الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع عشر: أوائل العصور التاريخية في العراق
عصر بداية الأسرات السومرى
مدخل
…
الفصل الرابع عشر أوائل العصور التاريخية في العراق
عصر بداية الأسرات السومري:
بدأت خصائص العصور التاريخية في العراق في فترة ما تراوحت تقديرات المؤرخين بشأنها بما بين أوائل القرن الثلاثين ق. م. وبين القرن الثامن والعشرين ق. م. وتعددت مراكز التجمع والتحضر حينذاك في النصف الجنوبي من سهول النهرين، وهي سهول عبرت بعض النصوص السومرية عنها باسم "كلام" أو "كالاما"، ورمزت إليها نصوص أخرى بمجموعة العلامات الكتابية "كي - إن - جي"، ثم ذكرتها نصوص القرن الخامس والعشرين ق. م باسم "سومر" أو "شومر"، وهو اسم ليس من المستبعد أنه كان يجري على ألسنة أصحابه قبل ذلك بزمن طويل، ثم شاع فيما بعد أكثر مما سواه والتصق بأهله الذين عرفهم التاريخ باسم السومريين، واستخدمه الساميون خلفاؤهم في قولهم "مات شوميريم" بمعنى أرض شومير1.
وصورت المناظر والتماثيل السومرية خاصة أهلها أميل إلى الامتلاء، مع قصر القامة أو توسطها، وصورت بعضهم بأنف كبير أقنى2 "
…
وجعلتهم حليقي الشوارب، ولم تظهرهم في عصورهم الأولى بلحى إلا في حالات قليلة تبدو اللحى الكبيرة فيها أشبه باللحى المستعارة، بينما أظهرتهم تماثيلهم في أواخر عصر بداية الأسرات بلحى كثة3. أما شعر الرأس عندهم فمختلف، فمنه الحليق، والقصير، والطويل المعقوص، والمرسل على هيئة الضفائر، وإن بدا في بعض صوره طويلًا كثيفًا أحيانًا مرسلًا على الكتفين وأقرب إلى هيئة الشعور المستعارة4. وصورت المناظر نفسها أصحابها برءوس عارية إلا من خوذ الحرب وتيجان الحكم. وكانت ثيابهم متنوعة، وأكثرها نصفية فضفاضة تبدأ بثنية عريضة مطوية عند الخصر تؤدي غرض الحزام، وتمتد إلى ما تحت الركبة5، أو تنسدل إلى قرب العرقوبين6، وينتهي بعضها بشرائط طويلة مدببة الأطراف مرسلة في صف واحد، أو تكسوها عوضًا عن الشرائط أهداب "من خيوط معقودة" تتعاقب
1 For: “Sumer”، “Shumer” And “Shuwer”: See، Encyclopaedia Britanica، Xxvi، 75.
2 J.B. Pritchard، The Ancient Near East، Figs. 115، 154; H. Frankfort، The Art And Architecture
…
، Fig. 9، Pls. 11 A، 17، 22، 23، 25، 33 A-B.
3 Encyclopedie Photographique De L’art، I، 204; Syira، Xvi، Pls. Ix، Xx، Xxiv; Frankfort، Sculpture
…
، Pls. 52-53; More Sculpture
…
، Pls. 35-36.
4 Cf.، Frankfort، The Art And Architecture
…
، Pl. 34، Fig. 12 “Left”، Pls. 19، 33 A، And Pls. 22 C، 24 A-B، 25.
5 See For Example، Frankfort، Op. Cit.، Figs. 9، 16 B، Pls. 11 A. 13، 17، 19، 33 A، 36، 37.
6 Ibid.، Fig. 12 “Right”، Pl. 33 B.
في صفوف يتلو بعضها بعضًا، على هيئة جزة الغنم أو على هيئة فلوس السمك1. وغالبًا ما يظهر الحكام وذوو الحيثية السومريون بعباءات واسعة يبدو أنها كانت تتخذ من أصواف الأغنام الطويلة الممشطة تمشيطًا جيدًا، ويلتفعون بها بحيث تغطي الكتف اليسرى وجزءًا من ذراعها وتمر من تحت إبط الكتف اليمنى2. ظهر بعض أولئك الحكام والخاصة بمعاطف فريدة مزركشة يتصل طرفاها بشريط أسفل الرقبة3، وذلك على الرغم من غلبة الحرارة والرطوبة في الأجزاء الجنوبية من العراق. أما النساء السومريات فقد ظهرن في صورهن القليلة بشعور طويلة مرسلة وبثياب طويلة كاسية.
وتخيل السومريون بعض أربابهم فيما صوروهم به على هيئات بشرية مثالية وبلحى كثة ممشطة وشعور طويلة معقوصة من الخلف. وبملابس تقرب من ملابس الحكام، وتوجوا بعضهم بقرون قد تدل على عصور بدائية عتيقة كان الحكام يزينون تيجانهم فيها بالقرون.
لا زال التاريخ على غير بينة أكيدة من جنس السومريين ومواطنهم الأصيل الذي وفدوا منه على العراق إذا أتوا إليه حقًّا من خارجه. ودفعت إلى الحيرة في تحديد أصلهم الجنسي عدة أسباب، كان منها: اختلاف لغتهم المكتوبة عن اللغات السامية المألوفة مع صعوبة تقريبها في الوقت نفسه إلى مجموعة اللغات الآرية المعروفة وذهب فرض حديث إلى تقريبها إلى مجموعة اللغات التي تأخذ بطريقة الإلصاق " Agglutination" مثل المجموعة الأسيانية أو مجموعة الأورال طاي4 "ومن مظاهر الإلصاق إدراج لفظين أو أكثر لتكوين كلمة جديدة، وإدماج الضمير في الفعل المتصل به"، ولكن بغير أدلة مقنعة. ولوحظ من جهة أخرى أن من أسماء المعالم الرئيسية في أرض العراق والتي تضمنتها النصوص السومرية نفسها ما يختلف في لفظه عن مفردات لغة أصحابها ويختلف عن مسميات اللغة السامية في الوقت نفسه، مثل أسماء: دجلة "إديقلات"، والفرات "بورانون، بورنونا"5، وإريدو، وشوروباك
…
إلخ، وذلك مما قد يوحي باختلافهم في الجنس أو اللغة عمن لحقوا بهم أيضًا. ثم زاد الشك في وحدة جنسهم أن تبين بعض الباحثين أن جماجمهم الباقية قد جمعت بين خصائص الرءوس السامية الطويلة وبين خصائص أصحاب الرءوس العريضة من غير الساميين6، وهذه ظاهرة يمكن أن تقرن بما أسلفناه عن تصوير بعضهم بأنف أقنى، وهي أنف غير مألوفة كثيرًا في الملامح السامية.
1 Op. Cit.، Pls. 19، 21، 23، 33 B.
2 Ibid.، Pls. 33، 34.
3 Ibid.، Pl. 36; Cf. G. Contenau، La Civilisation D’assur Et De Babylone، 1951، 19.
4 Ibid.، 19، 23.
صمويل كرامر: من ألواح سومر - ترجمة طه باقر - القاهرة 1957 - راجع المقدمة بقلم المترجم.
5 حور هذا الاسم في النصوص السامية إلى بوراتوم، وبوراتي، ثم إلى فرات.
Cf. Sumer، 1949، 1950; Frankfort، The Birth Of Civilization، 1948.
وجرى السومريون على عادة أهل بواكير العصر الكتابي الذين سبقوهم في مجالات الحضارة بالعراق، في تشييد بعض هياكل أربابهم فوق مسطحات مرتفعة، وصوروا الأرضيات التي يعتليها أولئك الأرباب في مناظرهم الدينية، على هيئة مدرجات الجبال وكومات الأحجار، وذلك مما يعني أنهم شاركوا أصحاب حضارة الوركاء، أو حضارة بواكير العصر الكتابي، في فكرة تعويض معابد آلهتهم عن قممها العالية في بيئاتهم الجبلية القديمة بالمسطحات الصناعية العالية في سهول العراق. وقد يتصل بهذه الظاهرة الجبلية ما جروا عليه من تسمية مبعد إلههم إنليل في مدينة نيبور السومرية باسم "إكور" وهو اسم يحتمل أن يعني معنى "البيت الجبلي"، ثم ما وصفوا به ربتهم إنانا في إحدى أساطيرهم بأنها ملكة السماء الجليلة التي تسكن "جبال" الأرض الحالية شوبا، وروايتهم عن معبودهم أوتو رب الشمس، في الأسطورة نفسها، رغبته في أن يشيد أتباعه معبدة متساميًا "كالجبل" المقدس ويكون مزاره فيه كالغار، وأن يجلبوا له أحجاره من جبال أرتا "في إيران" لبنائه1.
ومرة أخرى قد يتصل بهذا الأصل الجبلي المفترض، وصلة أسلافه السومريين المقترحة بمرتفعات إيران، ما استشهدنا به من صلة بعض الأرباب السومريين بدنيا المرتفعات. ثم ما أتت به أسطورتان لملك سومري يدعى إنمركار اعتبرته القوائم السومرية المتأخرة ثاني ملوك الأسرة الأولى في مدينة أوروك بعد الطوفان2. وقد روت إحداهما أن الربة إنانا قد اصطفته من بلاد شوبا الجبلية، ثم وصفته بأنه المحتبى بالإمارة في البلاد "الجبلية المحصنة"، وأنه الراعي الذي ولدته البقرة الأمينة في "جوف الجبال". وكل ذلك مما يحتمل معه الربط بين أصول الرجل وأسطورته وبين منطقة ما من مناطق المرتفعات، وروت الأسطورتان أن ملكهما إنمركار كان على علاقة بمدينة أرتا وملكها، وهي مدينة تقع في منطقة جبلية بعيدة افترض صمويل كرامر أنها منطقة أنشان في بلاد عيلام "في إيران"، وسمحت له هذه العلاقة بأن يطلب من ملكها أحجارًا ومعادن ثمينة لبناء معباد أربابه وزخرفتها، في مقابل تصدير الغلال إليه، ولو أنه يبدو من الأسطورتين أن روح التنافس الخفي بين الملكين جعلت كلًّا منهما يتعالى على الآخر في طلبه ويضمر له الغدر في نفسه.
وبناء على هذه المشكلات والشبهات، اتجهت الآراء في تخمين أصل السومريين إلى عدة مذاهب، كان منها ما افترض أصحابه أن أجداد السومريين هاجروا إلى العراق من المرتفعات الشمالية والشمالية الشرقية التي تحف به، عن طريق أرمينيا وإيران. ولو أنه يمكن أن نستبعد أرمينيا أساسًا من هذا الفرض، على اعتبار أنه كان من المستبعد أن يهبط المهاجرون منها وهم أولو قوة ويتجاوزوا المناطق الصالحة للاستيطان القريبة منها في شمال بلاد النهرين ليذهبوا بعيدًا عنها ثم يستقروا في الأجزاء الجنوبية التي كانت أطرافها لا تزال حينذاك وحشية الطابع تتطلب مجهودات كبيرة لتهذيبها وتيسير الانتفاع بها. ومن المعروف أن الأطراف
1 صمويل كرامر: من ألواح سومر - لوحات 14 - 16.
2 المرجع السابق - لوحات 14 - 16، 71، 78 Kramer، Jaos، 63 “1952”، 191 F.
القصوى لهذه الأجزاء، التي تسمى الآن باسم شط العرب، وإن توفرت لها أهمية خاصة بحكم إشرافها على الخليج العربي ومصاب النهرين وبحكم اعتبارها من مناطق الاتصال بين العراق وبين إيران، إلا أنه تعقبها شمالًا في أرض العراق منطقة منخفضة كثيرة المناقع قليلة الصلاحية للزراعة والعمران الدائم، كثيرة التعرض لأخطار الفيضان. ويلي هذه المنطقة شمالًا منطقة النشاط الحضري القديم في بلاد النهرين.
وإلى جانب هذا الفرض رأي ذهب فيه صمويل كرامر إلى اعتبار السومريين بدوا مما وراء القوقاز، أو مما وراء بحر قزوين، اندفعوا على مناطق غرب إيران فيما يعاصر عهد العبيد أو أوائل الوركاء، ونجحوا في اقتباس حضارة بلاد النهرين التي امتدت منها "على حد رأيه" عبر حدود إيران، ثم استعانوا بما تعلموه منها، وبخفة الحركة البدوية في الاندفاع إلى جنوب العراق منذ الربع الأخير من الألف الرابع ق. م وسيطروا عليه تدريجيًّا خلال فترة من فترات حضارة الوركاء، وكان لما أشاعوه به من الاضطراب حينذاك أثر في بداية فترة ركود حضاري شملته، وإن يكن قد نشأ خلال هذه الفترة نفسها "حوالي القرن الثلاثين ق. م" عصر البطولة السومري الذي قام على الشجاعة الفردية للقادة السومريين ومحاولاتهم لتملك زمام السلطة في المناطق التي نزلوها، لا سيما وأنه لم يكن عليهم أين يبسطوا سلطانهم عليها وحدها، وإنما كان عليهم أن يواجهوا في الوقت نفسه هجرات سامية من ناحية الغرب لم تكن تنقطع اندفاعاتها على حدود العراق. وعندما تمت الغلبة السومريين وتم اندماجهم في السكان الأصليين الذين كانوا أرقى حضارة منهم، بدأ العصر الشبيه بالكتابي في العراق حوالي القرن التاسع والعشرين ق. م، على حد قوله1.
وافترض رأي ثالث أن السومريين هاجروا من منطقة ما تقع فيما بين شمال الهند وبين أفغانستان وبلوخستان، واستقروا بعض الزمن في غربي إيران، ثم نزحوا منها إلى بلاد النهرين عن طريق الخليج العربي وجزيرة البحرين2. وزكى أصحاب هذا الفرض رأيهم بما لوحظ من تشابه أوائل طرز الفخار السومري القديم وزخارفه في بلاد النهرين مع نماذج الفخار القديمة التي انتشرت جنوبًا بشرق حتى منطقتي خاربا وموهنجو دارا بسهول السند3، وذلك مما قد يوحي بوجود روابط جنسية وحضارية بدائية قديمة بين أهل هذه النواحي الذين سبقوا الأجناس الهندوآرية في سكناها، والذين يكفي أن يقال عنهم إنهم من الفروع المبكرة للسلالات الآسيوية أو الأسيانية Asianic. وذلك مع تقدير ما ألمحت إليه الأساطير السومرية من أن أصحابها الأوائل هاجروا من الجنوب عن طريق البحر في عصور كان الناس لا يزالون يسعون فيها على أربع، على حد روايتها، واستقروا حينًا في جنة تلمون "أو دلمون"، وهي فيما يرجح جزيرة البحرين الحالية4، تلك التي روت الأساطير السومرية أنه لم يكن ينعق فيها غراب أسود، ولا يفترس
1 كرامر: المرجع السابق - الفصل 22.
2 See، E.A. Speiser، “The Sumerian Problem Reviewed”، Hebrew Union College Annual، Xxiii، 1 “1950-51”، 339 F.
3 Cf. Frankfort، The Art And Architecture
…
، P.1، N. 3; Hall، History Of The Ancient Near East، 173; Mackay، “Sumerian Connection With Ancient India”، Jras، 1925، 697.
4 Cf. P.B. Cornwall، “On The Location Of Dilmun”، Basor، No. 103 “1946”; Jcs، Vi، No. 4 “1952”; Kramer، Basor، 1954 “Suppl. No. 1”; The Indus Civlization And Dilmun
…
، Expedition، Vi، 1964.