الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإنْ وَقَفَ عَلَى غَيرِهِ وَاسْتَثْنَى الْأكْلَ مِنْهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، صَح.
ــ
فصل: ومَن وَقَف وَقْفًا صَحِيحًا على إنْسانٍ، فقد صارَتْ مَنافِعُه جَمِيعُها للمَوْقُوفِ عليه، وزال مِلْكُه عن الواقِفِ، ومِلْكُ مَنافِعِه، فلم يَجُزْ أن يَنْتَفِعَ بشيءٍ منها. فأمّا إن وَقَف شيئًا للمسلمين، دَخَل في جُمْلَتِهم؛ مثلَ أن يَقِفَ مَسْجِدًا، فله أن يُصَلِّيَ فيه، أو مَقْبَرَةً، فله الدَّفْنُ فيها، أو بِئْرًا للمسلمين، فله أن يَسْتَقِيَ منها، أو سِقايَةً، أو شيئًا يَعُم المسلمين، فيكونُ كأحَدِهم. لا نَعْلَمُ في ذلك خِلافًا. وقد رُوِيَ عن عُثْمانَ بنِ عَفّانَ، رضي الله عنه، أنَّه سَبَّلَ بِئْرَ رُومَةَ، وكان دَلْوُه فيها كدِلاءِ المُسْلِمِين (1).
2564 - مسألة: (وإن وَقف على غيرِه واسْتَثْنَى الأكْلَ منه مُدَّةَ
(1) تقدم تخريجه في 11/ 82. ويضاف إليه: ووصله البخاري، في: باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا. . . . من كتاب الوصايا. صحيح البخاري 4/ 15.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حَياتِه، صَحَّ) إذا وَقَف وَقْفًا على غيرِه، وشَرَط أن يُنْفِقَ منه على نَفْسِه، صَحَّ الوَقْفُ والشَّرْطُ. نَصَّ عليه أحمدُ. قال الأثْرَمُ: قِيل لأبِي عبدِ اللهِ: أشْتَرِطُ في الوَقْفِ أنِّي أنْفِقُ على نَفْسِي وأهْلِي؟ قال: نعم. واحْتَجَّ، قال: سَمِعْتُ ابنَ عُيَينَةَ، عن ابنِ طاوُس، عن أبيه، عن حُجْر المَدَريِّ (1) أنَّ في صَدَقَةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يَأكلَ أهْلُه منها بالمَعْرُوفِ غيرِ المُنْكَرِ. قال القاضي: يَصِحُّ الوَقْفُ، رِوايةً واحِدَةً؛ لأنَّ أحمدَ نصَّ عليها في رِوايةِ جَماعَةٍ. وبذلك قال ابنُ أبِي لَيلَى، وابنُ شُبْرُمَةَ، وأبو يُوسُفَ، والزُّبَيرِيُّ، وابنُ سُرَيجٍ، وقال مالكٌ، والشافعيّ، ومحمدُ بنُ الحَسَنِ: لا يَصِحُّ الوَقْفُ؛ لأنَّه إزالةُ المِلْكِ، فلم يَجُزِ اشْتِراطُ نَفْعِه لنَفْسِه، كالبَيعِ والهِبَةِ، وكما لو أعْتَقَ عَبْدًا واشْتَرَطَ أن يَخْدِمَه، ولأنَّ ما يُنْفِقُه على نَفسِه مَجْهُولٌ، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُه، كما لو باعَ شيئًا واشترط أن ينتفع به. ولنا،
(1) قال ابن حجر في الإصابة 2/ 207: أرسل حديثًا فأخرجه بقي بن مخلد في الصحابة، وهو وهم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الخَبَرُ (1) الذي ذَكَرَه الإمامُ أحِمدُ، ولأنَّ عُمَرَ، رضي الله عنه، لَمّا وَقَف، قال: لا بَأسَ على مَن وَلِيَها أن يَأكُلَ منها، أو يُطْعِمَ صَدِيقًا، غيرَ مُتَمَوِّلٍ منه (2). وكان الوَقْفُ في يَدِه إلى أن مات. ولأنه إذا وَقَف وَقْفًا عامًّا، كالمَساجِدِ، والسِّقاياتِ، والمَقابِرِ، كان له الانْتِفاعُ به، فكذلك ههُنا. ولا فَرْقَ بينَ أن يَشْتَرِطَ لنَفْسِه الانْتِفاعَ به مُدَّةَ حَياتِه، أو مُدَّةً مَعْلُومَةً مُعَيَّنةً، وسواء قَدَّرَ ما يَأكُلُ منه، أو أطْلَقَه، فإنَّ عُمَرَ لم يُقَدِّرْ ما يَاكُلُه الوالِي ويُطْعِمُ إلَّا بقَوْلِه: بالمَعْرُوفِ. وفي حديثِ صَدَقَةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أنَّه شَرَط أن يَأكل أهْلُه منها بالمَعْرُوفِ غيرِ المُنْكَرِ. إلَّا أنَّه إذا شَرَط أن يَنْتَفِعَ بها مُدّةً مُعَيَّنة، فمات فيها، فيَنْبَغِي أن يكونَ ذلك لوَرَثَتِه، كما لو باعَ دارًا واشْتَرطَ أن يَسْكُنَها سَنَةً فماتَ في أثْنائِها.
(1) في م: «أن الخبر» .
(2)
تقدم تخريجه في صفحة 362.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: ويَصِحُّ أن يَشتَرِطَ أن يَأكُلَ منها أهْلُه؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم شَرَط ذلك في صَدَقَتِه. وإن شَرَط أن يَأكُلَ منه مَن وَلِيَه ويُطْعِمَ صَدِيقًا، صَحَّ؛ لأنَّ عُمَرَ شَرَط ذلك في صَدَقَتِه التي اسْتَأمَرَ فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فإن وَلِيَها الواقف، كان له أن يَأكلَ ويُطْعِمَ صَدِيقًا؛ لأنَّ عُمَرَ وَلِيَ صَدَقَتَه. وإن وَلِيَها أحَد مِن أهْلِه، فله ذلك؛ لأنَّ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ كانت تَلِي صَدَقَتَه بعدَ مَوْتِه، ثم وَلِيَها بعدَها عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ (1).
فصل: فإنِ اشْتَرَطَ أن يَبِيعَه متى شاءَ، أو يَهَبَه، أو يَرْجِعَ فيه، بَطل الوَقف والشَّرْطُ. لا نَعْلَمُ في بُطْلانِ الشَّرْطِ خِلافًا؛ لأنَّه يُنافِي مُقْتَضَى الوَقْف. ويَحْتَمِلُ أن يَبْطُلَ الشَّرْطُ ويَصِحَّ الوَقف، بِناءً على الشُّرُوطَ الفاسدَةِ في البَيعِ. وإن شَرَط الخِيارَ في الوَقْف، فَسَد. نَصَّ عليه أحمدُ. وبه قال الشافعيُّ. وقال أبو يُوسُف في رِوايةٍ عنه: يَصِحُّ؛ لأنَّ الوَقف تَمْلِيكُ المَنافِعِ، فجاز شَرْطُ الخِيارِ فيه، كالإجارَةِ. ولَنا، أنَّه شَرْط يُنافِي مُقْتَضَى العَقْدِ، فلم يَصِحَّ، كما لو شَرَط أنَّ له بَيعَه متى شاءَ، ولأنه إزالةُ مِلْكٍ للهِ تعالى، فلم يَصِحَّ شَرْطُ الخِيارِ فيه، كالعِتْقِ، ولأنَّه ليس بعَقْدِ مُعاوَضَةٍ، فلم يَصِحَّ اشْتِراطُ الخِيارِ فيه، كالهِبَةِ، بخِلافِ الإجارَةِ، فإنَّها عَقْدُ مُعاوَضَةٍ، وههُنا لو ثَبَت الخِيارُ لثَبَتَ مع ثُبُوتِ حُكْمَ الوَقْف، فافْتَرَقا.
(1) أخرجه البيهقي، في: السنن الكبرى 6/ 161، وفيه:«الأكابر من آل عمر» ، وليس:«عبد الله بن عمر» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وإن شَرَط في الوَقْفِ أن يُخْرِجَ مَن شاءَ مِن أهْلِ الوَقف، ويُدْخِلَ مَن شاءَ مِن غيرِهم، لم يَصِحَّ؛ لأنَّه شَرْط يُنافِي مُقْتَضَى الوَقف فأفْسَدَه، كما لو شَرَط أن لا يَنْتَفِعَ به. فأمّا إن شَرَط للنّاظِرِ أن يُعْطِيَ مَن يَشاءُ مِن أهْلِ الوَقف، ويَمْنَعَ مَن يشاءُ، جاز؛ لأنَّ ذلك ليس بإخْراجٍ للمَوْقُوفِ عليه مِن الوَقْف، وإنَّما عَلَّقَ اسْتِحْقاقَ الوَقْف بصِفَةٍ، فكأنّه جَعَل له حَقًّا في الوَقْفِ إذا اتَّصَفَ بإرادَةِ النّاظِرِ عَطِيَّتَه، ولم يَجْعَلْ له حَقا إذا انتَفتْ تلك الصِّفَةُ فيه، فأشْبَهَ ما لو وَقَفَه على المُشْتَغِلِين بالعِلْمِ مِن وَلَدِه، فإنَّه يَسْتَحِقُّ منهم مَن اشْتَغلَ دُونَ مَن لم يَشْتَغِلْ، فمتى تَرَك المُشْتَغِلُ الاشْتِغال، زال اسْتِحْقاقُه، فإن عاد إليه عاد اسْتِحْقاقُه.
فصل: إذا جَعَل عُلْوَ دارِه مَسْجِدًا دُونَ أسْفَلِها، أو أسْفَلَها دُونَ عُلْوها، صَحَّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ، لأنَّ المَسْجِدَ يَتْبَعُه هَواؤه. ولَنا، أنَّه يَصِحُّ بَيعُها كذلك، فصَحَّ وَقْفُها، كالدّارِ جَمِيعِها، ولأنَّه تَصَرُّفٌ يُزِيلُ المِلْكَ إلى مَن يَثْبُتُ له حَقُّ الاسْتِقْرارِ والتَّصَرُّفِ، فجاز فيما ذكَرْنا، كالبَيع.
فصل: فإن جَعَل وَسَطَ دارِه مَسْجِدًا، ولم يَذْكُرْ الاسْتِطْراقَ، صَحَّ. وقال أبو حنيفةَ: لا يَصِحُّ حتى يَذْكُرَ الاسْتِطْراقَ. ولَنا، أنَّه عَقْدٌ يُبِيحُ الانْتِفاعَ، مِن ضَرُورَتِه الاسْتِطْراقُ، فصَحَّ وإن لم يَذْكُرْه، كما لو أجَرَ بَيتًا مِن دارِه.