الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
بَابُ التَّأويلَ فِي الْحَلِفِ
وَمَعْنَى التَّأويلِ أنْ يُرِيدَ بِلَفْظِهِ مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَهُ، فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ ظَالِمًا، لَمْ يَنْفَعْهُ تَأويلُهُ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ» ، وإنْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا فَلَهُ تَأويلُهُ.
ــ
بابُ التَّأويلَ في الحَلِفِ
(ومَعْنَى التَّأويلِ أنْ يُرِيدَ بلَفْظِه ما يُخالِفُ ظاهِرَه، فإن كان الحالِفُ ظالِمًا، لم يَنْفعْه تَأويلُه؛ لقولِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بهِ صَاحِبُكَ» (1). وإن لم يَكُنْ ظالِمًا، فله تَأويلُه) نحوَ أنْ يَحْلِفَ أنه أَخِي، يُرِيدُ بذلك أخُوة في الإسْلام، أو يَعْنِي بالسقْفِ والبِناءِ السماءَ، وبالبِساطِ والفِرَاشِ الأرْضَ، وبالأَوْتادِ الجبال، وباللِّباسِ اللَّيلَ، أو يقولَ: ما رَأيتُ فُلانًا. أي ما ضَرَبْتُ رِئَتَه (2). ولا ذَكَرْتُه. أي ما
(1) أخرجه مسلم، في: باب يمين الحالف على نية المستحلف، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1274. وأبو داود، في: باب المعاريض في الأيمان، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 200. والترمذي، في: باب ما جاء أن اليمين على ما يصدقه صاحبه، من أبواب الأحكام. عارضة الأحوذي 6/ 107. والدارمي، في: باب الرجل يحلف على الشيء وهو يورِّكُ على يمينه، من باب النذور. سنن الدارمي 2/ 187. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 288، 331.
(2)
في الأصل: «رؤيته» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قَطَعْتُ ذَكَرَه. أو يقولَ: جَوارِيَّ أحْرار. يعني سُفُنَه (1). ونِسائِي طَوالِقُ. يعني النساءَ الأقارِبَ منه، أو يقولَ: ما كَتَبْتُ فُلانًا، ولا عَرَفْتُه، ولا أعْلَمْتُه، ولا سَألتُه حاجَةً، ولا أكَلتُ له دَجاجَةً، ولا فَرُّوجةً، ولا شَرِبْتُ له ماءً، ولا في بَيتي فَرشٌ ولا حَصِير، ولا بارِية. ويَعْني بالمكاتَبَةِ مكاتَبَةَ الرقِيقِ، وبالتَّعْريفِ جَعْلَه عَرِيفًا، وبالإعْلامِ جعْلَه أعْلَمَ الشفَةِ،
(1) في الأصل: «شفتيه» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والحاجَةِ شَجَرَةً صَغِيرَةً، والدَّجاجةِ الكُبَّةَ من الغَزْلِ، والفَرُّوجةِ الدُّرَّاعَةَ (1)، والفَرْشِ صِغارَ الابلِ، والحَصِيرِ الحَبسَ، والبارِيةِ السِّكِّينَ التي يُبرَى بها، أو يقولَ: واللهِ مَا أكَلْتُ من هذا شيئًا، ولا أخَذْتُ منه. يعني الباقِيَ بعدَ أخْذِهِ وأكْلِه. فهذا وأشْباهُه ممَّا يَسْبِقُ إلى فَهْمِ السَّامِعِ خِلافُه، إذا عَناه بيَمِينه، فهو تَأويل؛ لأنه خِلاف الظاهِرِ.
فصل: ولا يَخْلُو حالُ الحالِفِ المُتَأوِّلِ من ثلاثةِ أحْوال؛ أحدُها، أن يكونَ مَظْلُومًا، مثلَ أنْ يَسْتَحْلِفَه ظالم على شيءٍ، لو صَدَقَه لَظَلَمَه، أو ظَلَمَ غيرَه، أو نال مُسْلِمًا منه ضَرَر، فهذا له تَأويلُه. قال مُهَنَّا: سألتُ أحمدَ عن رَجُلٍ له امْرَأتانِ، اسْمُ كلِّ واحدةٍ منهما فاطِمَةُ، فماتَتْ واحدةْ منهما، فحَلَفَ بطَلاقِ فاطِمَةَ، ونوَى التي ماتَت. قال: إن كان المُسْتَحْلِفُ له ظالِمًا، فالنيةُ نِيَّةُ صاحب الطَّلاقِ، وإن كان المُطَلِّقُ هو الظالِمَ، فالنيةُ نِيَّةُ الذي اسْتَحْلَفَه. ورَوَى أبو داودَ (2)، بإسْنادِه، عن سوَيدِ بنِ حَنْظَلَةَ، قال: خَرَجْنَا نُرِيدُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ومَعَنا وائِلُ بنُ
(1) الدراعة: ثوب من الصوف، وجبة مشقوقة المُقدم.
(2)
في: باب المعاريض في الأيمان، من كتاب الأيمان والنذور. سنن أبي داود 2/ 200.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من ورى في يمينه، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 685. والإمام أحمد، في: المسند 4/ 79.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حُجْر، فأخَذَه عَدُوٌّ له، فتَحَرَّجَ القومُ أن يَحْلِفُوا، فَحَلَفْتُ أنَّه أخِي، فخلَّى سَبِيلَه، فأتَينا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فذَكَرْنا ذلك له، فقال:«أنْتَ (1) كنتَ أصْدَقَهُمْ وَأبَرَّهُمْ، الْمُسْلِمُ أخُو الْمُسْلِمِ» . وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الْكَذِبِ» (2) يعني سَعَةَ المَعارِيضِ التي يُوهِمُ بها السَّامعَ غيرَ ما عَناهُ. قال محمدُ بنُ سِيرِينَ: الكلامُ أوْسَعُ مِن أنْ يَكْذِبَ ظَرِيفٌ. يعني لا يَحْتاجُ أن يَكْذِبَ؛ لكَثْرَةِ الْمَعَارِيضِ، وخَصَّ الظرِيفَ بذلك، يعني به الكَيِّسَ الفَطِنَ، فإنَّه يَفْطِنُ للتَّأويلِ، فلا حاجَةَ به إلى الكذِبِ. الوَجْهُ الثانِي، أن يكونَ الحالِفُ ظالِمًا، كالذي يَسْتَحْلِفُه الحاكِمُ على حَق عندَه، فهذا تَنْصَرِفُ يَمِينُه إلى ظاهِرِ الذي عَناهُ المُسْتَحْلِفُ، ولا يَنْفَعُ الحالِفَ تَأويلُه. وبهذا قال الشافعي. ولا نَعْلَمُ فيه مُخالفًا؛ فإنَّ أبا هُرَيرَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:
(1) في م: «إن» .
(2)
أخرجه البيهقي، في: باب المعاريض فيها مندوحة عن الكذب، من كتاب الشهادات. السنن الكبرى 10/ 199. وصحح وقفه على عمران بن حصين، كما أخرجه موقوفًا على عمر. كما أخرجه البخاري موقوفًا على عمران، في: باب المعاريض، في كتاب الأدب المفرد 2/ 334. وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة 3/ 215، 213.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
«يَمِينُكَ عَلَى مَا يُصَدِّقُكَ بِهِ صَاحِبُكَ» . روَاه مُسْلِم، [وأبو داودَ. وعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «الْيَمِينُ عَلَى نِيةِ الْمُسْتَحْلِفِ» . رَواه مسلم] (1). ولأنَّه لو ساغَ التَّأويلُ، لَبطلَ المعْنَى المُبْتَغَى باليَمِينِ، إذْ مقْصُودُها تَخْويفُ الحالِفِ ليَرْتَدِعَ عن الجُحود خَوْفا مِن عاقِبةِ اليَمِينِ الكاذِبَةِ، فمتى ساغَ التَّأويلُ له، انتَفَى ذلك، وصار التَّأويلُ وَسِيلَةً إلى جَحْدِ الحُقوقِ. قال إبراهيمُ، في رجلٍ اسْتَحْلَفَه السُّلْطانُ على شيءٍ بالطَّلاقِ، فَوَرَّكَ (2) في يَمِينه إلى شيءٍ: أجْزَأ عنه، وإن كان ظالما، لم يُجْزِ عنه التأويلُ. الحالُ الثَّالثُ، أن لا يكونَ ظالما ولا مَظْلومًا، فظاهِرُ كلامِ أحمدَ، أنَّ له تَأويلَه، فإنَّه رُوِيَ أنَّ مُهَنَّا كان عندَه، هو والمَرُّوذِي وجماعَةٌ، فجاءَ رجل يطْلُبُ المَرُّوذِيَّ، ولم يُرِدِ المَرُّوذِيُّ أن يُكَلِّمَه، فوَضَعَ مُهَنَّا إِصْبَعَه في كَفِّه، وقال: ليس المَرُّوذِي ههُنا، وما يَصْنَعُ المَرُّوذِيُّ ههُنا! يُريدُ: ليس المَرُّوذِيُّ في كَفه. فلم يُنْكِرْه أبو عبدِ اللهِ. ورُوِيَ أنَّ (3) مُهَنَّا قال: إنِّي أريدُ الخُروجَ -يعني السَّفَرَ إلى بلدِه- وأحِبُّ أن تُسْمِعَني الجُزْءَ الفُلانِي.
(1) سقط من: م. والحديث أخرجه مسلم، في: باب يمين الحالف على نية المستحلف، من كتاب الأيمان. صحيح مسلم 3/ 1274.كما أخرجه ابن ماجه، في: باب من ورى في يمينه، من كتاب الكفارات. سنن ابن ماجه 1/ 685.
(2)
في م: «فورى» . والتوريك في اليمين: نية ينويها الحالف غير ما نواه مستحلفه.
(3)
سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فأسْمَعَه إياه، ثم رآهُ بعدَ ذلك، فقال: ألم تَقُلْ إنك تُرِيدُ، الخُروجَ؟ فقال له مُهَنَّا: قلتُ لَكَ: إنِّي أريدُ الخُروجَ الآن! فلم يُنْكِرْ عليه. وهو مذهبُ الشافعيِّ. ولا نَعْلَمُ في هذا خِلافًا أيضًا. ورَوَى سعيد، عن جَرِير، عن المُغِيرَةِ، قال: كان إذا طَلَبَ إنْسان إبراهيمَ، ولم يُرِدْ إبْراهِيمُ أنْ يَلْقاهُ، خَرَجَتْ إليه الخادِمُ، فقالت: اطْلُبوه في المسْجدِ. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يَمْزَحُ، ولا يقولُ إلا حَقًّا. ومُزاحُه أنْ يُوهِمَ السًّامِعَ بكلامِه غيرَ ما عَناهُ، فقال لعَجُوزٍ:«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوز» (1). يعني أن الله يُنْشِئُهُنَّ أبْكَارًا (2) عرُبًا أتْرَابًا. وقال أنس: إن رَجُلًا جاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ، احْمِلْنِي. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» . فقال: وما أصْنَعُ بوَلَدِ النَّاقَةِ؟ قال: «وَهَلْ تَلِدُ الإبِلَ إلا النوقُ» . روَاه أبو داودَ (3). وقال لامْرأةٍ وقد ذَكَرَتْ له زَوْجَها: «أهُوَ الَّذِي في عَينه بَيَاض؟» . فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنه لصَحِيحُ
(1) أخرجه الترمذي عن الحسن مرسلًا، في: الشمائل 2/ 31. وأسنده ابن الجوزي، في: الوفاء، من حديث أنس بسند ضعيف. انظر إحياء علوم الدين 3/ 1574. والدر المنثور 6/ 158. وحسنه الألباني بشواهده، في: غاية المرام 375.
(2)
سقط من: م.
(3)
في: باب ما جاء في المزاح، من كتاب الأدب. سنن أبي داود 2/ 596. كما أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في المزاح، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذي 8/ 158. والإمام أحمد، في: المسند 3/ 267.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
العَينِ (1). وأرادَ النبي صلى الله عليه وسلم البَياض الذي حَوْلَ الحَدَقةِ. وقال لرَجُل احْتَضَنَه مِن وَرائِه: «مَنْ يَشْتَرِي الْعَبْدَ؟» فقال: يا رسولَ اللهِ، تَجدُنِي إذا كاسِدًا. قال:«لَكِنَّكَ عِنْدَ (2) اللهِ لَسْتَ بكَاسِدٍ» (3). وهذا كلُّه من التَّأويلِ والمَعاريضِ، وقد سَمَّاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حَقا، فقال:«لَا أقولُ إلا حَقا» (4). ورُوِيَ عن شُرَيح، أنه خرَجَ من عندِ زياب (5)، وقد حَضَرَه الموتُ، فقيلَ له: كيف تَرَكْتَ الأمِيرَ؟ فقال: تَرَكْتُه يَأمُرُ وَيَنْهَى. فلما مات قيلَ له: كيف قُلْتَ ذلك؟ فقال: تَرَكْتُه يَأمُرُ بالصبْرِ، ويَنْهَى عن البُكاءِ والجَزَعِ. ويُرْوَى عن شَقِيق أنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرأةً، وتحيه أخْرَى، فقالوا: لا نُزَوِّجُك حتى تُطَلِّقَ امْرَأتَك. فقال: اشْهَدُوا أنِّي قد طَلَّقْتُ ثلاثًا. فَزَوَّجُوه. فأقامَ (6) على امْرأتِه، فقالوا: قد طَلقْتَ ثلاثا. قال: ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّه كان لي ثلاثُ نِسْوةٍ فطَلَّقْتُهُنَّ؟ قالوا: بَلَى. قال: قد طَلَّقْتُ ثلاثًا (7). قالوا: ما هذا أرَدْنا. فذكَرَ ذلك شَقِيق لعُثْمانَ، فجعَلَها
(1) عزاه الحافظ العراقي للزبير بن بكار، في كتاب الفكاهة والمزاح من حديث زيد بن أسلم، ولابن أبي الدنيا من حديث عبدة بن سهم. انظر: إحياء علوم الدين 3/ 1574.
(2)
في الأصل: «عبد» .
(3)
أخرجه الإمام أحمد، في: المسند 3/ 161.
(4)
أخرجه الترمذي، في: باب ما جاء في المزاح، من أبواب البر والصلة. عارضة الأحوذي 8/ 157. والإمام أحمد، في: المسند 2/ 340، 360.
(5)
في النسختين: «ابن زياد» . وانظر: تاريخ الطبري 5/ 289.
(6)
في م: «فقام» .
(7)
سقط من: م.