الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين
1087 - 945ق. م
ارتبطت سياسة هذه الأسرة بأحداث الفترة الأخيرة من عصر الأسرة السابقة لها، وبدأت بعاصمتين للحكم: عاصمة في طيبة التي ضمن فيها كبار كهنة آمون خلفاء حريحور صاحب السلطان الواسع في عهد رمسيس الحادي عشر، لأنفسهم حكمًا ثيوقراطيًّا اعتمدوا في تدعيمه على ما تخلف لمدينتهم مقر آمون رع رب الدولة، من ثراء موروث وسيادة دينية، وزعامة صعيدية، وإشراف على خيرات النوبة. وقد مدوا نفوذهم حتى الحيبة في مصر الوسطى وحصنوها1. ثم عاصمة في بر رعمسسو "أو "تانيس" بشرق الدلتا حكم فيها بيت نيسو بانب جد "أو نس بانب جدة" الذي ذكره أفريكانوس عن مانيتون باسم سمندس "الأول"، صاحب السلطان في الوجه البحري ومصر الوسطى منذ عهد الملك نفسه، وقد استند أفراده إلى اعتبارهم الورثة الشرعيين للأسرة السابقة لهم بحكم قرابتهم أو مصاهرتهم لها بعد أن أيد رأسهم شرعية سلطته بزواجه من تانت آمون سليلة الرعامسة، كما شجعهم ما كانو يصيبونه من ثراء ورخاء نسبيين نتيجة لإشرافهم على تجارة مصر الخارجية مع آسيا الغربية وحوض البحر المتوسط. وقد وجد هذان البيتان الحاكمان أنه لا قبل لأحدهما بتجاهل الآخر أو الانفراد بالأمر دونه، فأتما سياسة المسالمة التي بدأها حريحور، وزاوجا بين سلطتيهما الدينية والدنيوية عن طريق مصاهرة بيتيهما، واعتزا معًا بمذهب آمون رع. وكان أكثر الغنم في تحالفهما للبيت الشمالي، إذ بقيت الألقاب الفرعونية في رجاله. وتلقب أغلب فراعنة هذا البيت الشمالي بلقب ستبن آمون ولقب مري آمون، أي المصطفى من آمون وحبيبه، مما يعني حرصهم على إبقاء صلاتهم برب طيبة رب الدولة الكبير. وثمة نص في محاجر الجبلين ينسب إلى نيسو بانب جد أنه جلس ذات مرة في قصره في منف يفكر في عمل يكسبه التكريم، وكان قد بلغه أن بهو أعمدة بني في عهد تحوتمس الثالث في الأقصر قد طغى الماء عليه حتى كاد أن يبلغ سقفه، فأرسل ثلاثة آلاف عامل لقطع الأحجار وترميمه. وقد يعني هذا العمل رغبة الفرعون في مد نشاطه ومآثره إلى طيبة. وأيد حكام طيبة بدورهم سلطتهم باتخاذ أكثر من اسم واحد على عادة الملوك، ولكن قلما وضعوا أسماءهم في الخراطيش الملكية. وجمعوا بين ألقابهم الكهنوتية وبين ألقاب عسكرية مثل القائد الكبير للجيش، والقائد الأعلى للجيش في البلاد كلها.
ولا زال بعض الجدل قائمًا حول تأريخ عصر الأسرة الحادية والعشرين وتتابع ملوكه وكبار كهنته، بل وحول الصيغ المرجحة لألقاب هؤلاء وهؤلاء. وكان أفريكانوس قد نقل عن مانيتون ذكر سبعة أسماء لملوك هذا العصر نسبهم إلى العاصمة تانيس وقدر مجموع مدد حكمهم بمائة وثلاثين عامًا. واحتفظت الآثار المكتشفة حتى الآن والنصوص الموجزة المسجلة على التوابيت وأكفان المومياوات بما يزكي صحة بعض هذه
1 See، H. Kees، Op. Cit.; Ancient Egypt، 203.
الأسماء وما يزاد عليها. وبينما افترض الرأي الغالب بين المؤرخين المحدثين لمجموع مدد حكم أولئك الملوك 142 عامًا "امتدت بين عام 1087 وعام 945ق. م"، افترض لهم رآي آخر 124 عامًا "بين عام 1069 وعام 945ق. م"، وافترض لهم رأي ثالث 144 عامًا "امتدت بين 1089 - 945ق. م"1. وقد سلفت الإشارة بأنه مهدت لهذا العصر فترة أحد عشر عامًا بدأت بما اعتبره كبار كهنة آمون عصر نهضة، واقتسم السلطة الفعلية خلالها في أواخر حياة رمسيس الحادي عشر "بين 1098 - 1087، أو بين 1080 - 1069، أو بين 1100 - 1089ق. م"، كل من نس بانب جدة "سمندس" في العاصمة بر رعمسسو "أو تانيس"، وثلاثة من كبار كهنة طيبة كانوا على التتابع: حريحور "لنحو ست سنوات"، وبي عنخ "لفترة أربع سنوات"، ثم بي نجم "لفترة عام واحد"، وإن احتمل رأي آخر أن تكون فترة رياسة بي عنخ لكهنوت طيبة قد استمرت لبضع سنوات أخرى حتى عام 1064ق. م1.
وعلى عرش العاصمة بر رعمسسو طال عهد نس بانب جدة بعد وفاة رمسيس الحادي عشر 26 عامًا، ثم تتابع بعده الملوك: آمون منيسو "لفترة 4 سنوات"، وباسبا خع مني "أو منو" الذي ذكره مانيتون باسم بسوسينيس الأول وطال حكمه 46 أو 48 عامًا، وأمنموبة، وقد شارك سلفه عامين ثم استقل بالعرش لنحو 9 سنوات، وملك ذكره مانيتون باسم أسوخور "؟ " اشترك مع سلفه ثلاث سنين ثم انفرد بالحكم ست سنوات، وسا آمون لفترة 17 أو 19 عامًا، وباسبا خع مني "أو منو" الثاني "بسوسينيس الثاني" لفترة 24 عامًا، وذلك مع بعض الشك في أسبقية الملك الثالث في قائمة هؤلاء الملوك للملك الثاني منهم2. ومن استعراض مدلولات هذه الأسماء يتضح مدى إصرار أصحابها على الانتساب إلى آمون رب طيبة، فضلًا عن الدلالة الواضحة لاسم "باسبا خع مني" الذي يعني "النجم قد شع في المدينة" وهي مدينة طيبة.
وفي سبيل تحقيق الوفاق مع سلطات طيبة الدينية، ومن أجل تزكية امتداد نفوذهم فيها في الوقت نفسه، زوج بعض أولئك الملوك بناتهم لكبار كهنة آمون الذين تتابع منهم بعد حريحور وولده بي عنخ، أي بعد وفاة رمسيس الحادي عشر، ستة أو سبعة وهم: بي نجم "الأول"، وماساحرتا، وحج خنسف عنخ، ومن خبر رع، ونس بانجد "سمندس الثاني؟ "، وبي نجم "الثاني"؛ ثم باسباخع منو "بسوسينيس الثالث؟ ".
وكفل ملوك بر رعمسسو لبناتهم بهذه المصاهرات ممارسة نصيب من النفوذ الديني في طيبة لا سيما مع
1 Compare، J.H. Breasted، A.R.، Iv، 606-7; Gardiner، Egypt Of The Pharaohs، 323-324، 330، 447; K. Kichen، The Third Intermediate Period In Egypt “1100-650 B.C.”، 1973، 5-6، 32 F.، 225، 465-466.
دريوتون وفاندييه: مصر - معرب بالقاهرة - ص565، 620.
2 ومن أسماء العرش الأخرى لهؤلاء الملوك وفق ترتيبهم المقترح: حج خبر رع ستبن رع "1"، نفر كارع - حقا واسة "2"، عاخبر رع - ستبن أمون "3"، وسرماعت رع - ستبن أمون "4"، "5"، نثر خبر رع - ستبن أمون "6"، تيت خبرو رع - ستبن رع "7".
رئاسة كل منهن لكاهنات آمون وتلقبها بلقب "الحرم المقدس لآمون"، وإن نقلت بنات الملوك إلى أزواجهن أو أولادهن بهذه المصاهرات في الوقت نفسه حقوقًا شرعية استغلها بعضهم في اتخاذ ألقاب الملوك كما فعل بي نجم "الأول". وقد تشجع ولداه منها ماساحرتا ومن خبر رع على اتخاذ ألقاب الملكية أيضًا على التتابع. ويبدو أن ثورة نشبت في طيبة بعد وفاة أولهما وأدت إلى الاستعانة بوحي آون في نفي زعمائها إلى الواحة الخارجة حتى عفا عنهم من خبر رع وأعادهم إلى طيبة لتهدئة نفوس أهلها. وعندما استتب الأمر له عاود التنكيل بهم مستعينًا بوحي آمون للمرة الثانية. وبسياسته هذه ذات الوجهين طال عهده 48 عامًا وأشرف على موارد الأقاليم التي تمتد من بني سويف إلى أسوان ومن ساحل البحر الأحمر إلى الواحات، ثم ورث زعامة طيبة لولديه على التوالي1.
يرجع الأصل القديم للقب "الحرم المقدس لآمون" إلى عصر الأسرة السابعة عشرة وعصر الأسرة الثامنة عشرة، وبدأ تشريفيًّا ثم جمع بين الصبغة الدينية وبين النفوذ الكهنوتي. وقد آثرنا له هذه الترجمة التي تعني من تلوذ بالإله وتكتسب شيئًا من حرمته وتشرف على حرمه المقدس وعلى كاهناته، عوضًا عن ترجمته الشائعة بعبارة زوجة الإله آمون2 " God's Wife Of Amun" ذلك أنه كان مما اختلفت الديانة المصرية به عن غيرها من الديانات الوضعية المعاصرة لها أنها لم تأخذ بمثل المدلول الحرفي للقب زوجة الإله وهو المدلول الذي أدى في أمم أخرى إلى ما يسمى بالبغاء الديني وبمقتضاه تهب الكاهنة نفسها راضية للإله أو للملك أو كبير الكهنة الممثل للإله، على اعتبار أنها تضحي بذلك بأعز ما تملك لإرضاء ربها ومن أجل خير شعبها ولتوفير خصوبة الأرحام فيه وخصوبة أرضه. وقد لقبت الأميرة ماعت كارع بلقب "الحرم المقدس لآمون" وهي طفلة مما يؤكد أنها لم تخضع للمدلول الحرفي الملقب زوجة الإله، ثم تزوجت بي نجم "الأول".
وقد مال بعض الباحثين إلى اعتبار عصر الأسرة الحادية والعشرين بداية للعصور المصرية المتأخرة، ربما على أساس غلبة الخمول على سياسته وضعف وحدة الحكم الأعلى فيه، وتقلص النفوذ المصري خلاله خارج الحدود وتوزع السلطة فيه بعض الشيء بين الملوك. وذهب رأي آخر قال به ألكسندر شارف ثم توسع فيه كنيت كتشن، إلى اعتبار عصر الأسرة الحادية والعشرين، وما يمتد منه حتى نهاية الأسرة الخامسة والعشرين عصر انتقال ثالث3 توسط بين العصر الزاهر للأسرة العشرين وبين بداية عصر الأسرة السادسة والعشرين الذي جرى الاصطلاح على تسميته باسم عصر النهضة الصاوي "وإن سبقته نهضة أخرى في عصر الأسرة الخامسة والعشرين".
1 Louvre C 256، Breasted، A.R.، Iv، 650-8.
2 دريوتون وفاندييه: المرجع السابق - ص566 - 569.
Sander-Hansen، Das Gottesweib Des Amun، 1940
3 يقارن على سبيل المثال كيف يضع أ. هـ جاردنر تاريخ هذا العصر تحت عنوان: مصر تحت الحكم الأجنبي.
Gardiner، Op. Cit.، Ch. Xii، 316 F.
ويضعه جون ويلسن: الحضارة المصرية - معرب بالقاهرة ص457 - تحت عنوان: القصبة المرضوضة، ويضعه أحمد فخري: مصر الفرعونية - الفصل الثامن - ص329 - تحت عنوان: العصر المتأخر.
And See K. Kitchen The Third Intermediate Period In Egypt. “1100-650 B.C.”، 1973.
ولا شك في أن هذه كلها أسبابًا وجيهة، ولكن ينبغي أن يلحظ إلى جانبها أن مصر وإن لم تحقق توسعًا خارجيًّا يذكر في عصر الأسرة الحادية والعشرين إلا أنها حافظت خلاله على حدودها الخاصة، كما حافظت على استقلالها دون شائبة تشوبه، وظل حكمها الأعلى في أيد مصرية قومية سواء أكان ذلك في بر رعمسسو أم في طيبة، وكل ذلك مما يفرق بين أوضاع هذا العصر وصورته العامة وبين أوضاع أخرى أكثر سوءًا منها شهدتها العصور التالية لعصر الأسرة الحادية والعشرين واستوجبت من أجلها أن تسلك في العصور المتأخرة، المتأخرة من حيث الزمن، والمتأخرة ضمنًا من حيث الحضارة، ومن حيث العناصر الدخيلة التي أثرت في حياتها.
وعلى أية حال فقد أدت سياسة المسالمة واقتسام المغانم في عصر الأسرة الحادية والعشرين بين البيتين الكبيرين في بر رعمسسو وطيبة، إلى الإبقاء على نظام الحكم الثنائي مائة واثنتين وأربعين سنة اتسمت بالفتور وبالسياسة الانطوائية في مجملها، وتأثرت في ذلك بعوامل داخلية وخارجية تمثلت في أن مصر بعد أن قطعت نحو خمسة قرون في يقظة شبه متصلة خلال الدولة الحديثة أرهقت وأسنت ووقعت في استرخاء طويل، وأن مشاركة كبار كهنة آمون في مسئوليات الدولة قد خدرت الناس باسم الدين، وأن مصر لم تتعرض لهزات خارجية عنيفة تجبرها على الحركة. فالمناطق الجنوبية منها كانت قد اصطبغت بالحضارة المصرية المهذبة وربطت مصائرها بمصائرها، وبلاد الشرق الأدنى كانت في شغل شاغل بمشكلاتها الإقليمية بعد أن استقرت شعوب البحر في مواطنها الجديدة، وبعد أن انشغلت كل دولة ودويلة في الهلال الخصيب بمحاولة إثبات كيانها على حساب جيرانها، فانشغل الآشوريون مع الآراميين في نزاع طويل، وشهد جنوب الشام منافسة طوائف العبرانيين بعضهم لبعض على الحكم وزعامة الدين، فضلًا عن حروبهم المتقطعة مع دويلات الكنعانيين والآرميين والفلسطينيين، ثم نجاح داود في تأسيس مملكته على حساب بعض جيرانها. أسلفنا أن العصر وفر لمصر استقرارًا مديدًا، ولكنه لم يكن استقرارًا من النوع الذي عرفته مصر في عصور قوتها وإنما كان استقرارًا فاترًا، لم يخل من خصومات بين الحكام، وانقسامات طائفية، ومؤامرات من الجماعات المهاجرة التي استوطنت في أقاليم الحدود الغربية1، وهذه سوف تصبح فيما بعد شر البلية.
وليس من المستبعد أن يكون تاريخ عصر الأسرة الحادية والعشرين في مصر مغبونًا بمحض المصادفة، نتيجة لقلة ما كشف من آثاره الصعيدية حتى الآن، ونتيجة لتحلل أغلب آثاره في الدلتا بفعل رطوبة أرضها وكثافة طميها وكثرة فروعها المائية واتساع مناقعها القديمة. وذلك بحيث لا يكاد التاريخ يعرف من نشاط هذه الأسرة في الحقل الداخلي غير استمرار الاهتمام بعمائر الإله آمون رع وبقية الأرباب الكبار، وذلك على الرغم من قلة إمكانيات عصرها قلة نسبية. ثم تغليب طابع الدين على روح العصر وسياسة الحكم فيه. وكان من صور هذا التغليب أن جعل الحكام لاستخارة الإله آمون ووحيه نصيبًا كبيرًا في حل
1 Louvre C 256; Kees، Ancient Egypt، 282 F.
المشاكل الكبيرة، وبمعنى أصح جعلوا لتوجيهات كبار كهنته نصيبًا في حل مشكلات بلدهم، إرضاء للكهنة كشركاء، ورغبة في أن يتخففوا هم من عبء المسئوليات وأن يلقوا عواقبها على عاتق وحي آمون1. وجرى كبار الكهنة من ناحيتهم على إجراء سنه لهم رأسهم حريحور، وهو العناية الشخصية بالسلف الصالح عن طريق رعاية جثث الفراعنة القدامى الذين انتهكت حرمة مقابرهم في فترات الاضطرابات منذ أواخر عصر الرعامسة، وترميم توابيتها، وكان ذلك الإجراء هو أهم مآثرهم على التاريخ، إذ ظلت هذه الخبيثة الثمينة مصونة مجهولة حتى كشف عنها في أواخر القرن الماضي، كما سنفصل ذلك في الصفحة التالية.
وظلت إمكانيات الدولة المادية محدودة، بحيث استعانت في بعض منشآتها المعمارية بأحجار المباني القديمة، وانكمشت بر رعمسسو "أو تانيس" العظيمة عاصمة الرعامسة إلى نصف مساحتها السابقة2. ولكن لم يحل هذا الأمر أو ذاك دون استمرار الفراعنة وكبار الكهنة على حب الترف القديم في شئون الدنيا ومطالب الدين وبناء المقابر الضخمة، وأن يظلوا أكبر المستفيدين دائمًا من إمكانيات عصرهم، الأمر الذي تجلت مظاهره في ثراء ما كشف عنه من مقابر ملوك تانيس وأمرائها وأثريائها "لا سيما بسوسينيس، وموت نجمة، وأمنموبة، وأونوجباونجد"، بمدخراتها الفضية والذهبية الرائعة، وما أبقت الأيام عليه من توابيت كبار الكهنة والكاهنات في طيبة بكنوزها وصورها الملونة ونصوصها العقائدية3.
أما في العالم الخارجي، فلا تسمح المعلومات الراهنة بغير تصوير جانب ضئيل من علاقات مصر بمملكة داود، وكانت علاقات عادية في مجملها وفي ظاهرها، ولكنها لم تمنع من التجاء الأمير هداد "أو حداد" حاكم إدوم في جنوب فلسطين إلى مصر بعد أن خرب داود وقائده يعقوب إمارته، وسفك دماء آلاف من رجالها، واستباحها لجيشه ستة شهور، ووجد هداد في مصر الرفد والملجأ، وزوجه فرعونها "مجهول الاسم" من أخت زوجته، وأكرمه حتى عاد إلى إمارته بعد وفاة داود وأصبح من ألد خصوم ولده سليمان4.
وعندما اتسع سليمان بملكه واشتهر أمره، مال إلى محالفة المصريين، وهنا استحب الفرعون المصري "الذي قد يكون سا آمون أو بسوسينيس الثاني" أن يظهر لسليمان قدرة مصر ويبين له أن تحالفها معه هو تحالف الأقوياء، فبعث ببعض جيشه إلى جنوب أرض كنعان حيث استقرت جماعات من شعوب البحر منافسي سليمان، وسيطرت قواته على مدينة جزر التي عجز العبرانيون عنها عدة مرات، ثم جعلها بائنة لابنته التي رضي أن يزوجها لسليمان5، وفي ذلك ما يعني ضمنًا أن مصر ظلت حتى في عهود ضعفها أقوى مرات من ملك سليمان الذي تحدثت به الأمثال بالنسبة لما كان عليه ملك أسلافه وجيرانه بطبيعة الحال.
1 Anc. Records، Iv، 650 F.; Rec. Trav.، Xxxii، 175 F.; Jnes، Vii، 157 F.; Jea، Xli، 83 F; Xlviii، 57.
2 Op. Cit.، 203.
3 Asae، Viii، 3 F.; P. Montet، La Necropole Royale De Tanis، I-Iii، 1947-1950; Kemi، 1942، I F.
4 الملوك الأول 10؛ 14 - 22.
5 الملوك الأول 9: 16 - والواقع أن تحديد اسم هذا الفرعون لا زال في مرحلة الفروض، فهو قد يكون أحد الاثنين اللذين ذكرناهما أو يكون أول ملوك الأسرة التالية لهما.
See، Gardiner، Egypt Of The Pharaohs، 329-339; Cambridge Anc. Hist.، Op. Cit.، 53-54.
وإذا كان نهب المقابر الملكية في أواخر عصر الرعامسة مؤشرًا على سوء الأوضاع التي استغلها كبار كهنة آمون للجمع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية في أيديهم في الصعيد والمشاركة في توجيه مصير الدولة في عصر الأسرة الحادية والعشرين، فقد كانت معاودة نهب هذه المقابر في القرن الماضي بداية لتوجيه الأنظار إلى الكشف عنها والاستدلال منها على رعاية بعض كبار الكهنة هؤلاء للسلف الصالح وحرمة الموتى. وبدأ هذا الكشف بصورة درامية مثيرة.
فقد قل ما احتوته متاحف العصر الحديث من الآثار الملكية المصرية حتى عام 1870، ثم شهدت أسواق التحف في مصر وأوروبا منذ عام 1871 وعلى دفعات متباعدة، فيضًا من هذه الآثار، الأمر الذي نبه الأذهان إلى تقصي تحركات مهربي الآثار من الوطنين والأجانب وعملائهم المحتمين بالامتيازات الأجنبية، في المناطق الأثرية الكبرى ولا سيما في طيبة الغربية، ولم تجد التحريات البوليسية أو الشخصية شيئًا في هذا المضمار بقدر ما أدى اختلاف الأخوة من أسرة عبد الرسول أشهر مهربي الآثار والمتعاملين فيها في قرية القرنة، إلى بداية الكشف عن مخابئ أثرية قل أن شهد التاريخ الحديث ما يماثلها غنى وغرابة. فقد نم أحد أولئك الأخوة عن سر إخوته الذين خاصمهم في الاهتداء إلى بئر مقبرة عميقة صعبة المنال تقع جنوب وادي الدير البحري وتتوسط بينه وبين بيبان الملوك. وكانوا قد احتكروا سر هذه البئر ونزلوها خفية ثلاث مرات خلال نحو عشر سنوات وخرجوا منها بما ملأ أسواق التحف من البرديات والقلائد وتماثيل الشوابتي والجعلان وما إليها، وما ملأ بيوتهم من أموال كانت ثمنًا بخسًا بالنسبة إلى ما استحقته هذه الآثار من قيم تاريخية ومادية وفنية فريدة.
ولم يكن الفرنسي جاستون ماسبرو مدير مصلحة الآثار المصرية، بمصر حين نم الرجل عن سر أسرته، فناب عنه في الكشف عن المقبرة المعنية في شهر يوليو من عام 1881 وكيله هنريش بروكش ومساعده المصري أحمد كمال، وفي دهشة بالغة واجه العالم الحديث لأول مرة بعد أكثر من ثلاث آلاف عام وجوه موميات
…
من كبار فراعنة الأسرات السابعة عشرة إلى العشرين وهم: سقنن رع، وأحمس الأول، وأمنحوتب الأول، وتحوتمس الأول "؟ "، وتحوتمس الثاني، وتحوتمس الثالث، وسيتي الأول، ورمسيس الثاني، ورمسيس الثالث، فضلًا عن حوالي الثلاثين من كبار كهنة آمون وكبار شخصيات الدولة الحديثة. وفي عجلة وتكتم عمل بروكش وأحمد كمال على نقل ما أمكنهما الخروج به من المقبرة خلال أسبوع واحد والاتجاه بمومياوات الملوك وكبار الكهان إلى متحف القاهرة. ثم تم نقل ما تخلف من كنوز المقبرة في يناير من عام 1882 بإشراف ماسبرو. وفي يوليو من عام 1886 جرى في القاهرة حفل مهيب عوض الفراعنة العظام بعض الشيء عما فاتهم من مهابة الاستقبال، وحضره خديو مصر وقيل إنه حلت أمامه أكفان فرعون مصر العظيم رمسيس الثاني ليطالع الجميع بوجهه العجوز الصلب المعبر.
ولحسن الحظ لم تشغل الكنوز الثمينة الباحثين عن دراسة تقارير موجزة كتبت بالخط الهيراطي على
التوابيت وأكفان الملوك وسجلت أسماء أصحابها وأسماء الملوك والكهان أصحاب الفضل في إعادة دفنهم وإكرام مثواهم. وقد تبين منها أنه بعد أن تعرضت مقابر الملوك للنهب أكثر من مرة وتعرضت جثثهم وأكفانهم للتلف عولجت مومياوات الملوك تحوتمس الأول وأمنحوتب الأول وسيتي الأول ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث، وأعيد إحكام لفائفها في فترة من كهنوت بي نجم الأول وخلال الأعوام 6 - 17 من عهد ملك لم يذكر اسمه ولعله باسباخع مني الأول. وأعيدت معالجة مومياء أمنحوتب الأول، كما عولجت مومياوات أحمس الأول والملكة سات كامس والأمير سا أمون، وذلك في فترة من كهنوت ماساحرتا، ثم أعيدت معالجة مومياء سيتي الأول مرة أخرى في عهد كبير الكهنة من خبر رع.
وكان في إعادة معالجة هذه المومياوات ما يعني قلة العناية التي بذلت في معالجتها أو يعني تكرار الاعتداءات على مقابرها، ولعله لهذا اتجهت الرغبة قديمًا إلى تجميعها في مقبرة أو مقابر محدودة يصعب دخولها وتسهل حراستها في الوقت نفسه، بل وتعدد النقل من مقبرة إلى أخرى تضليلًا للمعتدين.
وهكذا أودعت جثة رمسيس الثاني العظيم في مقبرة ابيه سيتي الأول، وعندما خيف على هذه الأخيرة نقلت منها إلى مقبرة أمنحوتب الأول. ومرة أخرى أودعت مومياوات سيتي الأول ورمسيس الثاني في مقبرة الملكة إن حعبي، وسجل تقرير بهذا الإجراء في العام العاشر من عهد الملك سا آمون.
ثم نقل العديد من المومياوات الملكية إلى مقبرة نس خنسو وزوجها كبير الكهنة بي نجم الثاني في فترة من كهنوت باسباخع مني "الثالث" وظلت هاجعة في مثواها الأخير منذ بداية عصر الأسرة الثانية والعشرين حتى نبشتها أيدي اللصوص، ثم حملتها أيدي رجال الآثار في أواخر القرن التاسع عشر.
وأودعت مومياوات ملكية أخرى في مقبرة الفرعون أمنحوتب الثاني، وكان قد أصابها وأصاب توابيتها من التلف أكثر مما أصاب غيرها، وحينما فتحت المقبرة في عام 1898، كانت قد بقيت منها مومياوات الفراعنة توحتمس الرابع، وأمنحوتب الثالث "؟ "، ومرنبتاح، وسابتاح، وسيتي الثاني، ورمسيس الرابع، ورمسيس الخامس، ورمسيس السادس، فضلًا على ثلاث نساء وطفل.
وكما أكرم كبار كهنة الأسرة الحادية والعشرين مثوى جثث الفراعنة السابقين، كانوا كرامًا مع جثث أسلافهم كبار كهنة آمون. وحدث بعد عشر سنوات من الاهتداء إلى خبيثة الملوك في عام 1881 و1882 على أيدي بروكش وأحمد كما وماسبرو، أن أبلغ أحد أفراد أسرة عبد الرسول مدير مصلحة الآثار جريبو بوجود خبيئة هائلة أخرى إلى شمال معبد الدير البحري. وفي دهاليز وحجرات مقبرة من عصر الأسرة الحادية عشرة عثر مساعده دارسي في عام 1891 على ما أذهل العالم بأخباره؛ إذ وجد 153 تابوتًا تضمنت 52 تابوتًا فرديًّا، و101 من التوابيت الزوجية والثلاثية، لكبار كهان وكاهنات، وأتباع من المنشدين والموسيقيين وأمثالهم.
وفي غمرة أصداء هذه الكشوف الأثرية التي دوت متتابعة في أواخر القرن الماضي، لوحظ توابيت المخابئ الملكية التي صنعت من الخشب على هيئات بشرية لأمثال الملوك العظام: تحوتمس الثالث
وأمنحوتب الثاني وتحوتمس الرابع وسيتي الأول وغيرهم، غلبت روح البساطة على ألوانها ونصوصها وزخارفها، ولم يبق على بعضها غير شريط طولي من النصوص يمتد من أسفل الصدر حتى القدمين، وثلاثة أشرطة عرضية تلتف حول الجسد بما يشبه أربطة الكفن، فضلًا عن تصوير ربة مجنحة تحيط صدر المتوفى بجناحيها ....
وتثير ظاهرة البساطة هنا الدهشة إذا قورنت بالثراء الفاحش الذي تمتع أصحابها به ودلت عليه معابدهم ونقوش مقابرهم، أو قورنت بثراء وروعة التوابيت التي عثر عليها فيما بعد في مقبرة توت عنخ آمون وهو من أقل الملوك أهمية وثراء. ويمكن تعليل ظاهرة بساطة توابيت المخابئ الملكية بأحد فرضين. فلعل لصوص المقابر كانوا قد نزعوا عنها أغشيتها من رقائق الذهب وما كان يرصعها من الأحجار الكريمة قبل أن تودع في مخابئها الأخيرة، وذلك فرض يزكيه بقاء قطع متناثرة من الكساء الذهبي القديم على تابوتي تحوتمس الأول وتحوتمس الثالث. ولم يكن من المتوقع حين أعيد ترميمها أن يعاد إليها رونقها وما نزعه اللصوص من زخارفها.
أما الفرض الآخر فهو أن بعض التوابيت العاطلة من الحلية ليست أكثر من توابيت بديلة عما تحطم أو سرق من التوابيت الملكية الأصيلة، ولم يكن من المنتظر أن تصنع بمثل فخامتها أو بكل تفاصيلها. واحتفظت أغلب توابيت خبيئة كبار كهنة عصر الأسرة الحادية والعشرين بروعتها وفخامتها. وتميزت ألوانها بطلاء أصفر فاقع لامع. وتعددت عليها صور المعبودات ورموزهم المقدسة ومناظر الآخرة والحساب وصور التعبد وتقديم القرابين، فضلًا على نصوص كتب الموتى.
ومن طريف ما يذكر أن واحدًا من أقدم هذه التوابيت وأجملها وهو تابوت كبير الكهنة في نجم الأول كان في حقيقته تابوتًا للملك تحوتمس الأول. وكأن كبير الكهنة قد أحل لنفسه ما أنكره على غيره. وظن أن ثوابه في معالجة جثة ذلك الملك المهاب وغيرها من جثث الملوك العظام يغطي على اغتصابه لتابوته1.
1 G. Maspero، Les Momies Royales De Deir El-Bahari، 1889، 72-90; G. Eliot Smith، The Royal Mummies. 1912; G. Daressy، Cercueils Des Cachettes Royales، 1909; Asa، Viii، 3 F.; Jea، Xxxii، 24-30; Porter And Moss، Topographical Bibliography، I، 173 F.، 198 F.