجد بلدًا من بلدان المسلمين (3) يخلو من فقيه أو متفقه يرجع أهل مصره إليه، ويُعَوِّلون في فتاويهم عليه، وتجد الأمصار الكثيرة خالية من صاحب حديث عارف به، مجتهد فيه، وما ذاك إلا لصعوبة علمه وعزته، وقلة من يَنجُبُ (4) فيه من سامعيه وكتبته، وقد كان العلم في وقت البخاريّ غضًّا طريًّا، والارتسام به محبوبًا شهيًّا، والدواعي إليه أكبر، والرغبة فيه أكثر، وقال ما حكيناه عنه، فكيف يقول في هذا الزمان مع عدم الطالب، وقلة الراغب؟ وكأن الشاعر وصف قلَّة المتخصصين به من أهل زماننا في قوله:
(1)"فيمن" ساقطة من (أ).
(2)
في (أ): "يسحبون"، تحريف.
(3)
في (ب): "بلدان الإسلام".
(4)
في (أ): يبحث.
وقد كنا نعدُّهُمُ قليلًا
…
فقد صاروا أقل من القليل
انتهى.
وهذا البيت يلي قول قائله:
وما بقيتْ مِنَ اللَّذاتِ إلا
…
محادثة الرجال ذوي العقول
لكن لما لم يكن صالحًا للاستشهاد به في هذا المحل أضربَ عن إيراده، ورحم اللَّه الخطيب. كيف لو أدرك زماننا؟
وقد قال صاحب الترجمة -عند قول النووي في خطبة "شرح مسلم"(1): ولقد كان أكثر اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات، حتى لقد كان يجتمع في مجلس الحديث من الطالبين ألوف متكاثرات، فتناقص ذلك، وضعفت الهِمَمُ، فلم يبق إلا آثارٌ من آثارهم قليلات، واللَّه المستعان على هذه المصيبة وغيرها من البليات- ما نصه: لا شك أن نقص الاشتغال بكلِّ علم قد وقع بكل قطر، لكن حظ هذا العلم الشريف مِنْ هذا النقص أزيد؛ وذلك أن كثيرًا من البلاد الإسلامية قد خلت عمَّن يحققه رواية، فضلًا عن الدراية، وما ذلك إلا لركونهم إلى التقليد، وقصور هِمَمِهم عن محاولة ما يحصِّل درجة الاجتهاد، ولو في بعض دون بعض. انتهى.
وكذا قال الحافظ أبو سَعْد بن السمعاني: إن الحافظ لقَبٌ لجماعة من أئمة الحديث لحفظهم له، ومعرفتهم إياه، وذبِّهم عنه، فيهم شهرة.
ونحوه قول صاحب الترجمة: هو لقبٌ مَنْ مَهَر في علم الحديث. وحكى ابن السمعاني عن شيخه أبي القاسم التيمي صاحب "الترغيب" ما معناه: أنه كتبها لأبي زكريا يحيى بن منده، فرآه أبو عبد اللَّه الدقاق، فقال: يا أبا القاسم، أما تستحي؟ وكيف تستجيزُ وصف يحيى بذلك، وأيش يحفظ
(1) في (ب): "شرح خطبة مسلم".
هو مِنَ الحديث؟ فقلت له: إن ظننت يا شيخُ أنَّ الحافظ لا يُكتب إلا لمن [يحفظ جميع حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فينبغي ألا يكتب](1) هذا لأحد، وإن كانت تُكتب لمن يحفظ البعض دون البعض، فأنا ويحيى وأنت والكلُّ فيه سواء، فسكت، ولم يقل شيئًا. ثم قال ابن السمعاني: وقد لُقّب بها جماعة من أهل بغداد ممن لا يعرف من الحديث شيئًا، لكن لحفظهم الثياب في الحمامات لُقّبوا بذلك، إذ عندهم من يحفظ الثياب يقال له: الحافظ!.
قلت: وكذا لُقِّب الخليفة بمصر عبد المجيد بن محمد بن سعد: الحافظ لدين اللَّه، وربما اختصر، فقيل: الحافظ، كما يختصر كثير ممن يلقَّب حافظ الدين، فيقال له: حافظ.
وقد أُفرد الحفاظ بالتأليف، وأجمع كتاب وقفت عليه في ذلك -مع إعواز كثير- كتابُ الحافظ أبي عبد اللَّه الذهبي، رتبه على الطبقات، وأفرد صاحب الترجمة منه مَنْ ليس في "تهذيب الكمال" في مجلد رأيته. واستدرك بعضًا مما فاته. بل قرأت بخطه أنَّه رتَّب الكتاب على حروف المعجم، بيَّض منه نصفه الأول، وذيَّلَ على الذهبي الحافظُ شمسُ الدين الحسيني الدمشقي، وذيّل على الحسينيِّ، شيخنا (2) الحافظ تقي الدين بنُ فهد الهاشمي المكي، وعمل حافظ الشام الشمسُ بن ناصر الدين في الحفاظ منظومة سماها "بديعة البيان في وفيات الأعيان"، وشرحها في مجلد سماه "التِّبيان لبديعة البيان" وجملة من زادهم على الذهبي ستة وعشرون نفسًا، وذيّل عليه صاحب الترجمة في كراسة وقفتُ عليها، وفيها ثمانية وعشرون نفسًا.
ورأيت جزءًا مختصرًا جدًّا في ذلك للحافظ أبي الفرج بن الجَوْزي، رتَّبه على الحروف، وافتتحه بأبواب: أولها: في الحثِّ على حفظ العلم، وثانيها: في صِفة مَنْ هو أهلٌ للحفظ مِنْ حيثُ الصورة والخلقة، وثالثها: في الأدوية المُعِينة عليه. ورابعها في أحكام المحفوظ وثبوته، وخامسها: في
(1) ما بين حاصرتين ساقط من (أ).
(2)
"شيخنا" ساقطة من (ب).
ذكر الأوقات التي يكرِّرُ فيها محفوظه، وسادسها: فيما ينبغي تقديمه من المحفوظات، ثم ذكر التراجم.
وكذا جمع أبو الوليد بن الدبّاغ الحافظ كتابًا في الحفاظ بدأ فيه بالزهريِّ، وختم بأبي طاهر السِّلفي، لكن لم أقف عليه.
وذكر القطب الحلبيُّ الحافظ: أن التقي ابن دقيق العيد جمع أسماء كل من وُصف في الأسانيد بالحفظ.
واعلم أنه ينبغي أن لا يقبل الوصف بذلك إلا مِنْ موصوف به، فربَّ من يسردُ كثيرًا من الأنساب والمتون ممن هو قاصر في تخريج الحديث، وتمييز صحيحه من سقيمه، ومعرفة علله وقصور عبارته، وجمود فهمه، عند مَنْ لا تمييز له، فيصفه بذلك ظنًّا منه أنَّ ذلك بمجرده كافٍ، وهذه غفلةٌ، إنَّما الحفظ المعرفة، هذا إن حصل الوثوق به فيما يسرده مما لا يعلمه إلا النُّقاد، فأما إذا لم يكن كذلك، فتلك الطامَّة.
وقد كان في شيوخ شيوخنا العلامة تقي الدين الدجوي ما لقيتُ أحدًا ممن أخذ عنه إلا وذكر عنه أمرًا عجيبًا في الحفظ. ومع ذلك، فقد قال فيه صاحب الترجمة ما نصه: كان يستحضرُ الكثير من هذا الفن. إلا أنه ليس له فيه عمل القوم، ولا كانت له عناية بالتخريج، ولا معرفة العالي والنازل، والأسانيد، وقدم الحافظ جمال الدين ابن الشرائحي عليه، لتحققه بذلك، وكذا قال شيخي. حيث ذكر في ترجمة العراقي شيخه أن من أخصِّ جماعته به صهره الهيثمي، وهو الذي درّبه وعلمه كيفية التخريج والتصنيف، بل هو الذي كان يعمل له خطب كتبه، ويسميها له وصار الهيثمي -لشدة ممارسته- أكثر استحضارًا للمتون من شيخه، حتى يظنُّ مَنْ لا خبرة له أنه أحفظ منه، وليس كذلك، لأن الحفظ المعرفة. انتهى.
وهو كذلك بلا شك، فقد قال ابن طاهر: سألت أبا القاسم هبة اللَّه بن عبد الوارث الشيرازي: هل كان الخطيب -يعني به الحافظ الشهير الذي الناس بعده عيال على كتبه- مثل تصانيفه في الحفظ؟ فقال: لا، كنا إذا سألناه عن شيء، أجابنا بعد أيام، وإن ألححنا عليه غضب، ولم
يكن حفظُه على قدر تصانيفه، وقد كان إمام المذهب الشافعيِّ رضي الله عنه، الذي كان في الفهم (1) والاستنباط بالمكان الذي رزقه اللَّه إياه، بحيث طبّق الأرض علمًا، وقال بعض المجتهدين: من فاته عقله يوشك أن لا يجده عند غيره، يقول على وجه التواضع والإنصاف، كما نقله الفخر الرازي في أول الباب العاشر من "مناقبه": لو كنت أحفظ لغلبتُ أهل الدنيا، وعقَّبه الفخر بقوله: والفهم غير الحفظ، والحكماء يقولون: إنهما لا يجتمعان على سبيل الكمال، لأن الفهم يستدعي مزيد رطوبة في الدماغ، والحفظ يستدعي مزيد يبوسة، والجمع بينهما محال.
ونحو تقديم شيخنا لابن الشرائحي على الدجوي، صُنعُ السبكي الكبير في تقديم ابن رافع على ابن كثير، وتبعه صاحب الترجمة، حيث قال: إن الإنصاف أنَّ ابن رافع أقرب إلى وصف الحفظ على طريقة أهل الحديث من ابن كثير، لعنايته بالعوالي والأجزاء والوفيات، والمسموعات دون ابن كثير، وابنُ كثير أقرب إلى الوصف بالحفظ على طريقة الفقهاء، لمعرفته بالمتون الفقهية، والتفسيرية، دون ابن رافع، فيجمع منهما حافظ كامل، قال: وقلَّ مَنْ جمعهما بعد أهل العصر الأول، كابن خُزيمة، والطحاوي، وابن حبان والبيهقي، وفي المتأخرين شيخنا العراقي.
قلت: وشيخنا القائل ملحِق الأواخر في الفنِّ بالأوائل، ولقد رأى رحمه الله بخطِّي طبقة وصفتُ فيها بعض السامعين أو القارىء، بذلك، فعمل بخطه الحاء فاءً، والفاءَ ضادًا، وجوَّد الظاء لامًا، تنبيهًا للسالك.
هذا وقد وصف بخطه ذي الجودة والبهاء جماعةً من الآخذين عنه بها جريًا على سنن الشيوخ في تنشيط طلبتهم، ونظرًا إلى أنهم أبرعُ بالنسبة لمن في طبقتهم ويتأيَّد (2) بوصفه لأكثرهم (3) في وصيته -كما سيأتي- بطلبة الحديث المتحققين بطلبه، والاشتغال به أكثر من الاشتغال بغيره، من سائر
(1) في (أ): "الفقه".
(2)
"ويتأيد" ساقطة من (ط).
(3)
في (أ): "أكثرهم".
العلوم الدينية، ممَّن شهد لهم بذلك جماعة أهل العلم بالحديث.
على أني لستُ أحب بثَّ ما عندي هنا في هذا أجمع، وإن كان حيث وجد الإخلاص يوم الفصاص القولُ أنفعُ، لكن في التلويح ما يُغني عن التصريح.
ولم يكن صاحبُ الترجمة رحمه الله بالمتساهل في الوصف بهذه اللفظة، غير أنَّ العذر عنه ما قدمته، مع ما كان هو يحكيه لخواصّه في تأويل ذلك، وللناس أعذار لا يُطَّلع عليها.
وإذا تأملت قوله في ترجمة الحافظ ناصر الدين محمد بن عبد الرحمن بن زُريق الدمشقي من "معجمه" ما نصه: ولم أر في دمشق من يستحق اسم الحافظ غيره. مع أنه كان بها ابن الشرائحي الماضي، والشهاب الحُسباني الذي شهد فيه البُلقيني بأنه أحفظ أهل دمشق، والشهاب ابن حِجِّي، وغيرهم، علمت أنه لا يثبتها لإبراهيم العجلوني ونحوه، ويترك هؤلاء الفحول، فرجع الأمر إلى باب التأويل، واللَّه الموفق.
وقد سأل صاحبُ الترجمة شيخه العراقي عن أربعة من المحدّثين تعاصروا: أيُّهم أحفظ وأدرى بفن الحديث خاصة؟ ومَنْ منهم أولى أن يسمى حافظًا لاجتمع ما شرط الأئمة المتأخرون في حدِّ الحافظ، لا المتقدمون؟ وهم: العماد ابن كثير، والعلاء مُغَلْطَاي، والتقي ابن رافع، والشمس الحسيني، فأجاب: بأن أحفظهم للمتون ابن كثير، وأعلمهم بالأنساب مُغَلْطاي، على أغاليط تقع له في ذلك، وأكثرهم طلبًا وتحصيلًا للشيوخ، والمؤتلف والمختلف ابن رافع. وكان شيخنا التقي السبكيُّ يقدمه على ابن كثير، لأنه يرى أنه لا بدَّ من تقدُّم الطلب والرحلة على عادة أهل الحديث، وأما الحسيني فمتأخّر عن طبقتهم، وطلب بنفسه كثيرًا، وخرّج لبعض الشيوخ، ولنفسه معجمًا، وذيّل على "العِبَر" وشرح قطعة من "النَّسائي"، وقد أطلق على كل من المذكورين وصف الحفظ باعتبار غَلَبَةِ فنٍّ مِنْ فنون الحديث عليه. وأعرفهم بالطَّلب ابن رافع، ثم الحسيني.
قلت: وقد رُوينا (1) عن الحسيني المشار إليه أنه قال: سُئلتُ عن أحفظ من لقيتُ؟ فقلت: أربعة، المِزِّيُّ، وهو أعرفهم بالرجال، وأعلمهم بتصحيف الأسماء، وأوسعهم رواية، والذهبيُّ، هو أحفظهم للمتون وأعلمهم بالتاريخ، والسبكيُّ وهو أفقههم في الحديث، وأعلمهم بالعلل، والعلائي، وهو أجمعهم للحديث، وأحسنهم كلامًا عليه.
وبلغني عن الحافظ بُرهان الدين الحلبي، أنه قال: حُفَّاظ مصر أربعة أشخاص، وهم من مشايخي: البلقيني، وهو أحفظهم لأحاديث الأحكام، والعراقي، وهو أعلمهم بالصنعة، والهيثمي وهو أحفظهم للأحاديث من حيث هي، وابن الملقِّن، وهو أكثرهم فوائد في الكتابة على الحديث. انتهى.
ولغيره كلامٌ في أربعة آخرين، وهم المزِّي، والبرزالي، وابن تيمية، والسبكي، ولا يحضرني الآن، وسُئل سعد بن علي الزنجاني الحافظ بمكة عن الدارقطني وابن منده، والحاكم النيسابوري وعبد الغني بن سعيد، فقال: الدارقطني أعلمهم بالعلل، وابن منده أكثرهم روايةً مع المعرفة التامة، والحاكم أحسنهم تصنيفًا، وعبد الغني أعرفهم بالأنساب.
وقد قال أبو عُبَيد القاسم بن سلَّام: انتهى الحديث إلى أربعة: إلى أبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، فأبو بكر أسْرَدُهم له، وأحمد أفقههم فيه، ويحيى أجمعهم له، وعليُّ (2) أعلمهم به.
وسأل التقي السبكيُّ المِزِّيَّ عن الحافظين عبد الغني والضياء، فقال: كان عبد الغني يحفظ المتون ويسردها سردًا، لعلّ المتون التي يحفظها أكثر من التي لا يحفظها، ويشارك في الرجال، والضياء أعلم منه بالرجال (3) وأتقن.
(1) في (أ): "رُوي".
(2)
"وعلي" ساقطة من (ب).
(3)
"بالرجال" ساقطة من (أ).
وقال ابن الجزري: أدركتُ في هذا العلم ثلاثة حفاظ أعلام، انتهى إليهم هذا العلم في بلاد الشام، ولم يَخلُف بعدهم مثلهم في بلاد الإسلام (1)، أولهم ابن رافع، ولم يكن مثله في معرفة العالي والنَّازل، وأسماء رجاله المتأخرين وضبط المؤتلف والمختلف، وحفظ ذلك واستحضاره. وثانيهم: ابن كثير، ولم يكن مثله في أسماء رجاله المتقدمين، ومعرفة الصحابة والتابعين، والسيرة النبوية، والتواريخ الإسلامية وعَزْوِ المتون، وحفظها، والكلام عليها جرحًا وتعديلًا، وتصحيحًا وتضعيفًا، ولغتها ومعانيها، آية من آيات اللَّه تعالى في ذلك. وأما علم التفسير فلم يكن أحد يشاركه فيه، ولا يدانيه. وثالثهم: أبو بكر محمد بن عبد اللَّه بن أحمد بن المحبِّ، كان قد جمع معرفة رجاله المتقدمين والمتأخرين والرواة ومروياتهم وطبقاتهم، والأسانيد والمتون. وأما معرفة الأجزاء، والمتصل منها والمنقطع، فإنه كان في ذلك عجبًا من العجائب، رحمة اللَّه عليهم أجمعين.
وقد وقع لي حديثٌ مسلسلٌ بالحفاظ؛ وذلك فيما قرأته على الحافظين أبي النعيم بن محمد المُسْتَملي، وأبي محمد الهاشمي، رحمهما اللَّه تعالى مفترقين (2): الأول بالقاهرة، والثاني بالمسجد الحرام، كلاهما عن الحافظ الجمال أبي حامد القرشي، وشيخ الإسلام حافظ الوقت أبي الفضل العراقي، وتلميذه الحافظ الزاهد أبي الحسن الهيثمي، سماعًا على الأول، وإجازة من الآخرين (ح).
وكتب إليَّ عاليًا المُسندِ أبو هريرة المقدسي، قالوا: أخبرنا الحافظ أبو سعيد العلائي قال: الأول والأخير إجازة. قال: أنبأنا الحافظ أبو عبد اللَّه الذهبي، بقراءتي، أنبأنا الحافظ أبو الحجاج المزيّ، أنبأنا أبو عبد اللَّه محمد بن عبد الخالق بن طرخان، أنبأنا الحافظ أبو الحسن علي بن المفضَّل، أنبأنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السِّلفي، أنبأنا الحافظ أبو الغنائم محمد بن علي النرسي، أنبأنا الحافظ أبو نصر علي بن هبة اللَّه ابن
(1) في (ب): "بلاد الشام".
(2)
ساقطة من (ب).
ماكولا، حدثني أبو بكر بن مهدي، يعني الحافظ أبا بكر الخطيب، حدثني الحافظ أبو حازم العَبدُوّي (1)، حدثنا أبو عمرو بن مطر، حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف الهِسِنْجاني، حدثنا الفضل بن زياد القطان، صاحب أحمد بن حنبل، يعني قال: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا زهير بن حرب. حدثا يحيى بن معين، حدثنا علي بن المديني، حدثنا عبيد اللَّه (2) بن معاذ، حدثنا شُعْبَة، عن أبي بكر بن حفص، عن أبي سلمة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنَّ أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يأخذن من رؤوسهنَّ حتى تكون كالوفرة.
هذا حديث صحيح، متفق عليه، عجيب التسلسل بالحفاظ الأئمة ورواية الأقران بعضهم عن بعض، تبعتُ بعض الحفاظ في إيراده، مع أن شيخ المزي ليس بالحافظ، وكذا الراوي عن الإمام أحمد، إنما رأيتُ وصفه أنه كان فقيهًا صالحًا، وأبو عمرو بن مطر هو محمد بن جعفر بن محمد بن مطر النيسابوري، لم أر وصفه بالحفظ صريحًا، نعم، قد ذكره أحد الآخذين عنه وهو الحاكم في "تاريخه لنيسابور"، وقال فيه: شيخ العدالة، ومعدن الورع، معروف بالسماع، والرحلة، والطلب، على الصدق والضبط، والإتقان، إلى أن قال: وهو الذي انتقى الفوائد على أبي العباس الأصمّ، فأحيا اللَّه علم الأصمِّ بتلك الفوائد، فإن الأصمّ أفسد أصوله، واعتمد على كتاب أبي عمرو، فكان يقرأ مِنْ كتابه زيادةً على عشرة آلاف حديث، وقد روى عنه حفاظ نيسابور، واللَّه أعلم.
وقد وقع لي الحديث عاليًا، لكن بدون تسلسل، قُرىء على شيخي رحمه الله وأنا أسمع، عن أبي هريرة ابن الحافظ الذهبي، أخبرنا البهاء أبو محمد بن عساكر سماعًا (3)، بقراءة والدي، عن أبي عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد المديني، أخبرنا أبو القاسم الحمَّاني، أخبرنا أبو مُسلم النَّحوي،
(1) في هامش (ح) بخط المصنف: اسمه عمر بن أحمد أبو نعيم بن عبدويه. قاله الخطيب. كان ثقة حاذقًا عارفًا حافظًا.
(2)
في (ط)"عبد اللَّه"، تحريف.
(3)
"سماعًا" ساقطة من (ب).