الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في سبيل التوحيد:
جنبًا إلى جنب مع التطورات البطيئة السابقة لأفكار التأليه ظلت فكرة الوحدانية تراود أذهان المفكرين المصريين من حين إلى حين. وقد بدأت معهم على صورة الإيمان بوحدة الخالق. ثم انتقلوا بها إلى الاعتقاد بوحدة الربوبية، وأرهصوا بعدها بما يشبه عقائد الحلول والتشبيه، ثم انتهوا أخيرًا إلى الإيمان بوحدة المعبود1. وإذا انتقلنا بهذا من الإجمال إلى التفصيل ألفينا الاعتراف بوحدة الإله الخالق قائمة في مذهبي عين شمس ومنف القديمين لتفسير نشأة الوجود، حين رد أصحاب كل مذهب منهما الوجود بطبيعته وأربابه وناسه وبقية كائناته، إلى خالق واحد دعوه في عين شمس باسم أتوم، بمعنى الأتم المتناهي، ودعوه في منف باسم بتاح ربما بمعنى الصانع أو الفتاح أو الخلاق "ص65، 87".
وظهرت بوادر الإيمان بوحدة الربوبية منذ اتجه أهل الفكر فيما بين أواخر الدولة القديمة وبين أوائل الدولة الوسطى، إلى إله الشمس باعتباره إلهًا خالقًا وإلهًا أكبر من آن واحد. وجعلوا اسمه قاسمًا مشتركًا مع أسماء بقية المعبودات ولكن دون أن يحاولوا إفناءهم فيه. فأطلقوا عليه أسماء: سوبك رع، وآمون رع، وتحوتي رع، وبتاح رع، وهلم جرًّا
…
، وكأنهم أرادوا بذلك اعتبارهم مجرد صور منه، أو هم بمعنى آخر قد اعتبروا الربوبية التي تجمعهم جوهرًا واحدًا مركزه رع، ولكنه جوهر له أوجه عدة يعبر كل وجه منها عن قدرة ربانية متميزة باسم إلهي خاص، وكان في اقترابهم من هذه الفكرة، فكرة وحدة الربوبية، ما جعلهم قريبين من الاعتراف بوحدة الخلق في الوقت نفسه، فقال قائلهم وهو يسبح ربه الخالق القديم "أتوم" "وقد غدا صورة الإله الشمس":
أتوم، خلقت البشر جميعًا
…
ونوعت هيئاتهم
ووهبت الحياة لهم جميعًا
…
وفرقت بين ألوانهم
يا سميعًا لرجاء الأسير
…
يا لطيفًا بمن دعاه
…
2
ومضى تيار الفكر الديني في طريقه، ووجد أصحابه في اتساع آفاق الدولة الحديثة ما جعلهم يتشوقون غلى الوحدانية الكاملة ويرهصون بها، وبدأها بعضهم بما يشبه عقائد الحلول، فصوروا ربهم "آمون" على
1 راجع: عبد العزي صالح: الوحدانية في مصر القديمة - يوليو 1959 - ص11 - 22.
2 Brit. Mus. 40959; S. Hasan، Hymnes Religieux Du Moyen Empire، 192-193.
أنه فرد مطلق خفي، ولكنه حفاظ لكل شيء، حال في كل شيء، موجود في كل الوجود. ووصفه قائلهم بأنه "أكبر من السماء، وأسن من في الأرض، رب الكائنات، حفاظ كل شيء، وباق في كل شيء"1.
وهكذا آمن القوم بخفاء جوهر ربهم، وتفرده بقدرته العليا، واطمأنوا إلى وجوده في كل الوجود، وإلى رعايته لكل من في الوجود "وإن كانوا قد تخيلوا هذا الوجود في مصر وتوابعها أكثر من غيرها". ولكن عزت عليهم للأسف عدة أمور، أهمها: أنهم لم يكتفوا له باسم واحد، ولم ينزهوه تمامًا عن التشبيه، ولم ينكروا تعدد المعبودات إلى جانبه، فوصفوه فردًا وكبيرًا لجماعة الأرباب في آن واحد ونزهوه عن المادية وتخيلوا له صورًا كثيرة في آن واحد. وتمثلت علل هذا الخلط فيما مهدنا به لنشأة الدين، أي في صعوبة التخلص من القديم الموروث، وفي سماحة المتعبدين، وفي تشابه سبل الدعوة إلى المعروف عند أبتاع كل معبود، وفي افتراض القرابة الوثيقة بين الأرباب المختلفين، وفي منطقة التبرير بأن الإله الأكبر هو الذي خلقهم بأمره ومن نفسه أو من رشحه وأمر برعايتهم، ثم في مرونة الفكر الديني التي لم تأب أن تتقبل الجديد وتضعه جنبًا إلى جنب مع القديم، مع استغلال الفراعنة لكل هذه العوامل لكي يحولوا بها دون تركيز النفوذ الديني في أيدي كهنوت معبود واحد، ولكي يوهموا أبتاع كل معبود أنهم معهم، ولا يأبون عليهم حرية عقائدهم.
وضاقت بكل ذلك صدور بعض المؤمنين في أواسط عصر الأسرة الثامنة عشرة، وتمنوا لو اهتدوا إلى التعبير عن ربهم باسم واحد، والرمز إلى آيات قدرته برمز واحد، وإعلان وحدانيته صريحة واضحة. وأراد المجددون أن يبدءوا بتحديد اسم معبودهم وتحديد رمزه، وأوحى الحذر عليهم أن يربطوا بين الجديد الذي يودونه وبين القديم الذي تعوده أغلب معاصريهم، فبشروا باسم "آتون"، وهو اسم قديم اتجه به أسلافهم أدباء البلاط الفرعوني منذ الدولة الوسطى وجهتين: وجهة لفظية يدل فيها على معنى "الكوكب" ويعني كوكب الشمس بخاصة، ووجهة أخرى لاهوتية ينم فيها عن الإله المتحكم في هذا الكوكب2.
ومنذ عهد تحوتمس الرابع رأى المجددون في اسم آتون ما يفي بغرضهم للتعبير عن اسم ربهم ورمزه، وأقنعوا أنفسهم بأنه لا يقلل من جلال ربهم المطلق أن يرمزوا إليه بآية الشمس كبرى آياته، فما من شك في أن من يتحكم في كوكبها وينظم مسيرته قادرًا على أن يدبر المخلوقات كلها. وسلكت هذه الدعوة سبيلها في حذر وهوادة وتقبلها الكهان بمرونتهم التقليدية.
1 Pap. Boulaq Xvii، I،4.
2 Conffin Texts، D 47، 209; D 50، 230; Xlvii، 208، 226; Sinuhe، B 213; Pap. Petersburg، 1116 B، 24-25; Urk.، Iv، 54; Cairo 34001، 7، 17، Etc.
وراجع: عبد العزيز صالح: البحث السابق - 15.
واتخذ أمنحوتب الثالث منهاجًا وسطًا بين آمون وبين آتون، فحابى آمون وكهنته الأقوياء وأعلن أنه ولي العرش بناء عن بنوته له وبناء عن أمره، وأغدق العطايا على معباده وكهنتها. ثم ساير في الوقت نفسه دعوة آتون وسمح بعبادته جهرة في طيبة، وتقبل إطلاق اسمه على بعض أركان قصره ومحتوياته. وهكذا استمر اللبس بين القديم والجديد، وبين آمون وآتون، خلال عهده.
وبقيت علة العلل بين طرفين: الفرعون الذي كان بيده حسم الأمر لو أراد
…
، لولا أنه جرى على سنة أسلافه، وآثر الإبقاء على تعدد المذاهب خشية أن تتركز سيطرة الدين كاملة في جانب مذهب واحد. ثم كبار كهنة آمون الذين تهيأ لهم من الشهرة والثراء العريض وسلطان المناصب ما أرهب الناس منهم وجعل التغاضي عن عقائهم أمرًا غير ميسور. ولم يعد من سبيل إلى اكتمال دعوة التوحيد إلا إذا اختصم الطرفان أصحاب الزمام: الفراعنة وكبار الكهان، أو تهيأ حوافز جديدة عنيفة لإصلاح الدين كله.
وللمرة الأولى، تهيأ العاملان في عهد أمنحوتب الرابع منذ عام 1367ق. م. وكان ذا نفس حساسة مرهفة، وانجذب منذ صغره إلى تيارات الدين الذي كان خاله من كبار كهنته. وانتوى لنفسه منهاجًا يتزعم به دعوة آتون دعوة التوحيد، وبدأ التبشير به على حذر، فشيد معبدًا باسم آتون في رحاب الكرنك معقل آمون، وأعلن أن العبادة ينبغي أن تتجه إلى "الوالد آتون الحي"، وأن آتون ما هو إلا "رع حر آختي يتهلل في الأفق باعتباره النور الذي في الكوكب آتون"1. واستهدف أمنحوتب من هذه البداية ثلاثة أمور، وهي: أن يحدد رأس عقيدته الجديدة، وألا يفاجئ الناس بأسماء جديدة لم يألفوها، وأن يوحي إليهم بأنه لم يطلب منهم غير العودة إلى معبود الفطرة، معبود أجدادهم الأولين، رع حر آختي، وهو نفس آتون، ذلك الذي رغب الناس فيه بتسميته باسم "الوالد"، وربط بينه وبين آية النور المعجزة المستحبة في كوكبه.
وعلى الرغم من بساطة هذا الاستهلال البارع الذي بدأ أمنحوتب دعوته به، أوجس كهنة آمون خيفة منه، وقدروا أن يافعًا مثله يستطيع أن يتزعم مذهبًا في الدين ويفتي بالرأي فيه، خليق بأن يتأتى على يديه تغيير كبير، فأضمروا له العداء وجافوه، وبادلهم هو جفاء بجفاء، وسارت الأمور بينهما من سيئ إلى أسوإ، وأبدت عين البغض بين الفريقين كثيرًا من مساوئ خافية، ومساوئ أخرى كانت تتغاضى عنها عين المجاملة. وبدا للفرعون ما ذكرناه له حين بحثنا تاريخ السياسة في عهده. وما يتمثل في ضيقه بانصراف الولاء الديني لأرباب عديدين، وانصراف أموال الدولة إلى معبادهم الكثيرة، وضيقه بثراء كبار كهنة آمون واتساع تدخلهم في شئون الدولة، وضيقه بروح المحافظة التي تعللت بالدين وقيدت حرية الناس، ثم أمله في أن يجد من شيوع دينه الجديد خارج مصر ما يحقق رابطة متينة توثق الصلات بينها وبين أتباعها وجيرانها.
وفي العام السادس من حكمه جهر أمنحوتب بعقيدته، وأعلن التوحيد خالصًا، فنادى بإله واحد لا شريك له، ولا محل لتعدد الأرباب والربات إلى جانبه، ليس هو آمون، ولكنه آتون. وليس هو
1 تختلف ترجمتنا هذه عما أتت به أغلب المؤلفات الأخرى. Cf.Gunn،Jea، X، 168 F.
ممن تقوم عبادته خلف أستار وأسرار، ولكنه إله يشهد الناس آياته دون حجاب، ولهم أن يعبدوه حيثما سقط من كوكبه على الأرض شعاع، ونزه فنانوه ربهم عن أن يرمزوا إليه بهيئة إنسان أو جسم إنسان ورأس حيوان، وآثروا له رمز كوكب الشمس بكل ما فيه من قدرة ربانية مستترة وجسم ظاهر مضيء تصدر عنه أشعة عدة، وبمعنى أصح أيد عدة بأكف مبسوطة تمتد على الأرض لتهبها الحياة، وكان رمزًا قديمًا جديدًا في آن واحد، قديمًا في هيئة قرص الشمس، جديدًا بهيئة الأيدي التي بدأ تصويرها منذ عهد تحوتمس الرابع. ويبدو أن الفنانين لم يروا في تصوير أكف الإله المبسوطة انتقاصًا من روحانيته، واعتبروا تصويرها نوعًا من التعبير الفني يغني عن الوصف والكتابة، وشابههم في ذلك فنانو عصر النهضة المسيحيون فيما بعد حين صوروا يد الله بين الغمام ونحتوا لها التماثيل ..
وبدأ أمنحوتب بنفسه، فتبرأ من لفظ آمون في اسمه، وسمى نفسه آخناتون، ربما بمعنى المخلص لآتون أو النافع لآتون أو المجد لآتون، وتختلف هذه الترجمات المقترحة عن الترجمات الأخرى الشائعة. وهاجر بأهله وأتباعه من العاصمة القديمة "طيبة" إلى أرض وصفها بأنها أرض بكر طهور لم يدنسها شرك في العبادة، ولم يعبد فيها من قبل إله أو إلهة، تتوسط أراضي القطر، وتقوم على أنقاضها بلدة العمارنة الحالية، وسماها "آخيتاتون" بمعنى أفق آتون أو مشرق آتون.
وخرجت أناشيد الدين الجديد تناجي ربها بالود والحب والتبجيل، وقالت فيما قالت: "تجليك في أفق السماء بديع، وآتون الحي أصل الحياة
…
أنت البهي، أنت الجليل، أنت المنير، أنت العلي فوق كل أرض
…
".
وعرضت الأناشيد منن الإله الظاهرة في حجج فطرية مقنعة، استخدمت المقابلة فيها بين حال الأرض وأهلها حين غياب نور كوكب الرب وحين ظهروه، فكلما غاب أظلم الكون وأصبح كالموات. وهجع الخلق، وخيف النهب، واستشرى الوحش، ودبت الزواحف. فإذا أشرق آتون بدل الحال غير الحال، فشتت الظلمة وبسط الأشعة وكفل الأمن ويسر السعي. "وظهرت نفس الحجج ضمن ما رددته فيما بعد مزامير العبرانيين، مما دعا ببعض الباحثين الغربيين مثل برستد وجريفث وغيرهما إلى الربط بينهما واعتبار الأناشيد المصرية أصلًا لها".
وكانت مذاهب الدين القديم قد ربطت بين الإله وعباده بروابط شتى، فتخيرت الدعوة الجديدة من هذه الروابط، روابط العطف والحب، وأعلنت أن ربها عظيم المحبة، وأنه أم وأب لكل من خلق، وله يسبح البشر والحيوان والطير والنبات، كل منهم بطريقته وتسبيحه، وقالت:"الزهر ونبت الأرض ينفتح لمرآك، وتتملكه النشوة لمحياك، والأنعام تتراقص على أقدامها، والطيور في أوكارها تطوي أجنحتها وتنشرها تسبيحًا لآتون الحي خالقها .. ، الأرض بأسرها عامرة بحبك، والعشب والشجر يتمايل لمطلع وجهك، وأسماك الماء تتراقص لرؤيتك .. ".
وبلغت الدعوة غايتها حين خرجت بدينها عن الإقليمية إلى العالمية، ونادت بإله رحيم في كل أمره، محبوب في كل أمره، خلق الكون عن حب ورغبة، واقتضت عدالته أن ينتفع القريب والبعيد بفضله، وتنبسط آلاؤه بانتشار أشعته في أقطار الدنيا بأسرها، دون تفرقة فيها بين أبيض وأسود، فلم لا يجتمع الناس إذن على عبادته كما اجتمعوا على النفع منه؟ وقال آخناتون يسبح ربه:
"رب أحد دون شريك، برأت الدنيا وكنت فردًا.
خلقت البشر والأنعام، وكل ما يسعى على الأرض بقدم، ويحلق بجناح في الفضاء.
وأقطار سوريا والسودان وأرض مصر، وجهت كل فرد فيها إلى موطنه، ودبرت للجميع شئونهم، فأصبح لكل فرد رزقه وتعين لكل فرد أجله، وظلت الألسنة بينهم في النطق متباينة والهيئات والألوان متمايزة.
آتون يا ضوء النهار، يا عظيم المجد، بلدانا نائية تهبها الحياة وترسل الغيث من أجلها،
يموج الغيث فوق الجبال كالبحر الخضم ويسقي الحقول بين القرى.
ما أجل تدبيرك رب الخلود، فيضان في السماء لأهل القفار وحيوان الفلا وما يدب على قدم، وفيضان سواه لأرض مصر يأتي إليها من دنيا العدم"1.
وهكذا لم يجد آخناتون بأسًا من أن يذكر اسم مصر العظيمة بعد ذكره الشام والسودان، ما دام الخالق الرازق واحدًا، رحيمًا هنا رحيمًا هناك، جوادًا هنا منعمًا هناك، خلق الجميع على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومواطهنم، وتكفل برزقهم، وكان معجزًا حين وهب مصر فيضانًا من باطن الأرض، كريمًا حين وهب غيرها فيضانًا من جوف السماء.
وتزعم آخناتون مجالس الدعوة وأعلن نفسه نبيها والمصطفى لنشرها، واصطفى لنفسه حواريين يعلمهم كما علمه الإله2. ورأى أن تشييد دور العبادة خير سبيل لنشر الدعوة، فعمل على الإكثار منها باسم آتون في أمهات المدن المصرية، وأوحى بإقامة أمثالها في عواصم النوبة والشام. وجعل مدينته "آخيتاتون" مدينة فاضلة تعمل للدين والدنيا معًا، تبشر بالإيمان السمح المستبشر، وتشيد بالعدل في كل أمره، وتتردد تسابيح الشكر والصلوات لآتون في معابدها، كما تتردد الأغاني والأنعام وأهازيج حب الطبيعة والجمال في مجالسها.
وعكس هو وأتباعه جوهر الدعوة على الآداب والفنون، فحاولوا أن يخلصوهما من ركام التقاليد وقيود التراث القديم التي لا توائم دعوة التحرر والاعتراف بالواقع في عهدهم، فتخففوا من أساليب الأدب المتقعرة القديمة وغلبوا عليها لغة الحديث المقبولة الشائعة. وبدأ آخناتون بنفسه في دعوة تحرير الفنون،
1 Davies، El-Amarna، Vi، Pl. Xxxvii; Sandman، Texts From The Time Of Akhenaten، 1938، 93 F.; Ii، 5-6; 12، 10; 15، 7، Etc
…
2 Ibid.، I، 7 F.، 60، 6; 80، 17 F.; 92، 8-9. Cf. Zaes، 1967، 25-50.
ففتح مغاليق قصره للمثالين والرسامين، فمثلوه في بشريته الخالصة وصوره هو وأسرته في حياتهم العادية، حين فرحهم وحزنهم، وعبثهم وجدهم، وتوهم أنصار الدعوة أن الأمور قد صفت لهم، وتمنوا لفرعونهم ومعلمهم أن يظل بينهم وفي عاصمتهم "حتى يسود البجع، ويبيض الغراب، وتتحرك الجبال، وينساب الماء إلى حيث ينبع"1.
وعلى الرغم من ذلك كله لم يطل الأمد بدعوة التوحيد، ولم يتهيأ لها من كثرة الأتباع ما كان يرجى لمثلها، ولم ينته الأجل بصاحبها حتى كان قد رأى عوامل التحلل والفشل تدب فيها من حيث ظن الخير ومن حيث لم يحتسب. وتمثلت هذه العوامل فيما قدمنا به عنها حين حديثنا عن الجوانب السياسية في عهده، ومجملها: عدم خروجه بنفسه للترويج لدعوته في أمهات العواصم داخل مصر وخارجها، وتقبله إسراف أنصاره في تمجيده حتى أعلنوه ابنًا للإله وأوشكوا أن يؤلهوه وأن ينشغلوا بشخصه عن ديانته، وأن دعوته لم تأت بجديد يجذب العامة إليها في حياتهم الاقتصادية أو الطبقية، وأن عقائد التعدد كانت قد تغلغلت في عادات الناس بحيث يصعب انتزاعها من نفوسهم بسهولة، وأن سمعة آمون القديمة ونفوذ من بقي من كبار كهنته كلاهما لم تخمد جذوته على الرغم من الرماد المؤقت الذي غطاها، وأن الشرق القديم الذي أمل آخناتون أن يجتذبه إليه بدعوته إلى عالمية الدين وإلى روح المسالمة والإخاء، كان في شغل شاغل عنه بمشاكله وبمن تنازعوا أموره من الأموريين والكنعانيين والأراميين والعابيرو والخابيرو، وبمن احتربوا عليه من الميتانيين والحيثيين. بل إن مشاكل أسرة آخناتون نفسها واتجاهات أمه وزوجته لم تكفل له الهدوء كاملًا، ولم يكن له ولد يرثه على العرش والدعوة، وإنما أخوان صغيران، اتجه أحدهما وهو "سمنخ كارع" إلى مهادنة كهنة آمون في حياة أخيه، وسلم الآخر وهو توت عنخ آتون ببأس خصومه والأمر الواقع بعد وفاة أخيه، فارتد عن دين آتون، وعاد إلى طيبة مقر آمون، وولي عرشها باسم "توت عنخ آمون" وناصر دينها وعمر معابد أربابها ورباتها.
وسلكت نفحة الوحدانية بعد ذلك مسالك أخرى تحاشت فيها نقمة أنصار التعدد فضمنت بقاءها ولو بين القلة من خاصة أهل الفكر في مجتمعها، مما نتناول تفصيله في بحث آخر2.
1 Sandman، Op. Cit.، 9; Erman، Op. Cit.، 393.
2 راجع المؤلف: ديانة مصر القديمة - القاهرة 1984.