الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يستطيع أن يطرقها، سواء للأفراد والأسر أم للجماعات التي انتشرت تبحث عن الأراضي المعشبة المطيرة التي يتيسر الصيد فيها وتتوفر قطعان الماشية البرية على مراعيها. وكان في هذا ما أدى إلى تشابه أغلب أدوات الدهور الحجرية القديمة مع بعضها البعض إلى حد ما، سواء وجدت في الشرق أم وجدت في الغرب وبعد أزمان طويلة أخذت كل من هذه الجماعات تألف الإقامة تدريجيًّا في البقاع التي ناسبتها طبيعتها الجغرافية وأحست بالأمن النسبي فيها.
وأعقب هذه الدهور دهر رأى فيه بعض الباحثين من الخصائص ما يسمح بتسميته باسم الدهر الحجري الوسيط، بينما أنكر باحثون آخرون أهميته بالنسبة للشرق الأدنى بخاصة.
وعلى أية حال، فإنما نود قبل أن ننتهي من استعراض أحوال الدهور الحجرية القديمة، أن نشير إلى أنه ليس من ضرورة للمغالاة في تصوير ما بلغه إنسانها البدائي من قدرة على التطور بحضاراته الأولى والابتداع فيها. فقدرة الإنسان الأول على التفكير والابتداع لم تتعد كثيرًا دائرة حياته الفردية الخشنة ودائرة مطالبه المحدودة. ولم يكن التطور في آفاق حياته ومطالبها يسير في غالب أمره إلا بجهد وبطء شديد، وذلك إلى الحد الذي رتب معه الأستاذ فلندرز بتري أن ألف عام من حياة البشر في الدهور الحجرية القديمة لا تكاد تعادل في تطورها الفكري ما كان يتم من تطوير خلال عمر شخص واحد في العصور التاريخية القديمة. وهذا بطبيعة الحال لا يكاد يعادل ما يتم خلال أعوام قلائل أو حتى بضعة شهور من حياة الإنسان وإمكانياته في عصوره التاريخية الحديثة. زد على ذلك أن الأدوات التي كان الإنسان القديم يستخدمها في عصر ما لم تكن تجب الأدوات التي اعتاد أسلافه عليها فيما تقدمه من عصور، وإنما كانت تستخدم معها جنبًا إلى جنب وإن زادت عنها في شيوعها وأعدادها وأنواعها.
بداية الزراعة في فجر التاريخ أو العصر النيوليثي:
شهد الشرق الأدنى القديم طفرته الحضارية المنتجة حقًّا منذ أوائل الألف السادس قبل ميلاد المسيح، وتلك هي طفرة الاهتداء إلى بداية حرفة الزراعة قبل معرفة المناطق الأوروبية بها بنحو ألفي عام. وكان من منطق التطور أن تنشأ أولى خطواتها وتنضج في وديان الأنهار الكبيرة أو بقربها. وقد اشتركت بلاد الهلال الخصيب في معرفتها بممهدات الزراعة الأولية. ومن ذلك معرفة المصريين وأهل العراق والشام منذ أواخر الدهر الحجري القديم الأعلى بانتقاء أنواع الحبوب الغذائية المفيدة كالشعير البري والحنطة البرية وبطرق جرشها والانتفاع بها، بدليل العثور على بعض مناجل الحصاد ومراحي جرش الحبوب في منطقة عيون حلوان وحوض كوم أمبو في مصر، وفي مغارة الناطوف وما حولها في فلسطين1. وربما تولدت عندها حينذاك
1 Ed. Vignard، Bifao، Xx، 24; Huzayyin، The Place Of Egypt In Prehistory، 257f.; H. Farnkfort، The Natufian Of Palestine” T.R.A. I، Lxii، 257f.; H. Farnkfort، The Birth Of Civilization In The Near East، 1951.
معرفة فطرية بظواهر الإنبات الطبيعية عن طريق ما كانوا يشهدونه من خروج النبت من الحبوب البرية والبذور التي تلقيها الرياح والمصادفات أمام أعينهم فوق سطح الأرض اللينة، أو التي تسقط منهم وهم في طريقهم إلى حيث يقيمون، كلما أصابها البلل والمطر. ولم تكن مهمة جمع الحبوب الغذائية البرية يسيرة دائمًا لتفرق عيدانها في الطبيعة على مساحات واسعة، ولتقدم الجفاف شيئًا فشيئًا خلال الدهر الحجري القديم الأعلى وما كان يستتبعه من شح نمو النباتات الطبيعية تدريجيًّا أيضًا، وذلك مما كان من شأنه أن يولد الرغبة لديهم في محاولة الاهتداء إلى وسيلة يضمنون بها تواجد هذه الحبوب المفيدة في مساحات متصلة قرب أماكن إقامتهم بقدر الإمكان.
ووجدت مصر ميلًا كبيرًا من أغلب الباحثين لافتراض تحقيق هذه الرغبة ومعرفة الزراعة لأول مرة على أرضها. وذلك على أساس أن اشتداد الجفاف على هضابها الشرقية والغربية في أواخر الدهر القديم الأعلى كان من شأنه أن يدفع أهلها إلى أن يتتبعوا انتشار النباتات والحبوب الطبيعية على ضفاف مورد الماء الدائم في أرضهم، وهو نهر النيل، فاقتربت جماعاتهم من مدرجاته في دفعات متتالية وشجعتهم أحوالها الآمنة على الاستقرار عليها، ولما طالت إقامتهم في أرجائها ابتغاء الانتفاع بنباتاتها الطبيعية وأسماك الماء والحيوانات التي تقصد ضفاف النهر وفروعه التماسا للشرب، أصبحت ملاحظاتهم لنمو بذور النباتات الطبيعية في أرضها الخصبة مستقرة مضطردة، نتيجة لما كانوا يشهدونه من أثر التعاقب السنوي المنتظم لفيضان النيل وانسياب مائه عليها ثم انحساره، في النمو التلقائي السنوي الجديد للنباتات والحبوب كلما توفرت لها الأرض الطميية السوداء على وجه الخصوص. ولما استرعت هذه الظواهر الطبيعية أنظار المصريين جيلًا بعد جيل واستوعبوها، وأدركوا بها العلة في نمو النباتات في أعقاب الفيضانات مع انتشار البذور في الأرض الخصبة، كما أدركوا معها العلة في ذواء النباتات وجفافها حين قلة الماء وجفافه وصلابة التربة، حاولوا أن يستفيدوا مما استخلصوه فائدة إيجابية، وبمعنى آخر حاولوا أن يباشروا عملية النمو الطبيعية للنباتات والحبوب الغذائية بأنفسهم، وأن يصبحوا منتجين لغذائهم متحكمين فيه بأنفسهم وسواء طالت محاولاتهم هذه أم قصرت، فقد انتهت باهتدائهم إلى أساليب الزراعة البسيطة منذ أكثر من سبعة آلاف عام أو ثمانية آلاف، وقبل غيرهم من أهل العالم القديم المسكون1، أو قبل أغلب أهل العالم القديم المسكون إن نظرنا بعين الاعتبار إلى ما يراه أنصار حضارات وديان الأنهار الكبرى الأخرى مثل أنصار حضارة بلاد النهرين، وأنصار حضارة سوريا وفلسطين وأنصار حضارة إيران، بل والباحثين في حضارات جنوب شرق آسيا، من أن كلا منها قد عرفت الزراعة في عصر قريب من العصر الذي اهتدت مصر فيه إلى معرفة الزراعة2.
1 See Also، S. Huzayyin، Op. Cit.، 231.
تاريخ الحضارة المصرية – القاهرة 1962 – المجلد الأول – ص15 - 16.
عبد العزيز صالح: حضارة مصر القديمة وآثارها – القاهرة 1962 – ص81 - 86.
2 See، Peake، The Origins Of Agriculture، 1928; The Beginning Of Agriculture، 1931; R.J. Baidwood، “The World’s First Farming Villagea”، Lllustrated London News، April، 28، 1956، 410f.; Etc.