المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خامسا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة - الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق

[عبد العزيز صالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الشرق الأدنى القديم

- ‌الفصل الأول: التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله

- ‌مدخل

- ‌في وادي النيل:

- ‌في بلاد النهرين:

- ‌في بلاد الشام:

- ‌في شبه الجزيرة العربية:

- ‌الفصل الثاني: الشرق الأدنى القديم ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ

- ‌مدخل

- ‌في الدهر الحجري القديم الأسفل:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأوسط:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأعلى:

- ‌قرائن العمران:

- ‌من السلالات البشرية:

- ‌بداية الزراعة في فجر التاريخ أو العصر النيوليثي:

- ‌تعدد الحرف وبدايات الفنون:

- ‌وضوح التجمعات:

- ‌تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها:

- ‌الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية

- ‌الفصل الثالث: مصر في فجر تاريخها

- ‌مدخل

- ‌في الفترة النيوليثية الحجرية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌في مرمدة بني سلامة:

- ‌في الفيوم:

- ‌في دير تاسا:

- ‌في الفترة الخالكوليثية النحاسية الحجرية:

- ‌في البداري:

- ‌في حضارة نقادة الأولى:

- ‌في حضارة نقادة الثانية:

- ‌بين الصعيد وبين الدلتا:

- ‌التطور السياسي:

- ‌من تطورات الفنون وتعبيراتها:

- ‌سكين جبل العركى:

- ‌من آثار العقرب:

- ‌صلاية الفحل:

- ‌آثار نعرمر:

- ‌الفصل الرابع: بداية العصور التاريخية

- ‌مدخل

- ‌الكتابة وتوابعها:

- ‌الحكام والإدارة

- ‌مدخل

- ‌أوضاع الحكم:

- ‌في العمران والفكر:

- ‌النشاط الحدودي والخارجي:

- ‌الفصل الخامس: عصور الأهرام في الدولة القديمة

- ‌أولا: الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة

- ‌مدخل

- ‌إيمحوتب وشواهد العمارة والفن:

- ‌قصة المجاعة:

- ‌التقويم:

- ‌ثانيا: الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة

- ‌تجديدات عهد سنفرو

- ‌عهد خوفو:

- ‌تعبيرات الهرم الأكبر:

- ‌هزات مؤقتة في عهد جدف رع

- ‌آثار عهد خفرع:

- ‌أبو الهول:

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌ثالثا: التقوى والرفاهية في عصر الأسرة الخامسة

- ‌مدخل

- ‌خصائص معابد الشمس:

- ‌أهرام العصر ومعابدها:

- ‌الاتصالات الخارجية:

- ‌التطور السياسي والاجتماعي:

- ‌رابعا: البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة

- ‌مدخل

- ‌نمو البيروقراطية:

- ‌أحداث الشمال الشرقي والتنظيمات العسكرية:

- ‌العمارة والفن والمجتمع:

- ‌رحلات الكشف في الجنوب:

- ‌الفصل السادس: عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى

- ‌نهاية دورة

- ‌الثورة الطبقية:

- ‌الغموض:

- ‌انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية:

- ‌ازدهار الفردية:

- ‌عصر الانتقال الأول بين دورتين تاريخيتين

- ‌معالم الفن الإقليمي:

- ‌الفصل السابع: الدورة التاريخية الثانية في الدولة الوسطى

- ‌أولا: عودة الوحدة في عصر الأسرة الحادية عشرة

- ‌مدخل

- ‌استرجاع المركزية:

- ‌الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي:

- ‌صور من المجتمع:

- ‌في العمارة الدينية والفن:

- ‌ثانيا: الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة

- ‌مدخل

- ‌في السياسة الداخلية:

- ‌في العمران:

- ‌في الأساليب الفنية:

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌الفصل الثامن: عصر الانتقال الثاني أو عصر اللامركزية الثانية

- ‌أولًا: عصر الأسرة الثالثة عشرة

- ‌في نصفه الأول:

- ‌مظاهر الأفول في النصف الثاني لعصر الأسرة الثالثة عشرة:

- ‌ثانيًا: محنة الهكسوس

- ‌ثالثًا: مراحل الجهاد والتحرير

- ‌الفصل التاسع: الدورة التاريخية الثالثة في الدولة الحديثة

- ‌تمهيد

- ‌أولا: الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة

- ‌في السياسة الداخلية

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌ثانيا: عودة الكفاح ثم الرفاهية في عصر الرعامسة مع الأسرة التاسعة عشرة

- ‌ثالثا: آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين

- ‌الدفعة الأولى

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌رابعًا: الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين

- ‌خامسًا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة

- ‌الفصل العاشر: الشيخوخة في العصور المتأخرة

- ‌أولًا: التخبط والتداخل في عهود الأسرات 22 - 24

- ‌ثانيًا: دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين

- ‌ثالثًا: النهضة في العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين

- ‌رابعًا: النكسة مع الغزو الفارسي والأسرة السابعة والعشرين

- ‌خامسا: ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30

- ‌مدخل

- ‌الوثائق الآرمية في أسوان:

- ‌الأسرتان الأخيرتان:

- ‌خاتمة المطاف القديم:

- ‌الفصل الحادي عشر: في عقائد الدين والآخرة

- ‌أولًا: عقائد التأليه

- ‌نشأتها:

- ‌خصائصها:

- ‌في سبيل الترابط:

- ‌في سبيل التوحيد:

- ‌ثانيا: عقائد البحث والخلود

- ‌الفصل الثاني عشر: من الأدب المصري القديم

- ‌أولا: في أدب الأسطورة والملحمة

- ‌أسطورة أوزير وتوابعها

- ‌الحق والبهتان

- ‌ثانيا: في أدب القصة

- ‌سنفرو والحكماء

- ‌قصة خوفو والحكيم جدي:

- ‌قصة العاشقين والتمساح:

- ‌قصة الأخوين:

- ‌من قصص المغامرات:

- ‌ثالثا: في أدب النصيحة

- ‌مدخل

- ‌بتاح حوتب:

- ‌آني:

- ‌أمنموبي:

- ‌نصائح المعلمين:

- ‌رابعا: في أدب النقد والتوجعات

- ‌إبوور والثور الطبقية

- ‌القروي الفصيح:

- ‌الكتاب الثاني: العراق، بلاد النهرين

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الثالث عشر: فجر التاريخ العراقي في العصر الحجري الحديث

- ‌أ- في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة

- ‌ب- في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية

- ‌مدخل

- ‌حضارة العبيد:

- ‌ج- قبيل العصر الكتابي

- ‌حضارة الوركاء:

- ‌الفصل الرابع عشر: أوائل العصور التاريخية في العراق

- ‌عصر بداية الأسرات السومرى

- ‌مدخل

- ‌الكتابة المسمارية:

- ‌العمارة الدينية "والزقورات

- ‌العقائد:

- ‌التطور السياسي:

- ‌الفنون:

- ‌المقابر:

- ‌الفصل الخامس عشر: العصر الأكدى 2340 - 2180 "أو 2371 - 2230" ق. م

- ‌مدخل

- ‌الفنون:

- ‌نهاية دولة:

- ‌الفصل السادس عشر عصر الإحياء السومري "منذ 2125ق. م

- ‌في لجش:

- ‌في أوروك:

- ‌في دولة أور:

- ‌الفنون:

- ‌من الأدب السومري:

- ‌نهاية أور:

- ‌في عصر إسين - لارسا:

- ‌تشريع إشنونا:

- ‌تشريع إسين:

- ‌في لارسا:

- ‌في الفن:

- ‌الفصل السابع عشر: دولة بابل الأولى "أو العصر البابلى القديم

- ‌بداية دولة بابل الأولي

- ‌حمورابي:

- ‌من الأدب البابلي:

- ‌الفصل الثامن عشر: العصر الكاسي "1580 - أواخر القرن 12 ق. م

- ‌الحياة الساسية

- ‌العلاقات الخارجية:

- ‌الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة:

- ‌من الحياة الفكرية في العصر الكاسي:

- ‌الفصل التاسع عشر: آشور

- ‌أ- المراحل الأولى: العصر العتيق- العصر القديم

- ‌ب- في العصر الأشورى الوسيط

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌ج- في العصر الأشورى الحديث

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولي:

- ‌مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث:

- ‌الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626 - 539 _25 d9_2582._25d9_2585

- ‌تمهيد: عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور

- ‌التطور السياسي:

- ‌العمران والفنون:

- ‌الأفول أمام نهضة الفرس:

- ‌خاتمة:

- ‌الخرائط واللوحات

- ‌قائمة بأهم المفردات:

- ‌الموضوعات:

الفصل: ‌خامسا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة

‌خامسًا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة

سايرت فنون الدولة الحديثة حياة أهلها وظروف عصورها، وترجمت عنها في كل ما بدأت به وتطورت إليه. وظهرت لأساليب النحت والنقش والتصوير خلالها أربع مراحل، يمكن إيجازها على النحو التالي1.

مرحلة أولى، بدأت منذ أواخر عصر الأسرة السابعة عشرة2، وامتدت مظاهرها حتى أواسط عهد الفرعون تحوتمس الثاني. وكانت مرحلة استحب أهلها روح الفتوة ومظاهر الجدية، واستلزم عصرها مجهودات متصلة واسعة لإقالة البلاد من النكسة التي أصابتها في عصر سيطرة الهكسوس، ثم لتأمين حدودها وتوسيعها، وتنشيط تجارتها وحمايتها. وعندما أرادت مدارس النحت في الحجر أن تعبر عن اتجاهات هذه الفترة، آثرت طابع الاتزان في نحت تماثيل كبار الشخصيات واستحبت لها الخطوط البسيطة المعبرة، وكستها بروح الفتوة، وقللت تمثيل صنوف الزينة عليها3. ثم جمعت في تماثيل فراعنة عصرها بين المثالية المتزنة وبين الجمالية المتزنة، فجسدت لهم فيها ما كانوا أهلًا له بمجهوداتهم الحربية والسياسية، من شدة المراس ورفعة الشان وسماحة الوجه ونبل الهيئة في آن واحد. وبلغت هذه المدارس غايتها في تماثيل حاتشبسوت، تلك التي لم يمنع وقار الملك وجدية الطابع أهل الفن في عهدها من أن يكسوا وجوه تماثيلها بأنوثة حلوة ناضجة مترفعة تليق بها. ولم يستثنوا من هذه الأنوثة المليحة وجوه التماثيل التي مثلوا ملكتهم فيها رابضة على هيئة الأسود4. ثم بلغت غاية أسمى في تماثيل تحوتمس الثالث، التي جمع الفنانون في هيئاتها بين فتوة الحرب ورقة الطابع الشخصي ونبل الملامح والمشاعر معًا. وبقي من هذه التماثيل ما يظهر تحوتمس واقفًا منتصبًا وجاثيًا خاشعًا، ورابضًا على هيئة الأسد. كما صور له فنان وزيره رخميرع، تماثيل أخرى ضاع أغلبها، مثلته يجلس مع زوجته، ويقدم قرابينه إلى ربه واقفًا تارة، وزاحفًا على ركبتيه تارة أخرى، دون أن يقلل زحفه من مكانته وهيبته5.

وبلغ الفنانون سبيل الإتقان في الخشب منذ بداية العصر، فصنعوا توابيت خشبية كبيرة على هيئات بشرية لأميرات الأسرة وملكاتها، وأظهروا في بعض وجوهها ملامح صاحباتها في رقة وخطوط سلسلة جعلتها من آيات يسر النحت وجماله في عصرها.

1 عبد العزيز صالح: الفن المصري القديم - في تاريخ الحضارة المصرية - القاهرة 1961 - ص343 - 365.

2 Brit، Mus. 22558، Louvre E 15682، Turin 1372، Edimbourg 1956، 140; And See Winlock، Jea، X، Pl. Xii F.

3 Cf.، J. Vandier، La Statuaire Egyptienne; 503، 506، Pls. Clxii. 1، 3، 5، Cxliii، 2، Xcli، 4، Clv، 5، Clxx، 4، 6.

وراجع من الاستثناءات القليلة التي جمل المثال فيها تماثيله.

Ibid.، Pls Cxl، I، Clix، 5، Cxl، I; Chicago 13649.

4 Metr. Mus. 29. 3. 2. 31. 94; Cario 11440، 42069، See Also Metr. Mus. 26. 7. 1400; 31. 3. 155; Edinbourg 1900. 212. 10.

5 Davies، Rekhmire، Pls. Xxxvi-Xxxxvii; See Also، Davies، Kenamen، Pl. Xvii F.

ص: 264

وسلك فن التصوير خلال هذه المرحلة، سبيل الاتزان نفسه فيما أخرجه من نقوشه ومناظره، ولكن أصحابه التمسوا لصورهم نوعًا من التفصيل وحلاوة التعبير يريد من نصيب التماثيل. وبقيت من إنتاجهم صورة للملكة أحمس أم حاتشبسوت، أظهرتها بابتسامة حلوة مشرقة مستبشرة، وصورة أخرى مبدعة لسنموت كبير المهندسين في عهد حاتشبسوت عبرت عن امتلاء صدغيه وطيات ذقنه وتفاصيل شعره في خطوط بسيطة متمكنة. وصور الفنانون خصائص الرسل الأجانب الذين كانوا يفدون إلى مصر بجزاهم وهداياهم1 وصوروا بيئة بلاد بوينة "بونت" بقراها وحيواناتها وخصائص أهلها الجسمية، في تفصيل لطيف وفي روح مرحة فكهة سبقت الإشارة إليها.

وامتازت المرحلة الثانية لفنون الدولة الحديثة بمزيد من الرقة ورغبة التعبير عن مظاهر الترف وميل إلى التحرر القليل من التقاليد الفنية القديمة وأحمالها، وميل يساويه إلى عشق الطبيعة وجمالها، وبدأت هذه المرحلة منذ أواخر عهد تحوتمس الثالث2، واستمرت حتى نهاية عهد أمنحوتب الثالث، وكانت مصر قد جنت خلالها ثمار جهودها الحربية والسياسية والاقتصادية التي بذلتها راضية في المرحلة الأولى، وتوفر لها من حياة السلام والطمأنينة ما جعل خاصة أهلها ينعمون برغد العيش كاملًا غير منقوص، وجعلهم يصدرون في جل أمرهم عن مشاعر رقيقة هادئة، فخرج الفن يعبر عن تطور هذا العصر بأطرافه، وانتفع المثالون بأسلوبين قديمين جديدين في الوقت نفسه، أسلوب واقعي مهذب مرفه، يخالف الأسلوب الواقعي الجاد الذي استحبته فنون الدولة الوسطى؛ ثم أسلوب جمالي ناعم منمق، يخالف الأسلوب الجمالي المتزن المبسط الذي استحبته المرحلة الأولى من الدولة الحديثة. واستطاع مهرة المثالين في الأسلوبين أن يضفوا على سطوح تماثيلهم ليونة واستدارة ورقة مقصودة، ونجحوا في أن يظهروا المشاعر التي تتفاعل في نفوس أصحاب التماثيل على ملامح وجوه تماثيلهم3. ومن أمتع ما يستشهد به من إنتاجهم في الأسلوبين، تماثيل الفرعون أمنحوتب الثالث، وزوجته تي، وحكيم عصره أمنحوتب بن حابو:

فقد نحت فنان الأسلوب الواقعي المرفه رأسين لفرعونه أمنحوتب الثالث4، وعبر عن مذهب الواقعية فيهما بوجه مستطيل، وعينين لوزيتين، وحاجبين طويلين، وشفتين ممتلئتين، وذقن صلبة بارزة، وأنف مستقيمة وانحدار في صفحتي الخدين. وكاد وجه الفرعون في الرأسين يصبح صورة أصيلة لوجه ولده آخناتون بملامحه المتميزة المشهورة، لولا أن المثال عاد فأسبغ على هذا الوجه صبغة أخرى مقصودة أكد

1 من نماذج هذا التصوير مناظر مقابر سنموت ورخميرع ومن خبر رع وأمنحوتب.

2 يرى فاندييه أن تطور هذه المرحلة بدأ في عهد أمنحوتب الثاني Manuel D' Archaelcgie، Ii، 510.

وقد يصح ذلك بالنسبة لأساليب النحت، ولكنه لا يتفق مع أوضاع التماثيل "راجع حاشية 5 في الصفحة السابقة" أو مع التحرر في تصوير الراقصات في الحفلات الخاصة "في مثل مقبرة رخميرع وزير أبيه تحوتمس الثالث".

3 راجع كذلك: دريوتون وفاندييه: مصر - ص538 و540.

Brit. Mus. 416 "6".

ص: 265

بها مظاهر الملكية المثالية المفروضة فيه، فعكس القوة الذهنية الجبارة على ملامحه وأظهر ابتسامة مترفعة على شفتيه، وشد عضلات وجهه في قوة واضحة.

ونحت مثال آخر تمثالًا صغيرًا للفرعون نفسه، صوره فيه على سجيته، وفي هيئة طبيعية خالصة، وفي وقفة متراخية، وفي امتلاءة ودعة، وفي ثوب طويل ذي ثنيات عديدة مزركشة. وأجرى سطوح بدنه في نعومة وأناقة مترفة1. وضاع رأس هذا التمثال للأسف ولا ندري كيف كانت ملامحه.

وكانت الملكة تي زوجة أمنحوتب امرأة مكتملة الأنوثة ذات جاذبية طاغية، وشخصية قوية، تحكمت بهما في قلب زوجها على الرغم من أنها لم تكن من أسرته المالكة، فاطمأن إليها وأظهرها معه في حفلاته وسجل اسمها مع اسمه في بعض مراسيمه، وأشركها في تقرير علاقاته بملوك الشرق وأمرائه. وعمل في خدمة تي عدد من الفنانين، استحب بعضهم الأسلوب الواقعي المرفه، وبقيت من إنتاجهم عدة رءوس صغيرة لتماثيل الملكة2، لم يراعوا تجميلها، بقدر ما راعوا أن يعبروا فيها عن ملامح صريحة وشخص قوية تمتاز بإرادة نفاذة وطابع فريد ومزاج خاص.

ونحت أولئك الفنانون عدة تماثيل لحكيم عصرهم أمنحوتب بن حابو، مثلوه فيها على هيئة الكاتب، وصوروه في واحد منها شيخًا بوجه نحيل بارز العظام، انكمشت طيات جسده نتيجة لكبر سنه، وكشفت ملامحه عن صلابة الرأي عند الشيوخ، وعما يتوافر لهم عادة من خبرة وحكمة وتجارب طويلة3.

واستخدم مثالو المدرسة الثانية الأسلوب الجمالي المنمق في خدمة أولئك الثلاثة الكبار، فنحتوا لأمنحوتب الثالث مع زوجته عدة تماثيل، حولوا استطالة وجهه فيها إلى استدارة. وأشهرها مجموعة مثلته هو وزوجته وبناته، وبلغ ارتفاع تمثاله فيها وارتفاع تمثال الملكة نحو 17 مترًا4. وبقيت من إنتاجهم كذلك قطعة من وجه الملكة تي نحتوها لها في شبابها، وأفرغوا في شفتيها حلاوة وسحرًا ما بعدهما من مزيد5. ونحتوا تمثالًا أينقًا لابن حابو، مثله هذه المرة على هيئة كاتب شاب بوجه ممتلئ، ترهلت طيات جسده عن امتلاء وصحة وحياة رغدة، ومال بوجهه على برديته مستغرقًا في تفكير عميق.

وأشبع الأسلوب الجمالي هؤلاء روح الترف التي استحبها أثرياء عصرهم. فجسموا في تماثيلهم النعيم الذي عاشوا فيه، وأظهروا وجوهها ممتلئة؛ ونحتوا تفاصيلها رقيقة مجملة. وأظهروا أجسامهم غضة

1 Metr. Mus. 30874.

2 Cairo 38257 “J.E.”، Berlin 21834، Etc; Davies، Amarna، Iii، Pl. Xviii; Sandman، Tomb Of Huya، 38.

3 Cairo 42127.

Cairo 610.

4 وعثر في أرمنت حديثًا على تمثال كبير من الألباستر الفرعون أمنحوتب الثالث يمثله مع المعبود سوبك، وقد نحت وجهه بنفس الأسلوب الناعم ولو أنه مستطيل بعض الشيء.

5 Metr. Mus. Eg. Statucs، 1945، Pl. 16.

ص: 266

بضة، وأجروا خطوطها أنيقة ناعمة، واعتنوا بتقليد شعورهم المرجلة، وتمثيل ثنايات ملابسهم الهفهافة، وتفاصيل حليها وزينتها1.

وسارت مذاهب التصوير على نحو قريب من مسالك أساليب النحت في نفس المرحلة، وبقيت من نماذجها الواقعية المترفة، لوحة صغيرة منقوشة لأمنحوتب الثالث وزوجته تي، صورته معها في جلسة ناعمة حالمة، أرسل يده فيها في تراخ على ركبته، وأحاط زوجته بيده الأخرى، وامتلأ وجهه المستطيل امتلاءة النعيم، وجلست تي بجانبه بثوب قصير ينتهي فوق الركبة.

وعبرت فنون النقش كذلك عن نعيم المترفين فملأت جدران المقابر بمناظر المآدب والمحافل، والرقص والشراب والطرب والتطريب. وزادت تصوير الزهور والمزاهر، وصورت مجالات الطبيعة الطلقة، وصيد البر وصيد النهر. وصورت الخيل المطهمة والعربات الفارهة. وتحررت في تصوير أشكالها التابعة أكثر مما تحررت في عصورها الماضية، وزادت من تصوير الأتباع والراقصات من ثلاثة أرباع أجسامهم من الأمام2، ومن الخلف .. 3 وزادت التعبير عن الحيوية الدافقة في لفتات الجواري وحين التثني، وصورت بعض المجموعات فيما هو أقرب إلى قواعد المنظور. وأخرجت ذلك كله في خطوط طلقة مرسلة تعودتها أيدي المصورين في كل ما صوروه ونقشوه، حتى أخضعوا لها صور الجنازات نفسها وصور النادبات والمشيعين4.

ووجدت مدارس الرسم سبيلها هي الأخرى منذ أوائل هذه المرحلة للتعبير عن معتقدات أصحابها في نعيم الآخرة وعذابها، وطرقاتها وعقباتها، وأربابها وشياطينها، كما تضمنتها كتب الموتى، فرسمتها على جدران حجرات دفن الملوك بطريقة تخطيطية مبسطة، ثم حورت خطوطها شيئًا فشيئًا إلى هيئة الصور الكاملة ذات الخطوط الممتلئة اللينة.

وشغلت المرحلة الثالثة لفنون الدولة الحديثة وأشهر مراحلها جميعها، عهد آخناتون، وتأثرت مدارس الفن خلالها بدعوة صريحة صبغت مذاهب الفكر ومذاهب الدين في عهد هذا الفرعون، وكانت دعوة إلى تصوير الواقع كما هو، وإلى التعبير عن صور الطبيعة وأحوالها في بساطة متناهية. وتقبلت مدارس الفن هذه الدعوة، وكان عندها استعداد لها منذ مراحلها السابقة5، ثم تخير كل فرع للنحت والتصوير سبيله الخاص للتعبير عنها.

1 Cairo 801، 806، 42084، Brooklyn 40523; Von Bissing، Denkmaeler Aegyptischer Sculptur، Taf. 50.

2 Wresz.، Atlas، 60; Prisse D’avennes، Histoire De L’art Eg.، Pl. 14.

3 Wresz.، Op. Cit.، 89. 19، Also، Davies، Tomb Of Nacht، Pl. 13; L.D. Iii، 42.

4 Berlin 12411; Wresz.، Op، Cit.، 8.

5 Cf.، Davies، Jea،Ix، 132 F.; B.M.A.، 1923، 40 F.

ص: 267

ففسرت مدارس النحت دعوة العهد الجديد، على أنها دعوة إلى التحرر من كثير من الأوضاع والأساليب القديمة، وأرادت أن تترجم عن هذا التحرر بتمثيل الأشخاص على هيئاتهم الدنيوية، دون تجميل مقصود، ودون مثالية مكشوفة. ومرت في تحررها بمرحلتين:

مرحلة بدأت بها في مدينة طيبة عندما كان أمنحوتب الرابع "آخناتون" لا يزال مقيمًا فيها خلال الفترة الأولى من حكمه، وهي مرحلة اتصفت فنونها بالمغالاة والاندفاع، شأنها في شأن فنون كل دعوة جديدة في أوائل أيامها. وبدأت مدرسة النحت المتحرر حين ذاك بالفرعون نفسه، فنحتت تماثيله بسمات جسمية صادقة، فأظهرت وجهه مستطيلًا، وذقنه طويلة مترهلة، وشفتيه غليظتين، ورقبته نحيلة، وبطنه منتفخة، وفخذيه غليظين1.

ثم ظهرت المرحلة الثانية لمدرسة النحت الجديدة المتحررة في مدينة العمارنة بعد أن انتقل آخناتون ببلاطه إليها، كانت مرحلة استقرت فيها أوضاع الدعوة الجديدة، واستقرت أغراضها وهدأت حميتها، فنحت المثالون تماثيل الفرعون وأسرته على هيئات سواء مقبولة، تخلوا فيها عن العيوب التي ظهرت لأبدانها في طيبة، واهتموا اهتمامًا بالغًا بدراسة الوجوه وأحاسيس أصحابها، وتجلت آثار هذه الدراسة أكثر ما تجلت في وجه آخناتون ووجه زوجته الجميلة نفرتيتي، فظهر كل منهما في روحانية ووداعة، ومظهر متفلسف حالم، ورقة ملكية مستحبة2.

واشتهر من مثالي العمارنة حين ذاك ثلاثة فنانون، وهم: باك وأوتى وتحوتمس3، واحتفظ هذا الأخير في داره بمجموعة من التماثيل ورءوس التماثيل الصغيرة للملكة نفرتيتي وزوجها وبناتها، بعضها كامل الصنع وبعضها لم يتم صنعه4، ولكنها في مجملها لا تقل رقة وحلاوة وإتقانًا عن تمثال نفرتيتي النصفي الذي احتفظ متحف برلين به وطبقت شهرته آفاق العصر الحديث. وتخلفت معها أقنعة جصية لرجال ونساء تكاد تنطق من فرط واقعيتها وصدق تعبيرها، وكان الفنانون يتخذونها فيما يبدو نماذج لما ينحتونه من موجه تماثيل أصحابها5.

وسارت مدارس التصوير والنقش في العمارنة على التقاليد نفسها التي جرى فن النحت عليها في عهدها، وكانت مجالاتها أرحب من مجالات النحت، في التعبير عن الحركة، وتصوير الواقع، والجرى مع مظاهر

1 Cairo 49258، 49529، 55938، Etc....

2 Berlin 21348; Cairo 59286، See Also Cairo 43580، Berlin 17540، 21836، Louvre 11076، 15593.

3 Davies، Amana، Iii، Pl. 18; J. Capart، Chroniqne D’egypte، 1957، Fig. 48; Von Bissing، Denkmaeler Zur Geschichte Der Kunst Amenophis Iv، B.

4 Capart، Op. Cit.، See For Example، Berlin 21263، 21300، 21223 Louvre E 14715; Cario 59286، Jea، Xix، Pl. Xii.

5 Chronique D’egypte، Op. Cit.، 208، 216، Figs. 46، 62; Berlin 21262، 21299، 21340، 21348، 21359; K. Lange، Echnaton Und Die Amarria Zeit، Taf.، 28-35.

ص: 268

الطبيعة وكائناتها حيث جرت. وبدأت مدارس التصوير بالفرعون نفسه على نحو ما بدأ فن النحت به، ففتحت مغاليق قصره، وتسربت إلى مجالسه ومخادعه، وصورته على سجيته، حين يأكل في شهية، وحين يلاصق زوجته وتلاصقه، وحين يمرح معها بعربته، وحين يضم بناته في شغف، وحين يندب إحداهن في أسى، وحين يتعبد ربه في إخلاص، وحين يجود بالعطايا، وحين يتقبل الهدايا. وصورت بناته تضم إحداهن الأخرى وتداعب إحداهن الأخرى. وصورت أتباعه حين المرح، وحين التعب، وحين الهرولة. وصورت الرسل الأجانب يتدافعون إليه جثيًا وسجدًا. وأظهرت صورها كلها في مرونة وحركة نشطة، وبساطة مستحبة، وفي مزاج فردي أحيانًا. وزادت من صور الطبيعة المتفتحة، وأضفت عليها نصيبًا من روح عصرها، فصورتها طلقة باسمة، تموج بالحركة والألوان والبهجة، ورصعت بصورها جدران القصور وأرضياتها وجدران المقابر على حد سواء1.

ومارس فن التصوير حين ذاك تجارب جديدة للتوسع في إظهار وحدة المناظر واستغلال وحدة المكان. وهي تجارب اقتصرت سوابقها القديمة على المساحات الضيقة والوحدات الصغيرة والأشكال التابعة. فانطلق فنان العمارنة وأخرج صورًا ربط فيها عدة مناظر بروابط ظاهرة جعلتها سلسلة مؤتلفة واحدة2. وصورة نشر فيها منظرًا واحدًا على ثلاثة جدران في حجرة واحدة؛ ليعبر عن وحدة المكان الذي شغلته وصورت فيه3.

وانتهى عهد آخناتون حوالي 1350ق. م، فعادت مدارس الفن برجالها من العمارنة إلى طيبة ولكنها لم تستطع أن تتخلى عن قواعد العمارنة الفنية دفعة واحدة، واستمرت تمارسها في عهود خلفاء آخناتون الأقربين: سمنخ كارع، وتوت عنخ آمون، وآي، وبعض عهد حور محب أيضًا.

فجرى النحت في أعقاب عهد آخناتون، على سنة العمارنة فترة غير قصيرة. وأثبت روحها الرقيقة الناعمة في تماثيل توت عنخ آمون، وفي قناعه الذهبي الكبير، ورءوس توابيته، وفيما عثر عليه في مقبرته من تماثيل صغيرة ناطقة مثلته هو وزوجته ونساء بيته المالك، ومثلت عددًا من الأرباب والربات.

وتبقى من نقوش خلفاء آخناتون المباشرين، عدة لوحات صغيرة، لأخيه سمنخ كارع وزوجته. وتوت عنخ آمون وقرينته، وكشفت كل لوحة منها عن معظم خصائص فن العمارنة، فترجمت عن آيات عشق الطبيعة، ومظاهر التنعم اللذيذ، وأخذت بالخطوط المرسلة، والرقة المتناهية، وعبرت عن أصدق ما يكون من مشاعر الود والتحاب والتعاطف بين المرء وزوجته4.

1 Peet-Wooley، The City Of Akhenaten، 1922، Pls. Xxxvii-Xxxix; Davies And Gardiner، Egyptian Paintings، Ii، Pl. Lxxvi; Pendlebury، Tell El-Amarna، 1935، Pl. Viii.

2 Amarna. V، Pl. 5.

3 Aldred، New Kingdom Art، 26.

4 H. Carter، The Tomb Of Tut-Ankh-Amen، London، 1923، Vol. I، Pl. Ii; Vol. Ii; Pl. I.A-B.

ص: 269

ونقش فنان توت عنخ آمون منظرًا صغيرًا على جانب صندوق فخم مطعم بالأبنوس، والعاج، صور فرعونه فيه يصيد السباع. فسجل لحظات الصيد بروح العمارنة، وأخرجها جياشة بالترقب واليقظة والعنف والاندفاع، وأظهر بيئة الصيد بخصائصها العامة، وصور السباع في هرج ومرج يموج بعضها في بعض، ويتلوى بعضها في الفضاء وهو يقفز من قسوة الألم وكثرة السهام، ويخر بعضها صريعًا، ويحاول بعضها أن يتفلت بنفسه من الموت الذي يتعقبه1.

وبدأت فنون الدولة الحديثة مرحلتها الرابعة، منذ أوائل عصر الأسرة التاسعة عشرة، وامتدت بها حتى نهاية عصر الرعامسة. واستعادت مدارس الفن خلالها بعض الأساليب الفنية التي سبقت عهد آخناتون، فأخذت عنها ما سارت عليه من تأنق وليونة وتفصيل في خطوط الرسم والنقش، ونحت سطوح التماثيل، ثم جمعت بين ذلك كله وبين ما استحبته من فن العمارنة من حيث الجرأة في تصوير الحركة والمهارة في تصوير المشاعر.

وظهرت بواكير النحت في هذه المرحلة الرابعة في تمثالين: تمثال لحور محب قبيل اعتلائه العرش2، مثله على هيئة الكاتب، وأظهره في جلسة لينة غير منتصبة، وانحناءة خفيفة تشبه انحناءة الحكيم ابن حابو - ولكنه مثله في الوقت نفسه بملامح سمحة حالمة ربطته بأسلوب العمارنة ورقة العمارنة.

وتمثال آخر كبير من المرمر للفرعون سيتي الأول3، صنعه المثال من عدة أجزاء منفصلة نتيجة فيما يبدو لصعوبة قطع المرمر بأحجار ضخمة كبيرة، أو تقليدًا لما جرى عليه فنانو العمارنة من صناعة بعض التماثيل الصغيرة من أجزاء متعددة. وأظهر المثال في ملامح وجه فرعونه واستقامة اتجاهه وانتصابته وتقاسيم جسده كل المثالية الملكية التي انطبعت بها تماثيل الفراعنة قبل عهد العمارنة4.

وتعاقبت بعد ذلك عهود الرعامسة، ومارست مدارس النحت أوج نشاطها في عهد رمسيس الثاني، وهو فرعون لم يكن بين الفراعنة جميعهم من فاقه شغفًا بالتماثيل وكثرتها وضخامتها. فأخرجت له تماثيل تفوق الحصر، امتاز مما بقي منها تمثال متوسط الحجم من الجرانيت الأسود أظهر صاحبه بأنف أقنى بعض الشيء، وملامح نبيلة متسامية وبسمة خفيفة مقصودة5. وتمثالان آخران أظهراه في حجم صغير يزحف على الأرض في تواضع وهو يقدم القربان إلى ربه6. وتماثيل كثيرة أخرى ضخمة هائلة أقام الفنانون

1 Op. Cit.، Vol، I، Pl. Vol. Ii، Pl. Iii; Davies And Gardiner، Egyptian Paintings، Pl. Lxxviii.

2 Metr. Mus. 23. 10.1; See Also Cairo 42129; Asae، 1914، Xxxix، Pls. I-Ii.

3 Cairo 42139.

4 من تماثيل الأفراد التي جمعت بين الاتجاهين تمثالان لسيدتين تبدر خطوطهما في غاية النقاء، وتمثالان آخران لرجلين

Louvre N 371، E 10655، N 854، 1575.

5 Turia 1330.

6 Cairo 42142، 42143.

ص: 270

بعضها في معابد الرمسيوم "حيث أربت زنة أحد تماثيله على ألف طن" والكرنك والأقصر ومنف وصان الحجر. ونحتوا بعضها الآخر في الصخر الطبيعي في واجهة معبد أبي سنبل بالنوبة. وبلغ الفنانون في نحت بعض هذه التماثيل الكبيرة مبلغًا مقبولًا من النجاح الفني والنجاح التعبيري، ولكنهم اكتفوا في بعضها الآخر بإظهار روعتها عن طريق ضخامتها المفرطة وجلال هيئتها وهيبتها وتحقيق روح الاتساق والانسجام بينها وبين الوسط المعماري الذي أقاموها فيه.

على أنه مهما يكن من أمر، فإن تقديرنا لهذه التماثيل لا ينبغي أن يقتصر على الإشادة بضخامتها وسلامة نسب الغالبية منها وطريقة نحتها فحسب، وإنما يجب أن يمتد كذلك إلى الجهود الجبارة التي بذلها أهل عصرها في قطع كتلها الصلبة الضخمة، ونقلها من محاجرها، وتثبيتها في مواضع عرضها القديمة، وهي جهود لمس صعوبتها عصرنا الحاضر ذو الإمكانيات الواسعة في نقل تمثال عادي من تماثيل رمسيس الثاني مسافة لا تزيد عن أربعين كيلومتر، من قرية ميت رهينة إلى ميدان رمسيس في مدينة القاهرة.

وأصاب تماثيل الأفراد في بداية عصر الرعامسة نوع من الردة والتعصب لأساليب النحت قبل عهد العمارنة: فعاود المثالون تمثيل الأجسام فيها غضة ممتلئة، وأظهروا هيئات أصحابها مترفة، وزادوا تمثيل طيات ثيابها وثنياتها، وأسرفوا في تمثيل تفاصيل الشعور وصنوف الحلي والزينة عليها، وأفاضوا على صفحات وجوهها حلاوة وطراوة واستحبوا فيها ليونة الخطوط واستدارة الزوايا والسطوح1.

واستحدثت مدارس النحت في عصر الرعامسة أوضاعًا جديدة مثلت الفراعنة بها خلال حفلات تتويجهم، وحين يظهرون مع أسرهم، وساعة انتصارهم على أعدائهم2. كما استخدمت الرمز في التعبير عن أسمائهم بصور منحوتة. واستحدثت أوضاعًا أخرى لتماثيل الأفراد، مثلتهم فيها كأنما يستوحون السداد من الآلهة رعاة الكتابة والحكمة3، وحين يقدمون نذورهم إلى أربابهم، واقفين وجالسين وراكعين4.

وتوفر لمدارس التصوير والنقش نشاطها الواسع في مرحلتها الرابعة هذه واتبعت في مجالات كثيرة فتوسعت في مساحات لوحاتها المصورة، وفي إظهار وحدة المجموعات المنقوشة، وفي استغلال وحدة المكان. كما توسعت في تصوير مناظر القتال على البر والبحر، وفي تصوير مناظر الصيد. وتوسعت في تصوير مجالات نشاط الإنسان وعالم الحيوان. وخير ما يستشهد به من نماذجها في هذه المجالات كلها، هي مناظر معبد الرمسيوم من عهد رمسيس الثاني، ومناظر معبد حابو من عهد رمسيس الثالث، وبعض مناظر معابد الأقصر والكرنك في العهدين نفسيهما.

1 Cairo 741-751، 767، 816، 42168، Berlin 14131; Brit. Mus. 565 “36”; And See Vandier، Op. Cit.، 258 F.

2 Cairo 64736.

3 Cairo 42162، 59291، Louvre E 11153، 11154، Etc.

4 Cairo 606، 619، 42156، 42169، 42174، Etc.

ص: 271

وشغلت مناظر الحرب في هذه المعابد جدرانًا عظيمة الاتساع عظيمة الارتفاع1، صور الفنانون عليها مخيمات الجنود، وتحركات الجيوش، وصوروا فيها مراحل الكر والفر، وتصادم العربات، وإقدام الخيول وكبوها. وصوروا القتال بالسيوف والحراب، والتراشق بالنبال. وصوروا تطويق الحصون ومهاجمتها وتسلق جدرانها ونقب أسافلها. وصوروا تكالب العدو وفشل مسعاه، وصوروا تراكم القتلى، وسوق الأسرى. وحاولوا أن يظهروا ذلك كله في وحدة متصلة يموج بعضها في بعض دون خطوط تحدها، أو صفوف تفرق بينهما2.

وأضاف أولئك الفنانون مزيدًا من التفاصيل والتأثير في بعض لوحاتهم، فبالغوا أحيانًا في تصوير ذعر العدو وهلعه، وأساه وجزعه، ورجائه وابتهاله، وخضوعه وامتثاله. وصوروا ضحايا الأعداء وهم يعانون سكرات الموت وقوسة الاحتضار. وأظهروا ساحة المعركة بعد خلوها قفرًا موحشًا، اجتثت الحرب أهلها من فوق الأرض كما اجتثت شجرها سواء بسواء. ولم يقل هذا التفصيل في تصويرهم لدقائق المعارك البحرية في عهد رمسيس الثالث.

وشغلت مناظر صيد البر حين ذاك نفس المسطحات الواسعة، وخيرها هو ما صوره فنان الأسرة العشرين أيضًا لفرعونه رمسيس الثالث على جدار واسع من جدران معبد حابو، فقد صور الفرعون يصيد الثيران الوحشية3، وبلغ الغاية في تصوير حماسه خلال الصيد، وتصوير عدو الثيران أمامه في جنون بين حنايا دغل ضيق. ثم صور مظاهر الألم الممض في وجه ثور ضخم بعد أن أدمته السهام وجرحته الحراب. ووفق في تصوير الدغل بنباتاته التي ألقت ظلالها عليه وأظهرت عمقه، وتمايلت تحت ضغط الثيران الهاربة فيه.

وعلى نحو ما سجل المصورون نشاط ملوكهم في الحرب والصيد، أكثروا من تسجيل مظاهر تقواهم وقربهم من أربابهم، ليجمعوا بين الدين والدنيا، فسجلوا على جدار واحد بمعبد الكرنك اثنين وعشرين وضعًا للفرعون سيتي الاول وهو يحيي ربه ويدعوه ويسبحه ويقدم القرابين إليه، وذلك ما لم يتعوده المصورون من قبل في غير القليل النادر.

وشغلت أساليب النقش والتصوير مجالاتها في مقابر الفراعنة والأمراء وكبار الأفراد في منطقة غرب الأقصر. وبلغت ذروة عالية من جمال التصوير ورقته، ونعومة النقش ونقاوته، وحيوية التلوين والتعبير، ودقة التفاصيل، فيما صورته من حياة أهلها في الدنيا وما يتمنون أن يكونوا عليه في الآخرة.

وعبرت عمارة الرعامسة عن ميول الضخامة والروعة في عصرها. وخير ما بقي منها هو معبد سيتي الأول في أبيدوس، ومعبد الرمسيوم لرمسيس الثاني في غرب طيبة، ومعابده المنحوتة في صخور النوبة "في

1 Wresz، Atlas، 90 F.; L.D.، Iii، 153 F.

2 بدأ هذا الاتجاه في تصوير المعارك الحربية على جانبي عربة تحوتمس الرابع ولكن على نطاق ضيق.

3 Von Bissing، Op. Cit.، Taf. 92.

ص: 272

أبي سنبل وغيره"، ومعبد رمسيس الثالث "معبد حابو" في غرب طيبة. وانفرد كل معبد من هذه المعابد بميزاته. وانفرد كل منها كذلك بما دل به على جبروت أصحابه حين تصميم مشروعه وحين تنفيذه.

غير أن أكثر منشآت الرعامسة دلالة على نواحي الإعجاز في عصرها، هو بهو الأساطين الكبير في الكرنك. وبدأ مشروع بهو الأساطين هذا قبل رمسيس الثاني، فرعونان أو ثلاثة: أبوه سيتي الأول، وجده رمسيس الأول، وربما سلفه حورمحب أيضًا1، ثم أتمه المهندسون في عهده. وجمعوا فيه بين الجلال والجمال والضخامة المفرطة في سياق واحد، وجعلوه أضخم بهو من نوعه في العالم القديم. وأراد المهندسون الذين خططوا هذا البهو أن يجعلوا في وسطه ممرًا واسعًا تعبره المواكب الدينية والهيئات الرسمية في معبد آمون وخلال أعياده، فشيدوا في سبيل إظهار هذا الممر الأوسط وفي سبيل تحديده، صفين هائلين من أساطين حجرية ضخمة شاهقة، يتجاوز ارتفاع كل أسطون منها عشرين مترًا ويبلغ قطره أكثر من عشرة أمتار، ويشبه تاجه هيئة زهور البردي المتفتحة. ويبلغ من سعته، أي سعة تاجه أنه يتسع لوقوف عشرات من الناس فوقه. وهكذا أصبح الممر الأوسط الكبير يقسم البهو إلى جناحين، تبلغ مساحتهما أكثر من خمسة آلاف متر مربع. وشاد المهندسون في كل من الجناحين عشرات من الأساطين المرتفعة بدت في مجموعها كأنها نباتات ضخمة باسقة متراصة، وشكلوا تيجانها على هيئة أكمام البردي المتضامنة المقفولة، وقللوا ارتفاع سيقانها عن ارتفاع سوق أساطين الممر الأوسط، رغبة منهم في أن يجعلوها تفسح بما بينها وبينها من فوارق الارتقاع سبيلًا لمنافذ النور والهواء، وسبيلًا لتنوع المسطحات. ثم نشروا الألوان والأصباغ على أسافل الأساطين وتيجانها. ووزعوا الزخارف والنقوش الملونة على السقوف والأعتاب كي تخفف من رهبة المكان وتخلع عليه نصيبًا من روح البهجة وطابع الجمال.

وإذا كان هذا هو شأن جزء واحد من أحد معابد طيبة بالصعيد في عهد رمسيس الثاني، ففي النوبة، وعلى مبعدة ما يقرب من ألف ميل من عاصمته برمسيس، قام معبد لنفس الفرعون، هزت أخباره أفئدة محبي الآثار والحضارات القديمة منذ سنوات قليلة، وهو معبد أبي سنبل2، ومرة أخرى نرى مجد المجهولين الذين كدوا في هذا المعبد بالجهد والمهارة يكاد يعادل مجد فرعونهم أو يزيد، فقد نقروه كأنهم الجان شاهقًا عميقًا متسعًا في بطن الجبل، وشكلوا واجهته الصخرية المتسعة بما يحقق التناسق بين عناصرها ويحقق التآلف بينها وبين البيئة الجبلية التي تصدرتها وبين مجرى النيل الواسع الذين تطل عليه. ونحتوا في هذه الواجهة وفي صخر الجبل نفسه أربعة تماثيل هائلة لرمسيس يزيد ارتفاع كل منها عن 19 مترًا على الرغم من أنها تمثله جالسًا، وحققوا نسبها كاملة وملامح وجه صاحبها صادقة على الرغم من ضخامتها والاكتفاء فيها بالخطوط العامة. وجعلوا محور المعبد مستقيمًا من الشرق إلى الغرب حتى تصافح أشعة الشمس كل صباح

1 Vandier، Op، Cit.، T. Ii، 924 And References.

2 يفترض ولتر إمري أن مشروع بناء هذا المعبد قد بدأ في عهد سيتي الأول.

W.B. Emery، Egypt In Nubia، 1965، 193.

ص: 273

تماثيله المقدسة في محرابه وهو أعمق مكان فيه، لا سيما تمثال رب الشمس. ونقشوا جدران البهو الداخلي للمعبد "17.70×16.50 من الأمتار" وجوانب أعمدته بعديد من موضوعات الدين والدنيا والسلام والحرب. ولم تصرفهم الضخامة في ذلك كله عن تحقيق الاتساق والإتقان في كل ما نحتوه ونقشوه ولونوه، على الرغم من البيئة القصية الفقيرة التي أتموا عملهم فيها. وجاور هذا المعبد الكبير معبد آخر صغير ينسب إلى نفرتاري "زوجة رمسيس" وشاركها فيه أو شاركت فيه زوجها رمسيس الثاني والمعبودة حتحور المحلية، ونحتت في واجهته ستة تماثيل لكل من الفرعون وزوجته. تقل من حيث الصخامة عن تماثيل المعبد الكبير، ولكنها لا تقل في الإتقان عنها.

ص: 274