الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: الشرق الأدنى القديم ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ
مدخل
…
الفصل الثاني: الشرق الأدنى ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ
تعبير "ما قبل التاريخ" تعبير زمني اصطلاحي مرن، يطلق عادة على كل الأزمنة السحيقة التي سبقت عصور اهتداء الأمم القديمة إلى الكتابة وإلى تكوين الوحدات السياسية المستقرة والقوميات الكبيرة. ويرادفه إلى حد ما تعبير حضاري اصطلاحي آخر يقل عنه امتدادًا في الزمن، وهو تعبير "الدهور الحجرية" وتقصد به الدهور التي بدأت معها حضارة الإنسان البدائي، أو التي بدأت بمعنى أصح بالدهر الذي استطاع الإنسان الأول أن يصنع فيه شيئًا بيده عن قصد وهدف، والتي لم يستخدم أهلها معادن مصنوعة، وإنما اعتمدوا أساسًا على أدوات حجرية بدائية كانوا يشكلونها بما يناسب مطالبهم المحدودة ويستخدمون إلى جانبها أدوات أخرى أقل بقاء منها اتخذوها من فروع الشجر ومن عظام الحيوانات الكبيرة النافقة وقرونها وأنيابها الضخمة. ومن الأصداف البحرية الكبيرة حيثما توفرت لهم.
ولا يزيد المعروف من الآثار الحضارية لدهور ما قبل التاريخ وما تضمنته من دهور حجرية طويلة، عن آثار متواضعة ضئيلة خشنة متفرقة لا تكاد ترضي غير المتخصصين في دراستها وبحثها، ولكنها على الرغم من ضآلتها وخشونتها، على الرغم من بطء تطورها واستمرار مظاهرها المتواضعة عشرات الآلاف من السنين، آثار لا يستطيع التاريخ أن يتجاهلها إلا إذا تنكرت البشرية لأصولها الأولى وتناست شقاء أسلافها المبكرين الذين واجهوا وحشية البيئات القديمة وعملوا على أن يستغلوها، وواجهوا جبروت كائناتها العديدة وكافحوها ما استطاعوا، وذلك على الرغم من أنهم كانوا حينذاك لا يزالون قلائل متفرقين، وكانوا لا يزالون عزلًا إلا من عقليات طفلية حائرة وتجارب محدودة متعثرة، في عالم كان البقاء فيه للأقوى دائمًا.
في الدهر الحجري القديم الأسفل:
بدأت بواكير النشاط الحضاري البدائي لإنسان الشرق الأدنى، وما عداه من المناطق الصالحة للإقامة في العالم القديم، في دهر يسمى اصطلاحًا باسم الدهر الحجري القديم الأسفل1، وهو دهر مديد للغاية، لن نطيل في مناقشة امتداده وخصائصه، ولكن يكفي أن نذكر أن الفوارق الزمنية بين النظريات المختلفة في توقيته تبلغ وحدها عشرات الآلاف من السنين، وأنه تعاقبت فيه على مناطق العروض الوسطى والمدارية التي يقع الشرق الأدنى فيها، حقب مطيرة طويلة جدا، وحقب أخرى جافة طويلة جدا2.
1 O. Menghin، Welt Geschichte Der Steinzeit، Wien، 1931، 88 F.
2 See، K. S. Sandford And W.J. Arkell، Palaeolithic Man
…
، Ii، 83 F.; S. A Huzayyin، The Place Of Egypt In Prehistory، Cairo، 1941، 94 F.، 112، 329 F.
وكانت خطوات بواكير الحضارة في هذا الدهر بطيئة للغاية بحيث تشابهت مظاهرها المتواضعة حيثما وجدت آثار البشر في دهرها. واستخدم الإنسان فيها أدواته اليدوية البدائية في الدفاع عن نفسه ضد الحيوان وضد أخيه الإنسان. وكان يستعين بها في تحصيل معاشه، وذلك كأن يستخدمها في صيد الحيوانات الصغيرة وتهشيم عظامها وتقطيع لحومها وسلخ جلودها، ويستخدمها في اقتلاع ما يستسيغ أكله من جذور النباتات، وما يود إسقاطه من ثمار الشجر. واتخذ الإنسان أدواته تلك من الأحجار وفروع الأشجار ومن العظام والمحار، ولكنه حرص حيثما استطاع على أن يتخذ أكثرها استعمالًا في حياته اليومية مما يتوفر في بيئته من قطع الأحجار الصلبة، وقد هدته التجارب إلى أن أصلح الأحجار لأغراضه قطع الظران، فكانت أداته المفضلة عبارة عن زلطة غليظة من الظران1 كان يحرص حين يتخيرها على أن تكون قاعدتها مناسبة لقبضة يده، ويترك هذه القاعدة بشكلها الطبيعي وبقشرتها الطبيعية ما دامت ملساء نوعًا لا تؤذي كفه، ثم يشكل قمتها وجوانبها بما يسمح له بأن يستخدمها في أغراضه المحدودة التي أسلفناها. ويمكن تسمية الواحدة من مثل هذه الأدوات باسم الفهر.
ومرة أخرى لن نتعرض لتفاصيل خصائص الفهر وتطوراته ونحيل من شاء الاستزادة من المعلومات عنه إلى كتابنا عن "حاضرة مصر القديمة وآثارها". وكل ما يعنينا هنا أن فريقًا من الباحثين يفترضون منطقة قديمة واسعة منبسطة متوسطة الموقع معتدلة المناخ مفتوحة المداخل والمخارج تمرس الإنسان الأول فيها على صناعة الفهر الحجري وتطويره، ثم انتشر به منها إلى بقية المناطق الصالحة للسكنى في العالم القديم. ويعتقد بعضهم أن هذه المنطقة ذات الميزات الخاصة كانت ضمن مناطق الشرق الأدنى، وربما في شمال إفريقيا وغرب آسيا بخاصة، وكان منها هضاب مصر وما يحيط بها شرقًا وغربًا2، وهي هضاب كانت تتلقى نصيبًا كافيًا من الأمطار، وتنمو عليها نباتات تشبه نباتات السفانا الحالية ولا زالت شواهد صلاحيتها المناخية القديمة ماثلة في بقاء عدد من الوديان والأخاديد والينابيع شقتها المياه الغزيرة وجرت فيها، ثم جفت أو تحجرت. ولا زالت شواهد سكناها القديمة ماثلة كذلك في وجود أعداد من الأدوات الحجرية البدائية التي خلفها إنسانها الأول في مواضع متفرقة على سطحها.
وقسم الباحثون الحضارات البدائية في الدهر الحجري القديم الأسفل إلى قسمين متعاقبين، وهما: الحضارة الشيلية، أو الأبيفيلية، نسبة إلى قريتين في فرنسا وجدت فيهما نماذج كثيرة لأقدم أدوات الإنسان الأول. ثم الحضارة الأشيلية نسبة إلى قرية أخرى في فرنسا أيضًا عثر الباحثون فيها على نماذج عدة لأدوات حجرية امتازت بتطور نسبي عن الأدوات الشيلية التي سبقتها. ويتلخص هذا التطور بين الحضارتين في بداية اهتمام الإنسان بتصغير سمك وحجوم أدواته الحجرية بعض الشيء ربما ليسهل عليه استعمال أكبر عدد منها، ثم اهتمامه بتحديد حوافها وبتهذيب سطوحها بحيث تصبح مستوية بقدر الإمكان وبحيث ترضي ذوقه بعد أن أرضت مطالبه.
1 انظر عن صناعتها: إبراهيم رزقانة: الآلات الحجرية – القاهرة – ص50.
2 Huzayyin، Op. Cit.، 302 F.