الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا تزال شبه الجزيرة العربية أقل حظًّا من غيرها في نتائج البحوث الأثرية لأدوات الدهور الحجرية القديمة. ولو أنه يلاحظ من جهة أخرى أن ما عثر عليه من أدوات الدهر الحجري القديم الأسفل في جنوب الأردن قد يعني أن هذه المنطقة وما يتصل بها من شمال شبه الجزيرة العربية معها على أقل تقدير، كانا صالحين للنشاط البشري منذ أواخر الدهر الحجري القديم الأسفل. كما أنه ليس من المستبعد أن الأودية الجافة الكبيرة التي لا تزال تقطع شمال الجزيرة ويجري بعضها ناحية البحر الأحمر، بينما يجري بعضها الآخر ناحية الخليج العربي، قد شقتها أمطار كثيفة خلال فترات مطيرة طويلة ساعدت على قيام النشاط البشري في شبه الجزيرة خلال الدهر الحجري القديم الأسفل أو الدهر الحجري القديم الأوسط1.
أما عن أدوات الدهر الحجري القديم الأعلى فيها، فقد عثر عليها في الشمال، وفي مناطق الأحساء والعروض تحت مستوى سطح الأرض الحالي، وكذلك في حضرموت ومناطق متفرقة من اليمن. أي أنها وجدت في كل من شرق شبه الجزيرة وجنوبها وجنوبها الغربي. وذهب بعض الباحثين إلى أن بعض الأدوات الحجرية البركانية التي عثر عليها في الأحساء والعروض، كان أصحابها يجلبون أحجارها البركانية من المناطق الغربية لشبه الجزيرة نظرًا لعدم توافرها في بيئتهم. وقد يصعب تأييد هذا الرأي نظرًا لاتساع الشقة بين شرق شبه الجزيرة وغربها، مع تفاهة الأدوات نفسها وبطء الإنسان القديم، ولكنه إذا صح احتمالًا أمكن أن ترتب عليه بداية قيام الاتصالات وتبادل المنافع بين أجزاء شبه الجزيرة منذ ذلك الحين، على أن تفترض أن هذه الاتصالات كانت تجري بطرق غير مباشرة، إذ أنه من الصعب أن نتصور رجالًا يرحلون من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب من أجل أحجار صغار يمكن أن تحل محلها إلى حد ما أحجار بيئتهم.
وذهب نفس الرأي إلى ما هو أبعد من ذلك، فرجح تبادل التأثير الحضاري بين مناطق جنوب شبه الجزيرة وبين المناطق التي تقابلها على سواحل إفريقيا الشرقية2. وقد يكون هذا التأثير المتبادل صحيحا، غير أنه ينبغي أن نضيف إليه أن تحديد زمن أدوات الدهر الحجري القديم الأعلى في شبه الجزيرة، وشرق إفريقيا، بالنسبة لتطور الصناعات الحجرية في المناطق الخصيبة من الشرق الأدنى أمر غير يسير. فهي قد تعاصر أدوات الدهر الحجري القديم الأعلى في مصر وبلاد النهرين والشام فعلا، أو تتأخر عنها بعصور طويلة وهذا هو المرجح نظرًا لاتساع خطى التطور وسرعتها في وديان الأنهار الكبيرة عنها في شبه الجزيرة، مع احتمال بقاء أدوات الدهور الحجرية في شبه الجزيرة لأزمان متأخرة نوعا.
1 Caetani، Op. Cit.، I، 64f.; Ii، 53f.; A. Musil، Northern Negd، 1928.
2 G. Caton-Thompson And E.W. Gardner، “Climate Irrigation And Early Man In The Hadramout”، Geog. J.، 93 “1939” 18f،; S. Huzayyin، Nature، Sep. 18، “513”; Arabia And The Far East، 1942، 36; A.H. Masry، Prehistory In North-Eastern Arabia، 1974.
من السلالات البشرية:
ليس من اليسير الحديث عن أصحاب حضارات الدهور الحجرية القديمة، والدهر الأسفل بخاصة، كأجناس أو سلالات أو قوميات، فكل ما يمكن استنتاجه مما أتى به علم الأنثروبولوجي عن أقدم البقايا
البشرية في العالم القديم، هي الصفات التي استنتجها بعض الباحثين من بقايا ما يسمونه إنسان جاوة ثم إنسان بكين أو الصين وإنسان شرق إفريقيا. وهي صفات صورت لكل منهم قامة قصيرة وقدرة على انتصاب الجذع مع ميل الرأس الضخمة قليلًا إلى الأمام، وشدة تراجع الفك الأسفل، وبروز عظام الحاجبين وغلظهما واتصالهما ببعضهما. وذلك مع ملاحظة تطور الجبهة من الضيق والتراجع في جمجمة إنسان جاوة إلى البروز الخفيف في جمجمة إنسان بكين أو الصين. واستمر سلالات هذه الأجناس آمادًا طويلة، ثم ظهرت معها سلالات أخرى في أواخر الدهر القديم الأسفل مثلتها في أوروبا بقايا إنسان هدلبرج الذي اتصف باتساع عظمة الصدغ وقوة عضلات الوجه المتصلة بعملية المضغ، مع غلظ الفك وتراجعه من ناحية الذقن1.
وانتشرت في الدهر الحجري القديم الأوسط سلالات من جنس جرى الاصطلاح على تسميته باسم الإنسان النياندرتالي "نسبة إلى وادي نياندر بألمانيا". وهو جنس ذو جسم ممتلئ لم يكتمل انتصاب قامته تمامًا، ورأس كبيرة قليلة الاستدارة لا زالت تميل قليلًا إلى الأمام، وجمجمة ضخمة عريضة سميكة العظام، وحاجبين شديدي التقوس سميكي العظام، وفك ضخم بارز، وأنف متسعة المنخرين. وإن تميز هذا الجنس في الوقت نفسه بتناسق أطرافه بالنسبة للأجناس التي سبقته. وتضمنت حفريات الشرق الأدني بقايا من سلالات هذه الإنسان، فكان منها ما وجد في كهف شانيدار بالعراق، كما كان منها ما وجد في مغارات بجبل الكرمل وجنوب الناصرة وشمال غرب بحيرة طبرية بالشام، وما وجد من حفريات هوافتيح في شمال إفريقيا2. وهذه وإن كانت جميعها من السلالات النياندرتالية العامة إلا أنها اتصفت بخصائص إقليمية، مثل وضوح كبر الذقن في رأس إنسان جبل الكرمل.
وكان الجنس الغالب لإنسان الدهر الحجري القديم الأعلى جنسًا مهجنًا وبداية لما يسمى باسم الإنسان العاقل Homo Sapiens جد الإنسان الحالي. وقد ظهرت في بقايا الهياكل البشرية التي عثر عليها في مناطق قنا وقاو الكبير وكوم أمبو في مصر، من الدهر الحجري القديم الأعلى، وجوه شبه جنسية قريبة من الهياكل التي تخلفت من فجر التاريخ المصري القديم3. وذلك مما يعني وحدة الجنس واتصال العمران بين هذين الزمنين. كما رأى بعض الباحثين في بعض هياكل جبل الكرمل المتطورة حلقة وصل بين الخصائص التشريحية لإنسان الدهور الحجرية القديمة والإنسان الحالي. ولعل الخصائص التشريحية والذهنية المميزة لهذا الجنس من بني الإنسان كانت مسئولة إلى حد كبير عن نجاحه في تطوير أدواته وتنويعها خلال ظروف الجفاف القاسي الدهر الحجري القديم الأعلى، ثم نجاحه في ابتداع حرفة الزراعة وحرفة الرعي وما ترتب عليها في بداية العصر الحجري الحديث.
ولم تكن الحدود الإقليمية لجماعات الإنسان القديم وتنقلاتها، ذات أثر واضح خلال الدهور الحجرية القديمة إلا إذا وقفت دونها البحار الواسعة أو الجبال الشاهقة. وكانت شعاب الأرض مفتوحة للأقوى ولمن
1 See، P. Rivet، L’origine De L’homme، 1954.
2 راجع حاشية 2، وحاشية 3 ص22.
3 Sandford And Arkell، Op. Cit.، Iii “1934”، 86.