الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فن التصوير في أن يعكس مظاهر هذا التحرر على مناظر الحياة اليومية التي صورها الفنانون على جدران القبور. ويتضح بعض هذا التحرر في ثلاث لوحات صورها الفنانون لراقصين وراقصات في مناظر الجيزة وسقارة. فقد صورت اللوحة الأولى فتياتها يرتدين ملابس نصفية ويرفعن سيقانهن في رشاقة واتزان يشبهان بعض أوضاع الباليه. وصورت الثانية جواريها بملابس نصفية شفافة هفهافة تكشف عما تحتها، وصورتهن ينثنين إلى الخلف في دلال لإظهار رشاقتهن. وأظهرت الثالثة جواريها عاريات في مجموعات ثلاثية ترفع الواحدة فيها ساقها العارية حتى تلامس بها كتف أختها1. ويتضح من المقارنة بين هذه اللوحات الثلاث، إلى أي حد تدرجت حرية الفنانين حينذاك في التعبير عن أوضاع الراقصات، وإلى أي حد تدرجت الراقصات في تأدية الحركات الجريئة وفي التخفف من الثياب، بعد أن كانت لوحات الرقص في مناظر النصف الأول من الدولة القديمة تتوخى الحشمة في تصوير الراقصات وتسجيل حركاتهن البطيئة الرتيبة.
1 عبد العزيز صالح: الفن المصري القديم – لوحة 29.
رحلات الكشف في الجنوب:
عبر المصريون في الدولة القديمة عن أهل النوبة باسم عام وهو "نحسيو""ومنه أتى اسم بانحسي أي النوبي وخرج به العبرانيون ونطقوه فنحاس". واعتادوا على أن يعبروا عن مناطقها بأسمائها المحلية مثل: واوات وإيام، وإرثة، ومعخز، ومجا، وكاو1. وازدادت علاقاتهم بها باستمرار نتيجة لاعتبارات كثيرة، أهمها: اعتبار المصريين منطقة النوبة السفلى الممتدة جنوب أسوان جزءًا متممًا لحدودهم الجنوبية، ورغبتهم في تأمين الحياة عندهم والحد من شغب قبائلها غير المستقرة التي كثيرًا ما دعاها الفقر إلى الاعتداء على مراكز الحدود وقوافل التجارة، وعملهم على استغلال محاجرها الممتازة، كمحاجر الديوريت التي بدأ استخدامها منذ عصر الأسرة الرابعة على أقل تقدير، وربما استغلال مناجم الذهب في مناطقها الشرقية "2، ورغبتهم في فتح أسواق للتبادل التجاري في مناطقها المسكونة، ثم رغبتهم في اتخاذها سبيلًا ووسيطًا للاتصال بأراضي السودان الغنية بمنتجاتها الطبيعية ونباتاتها وحيواناتها. وكانوا يصدرون إليها فيما تذكر نصوصهم الدهون العطرة والعسل الأبيض والمنسوجات والزيوت ومصنوعات القاشاني، ويستوردون منها وعن طريقها الماشية والعاج والأبنوس وريش النعام وجلود الضباع والفهود وربما الذهب والغلال أيضًا، ووضحت هذه الصلات والرغبات خلال عصر الأسرة السادسة على هيئة بعثات كشفية ورحلات تجارية وحملات تأديبية. وتكفل بأعمال الكشف وترويج التجارة حينذاك، عدد من كبار حكام أسوان، جمعوا فيما يحتمل بين الدم المصري والدم النوبي وعرفوا اللهجات النوبية والسودانية وتفاهموا بها مع أهلها، وحملوا
1 A. H. Gardiner، Anc. Eg. Onomastica، I، 47 F. ;Junker، Jea، Vii، 121 F. J. Yoyott، Bifao، Lii، 176 ;D. Dixon، Jea، 1958، 40، 120 ; F. Edel، Age. Stud.، 51 F. Kush، Vi، 39 F. Gardiner، Op. Cit.، 134.
2 هناك رأي بأنهم لم يستغلوا ذهب النوبة قبل الدولة الوسطى.
لذلك لقب رؤساء المترجمين "إميراعو"، وسجلت النصوص من أسمائهم أسماء: إري، وحرخوف، ومخو، وسابني، وببي نخت. وكان أكثرهم أثرًا اثنان، هما: حرخوف، وببي نخت.
قام حرخوف بأربع رحلات إلى الجنوب في عهدي الملكين مرنرع وببي الثاني، سلك خلالها طريقين: طريقًا يوازي النهر والدروب القريبة منه، وطريقًا يصل إلى الواحات عبر الصحراء الغربية. وبدا أولى رحلاته في صحبة أبيه إري، وبلغ معه منطقة إيام "أو يام أو إيما" وهي منطقة قريبة من مجرى النيل حول الشلال الثاني1، وذكر في نصوصه عن رحلته أنه أراد أن "يكتشف بها طريقًا إلى تلك الفيفاي"2 وذلك مما يدل على وضوح نية الكشف عنده، وهو وإن كان كشفًا تجاريًّا وإداريًّا قبل كل شيء، إلا أن ذلك لا يعيبه في عصره البعيد إذا قدرنا أن الاكتشافات الأوروبية حتى في العصر الحديث، كانت على الرغم من نتائجها العلمية، تستهدف التجارة والاستغلال بل والاستعمار أساسًا. وقضى حرخوف في رحلته سبعة شهور. ثم قام برحلته الثانية، وبدأها من أبيدوس وسلك فيها طريقًا سمي طريق العاج، وقطع هو وقافلته فيما يظن إيدل وديكسون نحو 1725 كيلومتر على ظهور الحمير بلغ فيها دنقلة الأرودي قرب الشلال الثالث، وعاد بعد ثمانية شهور قضاها في ذهابه وإيابه3. وسلك في رحلته الثالثة "طريق الواحة" من أبيدوس4، وهو طريق يحتمل أنه نفس طريق درب الأربعين الذي تسلكه القوافل حتى اليوم، ويصل بين منطقة دارفور والواحة الخارجة ثم يمتد منه إلى أسيوط. وقص حرخوف في أخباره عن رحلته هذه أنه صادف نزاعًا بين قبائل إيام وبين قبائل الثمحو، وكانت الأخيرة منهما قبائل تنتشر في طريق الواحات غرب النيل وتمتد حتى واحة سليمة على أقل تقدير. فعمل على إصلاح ما يبنهما؛ رغبة منه في إظهار مسعاه الحميد لدى الطرفين، وحرصًا منه على تأمين سبل التجارة التي انتدبه فرعونه إليها. وأتم حرخوف رحلته الرابعة في عهد بني الثاني الذي ولي العرش طفلًا. وكان قد اعتاد في عوداته من رحلاته السابقة أن يؤكد لملكه انتشار نفوذه على المناطق الجنوبية التي زراها أو اكتشف سبل الوصول إليها، واعتاد على أن يقدم لبلاطه خير متاجرها وخير هداياها وخير جزاها، كما اعتاد على أن يتلقى المكافآت العينية والتشريفية جزاء عمله في كل مرة، وكان يصف نفسه بأنه المشرف على الجنوب وعلى كل البراري في رأس الصعيد5. ثم عاد من رحلته الرابعة بما اعتاد أن يعود به من غيرها، وزاد عليه قزمًا ربما حصل عليه من أسواق الجنوب
1 يراها ديكسون جنوب بطن الحجر ولا تتعدى جنوب خط 22، ويراها يويوت في واحة دنقل، ويراها جاردنر جنوب الشلال الثاني وفيما بينه وبين الشلال الثالث.
See، Dixon، Op. Cit.، 40 F. 53-54 ; J. Yoyotte، Op. Cit.، 176 F. ;Gardiner، Egypt Of The Pharaos، 101 ;See Also، Kees، Das Alte Aegypten، 70.
2 سبقه وسبق أباه إلى رغبة الكشف مصري آخر سجل اسم فرعونه ببي الأول على صخور توماس شمال كورسكو، وذكر أنه أراد أن يكتشف منطقة إرثة. See، Dixoo، Op، Cit.، 47 F.
3 Ibid.، 44،54 – 55.
4 أو من بلدة "هو" كما يعتقد هرمان كيس " Op. Cit.، 177".
5 Ancient Records، I، 333، 334، 336.
وكتب بخبره إلى بلاط مولاه، فاهتم الملك الطفل به أكثر من اهتمامه بنتائج الرحلة نفسها، ورد على كتاب حرخوف برسالة ساذجة تتبدى فيها روح الطفولة وانفعالاتها، وتتبدى فيها في الوقت نفسه مساوئ النظام الوراثي المطلق الذي لا يأبى أن يضع أزمة أمور دولة بأسرها في يد طفل صغير، وأوصى ببي حرخوف في رسالته بالعجلة في الحضور إليه والحرص على سلامة القزم، وشدد عليه في أن يخصص له حرسًا يحوطونه على جانبي المركب خشية أن يسقط في الماء، ويتفقدونه خلال نومه عشر مرات في كل ليلة، وصرح له بأنه أصبح يهتم بهذا القزم الذي أتى له به من عالم الأرواح "سكان الأفق" أكثر من اهتمامه بمنتجات أرض المناجم ومنتجات بلاد بوينة نفسها، ووعده إن وصل به سالمًا أن يكافئه مكافأة لا يحلم بها، مكافأة يعتز بها أولاده وأحفاده1.
وكان الأقزام يقومون بأدوار مختلفة في قصور الفراعنة والأثرياء وفي المعابد. فعمل بعضهم في مجالات الرقص والفكاهة، وأؤتمن بعضهم على المقتنيات الخاصة لمواليهم ورؤسائهم، وعمل بعضهم في الصناعات الدقيقة كصناعة الحلي، واشترك بعضهم في أداء طقوس المعابد ورقصاتها، وكان لهم دور معلوم يؤدونه في بعض مراسيم الجنازات الكبيرة2. وكان بعضهم يجلبون من بلاد السودان أو مما وراءها كما حدث على يد حرخوف في عهد ببي، ومن بلاد بوينة كما حدث في أيام الفرعون إسسي من الأسرة الخامسة حيث أحضر رجل يدعى "باور جدي" قزمًا من أسواق إيام، وذكر أنه استورده من "أرض الأرواح"3. على حين كان بعضهم الآخر يختارون من بين قصار القامة وناقصي التكوين من المصريين أنفسهم4. ولم تكن أوضاع هؤلاء وهؤلاء مهينة دائمًا، لا سيما إذا كانوا من المصريين، فقد ولي القزم المصري سنب مناصب كبيرة في البلاط والكهنوت في نهاية عصر الأسرة الخامسة أو بداية عصر الأسرة السادسة، وتزوج من سيدة نبيلة، وأصبح يخرج في مواكبه يصحبه ما لا يقل عن أربعة أتباع يحملون محفته وعصاه ويرفعون له مظلته5.
وأكمل والي أسوان ببي نخت مجهودات سلفه حرخوف في أعمال الكشف وتأمين سبل التجارة في الأقطار الجنوبية في أوائل عهد ببي الثاني، وكان يكنى "حقا إب" أي المتحكم "في" قلبه. واستعان على تنفيذ أغراضه بالشدة حينًا وبالسياسة حينًا آخر6. وترتب على ذلك كله أن استمرت التجارة المصرية في التوغل في الجنوب، وربما وصلت حينذاك إلى أسواق كراما في أقصى مديرية دنقلة7، وكانت من أكبر الأسواق التي توسطت بين النوبة وبين السودان.
1 A.R. I، 351 F. 'Urk. I، 129 F.
2 H. Junker، Giza، V، Abb.، I، 1-11.
3 Urk.، I، 128.
4 See، Jea، Xxiv، 185 F.
5 Junker، Op. Cit.، Abb.، 26.
6 A. R. I، 358، 359.
7 Reianer، Zaes، Lii، 34 F. ;Dixon، Op. Cit.
واستمرت اتصالات مصر التجارية القديمة ببلاد بوينة "بونت" وسواحل فينيقيا، وتبقى من قرائن هذه الاتصالات أن سجل ملامح مصري يدعى خنوم حوتب، أنه تردد بمركبه مع رئيسيه ثثي وخوي على ميناء جبيل من ناحية، وعلى سواحل بوينة من ناحية أخرى، إحدى عشرة مرة، واستمتع بما شاهده هنا وهناك1.
ونود أن نشير قبل أن نختم هذه المرحلة من عصر الأسرة السادسة، إلى أن التطور الطبقي فيها لم يقتصر على كبار الموظفين وحدهم وإنما امتد إلى الطبقة الوسطى أيضًا، وبقيت من صوره الطريفة رسالة رد بها قائد صغير على وزير عصره، ويفهم منها أن الوزير كان قد طلب منه أن يوافيه إلى العاصمة بجانب من فرقته التي تعمل في طرة، حتى توزع الكساوي عليهم في حضرته. فرد القائد عليه بما يدل على أنه لم يهتم بأن يجاري كبرياء رئيسه في أن يظهر فضله على الجند وجهًا لوجه، وأبدى له أن تحقيق طلبه يقتضي التضحية بستة أيام كاملة، هو أحوج إليها لأداء ما أوكل إليه من المهام، أما توزيع الملابس على الجند، فيمكن أن يتم في يوم واحد على حد قوله، إن هو أرسلها إليها من رجال البريد2.
1 Urk.، 140-141.
2 Gardiner، Jea، Xiii، 75 F. ;B Gradseloff، Asae، Asae، Xlviii، 505 F.