الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما يناسبهم من فنون المصريين، دون القيام بتعليم الفنانين المصريين أو التأثير في فنونهم تأثيرًا يذكر1، ولم يكن للرومان حينذاك حضارة يعتد بها.
وفيما بين عصر الأسرة الثامنة والعشرين وعصر الأسرة الثلاثين طور الفنانون تراثهم القديم للمرة الأخيرة، وجاهدوا في الارتقاء به جهد طاقتهم، ونحتوا تماثيل قليلة العدد، ولكنها رائعة الأداء والتعبير، تكسو وجوهها جميعها علامات المسئولية والهم وآثار الكفاح، وتغلب عليها تجاعيد الجباه وتقطيباتها2.
وبقي من نماذجها الناجحة تمثال نصفى للفرعون "هجر"، ورأسان الفرعون "نخت نبف"، وتمثال للفرعون "نخت حرحب"، وصورت هذه القطع الأربع بهيئاتها الشخصية الصادقة آخر روائع فن النحت المصري في عصوره القومية الخالصة القديمة3.
واستمر فنانو الإنتاج الديني يلبون مطالب كبار الكهنة والحكام في نحت التماثيل الكبيرة والتوابيت الضخمة، وكأن هؤلاء، أو الغالبية منهم على أقل تقدير، لم يتأثروا كثيرًا بما أصاب بلادهم في عصورها الأخيرة من متاعب ونكسات، فنحتوا لهم توابيتهم الحجرية من أشد الأحجار صلابة وصنعوها بأحجام هائلة، وشكلوها على هيئات بشرية كاملة، ونقشوا سطوحها الداخلية والخارجية بنصوص كتب الموتى ومناظر الآخرة، وفعلوا ذلك كله في إسراف شديد، يصعب أن نتصور معه كم كانت تستلزم صناعة التابوت الواحد منها من جهد ونفقة وصبر طويل.
1 See، Jea، 1930، 45 F.; Lverson، Mitt. Deutsch، Xv، 1957، 324 F.
2 Waigall، Ancient Egyptian Works Of Art. Fig. 327.
3 Cf. Bosse، Op. Cit.، S. 94 F.
خاتمة المطاف القديم:
كان الأمن الذي توفر لمصر في عهد نخت حرحب أمنًا كاذبًا؛ إذ استعر حقد الفرس على مصر الناهضة منذ أن ولي أمرهم أرتاكسركسيس الثالث "أوخوس"، وكان طموحًا أعاد الأمل لقومه في الانتقام لشرفهم المسلوب واستعادة غلال مصر وذهبها، وبذل في سبيل مشروعه لغزوها منذ عام 345ق. م جهودًا روى ديودور الصقلي أخبارها، وقاد جيشه بنفسه وبدأ بميناء صيدا مركز الثورة في فينيقيا فدمرها بعد أن تخلت عنها النجدة الإغريقية التي استأجرتها مصر من أجلها، وانضمت إليه ثم أخضع جيرانها1. وعندما شارف الحدود المصرية بلغت قواته فيما روى بعض مؤرخي الإغريق أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل من بلده ومن ولاياته ومن مرتزقة الإغريق وأمثالهم، فضلًا عن 300 سفينة، واستفاد من تجارب الحرب السابقة، فبدأ هجومه في خريف 343ق. م، دون خشية من أخطار الفيضان، واستفاد من قواته البرية. والملاحية معًا، فوزعها لدخول الدلتا من ثلاث جهات، وسلك سبيل المخادعة فأمر قادته بأن يعرضوا الأمان للمدن
1 Diodorus، Xvi، 40 F.
إذا فتحت أبوابها. ووقفت مصرفي وجهه وقاومت بجيوشها جيوشه مقاومة عنيفة في بلوزيوم "القرما"، وبلغ مجموع جيشها فيما روى الإغريق نحو مائة ألف، وكان كافيًا للمقاومة على الرغم من أنه ثلث عدد جيوش الفرس، وهنا رُوي أن نخت حرحب تردد في الأخذ برأي قادته في ضرورة استمرار القتال في أعقاب مقاومة بلوزيوم وانخدع برؤيا رأى فيها الإله إنحرة يعده إنقاذ مصر بالفيضان كما فعل في المرة الأولى. وكان في هذا التردد فرصة للفرس، وما لبث الجنود المرتزقة من الإغريق أن انضموا إليهم بعد أن أحسوا بأن الكفة بدأت تميل لصالحهم، فتراجع نخت حرحب إلى منف واستعد للتحصن بها على أمل إطالة وقوف الأعداء عندها حتى يتحقق وعد ربه، وعندما أيقن عقم المقاومة تراجع إلى أقصى الصعيد حيث احتفظ بحكمه نحو عامين1، ثم اختفى أثره وأصبح محورًا لأسطورة نعرضها بعد قليل. ونشر الأخطبوط الفارسي نفوذه على ما دون ذلك من أجزاء الوادي، وبدأ استعماره الثاني، وهو استعمار لم يطل غير عشر سنوات أو أحد عشر عامًا ولكنه بدأ بانتقام عنيف ولم يرع عهود الأمان التي قطعها ملكه للمدن المفتوحة، وما كان يرتجى أمان من غاز موتور. وهنا وصفت بردية الأيام الديموطية كيف فقدت بيوت المصريين رجالها .... وسكانها الماذيون "الفرس"2. وروى كل من ديودور الصقلي والمصادر البطلمية أن أرتاكسركسيس أمر بتدمير أسوار المدن الرئيسية، ونهب كنوز المعابد، وامتهن ديانتها وأمر بنقل تماثيلها الثمينة إلى فارس وتاجر أعوانه بوثائقها النادرة، ثم كافأ الإغريق الذين عاونوه وأعادهم إلى بلادهم، وعين واليها فراسيا على مصر وعاد بجيشه إلى بابل ومعه الغنائم واكتسب شهرة واسعة بنجاحه3. ولكن لأمد محدود؛ إذ مات مسمومًا وتبعه ولده مسمومًا كذلك. ووصف بتوزيريس "بادي أوزير" كاهن الأشمونيين المصري أحداث هذه الفترة وكيف لم يسترجع أحد موضعه الذي كان فيه نتيجة الاضطرابات التي شهدتها مصر، حين كان الصعيد في قلق والدلتا في ثورة
…
وبعد أن خوت المعابد وما عاد شيء يجري فيها منذ غزا الأجانب مصر4 وكان الدلتا وما حولها في ثورة فعلًا على الرغم من انتشار الحاميات الفارسية فيها، وقد ذهب زعماؤها مذهبين: فرأى فريق منهم أن يناضل في وطنه، وكان منهم زعيم يدعى خباش سيطر على جانب من الدلتا واعترف به كهنة منف وبعض أهل الصعيد فرعونًا5 وصرف الفرس عنه أصوات دقات عنيفة سمعوها من بلاد الإغريق التي بدأت حينذاك أعظم أيامها تحت راية الإسكندر الثالث "الأكبر". ثم فريق آخر من المصريين رأوا العودة إلى معاونة الإغريق ضد الفرس في الخارج ثم الاستعانة بهم ضدهم في الداخل، وكان من هؤلاء طبيب مقاتل يدعى سماتاوي تاف نخت انضم إلى جيوش الإغريق عندما عبرت أوروبا إلى آسيا وهبطت من آسيا الصغرى إلى قتال الفرس في الشام6. ولم يكن قادة الإغريق في هذه المرة من أثينا أو
1 Maspero، Les Contes Populaires De L’egypte Ancienne، 4eme، Ed.، 307; Brugsch، Thesaurus، Iii، 549; Chassinat، Edfou، Vii، 239; Bickermann، Op. Cit.، 81 F.
2 Spiegelberg، Demotic Chronicle، 14 F.
3 Diodorus Xvi، 51.
4 Lefebure، Le Tombeau De Petosiris، 1، 3 F.
5 Kienitz، Op. Cit.، 185 F.، 232.
6 Schaefer، Aegyptiaca، Festschrift F. Ebers، 92 F; Sethe، Urk.، Ii، 1 F.; Bifao، Xxx،369 F.
إسبارطه، ولكنهم كانوا من المقدونيين تحت زعامة الإسكندر الذي خرج من بلده بهدف عريض، وهو القضاء على إمبراطورية الفرس والحلول محلها في مناطق نفوذها وإذلال ملكها ومعاملته بما حاول إكسر كسيس الأول أن يعامل الإغريق به. وكانت دولة الفرس حينذاك كما عهدناها، دولة ضخمة الإمكانيات ضخمة الإمكانيات متسعة الأرجاء وفيرة الثراء تسيطر على الهلال الخصيب وأجزاء من الشرق الأوسط وتستطيع أن تجند جيوشًا ضخمة من رجالها ومن ولاياتها، ولكنهاكانت مع ذلك عجوزًا مهلهلة، مزقتها الخلافات الداخلية، وجمدت جيوشها عند أساليب حرب عتيقة، وكرهتها الشعوتب الخاضعة لها. وكان على رأسها ملك محبوب من رعيته وهو دارا الثالث، ولكنه كان ضعيف الإرادة بطيء التصرف سيئ الحظ. ولن نطيل في وصف انتصار الإسكندر عليه في موقعة إسوس قرب الإسكندرونة الحالية في نوفمبر 333ق. م، ويكفي أن نضيف أن الإسكندر خطط لنفسه بعدها أن يحل محل الفرس في بلاد الشام ومصر حتى يحرمهم من مواردهما الضخمة ويحرمهم من سواحلهما الطويلة ومن اتخاذ موانيهما ملاجئ لأساطيلهم، ثم ينتفع بهذا كله ويضع أكبر موارد الغلال في الشرق في قبضته، ويؤمن ظهره إذا هاجم الفرس في عقر دارهم1. ومرة أخرى نتجاوز عن تفاصيل حروب الإسكندر في الشام، لنجد الوالي الفارسي في مصر يعلن التسليم له ويترك له مقاليدها. وعندما دخلها الإسكندر في خريف 332ق. م ثوب منقذها من الفرس، لم يكن أعوانه أغرابًا عنها، فطالما عمل بعضهم مرتزقة في جيشها، وطالما شاركها بعضهم في معاداة الفرس. وعلى نحو ما عمل إغريق نقراطيس وسطاء في التجارة بينها وبين بلاد اليونان عملوا كذلك وسطاء بينها وبين الإسكندر. ولكن فات مصر أن إغريق اليوم غير إغريق الأمس، وأنهم أتوها يومئذ يعملون لحسابهم الخاص، مستعمرين وليسوا مأجورين، سادة وليسوا مرتزقة. وسلك الإسكندر في مصر مسلك النزيل الحصيف، فاحترم تقاليدها واحترم أربابها وتجشم مشقة الرحلة إلى معبد آمون مقر الوحي في واحة سيوة بقلب الصحراء الغربية، وادعى البنوة له واستلهم وحيه، فاعترف كهنته بالأمر الواقع وبشروا الإسكندر بما أراد أن يبشروه به من تأييد ربهم ونصره. ثم أشاع خلفاؤهم لإرضاء قومتيهم المغلوبة على أمرها، أن الإسكندر لم يكن غريبًا عن الأرض الكريمة التي دخلها، وأن ملكهم القومي الأخير نخت حرحب "نكتانبو الثاني" الذي خفي أمره كان قد نزح إلى مقدونيا تتلبسه روح آمون، حيث شغف بملكتها أولمبياس حبًّا وأنجب منها الإسكندر2.
ولسنا ندري مدى تصديق المصريين لهذا التهريف، ولكن الغريب أنه على الرغم من كثرة ما ادعاه الإسكندر من البنوة لأرباب آخرين من الشرق ومن الغرب، ظلت بنوته لآمون لاصقة به لصوق بنوته لزيوس الإغريقي، بحيث حدث عندما اختصم رجاله معه في أواخر عهده وهم في قلب الهند أن نكصوا عن متابعته إلى الحرب والفتح قائلين له:"اذهب أنت وأبوك آمون فقاتلا"3.
1 Cf J. Bury، Op. Cit.، 748 F.، 757 F.
2 A. Moret، Du Caracteres Religeux De La Royaute Pharaonique، 67-68; “Psuedo-Callisthenes، 4 F.”.
3 Bury، Op. Cit.، 816.