الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واستمرت مركزية الحكم قوية في عهد خلفه الملك أمنمحات الثالث "ني ماعت رع"، وحرص كبار رجال دولته على أن يسجلوا إخلاصهم له، وذهب من تمتعوا بإنعاماته إلى ما هو أبعد من حدود الإخلاص. فسجل رجل منهم يدعى "سحتب إب رع" على نصب أقامه في مقبرته، وصية طويلة وجهها إلى أولاده، أوصاهم فيها أن يخلصوا لفرعونهم قلبًا وقالبًا، ونبههم إلى أن الفرعون يفطن إلى ما في النفوس، وأن عينيه تخترقان الأجسام، وأن شأنه شأن الأرباب، وأنه يستطيع أن يحيي ويميت، وأن الخبر لأوليائه والحرمان لأعدائه
…
، ولا يخفى بطبيعة الحال أن سحتب إب رع تعمد بهذا الإسراف أن يتملق فرعونه لغرض في نفسه ولكثرة إنعاماته عليه، شأنه في ذلك شأن رجال البلاط والحاشية في كل عصر، غير أن المهم أنه لم يخص بالمبالغة فرعونه وحده، إنما مهد بها لتقريظ نفسه أيضًا، فقال وهم يفخر بكفاياته وسجاياه الخاصة التي أبلغته ما بلغه من عز وسؤدد في ظل فرعونه: "إني نبيل على رأس الناس، يرحب أهل البلاط بمقدمه ويفضي الناس إليه بأسرارهم
…
، رجل عدل في نظر أهل الصعيد والدلتا، شاهد صدق مثل الإله تحوتي، أشد دقة من الميزان
…
، مخلص النصيحة، يتحدث صدقًا، ويكرر ما يستحب، لا شبيه له، حسن الإصغاء، حلال للمشكلات
…
، صورة صادقة للود، بريء من ارتكاب الإثم
…
، يحيل البؤس سعدًا، ويدير الأمور إدارة صالحة
…
"1.
1 G. Maspero، Etude De Mythologie، Iv، 137 F. Breasted، Op. Ch. 745، 747.
في العمران:
بدأ مؤسس الأسرة الثانية عشرة حكمه في طيبة، واهتم بمعبد ربها آمون، ولكنه انتقل بعد سنوات بمقر حكمه إلى عاصمة جديدة شمالي الفيوم قرب بلدة اللشت الحالية وأطلق عليها اسم "إثت تاوي" بمعنى رابطة الوجهين أو القابضة على الأرضين. ونستطيع أن نعلل إقدامه على هذه الخطوة بعدة احتمالات، ومنها: رغبته في أن تصطبغ دولته بروح الجدة في مظاهرها ومخبرها معًا وأن تنتسب إليها عاصمة خاصة تذكر بها، ولعله تعمد أن يتخذ هذه العاصمة قرب منطقة بكر يمكن استغلالها في مشاريع زراعية جديدة، وهي المنطقة المحيطة ببحيرة الفيوم "وإن يكن استغلالها لم يتضح إلا في عهود خلفائه". ثم رغبته في أن تنتفع عاصمته الجديدة بخاصية التوسط النسبي بين أقاليم القطر، وأن تجعل بلاطه بعيدًا عن طيبة موطن أنصار الأسرة السابقة عليه، وأن تجعله هو على مقربة من أقاليم أنصاره الذين أزاد سلطانهم وأثابهم على تأييدهم له "في مصر الوسطى"، وكان عليه أن يظل متيقظًا لهم قريبًا منهم حتى لا يسيئوا استغلال السلطان الذي هيأه لهم.
ومع ذلك احتفظت طيبة في بقية عهود الأسرة بمركز العاصمة الدينية، وكان مما استجد من عمائرها مقصورة حجرية شيدت في عهد سنوسرت الأول في رحاب معبد آمون بالكرنك، ولا زالت تعتبر من أمتع آثار الدولة الوسطى الباقية من حيث أسلوبها المعماري ومن حيث رقة نقوشها ودقة تفاصيلها. وقد بناها مهندسه فوق منصة مسطحة مرتفعة يصعد الزائرون إليها على طريق صاعد قصير خفيف الميل يتوسطه درج، ويهبطون منها على طريق آخر يماثله ويواجهه، ولم تكن المقصورة في حد ذاتها غير ساحة مستطيلة تحيط بها
أعمدة رباعية تتصل ببعضها بجدران منخفضة تجعل الساحة وراءها غير مكشوفة كلها ولا محجوبة كلها. ولا زال الرأي يتأرجح بين اعتبار هذه المقصورة الفريدة إحدى مقصورتين احتفل فيهما سنوسرت بعيد يوبيله الثلاثيني، بصفته ملك الصعيد في إحداهما وملك الوجه البحري في الأخرى، أو اعتبارهما استراحة تريح فيها مركب الإله آمون حين يطوف الكهنة بها في منطقة المعبد خلال أعياده.
ولم يحل الاهتمام بمعابد طيبة دون العناية بمعابد العواصم الدينية الأخرى. فقد بقيت من عهد سنوسرت الأول مسلة من الجرانيت بلغ ارتفاعها نحو 22 مترًا، أقيمت باسمه في المطرية الحالية "وهي جزء من مدينة أونو القديمة إلى الشمال الشرقي من القاهرة"، بمناسبة احتفائه بيوبيله الثلاثيني، أمام محور معبد "أتوم". وتعتبر أقدم ما بقي كاملًا من المسلات الكبيرة. وربما جاورتها مسلة أخرى.
وعن شرق الدلتا، تحدث المؤرخون والرحالة الإغريق والرومان: هيرودوت وديودور وإسترابون وبليني، عن قناة كانت تصل بين النيل وبين البحر الأحمر وتبدأ من الفرع البوباسطي للدلتا شمالي الزقازيق بقليل ثم تمتد خلال وادي الطميلات حتى تنتهي إلى البحيرات المرة. ونسب بليني أقدم مشروع لهذه القناة إلى عهد الفرعون "سيزوستريس". ورأى بعض المؤرخين ومنهم الأستاذ جيمس هنري برستد أن سيزوستريس هذا اسم محرف عن اسم سنوسرت الأول "أو هو سنوسرت الثالث وربما كان يعني رمسيس الثاني أيضًا"، وأن القناة بدأت في أيامه. ولكن عارض رأيهم باحثون آخرون ومنهم الأستاذ بوزنر الذي رجح أنه لم يكن لهذه القناة وجود بصورتها ووظيفتها آنفة الذكر حتى شقت في عهد الفرعون نيكاو في عام 600ق. م. على وجه التقريب1، ولا زال هذا الرأي الأخير هو المأخوذ به حتى الآن.
وكشف فلندرز بتري حول هرم سنوسرت الثاني "خع خبر رع" في اللاهون قرب الفيوم في مصر الوسطى عن بقايا بلدة ترجع أهميتها الحضارية إلى أنها من أقدم البلاد المصرية واضحة المعالم التي تعرف الأثريون على رسوم مساكنها، بعد أن تعاون على إخفاء آثار أمثالها بناء بيوتها من اللبن سريع التهدم، واستخدامها للسكنى جيلًا بعد جيل، وقيام مساكن العصور اللاحقة لها على أطلالها. ولا تسبقها في القدم من آثار العمران التي كشف عنها حتى الآن غير مساكن حي لكهنة معبد الوادي لمنكاورع كشف عن جورج ريزنر، ومساكن حي لكهنة معبد الوادي لخنتكاوس كشف عنه سليم حسن، ثم مباني حي صناعي أقيم لخدمة معبد شعائر منكاورع كشفنا عنه في عام 1971 "وذلك فضلًا عن مباني أخرى أكثر عددًا من عصور لاحقة".
وشاء حظ بلدة اللاهون أن شادها أصحابها في منطقة من مناطق الحواف الصحراوية الجافة ثم هجروها بعد إنشائها بأجيال قليلة لأسباب غير معروفة، فغطت الرمال على ما بقي من أطلالها وحفظت منها ما سلم من أيدي القرويين المنقبين عن قوالب اللين والسماد القديم. وهكذا كان للكشف عن بقايا أطلالها في أواخر القرن الماضي، صدى مستحب، وكتب عنها مكتشفها الأستاذ فلندرز بتري أن الأثريين لم يعودوا يتلمسون
1 G. Posener، Chronique D'egypte، Xxvi، 1938، 259 F.
حياة الدولة الوسطى فيما صورته مناظر مقابرها وتحدثت عنه نقوشها فحسب، وإنما غدا في وسعهم كذلك أن يطرقوا الشوارع والأزقة التي مشى فيها أهلها ويريحوا فيها حيث كانوا يريحون.
شيدت هذه البلدة وفقًا لتخطيط مرسوم، وخصصت مساكنها للمهندسين والفنانين والمعماريين والمشرفين الإداريين ورؤساء العمال والصناع الذين اشتركوا في بناء هرم سنوسرت الثاني وملحقاته، كما قامت فيها استراحة ملكية كان الفرعون يسكنها كلما تردد على منطقة هرمه. وأحاطت بالبلدة أسوار سميكة من اللبن ذات بوابتين. وانقسمت في داخلها إلى حيين متمايزين: حي لمساكن الخاصة، وحي آخر صغير لبيوت العمال والصناع. وقامت مساكن الحي الكبير على مثال الدوارات الريفية الواسعة، بحيث قيل إنه بلغت مساحة الواحدة منها نحو 2700 متر "؟ " وتضمن البعض منها في جنباته نحو سبعين حجرة وصالة ودهليزًا ومخزنًا، وتميز في كل منها جناح لرب الدر وضيوفه، وجناح للحريم وغرف النوم. وابتعدت عن الجناحين حجرات الخدم والمطابخ والمخازن. وتوزعت مساكن الخاصة هذه على جانبي شارع رئيسي متسع اخترقت أرضيته في وسطها قناة ضيقة، كسيت جوانبها بالحجر ومالت إليها أرضية جانبي الشارع حتى يسهل أن تنصرف إليها مياه البيوت ومياه المطر. وتفرعت من هذا الشارع الرئيسي طرقات ضيقة توسطت أرضياتها قنوات مماثلة. ويعتبر مثل هذا الإجراء شيئًا مبتكرًا بالنسبة لعصره البعيد. أما حي العمال فتضمن بيوتًا ضيقة متواضعة متلاصقة، واخترقه شارع رئيسي بلغ عصره ما بين ثمانية وتسعة أمتار، وتفرعت منه على جانبية إحدى عشرة حارة بلغ عرض كل منها نحو أربعة أمتار1.
وعثر داخل بيوت اللاهون على كثير من بقايا أدوات الاستعمال اليومي، مثل الصناديق والمقاعد والحصير والصنادل والمغازل، ولعب الأطفال، فضلًا عن أدوات البناء وأدوات النجارة. غير أن أهم ما عثر عليه فيها هو مجموعة برديات كتبت بالخط الهيراطي وتضمنت موضوعات إدارية وتعليمية وطبية2. وتعلقت البردايات الإدارية منها بتعداد للسكان كان رب كل أسرة يذهب خلاله إلى مكتب حكومي يتبع ديوان الوزير في منطقته، فيدلي لموظفيه ببيان عن أفراد أسرته وأتباعه وأعمار أطفاله، ثم يقسم على صدق بياناته، ويستشهد على صحتها وصحة تسجيلها بعدد من الشهود. وينم هذه الإجراء عن رقي النظم الإدارية في أيامه والحرص على التدقيق في صحة بياناتها، وكان يمكن أن يعين على تصور أعداد سكان مصر في عصره لولا أن ما وجد من بردياته لا يزيد عن قصاصات صغيرة تخص بلدة اللاهون وحدها. وتضمنت البرديات ذات الصبغة الطبية جزءًا من بردية طبية لأمراض النساء، وجزءًا من بردية بيطرية لعلاج عيون وأسنان العجول والكلاب، وفي هذه وتلك ما يعني وضوح التخصص في العلاج، إن لم يكن في مهنة الطب نفسها، كما يعني روحًا رقيقة حانية دفعت أصحابها إلى العناية بحيواناتهم الأليفة وعلاجها. وتضمنت قصاصات اللاهون التعليمية تمارين لتعليم الإنشاء وصيغ الرسائل كان التلاميذ ينسخون دروسها وينسجون على منوالها،
1 W.M.F. Petrie، Illahun، Kaham And Gwrob..، London، 1891، And See A. Erman، H. Ranke، Aegypten
…
، 197.
2 See. F. Ll Griffith، Hieratic Papyri From Kahum، London، 1898.
ثم تمارين حسابية ورياضية، كان أمتع ما فيها أخذها بطريقة التربيع والجذر المربع. وتضمينها مسائل تشبه معادلات الدرجة الأولى.
ولعل أهم ما يذكر من المشاريع العمرانية لعهد أمنمحات الثالث، ولعهود الأسرة كلها، هو مشروع الانتفاع بمنخفض الفيوم وتوسيع رقعة الزراعة حوله. ولا تزال تفاصيل هذا المشروع على جانب من الغموض نظرًا لتضارب الروايات التي سجلها المؤرخون والرحالة الكلاسيكيون عنه1. ولكن الصورة العامة المحتملة له، هي أنه قام على أساس توجيه جانب من فيضانات النيل إلى بحيرة الفيوم الواسعة التي كانت لا تزال تحتفظ بعذوبة مائها، لرفع مستوى الماء فيها حتى تنتفع به أكبر مساحة ممكنة من أراضي المدرجات الخصبة التي تحيط بها، ثم الانتفاع ببعض مياهها المخزونة لري الأراضي القريبة منها في غير أوقات الفيضان.
وتم المشروع ببناء سد أو سدود ذات فتحات في أضيق ممر ينفذ منه فرع بحر يوسف الحالي خلال جريانه إلى منخفض الفيوم، وذلك في جنوبه الشرقي عبر أخدود هوارة بين التلال الصحراوية شمال جبل سدمنت. وكان ممرًا يسمى "راحنة" بمعنى فم البحيرة، ثم تحرف اسمه إلى لاهنة وأخيرًا إلى لاهون وهو اسمه الحالي. وسمحت السدود الجديدة ذات الفتحات لرجال الري المصريين بأن يوجهوا مياه الفيضان توجيهًا سليمًا حين تجري على الانخفاض التضاريسي التدريجي من ضفة النهر حتى بحيرة الفيوم، وربما سمحت لهم من ناحية أخرى بإمكان تقليل أو وقف اتجاه الماء إلى البحيرة بعد الفيضان، وتوجيهه عوضًا عنها إلى قناة أخرى تجري إلى الشمال الشرقي منها. وأدى المشروع في نهاية أمره إلى استصلاح نحو ستة وعشرين أو سبعة وعشرين ألف فدان جديدة، كانت شيئًا كبيرًا في زمانها، استغلتها الدولة للزراعة وإنشاء القرى والمدن الجديدة. ويصور أهمية هذا المشروع وأن البلدان التي أنشئت معه ارتفعت نحو عشرين مترًا عن مستوى القرى القديمة التي سبقت عصره، وأن بعض بلدانه الجديدة التي جاورت البحيرة أصبحت مواقعها تبعد الآن عن ضفافها عدة كيلومترات بعد أن انكمشت مساحة البحيرة وانخفض مستوى مائها2. وكان إرساب الطمي داخل وشمال أخدود هوارة قد عمل من قبل على تكوين مثلث خصب داخل البحيرة قامت عليه مدينة شدة "أي الفيوم" التي جاء ذكرها في نصوص الدولة القديمة. ولتوسيع رقعة هذه الأرض الخصبة كان ينبغي تقليل اندفاع الماء إلى منخفض الفيوم بما يسمح بسهولة إرساب الطمي والتقليل من سرعة تبخر ماء البحيرة، ثم حماية هذه الأرض من طغيان الفيضانات المتتالية بعدد من الجسور وقنوات الصرف. وتحتمل بداية هذا المشروع في عهد الملك سنوسرت الثاني بإنشاء سد على فم أخدود هوارة بجوار اللاهون لتنظيم اندفاع الماء، ثم استكمل المشروع في عهد أمنمحات الثالث.
1 Herodotus، Ii، 129; Strabo، Xvii، 809 F.; Diodorus، I، 51-52.
2 Cf. Pasarge، Fajum Und Moeris-See، Geogr. Zeitschrift، XLIV، 1946، 333 F ; Ali Shafei، Fayum Irrigation، Bull. De La Soc. Geog. Royale De L’egypte، XX، 1940; Cah، I، Ch. XX 49 F.