المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في شبه الجزيرة العربية: - الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق

[عبد العزيز صالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الشرق الأدنى القديم

- ‌الفصل الأول: التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله

- ‌مدخل

- ‌في وادي النيل:

- ‌في بلاد النهرين:

- ‌في بلاد الشام:

- ‌في شبه الجزيرة العربية:

- ‌الفصل الثاني: الشرق الأدنى القديم ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ

- ‌مدخل

- ‌في الدهر الحجري القديم الأسفل:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأوسط:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأعلى:

- ‌قرائن العمران:

- ‌من السلالات البشرية:

- ‌بداية الزراعة في فجر التاريخ أو العصر النيوليثي:

- ‌تعدد الحرف وبدايات الفنون:

- ‌وضوح التجمعات:

- ‌تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها:

- ‌الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية

- ‌الفصل الثالث: مصر في فجر تاريخها

- ‌مدخل

- ‌في الفترة النيوليثية الحجرية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌في مرمدة بني سلامة:

- ‌في الفيوم:

- ‌في دير تاسا:

- ‌في الفترة الخالكوليثية النحاسية الحجرية:

- ‌في البداري:

- ‌في حضارة نقادة الأولى:

- ‌في حضارة نقادة الثانية:

- ‌بين الصعيد وبين الدلتا:

- ‌التطور السياسي:

- ‌من تطورات الفنون وتعبيراتها:

- ‌سكين جبل العركى:

- ‌من آثار العقرب:

- ‌صلاية الفحل:

- ‌آثار نعرمر:

- ‌الفصل الرابع: بداية العصور التاريخية

- ‌مدخل

- ‌الكتابة وتوابعها:

- ‌الحكام والإدارة

- ‌مدخل

- ‌أوضاع الحكم:

- ‌في العمران والفكر:

- ‌النشاط الحدودي والخارجي:

- ‌الفصل الخامس: عصور الأهرام في الدولة القديمة

- ‌أولا: الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة

- ‌مدخل

- ‌إيمحوتب وشواهد العمارة والفن:

- ‌قصة المجاعة:

- ‌التقويم:

- ‌ثانيا: الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة

- ‌تجديدات عهد سنفرو

- ‌عهد خوفو:

- ‌تعبيرات الهرم الأكبر:

- ‌هزات مؤقتة في عهد جدف رع

- ‌آثار عهد خفرع:

- ‌أبو الهول:

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌ثالثا: التقوى والرفاهية في عصر الأسرة الخامسة

- ‌مدخل

- ‌خصائص معابد الشمس:

- ‌أهرام العصر ومعابدها:

- ‌الاتصالات الخارجية:

- ‌التطور السياسي والاجتماعي:

- ‌رابعا: البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة

- ‌مدخل

- ‌نمو البيروقراطية:

- ‌أحداث الشمال الشرقي والتنظيمات العسكرية:

- ‌العمارة والفن والمجتمع:

- ‌رحلات الكشف في الجنوب:

- ‌الفصل السادس: عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى

- ‌نهاية دورة

- ‌الثورة الطبقية:

- ‌الغموض:

- ‌انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية:

- ‌ازدهار الفردية:

- ‌عصر الانتقال الأول بين دورتين تاريخيتين

- ‌معالم الفن الإقليمي:

- ‌الفصل السابع: الدورة التاريخية الثانية في الدولة الوسطى

- ‌أولا: عودة الوحدة في عصر الأسرة الحادية عشرة

- ‌مدخل

- ‌استرجاع المركزية:

- ‌الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي:

- ‌صور من المجتمع:

- ‌في العمارة الدينية والفن:

- ‌ثانيا: الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة

- ‌مدخل

- ‌في السياسة الداخلية:

- ‌في العمران:

- ‌في الأساليب الفنية:

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌الفصل الثامن: عصر الانتقال الثاني أو عصر اللامركزية الثانية

- ‌أولًا: عصر الأسرة الثالثة عشرة

- ‌في نصفه الأول:

- ‌مظاهر الأفول في النصف الثاني لعصر الأسرة الثالثة عشرة:

- ‌ثانيًا: محنة الهكسوس

- ‌ثالثًا: مراحل الجهاد والتحرير

- ‌الفصل التاسع: الدورة التاريخية الثالثة في الدولة الحديثة

- ‌تمهيد

- ‌أولا: الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة

- ‌في السياسة الداخلية

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌ثانيا: عودة الكفاح ثم الرفاهية في عصر الرعامسة مع الأسرة التاسعة عشرة

- ‌ثالثا: آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين

- ‌الدفعة الأولى

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌رابعًا: الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين

- ‌خامسًا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة

- ‌الفصل العاشر: الشيخوخة في العصور المتأخرة

- ‌أولًا: التخبط والتداخل في عهود الأسرات 22 - 24

- ‌ثانيًا: دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين

- ‌ثالثًا: النهضة في العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين

- ‌رابعًا: النكسة مع الغزو الفارسي والأسرة السابعة والعشرين

- ‌خامسا: ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30

- ‌مدخل

- ‌الوثائق الآرمية في أسوان:

- ‌الأسرتان الأخيرتان:

- ‌خاتمة المطاف القديم:

- ‌الفصل الحادي عشر: في عقائد الدين والآخرة

- ‌أولًا: عقائد التأليه

- ‌نشأتها:

- ‌خصائصها:

- ‌في سبيل الترابط:

- ‌في سبيل التوحيد:

- ‌ثانيا: عقائد البحث والخلود

- ‌الفصل الثاني عشر: من الأدب المصري القديم

- ‌أولا: في أدب الأسطورة والملحمة

- ‌أسطورة أوزير وتوابعها

- ‌الحق والبهتان

- ‌ثانيا: في أدب القصة

- ‌سنفرو والحكماء

- ‌قصة خوفو والحكيم جدي:

- ‌قصة العاشقين والتمساح:

- ‌قصة الأخوين:

- ‌من قصص المغامرات:

- ‌ثالثا: في أدب النصيحة

- ‌مدخل

- ‌بتاح حوتب:

- ‌آني:

- ‌أمنموبي:

- ‌نصائح المعلمين:

- ‌رابعا: في أدب النقد والتوجعات

- ‌إبوور والثور الطبقية

- ‌القروي الفصيح:

- ‌الكتاب الثاني: العراق، بلاد النهرين

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الثالث عشر: فجر التاريخ العراقي في العصر الحجري الحديث

- ‌أ- في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة

- ‌ب- في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية

- ‌مدخل

- ‌حضارة العبيد:

- ‌ج- قبيل العصر الكتابي

- ‌حضارة الوركاء:

- ‌الفصل الرابع عشر: أوائل العصور التاريخية في العراق

- ‌عصر بداية الأسرات السومرى

- ‌مدخل

- ‌الكتابة المسمارية:

- ‌العمارة الدينية "والزقورات

- ‌العقائد:

- ‌التطور السياسي:

- ‌الفنون:

- ‌المقابر:

- ‌الفصل الخامس عشر: العصر الأكدى 2340 - 2180 "أو 2371 - 2230" ق. م

- ‌مدخل

- ‌الفنون:

- ‌نهاية دولة:

- ‌الفصل السادس عشر عصر الإحياء السومري "منذ 2125ق. م

- ‌في لجش:

- ‌في أوروك:

- ‌في دولة أور:

- ‌الفنون:

- ‌من الأدب السومري:

- ‌نهاية أور:

- ‌في عصر إسين - لارسا:

- ‌تشريع إشنونا:

- ‌تشريع إسين:

- ‌في لارسا:

- ‌في الفن:

- ‌الفصل السابع عشر: دولة بابل الأولى "أو العصر البابلى القديم

- ‌بداية دولة بابل الأولي

- ‌حمورابي:

- ‌من الأدب البابلي:

- ‌الفصل الثامن عشر: العصر الكاسي "1580 - أواخر القرن 12 ق. م

- ‌الحياة الساسية

- ‌العلاقات الخارجية:

- ‌الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة:

- ‌من الحياة الفكرية في العصر الكاسي:

- ‌الفصل التاسع عشر: آشور

- ‌أ- المراحل الأولى: العصر العتيق- العصر القديم

- ‌ب- في العصر الأشورى الوسيط

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌ج- في العصر الأشورى الحديث

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولي:

- ‌مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث:

- ‌الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626 - 539 _25 d9_2582._25d9_2585

- ‌تمهيد: عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور

- ‌التطور السياسي:

- ‌العمران والفنون:

- ‌الأفول أمام نهضة الفرس:

- ‌خاتمة:

- ‌الخرائط واللوحات

- ‌قائمة بأهم المفردات:

- ‌الموضوعات:

الفصل: ‌في شبه الجزيرة العربية:

شهرتها آفاق العالم القديم وأصبحت عصبًا لدويلات مدن مستقلة ثرية. وكان له أثره في توجيه نشاط أهلها وجهة بحرية وتجارية غالبة وقيامهم بدور الوسيط الاقتصادي والثقافي بين المناطق الداخلية في غرب آسيا وبين جزر الحوض الشرقي للبحر المتوسط من ناحية، وبين سواحل إفريقيا الشمالية من ناحية أخرى، كما كان له أثره في تشجيع بعض طوائفهم على الهجرة إلى الخارج عن طريق البحر المفتوح. ثم كان له أثره في استقبالهم هجرات كثيرة وفدت عليهم عن طريق البحر وكانت لها منافعها كما كانت لها أخطارها. وقد أدت هذه العوامل كلها إلى وضوح الاختلاط الجنسي بين أهل السواحل وتزويدهم بنصيب كبير من المهارة التجارية مع المرونة في التعامل وقدرة ملحوظة على التأقلم السريع بخصائص المجتمعات التي عاشروها أو التي اضطرتهم الظروف إلى الانتقال إليها والتماس الإقامة القصيرة أو الإقامة الطويلة فيها.

ص: 13

‌في شبه الجزيرة العربية:

حمت ضخامة الكتلة الصحراوية الكبيرة في شبه الجزيرة العربية أهلها من أخطار الغزوات الكثيفة، فكفلت لهم نعمة الاستقلال آمادًا طويلة، وساعدت على نقائهم الجنسي واللغوي إلى حد مناسب، وجعلتهم وسطاء لا غنى عن الاستعانة بهم في عمليات الوصل التجاري البري بين سواحل المحيط الهندي وسواحل شرق إفريقيا من ناحية، وبين ضفاف الفرات في العراق وسواحل البحر المتوسط في الشام وحدود مصر الشمالية الشرقية من ناحية أخرى. وربما أسبغت عليهم طبيعتهم الطلقة الرحبة القاسية في الوقت نفسه شيئًا من صفاء الذهن وتوقد القريحة، وإن لم يصلنا للأسف من آثارها الحضارية الأولى حتى الآن غير قليل مما أثر عن عشية ميلاد المسيح وصبحه بالنسبة لمناطقهم الجنوبية، وقليل مما أثر عن عشيرة الإسلام وصبحه بالنسبة لمناطقهم الشمالية.

ولكن ضخامة الكتلة الصحراوية الجافة في شبه الجزيرة عملت في الوقت ذاته على تضييق آفاق الاستثمار القديمة أمام أهلها فيما أقامت شعوب الهلال الخصيب القريبة منها حضاراتها المادية عليه، سواء من حيث وفرة الإنتاج الزراعي ورواج الصناعة، أم من حيث اتصال العمران وكثرة السكان. كما قللت تفاعلهم مع هذه الحضارات تفاعلًا إيجابيًّا عميقًا، وإن لم تحرمهم تمامًا من الاحتكاك بها والاستفادة منها استفادة متقطعة عن طريق مناطق الحواف الحدودية وعن طريق الاتصالات التجارية.

وفرضت الظروف الطبيعية لشبه الجزيرة على حياة أهلها نصيبًا من التنوع. وترتب هذا التنوع على ضخامة مساحتها وتباين تضاريسها واختلاف مواقع أطرافها وبطء الاتصالات بينها ثم تفاوت نوعية فرص الاستفادة التي تهيأت لكل جماعة من جماعاتها. فشبه الجزيرة العربية من أكبر أشباه الجزر القارية مساحة كما هو معروف، وقد توزعت فيها تلال عادية الارتفاع وجبال شاهقة الارتفاع. وامتدت حولها سواحل صخرية يصعب الانتفاع بها وسواحل أخرى سهلية يتيسر استغلالها. وانتشرت في بعض أماكنها حرار وبراكين صغيرة ظلت ترمي بالحمم ويصدر عنها نيران ودخان حتى ظهور الإسلام، وشغلت أواسطها صحراويات شاسعة مترامية تنوعت هيئات كثبانها وأشكال رمالها. كما توزعت فيها مناطق تنزلها السيول العنيفة، وأخرى خصبة

ص: 13

تصلح للاستغلال، وثالثة قاحلة تعز عليها موارد الماء من الأرض ومن السماء على السواء، وأدى هذا التباين الإقليمي والتنوع البيئي في شبه الجزيرة إلى اختلافات ضمنية في معايش واتجاهات سكانها القدامى، البدو منهم والحضر، والجبليين والمزارعين، والشرقيين والغربيين والشماليين والجنوبيين، مع اتساع المسافات الفاصلة بينهم، وكان لذلك بعض الأثر أيضًا في حرمان شبه الجزيرة من الوحدة السياسية الكاملة إلا حين وحد الإسلام بين جماعاتها وأطرافها، ثم حين ظهرت الوحدات والدول الكبيرة في العصر الحديث.

وكان أهم ما تداولته المناقشات التاريخية عن توجيهات بيئة شبه الجزيرة العربية لأهلها، هو دفعها لأغلب قبائلهم القديمة إلى التحركات الداخلية من منطقة إلى أخرى بين كل حين قصير وآخر، ثم دفعها لبعضهم في هجرات كبيرة إلى ما يجاورهم من مناطق الهلال الخصيب بين كل حين طويل وآخر.

وتمثلت دوافع التحركات الداخلية القديمة، فيما هو معروف، تفرق موارد الماء، وتغير مناطق العشب والرعي، وتسابق القبائل، والعشائر إلى استغلال هذه الموارد، والمناطق ومحاولة التحكم فيها كلما استطاعت سبيلًا إلى ذلك، فضلًا عن كثرة المنازعات والحروب الداخلية التي تغذيها الطبيعة البدوية والروح القبلية، واضطرار الجماعات المستضعفة إلى النزوح خلالها عن مواطنها المحلية إلى حيث تبحث عن الأمن والاستقرار ولو بعيدًا عنها. وترتبت على هذه التحركات الداخلية مزايا وعيوب. وتمثلت مزاياها في اعتياد البدوي القديم على حرية السعي والانتقال، وتجدد رغبته في أن تظل مسالك الأرض العربية مسالكه يسعى فيها أنى شاء ويتلمس رزقه فيها حيثما شاء، طالما توفرت له الوسيلة والجرأة وطالما اطمأن إلى مساندة عشيرته وكثرتها. وذلك على حين تمثلت عيوبها في أنها كثيرًا ما شلت أيدي رؤساء القبائل الكبيرة القديمة عن توحيد كلمتهم داخل وحدات سياسية مستقرة واسعة تستطيع أن ترسي مقومات الحضارة الثابتة وتطورها وتنميها، إلا لمرات معدودة ولفترات محدودة، وذلك نتيجة لتباعد مواطن بعض هذه القبائل عن بعض، واختلاف مصالحها الخاصة، وتضارب الحريات التي افترضتها لأنفسها، ثم حرص أوفرها عددًا وبأسًا على توسيع مجالات نفوذها وحرياتها وأرزاقها على حساب غيرها، دون كبير اعتبار منها لفكرة الصالح القومي العام ودون التزام كبير منها بحقوق بقية القبائل الغريبة عنها أو العشائر المستضعفة إزاءها، على الرغم من وحدة الجنس واللغة والديار بين الجميع.

ولم تقتصر مظاهر التحركات الداخلية على المناطق الصحراوية الشمالية في شبه الجزيرة، وإنما امتدت مسبباتها ونتائجها كذلك إلى بعض المناطق الصالحة للاستقرار الطويل في الجنوب العربي، فكثيرًا ما أفضت منازعات أمراء القبائل الجنوبية هناك، وأطماع الدول الجنوبية فيما بينها، بل ومنافسات أقاليم الدولة الواحدة منها، كمنافسات الهمدانيين والريدانيين والسبأيين بعضه لبعض، إلى استهلاك قوى دولهم ودويلاتهم وإمارتهم وتقصير أمدها وتشتيت بعض أهلها. وكثيرًا ما دفعت هذه المنافسات بطونا إلى ترك أمهاتها إلى أطراف الجنوب والرحيل عنها إلى مواطن أخرى شمالية بالحجاز وما وراءه، بل وإلى نجد أحيانًا على الرغم من فقر بيئتها الداخلية عن بيئة الجنوب.

وانشعبت الآراء في تعليل دفع شبه الجزيرة العربية لبعض سكانها في هجرات خارجية كبيرة إلى مناطق الهلال الخصيب في العراق والشام ومصر، إلى ثلاثة:

ص: 14

رأي تصور أصحابه "ومنهم كايناتي" أن شبه الجزيرة كانت أشبه بمستودع بشري كبير للساميين، وأن نوبات الجفاف الشديدة الطويلة التي تعاقبت عليها في دورات مناخية ثابتة ظلت عاملًا أساسيًّا في ضيقها بسكانها الزائدين عن طاقة مواردها الطبيعية وظلت سببًا في دفعها إياهم إلى الهجرة الكثيفة منها على حقب متباعدة يفصل بين الواحدة منها والأخرى نحو ألف عام1.

ورأي آخر عارض تعليل الرأي الأول، وهون أصحابه "ومنهم موزيل" من أهمية تأثير نوبات الجفاف في عملية الدفع الكثيف إلى الخارج. ورأوا أن تحديد الدورة المناخية وما بين فترات الهجرة بألف عام ليس له ما يزكيه. وقدروا من ناحيتهم أن أسباب الهجرات العربية الكبيرة القديمة انحصرت أساسًا في عاملين بشريين وهما: تعاقب الضعف السياسي على إمارات شبه الجزيرة العربية من حين إلى آخر، ثم تحول الطرق التجارية عن مسالكها الداخلية لسبب أو لآخر. وأقام هذا الرأي حجته عن أساس أن الإمارات المستقرة القوية تستطيع أن تذود عن ديارها وأن تحمي مواردها الطبيعية وتنميها، وتستطيع أن تحسن استغلالها وتنظم الانتفاع بها، وتستطيع أن ترعى أسباب العمران في أرضها، وتستطيع أن توفر السلام لأهلها وتيسر الرزق لأعدادهم المتزايدة، طالما احتفظت بقوتها، فإذا ما اعتراها التمزق السياسي أدى إلى عجزها عن حماية أرضها ومواصلة مشاريع التنمية والاستغلال ومسايرة العمران فيها، والعجز عن حفظ الأمن والسلام الداخلي، حتى ينتهي الأمر إلى شيوع الفتن والفرقة في أقاليمها، وإلى بوار أرضها وإهمال موارد الري فيها والعجز عن تنظيم استغلالها، والعجز بالتالي عن توفية مطالب سكانها.

ولم يقل أثر تحول الطرق التجارية الرئيسية، في نظر أصحاب هذا الرأي، عن أثر ضعف الإمارات في عمليات الهجرة الكثيفة على أساس أنه كان من شأنه كلما حدث أن يفضي إلى كساد التعامل وبوار الأرزاق وانتشار الفقر والمجاعات على امتداد الطرق التجارية الداخلية وفي محاط القوافل التي يقل نشاطها، ثم يؤدي في نهاية أمره إلى ضيق أهلها بأرضهم وضيق مواردها بهم.

وهكذا إذا اشتد تأثير أحد العاملين، تمزق الإمارات، أو تحول طرق التجارة ومواردها، أو ازدوج هذان العاملان، لم يكن هناك مناص من أن تترك جماعات كثيرة من السكان مواطنها وتهاجر منها إلى مواطن خارجية أخرى تطمع أن تأمن فيها على أهلها وتطمع أن تضمن فيها معاشها2.

ويبدو أن هذا الرأي كان أكثر التفاتًا إلى ظروف الجنوب العربي حيث قامت دول وانهارت، وحيث اشتدت المنافسات الداخلية والخارجية على تحويل طرق التجارة من مسار إلى مسار بين كل حين وآخر.

وجمع رأي ثالث بين وجهتي النظر السابقتين، واعتقد أصحابه "ومنهم حزين" أن العوامل السياسية التي

1 Caetani، "L'arabia Preistorica E L'essi Camento Della Terra

"، Studi Di Storia Orientale. L، Milan، 1911، 51 F. And 289 F. "After Alois Mum، Northern Negd، Appendix X".

2 Alois Musil، Northern Negd، A Topographical Itinera "The Oriental Expleraien And Studies، V"، New York، 1928، 304 F. And 311 F.

ص: 15

تمثلت في ضعف الإمارات وعجز الحكام عن رعاية مصالح أرضهم، كما تمثلت في نشوب الفتن والمنازعات، هي عوامل يشتد أثرها في دفع الهجرات فعلا، ولكنها غالبًا ما تكون عوامل مباشرة وليست عوامل أصيلة. أما العوامل الأصيلة فتتمثل في الجفاف الطبيعي نفسه، وذلك بمعنى أن منازعات القبائل على الماء والمرعى تشتد عادة بعد ظهور الجدب البيئي فعلًا، وأن ضعف الإمارات يشتد بدوره بعد بوار مواردها وبعد حدوث القحط فعلًا، لا سيما وأن نزوح الهجرات كان يبدأ عادة من المناطق المعرضة للجفاف الشديد أكثر مما يبدأ من غيرها1.

ونرى تزكية آراء هذا الاتجاه الأخير، مع إضافة ملاحظة رئيسية عليه، وهي أنه مع منطقية اعتبار شبه الجزيرة العربية مصدرًا أوليًّا لكثير من العناصر السامية القديمة التي انتشرت في الشرق الأدنى القديم، إلا أنه ليس ثمة ما يؤكد اتجاه هجراتهم الكثيفة منها إلى الأراضي الزراعية في بلاد الهلال الخصيب رأسًا وفي دفعات كبيرة أو فترات قصيرة، وذلك لأمرين: أولهما أن نزوح هجرات كثيفة متماسكة من أرض ما يتطلب عاملًا أساسيًّا وهو أن تسمح موارد هذه الأرض في أحوالها العادية بشدة تكاثف سكانها، حتى إذا نزل القحط بها واشتد وطال أمده ونضبت معه مواردها، اضطرت أعداد كبيرة من سكانها الكثيرين إلى أن تنشد لنفسها حياة أفضل من حياة أرضها، وذلك على نحو ما حدث في مناطق الإستبس الأورو آسيوية أكثر من مرة في تاريخها القديم وتاريخها الوسيط.

أما موارد شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة، فلم تكن تسمح بالتكاثف السكاني الكبير، في حدود المعلومات المعروفة عنها حتى الآن وبغض النظر عن الدهور الحجرية المطيرة التي سبقت عصور الهجرات التاريخية بعشرات الآلاف من السنين. وإنما الأقرب إلى الظن فيما يبدو هو أن الهجرات السامية الكبيرة لم تكن تصل من شبه الجزيرة إلى مناطق الهلال الخصيب دون أن تمر ببضع مراحل تمهيدية. وذلك بمعنى أن عوامل القحط والجفاف الشديد وضعف الإمارات ونشوب الخصومات وتغير مسالك التجارة كان من شأنها أن تدفع جماعات قبلية صغيرة أو كبيرة إلى التحرك في هجرات بطيئة متقطعة من شبه الجزيرة إلى بوادي الشام وبوادي العراق حيث المعيشة أنسب وآثار القحط أخف وحيث البيئة أقرب إلى بيتها الأصيلة، وحيث هي معتادة عليها في هجراتها الفصلية. فإذا نجحت أمثال هذه الهجرات القبلية المتقطعة في الإقامة بمواطنها الجديدة مع سكانها الأصليين بناء على تراض واتصالات سابقة، أو بناء على القسر والغلبة، تشجعت جماعات قبلية أخرى من جاراتها وألحقت بها، أو مرت جماعات أخرى بنفس ظروفها وكررت فعلتها

وتبدأ مرحلة تالية إذا طال توطن هذه الجماعات في بيئتها الجديدة، وساعدتها ظروفها على التكاثر الجنسي والتكاثف المعيشي النسبي، واقترب أهلها شيئًا فشيئًا من أطراف الهلال الخصيب بعد أن سمعوا بخيراتها أو دفعتهم ظروفهم إليها، ثم تعاملوا معها ونهلوا بعض الشيء من أرزاقها ولمسوا رخاءها وطمعوا في أن ينعموا بنصيب منه. وترتبط هذه المرحلة بالأمر الآخر الذي بنينا عليه ما أضفناه على المذهب الثالث في تعليل الهجرات العربية الكبيرة، وهو أنه لم يكن من اليسير على أصحاب هذه الهجرات وأغلبهم من البدو الرعاة أن يسارعوا بتغيير حياتهم إلى مزارعين مستقرين في الهلال الخصيب بعد وقت قصير من نزوحهم عن صحراواتهم.

1 S.A. Hazayyin، Arabia And The Far East، Cairo، 1942، 3 F.

ص: 16

وجدير بالذكر، على سبيل التشبيه الضيق، أن طغيان العوامل البيئية على مقومات الحياة البشرية في بعض مناطق شبه الجزيرة وعمله على تقليل فرص الاستقرار والاستثمار الطبيعي أمام سكانها بقيت بعض آثاره حتى العصر الحديث فيما قبل استغلال النفط. فإقليم الأحساء على سبيل المثال، وهو إقليم ساحلي سبخة كثير المياه والزروع في أحواله العادية، كثيرًا ما تعرضت أرضه المحيطة بالعقير والقطيف، وهي من مناطق الاتصال الرئيسية بين المنطقة الشرقية لشبه الجزيرة العربية وبين جيرانها على الخليج العربي وفي جنوب العراق، لزحف الكثبان الرملية الكثيفة التي قد تغطي مزارعها أحيانًا وتطويها، بل إنها لتكسو حين شدتها أشجار الأثل والنخيل النامية في المنخفضات بحيث لا تظهر منها غير أطرافها1. وتكرار مثل هذه الظاهرة أو اشتدادها في عهود ما قبل الثراء البترولي الحديث، كان من شأنه أن يضيق مجالات الزرق أمام أهل المنطقة ويدفع بعضهم إلى الهجرة منها. ولما كانوا أصحاب مزارع ومياه، فإن العراق الجنوبي الزراعي هو أنسب لهجراتهم من غيره. ولكن يغلب الظن أن أمثالهم ما كانوا يتركون أرضهم في شكل هجرة جماعية كبيرة بسهولة، فأرض الوطن عزيزة على أهلها مهما بلغ من فقرها الطارئ. ولنا أن نفترض أن جماعاتهم الصغيرة كانت تتسرب ببطء تدريجي إلى الشمال مدفوعة بقسوة الظروف. وما كانت مثل هذه الجماعات مهما بلغ عددها لتسمح بتشكيل هجرة تاريخية تجتاز العراق مثلًا وتستقر فيه دفعة واحدة، أو تؤثر فيه تأثيرًا جذريًّا، وإنما كان أهلها يتلاحقون وراء بعضهم البعض على فترات، أسرًا وعشائر، ثم يتفرقون على أطراف العراق أو بالقرب منها، إلى أن تكتمل لهم مقومات مرحلة جديدة يمكن أن تجعل منهم أصحاب هجرة فعلية مؤثرة.

وتبدأ مرحلة ثالثة للهجرات الكبيرة حين يتعرف المهاجرون الطامحون على مواطن الضعف في حدود دويلات الهلال الخصيب المستقرة المجاورين لها، فيبدءوا من ثم يترقبون الفرص، حتى إذا تفككت وحدتها وضعفت قوتها وخفت قبضتها عن حماية ذمارها، لأسباب داخلية أو لأسباب خارجية، تسربوا إليها أسرًا وعشائر وشاركوا أهلها معايشهم، أو اندفعوا إليها قبائل وجيوشًا إذا توافرت لهم الزعامات القوية، ثم تغلبوا على أهلها وسيطروا على أرضهم وحكمهم.

ويمكن افتراض ما يشبه هذه المراحل المتتالية بالنسبة للهجرات الأكد: والبابلية والآرامية حتى نزولها أرض الزراعة بالعراق، وبالنسبة كذلك لهجرات الأموريين "والساتو والأخلامو والخابيرو والعابيرو" والكنعانيين والآراميين حتى نزولهم مناطق الخصب في بلاد الشام.

هذا ولم تخل طبيعة شبه الجزيرة من تأثير في عقائد سكانها الأوائل، فقد ترتب على صفاء سمائها في أغلب أحوالها، وتطلع أهلها إلى طيب السماء وأمطارها، واعتماد قوافلهم السارية بالليل على هادية القمر والنجوم، أن اتجه تدينهم إلى السماء أكثر من غيرها، وحاولوا أن يتقربوا من القوى المتحكمة فيها، وجعلوا القمر والشمس والشعرى على رأس أربابهم العديدين، أو هم بمعنى آخر قدسوا أربابًا تخيلوهم يتحكمون في هذه الكواكب الثلاثة وأطلقوا عليهم ما شاءوا من الأسماء والصفات. وظلت ديانتهم في جوهرها ديانة قمرية

1 See، P. B. Corawall، "Explorations In Hasa"، The Geographical Journal، Jan-Feb.، 1946، 3 F.

ص: 17

أكثر منها شمسية1، ربما لشدة هجير الشمس وقلة نفعها بالنسبة لأهل الصحاري بخاصة، وإن لم يصرفهم هذا عن إجلال ربتها ورهبتها.

وأخيرا فليس من شك في أن التنوع البيئي والمعيشي والوجداني والسياسي الذي أوجزناه لأجزاء شرقنا الأدنى القديم داخل وحدته الجنسية واللغوية القديمة الكبيرة، كان مسئولًا إلى حد كبير عن مظاهر التنافس السياسي والحربي التي نشبت بين شعوبه من حين إلى آخر وقطعت عليها سلامها واطمئنانها لفترات، وكان مسئولًا كذلك عن سوء فهم فريق منها للفريق الآخر أحيانًا، ليس على مستوى الشعوب وحدها بل وبين طوائف الشعب الواحد أيضًا في بعض الأحوال، لا سيما في مناطق العراق وبلاد الشام.

ولكن ليس من ريب كذلك في أن ذلك التنوع لم يكن في الوقت نفسه بغير قيم وفوائد حيوية لشعوبه. فقد كان من شأنه أن يحفظ لكل شعب منها شخصيته الإقليمية واضحة، وأن يكفل لكل شعب منها خبراته الخاصة التي اعتز بها واشتهر بها، وأن يطلق العنان لخيال أصحابه كي يشيدوا بعراقتهم وأصالة موطنهم كيفما شاءوا، أن يؤدي إلى ثراء فنون المنطقة في مجملها، وإلى تعدد صناعاتها، باختلاف مقوماتها واختلاف أذواق أصحابها، وإلى فتح مجالات المنافسات الاقتصادية والفنية المشروعة بينها في الأسواق الداخلية والخارجية وكان من شأنه كذلك أن يفتح مجالات الاتصال الحيوية بين حضارات أهله، حين كان يلزم أصحاب كل حضارة بأن يستكملوا ما ينقص بيئتهم من المواد الأولية والكمالية ومن الخبرات الصناعية والفنية من أصحاب الحضارة الأخرى.

ولا زال مدى تأثير كل حضارة من الحضارات الشرقية في أختها، موضعا لمجادلات تاريخية وأثرية طويلة ولكنها مجادلات لا تنفي إطلاقًا عمق صلات هذه الحضارات بعضها ببعض منذ فجر تاريخها البعيد2. وذلك ما سوف تناقشه الفصول التالية في سياق بحثها لمراحل التطور في كل حضارة من حضارات الشرق الأدنى القديم على حدة.

1 ديتلف نيلسن: "الديانة القديمة""فصل من التاريخ العربي القديم – تعريب فؤاد حسنين" – القاهرة 1958 – ص172.

2 See، V. G. Cailde New Light On The Most Ancient East، 1952، 111 F.; H. Frankfort، Ajsl. 1941، 23" F.; The Birth Of Civilization، 1951، 110 F.; Scharff-Moortegat، Die Frukhulturcn A Egyotens Und Mesopotamiens، 1941; H. Kantor، Jnes، 1942، 174 F.; 1952، 239 F.; R. Weill، Recherches Sur La Lre Dynastie Et Les Temps Prepharaoniques، 2 Partie، Paris، 1961، 279 F.

ص: 18