المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوثائق الآرمية في أسوان: - الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق

[عبد العزيز صالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الشرق الأدنى القديم

- ‌الفصل الأول: التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله

- ‌مدخل

- ‌في وادي النيل:

- ‌في بلاد النهرين:

- ‌في بلاد الشام:

- ‌في شبه الجزيرة العربية:

- ‌الفصل الثاني: الشرق الأدنى القديم ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ

- ‌مدخل

- ‌في الدهر الحجري القديم الأسفل:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأوسط:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأعلى:

- ‌قرائن العمران:

- ‌من السلالات البشرية:

- ‌بداية الزراعة في فجر التاريخ أو العصر النيوليثي:

- ‌تعدد الحرف وبدايات الفنون:

- ‌وضوح التجمعات:

- ‌تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها:

- ‌الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية

- ‌الفصل الثالث: مصر في فجر تاريخها

- ‌مدخل

- ‌في الفترة النيوليثية الحجرية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌في مرمدة بني سلامة:

- ‌في الفيوم:

- ‌في دير تاسا:

- ‌في الفترة الخالكوليثية النحاسية الحجرية:

- ‌في البداري:

- ‌في حضارة نقادة الأولى:

- ‌في حضارة نقادة الثانية:

- ‌بين الصعيد وبين الدلتا:

- ‌التطور السياسي:

- ‌من تطورات الفنون وتعبيراتها:

- ‌سكين جبل العركى:

- ‌من آثار العقرب:

- ‌صلاية الفحل:

- ‌آثار نعرمر:

- ‌الفصل الرابع: بداية العصور التاريخية

- ‌مدخل

- ‌الكتابة وتوابعها:

- ‌الحكام والإدارة

- ‌مدخل

- ‌أوضاع الحكم:

- ‌في العمران والفكر:

- ‌النشاط الحدودي والخارجي:

- ‌الفصل الخامس: عصور الأهرام في الدولة القديمة

- ‌أولا: الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة

- ‌مدخل

- ‌إيمحوتب وشواهد العمارة والفن:

- ‌قصة المجاعة:

- ‌التقويم:

- ‌ثانيا: الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة

- ‌تجديدات عهد سنفرو

- ‌عهد خوفو:

- ‌تعبيرات الهرم الأكبر:

- ‌هزات مؤقتة في عهد جدف رع

- ‌آثار عهد خفرع:

- ‌أبو الهول:

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌ثالثا: التقوى والرفاهية في عصر الأسرة الخامسة

- ‌مدخل

- ‌خصائص معابد الشمس:

- ‌أهرام العصر ومعابدها:

- ‌الاتصالات الخارجية:

- ‌التطور السياسي والاجتماعي:

- ‌رابعا: البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة

- ‌مدخل

- ‌نمو البيروقراطية:

- ‌أحداث الشمال الشرقي والتنظيمات العسكرية:

- ‌العمارة والفن والمجتمع:

- ‌رحلات الكشف في الجنوب:

- ‌الفصل السادس: عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى

- ‌نهاية دورة

- ‌الثورة الطبقية:

- ‌الغموض:

- ‌انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية:

- ‌ازدهار الفردية:

- ‌عصر الانتقال الأول بين دورتين تاريخيتين

- ‌معالم الفن الإقليمي:

- ‌الفصل السابع: الدورة التاريخية الثانية في الدولة الوسطى

- ‌أولا: عودة الوحدة في عصر الأسرة الحادية عشرة

- ‌مدخل

- ‌استرجاع المركزية:

- ‌الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي:

- ‌صور من المجتمع:

- ‌في العمارة الدينية والفن:

- ‌ثانيا: الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة

- ‌مدخل

- ‌في السياسة الداخلية:

- ‌في العمران:

- ‌في الأساليب الفنية:

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌الفصل الثامن: عصر الانتقال الثاني أو عصر اللامركزية الثانية

- ‌أولًا: عصر الأسرة الثالثة عشرة

- ‌في نصفه الأول:

- ‌مظاهر الأفول في النصف الثاني لعصر الأسرة الثالثة عشرة:

- ‌ثانيًا: محنة الهكسوس

- ‌ثالثًا: مراحل الجهاد والتحرير

- ‌الفصل التاسع: الدورة التاريخية الثالثة في الدولة الحديثة

- ‌تمهيد

- ‌أولا: الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة

- ‌في السياسة الداخلية

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌ثانيا: عودة الكفاح ثم الرفاهية في عصر الرعامسة مع الأسرة التاسعة عشرة

- ‌ثالثا: آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين

- ‌الدفعة الأولى

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌رابعًا: الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين

- ‌خامسًا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة

- ‌الفصل العاشر: الشيخوخة في العصور المتأخرة

- ‌أولًا: التخبط والتداخل في عهود الأسرات 22 - 24

- ‌ثانيًا: دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين

- ‌ثالثًا: النهضة في العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين

- ‌رابعًا: النكسة مع الغزو الفارسي والأسرة السابعة والعشرين

- ‌خامسا: ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30

- ‌مدخل

- ‌الوثائق الآرمية في أسوان:

- ‌الأسرتان الأخيرتان:

- ‌خاتمة المطاف القديم:

- ‌الفصل الحادي عشر: في عقائد الدين والآخرة

- ‌أولًا: عقائد التأليه

- ‌نشأتها:

- ‌خصائصها:

- ‌في سبيل الترابط:

- ‌في سبيل التوحيد:

- ‌ثانيا: عقائد البحث والخلود

- ‌الفصل الثاني عشر: من الأدب المصري القديم

- ‌أولا: في أدب الأسطورة والملحمة

- ‌أسطورة أوزير وتوابعها

- ‌الحق والبهتان

- ‌ثانيا: في أدب القصة

- ‌سنفرو والحكماء

- ‌قصة خوفو والحكيم جدي:

- ‌قصة العاشقين والتمساح:

- ‌قصة الأخوين:

- ‌من قصص المغامرات:

- ‌ثالثا: في أدب النصيحة

- ‌مدخل

- ‌بتاح حوتب:

- ‌آني:

- ‌أمنموبي:

- ‌نصائح المعلمين:

- ‌رابعا: في أدب النقد والتوجعات

- ‌إبوور والثور الطبقية

- ‌القروي الفصيح:

- ‌الكتاب الثاني: العراق، بلاد النهرين

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الثالث عشر: فجر التاريخ العراقي في العصر الحجري الحديث

- ‌أ- في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة

- ‌ب- في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية

- ‌مدخل

- ‌حضارة العبيد:

- ‌ج- قبيل العصر الكتابي

- ‌حضارة الوركاء:

- ‌الفصل الرابع عشر: أوائل العصور التاريخية في العراق

- ‌عصر بداية الأسرات السومرى

- ‌مدخل

- ‌الكتابة المسمارية:

- ‌العمارة الدينية "والزقورات

- ‌العقائد:

- ‌التطور السياسي:

- ‌الفنون:

- ‌المقابر:

- ‌الفصل الخامس عشر: العصر الأكدى 2340 - 2180 "أو 2371 - 2230" ق. م

- ‌مدخل

- ‌الفنون:

- ‌نهاية دولة:

- ‌الفصل السادس عشر عصر الإحياء السومري "منذ 2125ق. م

- ‌في لجش:

- ‌في أوروك:

- ‌في دولة أور:

- ‌الفنون:

- ‌من الأدب السومري:

- ‌نهاية أور:

- ‌في عصر إسين - لارسا:

- ‌تشريع إشنونا:

- ‌تشريع إسين:

- ‌في لارسا:

- ‌في الفن:

- ‌الفصل السابع عشر: دولة بابل الأولى "أو العصر البابلى القديم

- ‌بداية دولة بابل الأولي

- ‌حمورابي:

- ‌من الأدب البابلي:

- ‌الفصل الثامن عشر: العصر الكاسي "1580 - أواخر القرن 12 ق. م

- ‌الحياة الساسية

- ‌العلاقات الخارجية:

- ‌الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة:

- ‌من الحياة الفكرية في العصر الكاسي:

- ‌الفصل التاسع عشر: آشور

- ‌أ- المراحل الأولى: العصر العتيق- العصر القديم

- ‌ب- في العصر الأشورى الوسيط

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌ج- في العصر الأشورى الحديث

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولي:

- ‌مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث:

- ‌الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626 - 539 _25 d9_2582._25d9_2585

- ‌تمهيد: عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور

- ‌التطور السياسي:

- ‌العمران والفنون:

- ‌الأفول أمام نهضة الفرس:

- ‌خاتمة:

- ‌الخرائط واللوحات

- ‌قائمة بأهم المفردات:

- ‌الموضوعات:

الفصل: ‌الوثائق الآرمية في أسوان:

‌الوثائق الآرمية في أسوان:

عثر في جزيرة آبو، أي في جزيرة إلفنتين "أو إلفانتيني" في أسوان، على عدة وثائق آرامية أرجع أغلبها إلى أواسط القرن الخامس ق. م، ولقيت اهتمامًا واسعًا من الباحثين في الساميات ومن الباحثين اليهود بخاصة لترجمتها والتعقيب عليها1. وصورت هذه الوثائق جوانب من حياة عدة أقليات أجنبية ضمت آراميين ويهود وسوريين وفي بعض الأحيان إغريق وإيجيين، ثم بابليين وخوارزميين وماذيين وفرس، عاشوا أعدادًا محدودة في وسط العدد الأكبر من مواطني المنطقة المصريين. ولم تكن موارد أسوان المتواضعة تتيح لأولئك الأجانب استغلالًا اقتصاديًّا كبيرًا، ولهذا اكتفى أغلبهم بحرفة الجنود المرتزقة في حصون أسوان التي مثلت همزة الوصل بين أقاليم مصر الجنوبية وبين النوبة وما ورائها، في فترات السلم وفترات الحروب على حد سواء.

وذكرت الوثائق الآرامية من مسميات التنظيمات العسكرية التي انضوت تحتها هذه الجماعات، الاسم الآرامي "حيلا" بمعنى حامية أو فرقة كبيرة، واسم "دجل" بمعنى وحدة أو معسكر، وإن دل أحيانًا على معنى اللواء أي العلم، وكان كل منهما يضم المجندين وأسرهم، ثم تعبير المائة ليدل على سرية بنفس العدد.

وحظيت أوضاع الجالية اليهودية بالاهتمام الأوسع من الدراسة والتعقيب، وتركزت هذه الجالية في جزيرة إلفنتين، وإلى حد ما في سونو أي في مدينة أسوان، وكان منهم عسكريون ومدنيون. وغالبًا ما وصف العسكريون منهم بأنهم بعول دجل أي أفراد الوحدة أو المعسكر، ووصف المدنيون منهم بأنهم بعول قرية أي أفراد القرية. وقد يوصف بعضهم بالصفتين، أو ينتمون إلى دجلين أي وحدتين، أو ينسبون إلى مقر إقامتهم فيقال بعول آبو، وبعول سونو.

وتعددت وجهات النظر في ظروف اتجاه هذه الجالية اليهودية إلى أسوان، وتوقيت بداية سكناها فيها وانضمامها إلى معسكراتها. وربطت بعض الآراء بين لجوئهم إلى مصر وبين أحداث التاريخ اليهودي في فلسطين خلال القرنين السابع والسادس ق. م. فقد أدت مراحل النزاع بين يهود إسرائيل وبين يهود يهوذا، ثم بينهم جميعًا وبين الآشوريين، إلى نزوح جماعات من هؤلاء وهؤلاء إلى أماكن قصية يلتمسون الأمن فيها. ولعل مصر الغنية القريبة من فلسطين كانت الملجأ المغري للبعض منهم، وقد سبق ذكر المرات التي وقفت مصر فيها سندًا لليهود ضد الآشوريين، حين تدخلت في عهد تاف نخت لنجدة السامرة ضد جيش شلما نصر الخامس، ثم في عهد شبتكو وطاهرقه لنجدة أورشليم ضد جيش سينا خريب.

ص: 312

وحينما دعا يوشيا في عام 631ق. م. إلى التغيير الديني الذي تضمنه سفر تثنية الاشتراع، نزح بعض معارضيه وبعض الكهنة الذين فقدوا امتيازات معابدهم، إلى مصر. وزادت دواعي الهرب من يهوذا حينما اشتد حصار البابليين حولها، وقد عاونتها مصر في عهد الملك واح إب رع على مقاومة هذا الحصار. وعندما تمكن البابليون منها ودمروها ارتحل بعض أهلها إلى مصر ووسعتهم رحابة صدرها، كما استقبلت بعدهم نبيهم إرميا وأعوانه حينما لاذوا بها.

ولما كان اللاجئون في أغلب هذه الأحوال مستضعفين لم يجد بعضهم بأسًا من أن يعيشوا في أقصى جنوب مصر ويحتملوا ظروف الحياة فيه.

والتفتت آراء أخرى إلى أحداث مصر نفسها ودواعي اجتذاب بعض اليهود إلى حدودها الجنوبية. فافترض رأي أن أسلافهم كانوا ممن ساقهم الملك الآشوري آشور بانيبال من أتباع منسا ملك يهوذا خلال حملته ضد مصر في عام 667ق. م، ولعله ألزمهم جنوب مصر ليعملوا فيه باسمه، أو لعلهم انطووا فيه على أنفسهم بعد رحيله. وردهم رأي آخر إلى عهد الملك بسماتيك الأول في منتصف القرن السابع ق. م. حينما فتح أبواب مصر أمام الجنود المرتزقة من كل نحلة، كي يحفظ التوازن بهم في جيشه إزاء المرتزقة القدامى الذين استشرى أمرهم واستعان بهم الأمراء الإقطاعيون المنافسون له، فدخل معهم بعض اليهود إلى جانب غيرهم من بلاد الشام وبلاد الإغريق وجزر البحر المتوسط الشرقية. وعندما استقر أمر الملك وزع مرتزقة جيشه على حاميات الحدود فكان من نصيب اليهود أن ضموا إلى حامية أسوان. ولعله قد جند بعضًا آخر من يهود فلسطين خلال حصار جيشه الطويل لمدينة أشدود، وتلقى بعضًا آخر منهم من منسا ملك يهوذا في مقابل ما زوده به من خيول الحرب. وعندما فرض الملك نيكاو الثاني نفوذه على أروشليم خلال استعداده لملاقاة البابليين، فرض عليها جزية كبيرة وأسر ملكها وساق بعض أعوانه إلى مصر.

وثمة رأي يفترض ما هو قريب من هذه الظروف في عهد الملك بسماتيك الثاني، على أساس احتمال انضمام بعض اليهود إلى معسكره خلال حملة جيشه على بلاد خارو في جنوب الشام، وأن بعضهم قد انضم إلى مرتزقة جيشه الذين تألفوا من كيريين وإيونيين وروديسيين وفينيقيين خلال حملته على أطراف دولة بناتا الجنوبية.

ويبدو أنه كان من المشكلات التي واجهت الملك واح إب رع "أبريس" في أواخر عهده ثورة بعض جنود حامية إلفنتيني ضده وارتحالهم إلى النوبة، وبهذا سنحت فرصة أمام المرتزقة الأجانب ومنهم اليهود ليستقروا محلهم. وذكر المصري نسحور قائد بوابة الأقطار الجنوبية في عهد هذا الملك تواجد جنود عامو "أي قبليين"، وستيو "أي آسيويين" وحاونبو "أي إيجيين"، في أسوان، وكان أغلب القبليين والآسيويين من الآراميين واليهود. وأشارت بردية ديموطية من العام 41 من عهد الملك أحمس الثاني "أمازيس" إلى إيفاد عدد من قواته إلى النوبة، وكان من بين الجنود المرتزقة المنضمين إليها 60 شخصًا من خارو أي من جنوب الشام، و15 شخصًا من آشور "أو من سوريا؟ ". ولعله قد زاد من فرص التواجد في أسوان أمامهم اتجاه سياسة الدولة حينذاك إلى سحب المرتزقة الإغريق من حاميات الحدود، فحلوا محلهم.

ص: 313

والغريب أن نبوءات أنبياء اليهود أو أحبارهم، ظلت مع كل ما قدمته مصر لشعبهم في الداخل وفي الخارج لا تني تتوعدها بالمستقبل المظلم وبكل شر مستطير!

وتزايد تواجد اليهود في معسكرات أسوان على الحدود الجنوبية خلال عصر الاحتلال الفارسي، فكانوا من أدواته وأقرب إلى الإخلاص له وعيونًا له على الوطنيين المصريين وعلى أحداث النوبة. ولعل ذوي قرباهم من يهود فلسطين الذين اعتبروا قورش ملك الفرس مسيحهم المنتظر الذي أعادهم من المنفى، قد ساعدوا الحملة الفارسية على مصر في عهد ولده قمبيز. وقد وجد يهود مصر الجزاء المباشر على ذلك بحيث روى أحد يهود القرن الخامس ق. م في أسوان، أن ملك الفرس "قمبيز" قد هدم كل معابد آلهة مصر وانقص مواردها ولكنه لم يصب المعبد اليهودي في جزيرة آبو بسوء. وروى هيرودوت من ناحية أخرى أن قمبيز أرسل أكلة السمك من الفينيقيين يحملون الهدايا إلى دولة نباتا بهدف التجسس عليها، ويغلب على الظن أن أغلبهم كانوا من اليهود. واستمرت سياسة تقرب اليهود من الفرس في مصر في عهود خلفاء قمبيز بحيث اعتزوا بأنهم احتفظوا لديهم بنسخة من تاريخ حياة الملك دارا الأول، وعندما بليت كتبوا لأنفسهم نسخة أخرى.

على أن الملوك، حتى ملوك الفرس أو نوابهم على مصر، لم يطمئنوا إلى ولاء هذه الطائفة دون ضمان ورقابة، فجعلوا رؤساء الفرق الكبيرة "حيلا" والفرق الصغيرة أيضًا. "دجل من جنسيات أخرى، كالبابليين والفرس، وقد ذكرت الوثائق المعروفة أربعة رؤساء دجل بين أعوام 464 - 446ق. م، وأربعة آخرين بين أعوام 446 و420، ثم ثلاثة أو أربعة بين أعوام 411 و400ق. م. ولا يعرف أن دل تكرار رقم الأربعة في هذه الحالات على تواجد أربع وحدات دجل في آن واحد، أم غير ذلك. وهكذا كان رئيس المنطقة الملقب بلقب "فراتركا" ربما بمعنى الأول أو المقدم، من غير اليهود أيضًا، وكانت له بحكم منصبه سلطات الإشراف العسكري والمدني أيضًا.

ضمنت حرفة الجندية للأقليات الأجنبية في منطقة أسوان الإقامة والحماية، وانتفعوا بمرتباتها التي كانت عينية في معظم أحوالها تصرف من بيت المال في آبو وقد عبرت الوثائق عنه باسم خزانة الملك، وعن طريق بيت الملك، أي ديوان الحكم في المنطقة. ولم يحل هذا دون أن يعمل بعضهم في زراعة محدودة وأن يتملكوا تبعًا لذلك بعض الأراضي، وأن يرافق بعضهم قوافل التجارة إلى الجنوب، ويعمل بعض آخر جباة ضرائب في خدمة الدولة، وعاش المرابون اليهود في هذا المجتمع المفتعل الضغير على ما عاشوا عليه في كل العصور، فاتسمت شروطهم بالإجحاف حتى فيما بين بعضهم وبعض فبلغ سعر الفائدة 60% وكانت سريعًا ما تتضاعف حيث كانت فائدة مركبة تضاف قيمتها إلى أصل الدين إن لم تسدد في موعدها لتخضع مثله لربح آخر.

وكطائفة تعتمد أساسًا على رابطة الدين - أقام يهود الفنتين في شمال الجزيرة معبدًا لإلههم يهوه جمعوا له المعونات من أثريائهم وفرضوا له تبرعات على رجالهم ونسائهم، ولعلهم قلدوا فيه بعض مظاهر معبد أورشليم في صورة متواضعة بطبيعة الحال، فكان له أعمده حجرية وسقف خشبي ويقوم به نصب ومذبح، ووصفوا ربهم فيه بأنه رب الجنود وأنه الرب الموجود في آبو الحصن أي حصن الفنتين، وإن خالفوا بذلك قانون

ص: 314

الإصلاح الديني الذي لم يعترف إلا بمعبد أورشليم معبدًا رسميًّا ودعا إلى الاعتقاد بأن الإله مسكنه السماء وأن اسمه هو الذي يسكن المعبد.

وسواء أتى اليهود معهم برواسب ديانة التعدد القديمة في فلسطين، أو خضعوا لدواعي الاختلاط ببيئة المرتزقة التي عاشوا فيها، أم أتت الوثائق الآرامية بأخبارهم إلى جانب أخبار غيرهم. فقد وردت في هذه الوثائق أسماء معبودات مصرية وآرامية وبابلية وفارسية أيضًا، مثل أسماء ساتت وخنوم، وبيثئيل شمين "ملكة السماء"، ونابو، وبانيت، إلخ.

ومع مرور الوقت قامت بين الأقليات في أسوان ومنهم اليهود وبين المواطنين المصريين في المنطقة علاقات تزاوج وتجارة وعمل ومداينات، بحيث تزوجت يهودية من رجلين مصريين على التعاقب، وتزوج مصري من آرامية، وتزوج يهود من مصريات. وكان من الطبيعي أن تشوب هذه العلاقات بعض المنازعات من حين إلى آخر، وكان للمواطنين في بعض الأحيان اليد العليا فيها، بحيث روت إحدى الوثائق أن المحكمة جعلت امرأة يهودية تقسم باسم المعبودة المصرية ساتت في قضية قامت بينها وبين مصري، واشترط مصري على مدينه اليهودي أن يدفع أربعة شواقل فائدة قرضه بمقتضى أوزان بتاح الإله المصري وليس بمقتضى أوزان الملك الفارسي، وعامله بمعاملة المرابين اليهود أي بمقتضى الربح المركب. واشترط تعاقد مصري على متعهدين يهوديين تسلما 50 إردبًا من الشعير والعدس من ملامح مصري لتوزيعها على أفراد الحامية ضمانًا أو شرطًا جزائيًّا قدره ألف شيقل، وربما اشترط الملاح نفسه أن يحصل أجره من حصتهما المقررة من بيت الملك وأن يقتضيه من ممتلكاتهما إن امتنعا عن أدائه.

وكانت اللغة الآرامية قد طغت على اللغة العبرية في فلسطين نفسها، لبعض الوقت، كلغة الثقافة والمراسلات ولهذا لم يكن من الغريب أن تطعي عليها كذلك بين يهود إلفنتين لا سيما مع اختلاطهم بالآراميين المشتركين معهم فيها. وتأثرت لغتهم كذلك باللغة المصرية في بعض تعبيراتها الدارجة وفي تعبيرات التعاقد.

وكما كان بناء معبد اليهود في الفنتين معبرًا عن روابطهم، أصبح خرابه مقدمة لتفرقهم. فعندما طال احتماء اليهود بالمحتلين الفرس تناسوا حقوق الوطن المصري الذي آواهم - وعندما تعاقبت ثورات المواطنين ضد الاحتلال الفارسي "في أعوام 488 - 486، 460 - 454، 450، و410ق. م" لم يساندهم اليهود فيها، أو على حد تعبير إحدى الوثائق الآرامية لم يتركوا مراكزهم ولم توجه إليهم تهمة التمرد. وربما تجاوزوا تجاهل المشاعر القومية المصريين إلى تجاهل تقاليدهم الدينية أيضًا، فتجرءوا على تقديم الأضاحي من الكباش في معبدهم عوضًا عن الجداء، وكان الكبش رمزًا مقدسًا للمعبود خنوم في أسوان. وهكذا استمر السخط يتفاقم ضدهم حتى أفضى إلى تدمير معبدهم في حوالي عام 410ق. م خلال العام الرابع عشر من حكم الملك الفارسي دارا الثاني. والطريف أن رسائل اليهود لم تنسب هدم المعبد إلى كهنة خنوم المصريين في حصن إلفنتين وحدهم، وإنما ذكرت أنهم استغلوا غياب الوالي الأكبر "خشاتر أبافان أو الساتراب" أرشام الفارسي عن مصر فاتفقوا مع فرارتكا أسوان، أي رئيسها، فبدرانجا الفارسي، على إزالة معبد اليهود من الجزيرة

ص: 315

فاستجاب لهم وكلف بذلك ولده أحد قادة حامية أسوان فقاد المصريين وجنودًا آخرين وهدموا المعبد، وأقاموا على جزء من أنقاضه مدخلًا إلى ناحية معبد خنوم المصري، وفي سبيل إقامة هذا المدخل استغلوا جزءًا يحد مخزنًا ملكيًّا مجاورًا له وأقاموا سورًا في وسط الحصن وعطلوا "حين بنائه" بئرًا كانت تمد المعسكر اليهودي بالماء، وهكذا ألقى اليهود جانبًا كبيرًا من مسئولية ما حدث على الحاكم الفارسي المحلي وولده، مما يعني أن مسلكهم لم يرض بعض الفرس أيضًا، وإن ادعوا في رسائلهم أن هذا الحاكم فعل ما فعله مقابل رشوة كبيرة، وهو ادعاء يصعب أن يعرض الرجدل به سمعته وسمعة ولده للمساءلة أمام ملكه نصير اليهود.

وعلى أية حال ففي ثلاث رسائل للوالي الفارسي الكبير أرشام وهو بالخارج ما يشير إلى "وقت ثورة مصر"، مما يعني قيام ثورة في غيابه، وأن إجراء أهل أسوان ضد المعبد اليهودي كان صدى لثورة عامة ضد المحتلين وأعوانهم أو على الأقل قد صادفها وانتفع بآثارها. وقد يزكي هذا الاستنتاج بردية ذكرت أسماء خمسة من كبار اليهود وأكثر من ست نساء عوقبوا وربما اعتقلوا في البوابة في مدينة طيبة، وروت أنه جرى استرداد المقتنيات التي كانت قد سلبت من بعض المساكن، وفرضت عقوبة مالية. وربما دل هذا على سبق اعتداءات يهودية ثم تعرض المعتدين للعقوبة والتغريم في مدينة طيبة على أيدي قضاة وطنيين في فترة من فترات ازدهار الشعور الوطني ضد المحتلين وأعوانهم.

وتسامح المصريون بعض الشيء، فتركوا اليهود حيث هم، وربما لم يعترضوا على بناء معبدهم في موضع آخر خارج حصن إلفنتيني. فلم يقنع اليهود بهذا التسامح وأبوا إلا أن يعاد بناء المعبد في نفس موضعه بحجة أن الملوك المصريين السابقين لم يعترضوا عليه وعندما احتل الفرس مصر أبقوا عليه وحينما اعتدوا على معباد كل آلهة مصر لم ينالوه بسوء. ولاستثارة العطف عليهم ادعى اليهود أنهم حرموا على أنفسهم شرب الخمر والتمضخ بالزيوت ومضاجعة النساء حتى يعاد بناء معبدهم. وتوالت رسائل رؤسائهم إلى كل من أملوا في مساعدته لهم، فكتبوا إلى باجوهي الوالي الفارسي على يهوذا "وثمة احتمال بيهوديته على الرغم من اسمه الفارسي" وإلى يوهانان حاخام أورشليم وزملائه الكهنة وإلى كبرائها، ولكن لم يستجب لعويلهم أحد.

وعاودوا الشكاية والاستعطاف في رسائلهم بعد ثلاث سنوات، إلى باجوهي مرة أخرى وإلى داليا وشليمنا ولدى سنبلاط حاكم السامرة عساهما أن يقنعا أباهما بمعاوتهم. وكان من تزلفهم في افتتاحية إحدى رسائلهم إلى باجوهي في عام 407ق. م ما يقول "أعز رب السماء مولانا كثيرًا وعلى امتداد العمر، وحباه الحظوة لدى جلالة الملك دارا ونبلاء الفرس أكثر مما هو عليه الآن ألف مرة

"، إلخ. ثم وعدوه إن استجاب لهم وكتب إلى أصدقائه في مصر لإعادة بناء المعبد وإعادة القرابين والبخور والمحروقات "على نفقة الدولة؟ " أن يقدموا كل هذا باسمه ويصلوا من أجله هم ونساؤهم وأطفالهم وكل اليهود الموجودين معهم. ولعلهم أرفقوا برسالتهم هدايا ملائمة مما جعل باجوهي وداليا يعدان رسولهم شفاهة وليس كتابة بالسعي لتحقيق أملهم دون الالتزام بتقديم الأضاحي المحروقة التي كان يجب أن يقتصر تقديمها على معبد أورشليم وحده. والتزم يهود إلفنتيني بهذا الأمر فكتبوا إلى أحد أصحاب النفوذ في مصر ولعله أرشام والي مصر الفارسي يعدونه إن هو سمح بإعادة بناء المعبد حيث كان بأنهم لن يقدموا أغنامًا أو ثيرانًا أو ماعز كأضاحي محروقة وسوف يكتفون بالبخور وقرابين الطعام والشراب، وأنهم سوف يقدمون إلى بيت مولاهم في مقابل

ص: 316