الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نافعة، وقد لا يكون من قبيل المصادقة أن أقدم تشريعات آشورية معروفة حتى
الآن يغلب على الظن أنها ظهرت في عصر امتداد هجرات الحوريين الآريين إلى أرض آشور1.
ولعله كان لتعدد الجنسيات والهجرات التي نزلت العراق في عصوره القديمة بعض الأثر في ظهور تشريعات عراقية متعددة تنظم العلاقات بين الطوائف المختلفة من السكان، وظهور فكرة معاجم المفردات المقارنة باللغات القائمة في حينها لتيسير انتفاع الجماعات المتنوعة بها.
وأخيرًا قد لا يكون من المستبعد أنه ترتب على ما تعوده أهل العراق القديم من الظواهر الغالبة لفيضاناتهم وصحراواتهم وجبالهم من حيث غلبة المشكلات فيها إزاء المنافع، فضلًا عن تقلبات المناخ وحدة الفوارق فيه، بعض الأثر في صبغ حياتهم القديمة بغير قليل من الحدة والتوتر، وهي صبغة توفرت لها مزاياها أحيانًا، كما توفرت لها عثراتها أحيانًا أخرى. بل وتوفر لها بعض الأثر كذلك فيما رددته أساطيرهم عن شدة عداء بعض أرباب بيئتهم لبعض ومنافسة بعضهم بعضا، وبعض الأثر أيضًا في توجيه فنون النحت والتصوير، في عصورها الأولى بخاصة، إلى إيثار المبالغة والميل إلى إشاعة الرهبة، ثم صرف معظم جهودهم الفكرية القديمة إلى توفية مطالب دنياهم والتشريع لمعاملاتها دون اهتمام صريح عميق بأمور الآخرة وفلسفات الحساب والثواب المعنوية، على خلاف المصريين القدماء، وذلك رغم ما تدل عليه بعض الآداب العراقية من رغبة حكمائهم الملحة في تحصيل الخلود الدنيوي ودفع الموت والفناء بكل سبيل "في مثل قصص جلجميش وغيرها"2، ومع ما تدل عليه نصوصهم الدينية من حرصهم على إرضاء أربابهم في دنياهم وطمعهم في أن يدع هؤلاء الأرباب أرواح موتاهم آمنة في عوالمها البعيدة الغامضة3.
1 Th. J. Meek، "The Middle Assyrian Laws"، In Ancient Near Eastern Texts، 1955، 180.
2 S.N. Kramer، "Sumerian Myths And Epic Tales"، Ibid. 44، 48 F،; E.A. Speiser، "Akkadian Myths And Epica"، Ibid.، 79 F.، 90، 95، 96.
3 S.N. Kramer، Op. Cit.، 50 F.، 52 F،; Speiser، Op. Cit.، 87 F.، 107، 109.
في بلاد الشام:
خضعت بلاد الشام في تاريخها القديم لإيحاءات بيئتها وخصائص موقعها، شأنها في ذلك شأن غيرها من مواطن الحضارات القديمة. وكان أوضح هذه المظاهر والخصائص تأثيرًا فيها هو وضوح التنوع في تضاريسها وتعاقب الفواصل الجبلية فيها، وتباعد مناطقها الخصبة بعضها عن بعض. فقد ترتب على تنوع تضاريسها كثرة التباين بين ميول أهلها، أهل الجبال، وأهل السواحل، وأهل السهول والوديان، وأهل البوادي والصحاري، وصعوبة اتحادهم في وحدة قومية صريحة خلال الغالبية العظمى من عصورهم القديمة. وأفضى قيام الفواصل الجبلية في بلاد الشام وتباعد مناطقها الخصبة بعضها عن بعض إلى النتيجة نفسها، فتوزعت الوحدات السياسية والاقتصادية في طول البلاد وعرضها على هيئة دويلات صغيرة أسهمت كل منها بدورها المجيد في ركب الحضارة، ولكنها ظلت متفرقة الإمكانيات، محدودة المساحات، محدودة وسائل الهجوم والدفاع، ولم يلتئم شملها في وحدة سياسية كبيرة طوال عصورها القديمة.
وتوسطت بلاد الشام بين حضارة النيل وبين حضارة النهرين، فكانت من أدوات الوصل بينهما واستفادت منهما. وظلت مناطقها الشرقية والشمالية الشرقية أكثر تجاوبًا مع حضارات بلاد النهرين، بينما ظلت مناطقها الساحلية الغربية ومناطقها الجنوبية أكثر تجاوبًا مع حضارة النيل منذ مراحلها العتيقة الأولى. وأفضى هذا إلى نتيجة أخرى، وهي أن مناطق الاحتكاك في بلاد الشام كثيرًا ما غدت ميدانًا للتنافس السياسي بين جارتيها القويتين مصر والعراق. ووقعت أعالي سوريا في الوقت ذاته بين الكتلة السامية في الشرق الأدنى وبين المجموعة الآرية التي تحف بها في آسيا الصغرى وأعالي النهرين، فكانت ميدانًا للاتصال الحضري بينهما واستفادت بذلك منهما، ولكنها بقيت في الوقت نفسه ميدانا للتنافس المسلح بينهما، فشقيت بذلك بهما.
وظلت بوادي الشام من أهم مناطق الجذب والدفع البشريين في الشرق الأدنى، ولم تهدأ الحركة فيهما في أغلب عصورها القديمة. وقد اكتسبت خاصية الجذب نتيجة لتميزها عن صحراوات شبه الجزيرة العربية المتصلة بها في جنوبها، بوفرة عشبها الطبيعي وفرة نسبية وصلاحية بعض واحاتها للإقامة والتكاثر صلاحية نسبية، فترتب على ذلك أن أصبحت منطقة إغراء بالنسبة لقبائل هذه الصحاري كلما ازدادت كثافتهم عن طاقة مواردهم المحدودة، وكلما طالت موجات الجفاف واشتدت على مراعيهم، وكلما مزقت الخلافات الداخلية شمل قبائلهم وبطونهم وأجبرتهم على ترك مواطنهم. واكتسبت هذه البوادي خاصية الدفع، من ناحية أخرى، نتيجة لوقوعها بين منطقتين غنيتين تمتازان عنها من مناطق الهلال الخصيب، وهما ضفاف الفرات شرقًا والسهول المطلقة على سواحل البحر المتوسط غربًا، وذلك مما جعل هاتين المنطقتين مطمحا دائمًا لأهلها، فتسربوا إلى دولهما في تحركات بطيئة صغيرة عديدة خلال عهود تماسكها السياسي وقوتها العسكرية، كما اندفعوا إليها في هجرات كبيرة غالبة في عهود تخلخلها السياسي وضعفها الحربي.
ولم تقم البادية وحدها بعمليتي الجذب والدفع البشريين في تاريخ الشام، وإنما شابهتها في ذلك إلى حد ما بعض المناطق الجبلية الساحلية، مثل مرتفعات لبنان. فقد حفلت هذه المرتفعات بغابات متسعة من أشجار الأرز والصنوبر استغلها السكان في تنشيط الملاحة البحرية وضمنوا بها موردًا تجاريًّا ضخمًا في تعاملهم مع كل من مصر وبلاد النهرين، ولكن غناها النسبي هذا بمواردها الطبيعية جعلها مناطق إغراء في الوقت ذاته لطمع الهجرات والغزوات الهندوآرية ذات الصلة بأمثال الحوريين والميتانيين، الذين اندفعوا عليها على فترات مختلفة عن طريق ثغرة حلب وجنوبي الأناضول، وذلك فضلًا عن إغراء السيطرة الاقتصادية أو السياسية عليها من الدول القوية المحيطة بها.
واكتسبت نفس المناطق المرتفعة خاصية الدفع من جهة أخرى، نتيجة لأن غناها النسبي ليس من شأنه أن يوفر الحياة الرغدة لغير الأعداد المحدودة من السكان، بينما هو يعجز عن توفيرها بكفاية كلما تكاثفت أعدادهم وتضخمت فوق طاقة مواردها الطبيعية، فلا يكون أمام بعضهم حينذاك إذا شاءوا أن يستعيدوا رغد الحياة إلا أن يلتمسوا أسباب الرزق الواسع بالهجرة إلى أرض أخرى تستوعب طموحهم وترضيه.
وامتدت سواحل الشام امتدادًا طويلًا على البحر المتوسط، ومثلت جزءًا كبيرًا من النهاية الغربية لمنطقة غرب آسيا. وأدى هذا الوضع الطبيعي إلى عدة نتائج حيوية، فكان له أثره في ازدهار عدة مواني طبقت