الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تشريع إشنونا:
انتعشت دويلات المدن العراقية شيئًا فشيئًا من جديد وعاش بعضها بعد سقوط أور بفترة طويلة، وساعدها على ذلك أن نهضتها كانت نهضة فكرية أكثر منها عدائية أو توسعية، الأمر الذي صرف عنها حقد إسين ولارسا. وكان من أنشطها دويلة مدينة غشنونا التي يقوم على بعض أنقاضها الآن تل أسمر في منطقة ديالي على الطريق التجاري بين العراق وبين إلام. وكانت فيما يبدو أكثر ميلًا إلى السامية منها إلى السومرية على الرغم من موقعها، واعتبرت تشباك إلهها الأكبر، واتسع نشاطها إلى قرب كركوك. وخير ما يذكر لأهلها هو خروجهم بتشريع مكتوب في أوائل القرن التاسع عشر ق. م أو قبلها بقليل1. ووجدت بعض لوحاته في تل أبي حرمل قرب بغداد، ويعتبر هو التشريع الثاني من نوعه بعد البداية التي قام بها أور نمو ملك أور، أو هو الثالث بعد المحاولة الإدارية التي قام بها أوروكاجينا في لجش. وبقيت منه إحدى وستون مادة عاجلت أهم جوانب الحياة في عصرها وشهدت بالكفاية التشريعية لأصحابها، فاهتمت طائفة منها بتحديد أسعار الأقوات الضرورية لسواد الشعب مثل الشعير والزيت والملح، وجعلت كور الشعير بشاقل فضة وسعرت الثلاث "قا" من أحسن صنوف الزيوت بشاقل فضة، وكوري الملح بشاقل فضة، والقا من زيت السمسم الفاخرة بثلاث سيات من الشعير، إلخ. وقامت بذلك مقام التسعيرة الجبرية.
واهتمت مجموعة ثانية بتعيين الحد الأدنى "؟ " لأجور العربات والقوراب ومن يعملون عليها، والحد الأدنى "؟ " لأجور العمال الزراعيين. فجعلت أجرة العربة بثيرانها وسائقها طوال اليوم بانا و4 سيات من الشعير أو ثلث شاقل فضة، وجعلت أجرة نقل حمولة كور بالقارب 2 قو شعير، وأجرة المراكبي سية وقو من الشعير على أن يعمل على قاربه طوال اليوم، وجعلت إيجار المكاري وحماره طوال اليوم سيتين من الشعير أو وزن 12 حبة من الفضة، وجعلت أجرة الأجير في الشهر شاقلا من الفضة وبانا من الشعير، إلخ.
واهتمت مجموعة ثالثة بتحديد العقوبات على جرائم عصرها وعلى الأضرار التي تلحق بالغير، وجمعت في ذلك بين القصاص الغرامة فرضيت بالقتل عقابًا للقاتل، ولكنها أقرت مبدأ التعويض على الجروح التي لا تؤدي إلى الوفاة شأنها في ذلك شأن تشريع أور، فقضت على من عض أنف شخص أو اقتلع عينه بأن يدفع غرامة قدرها مينه من الفضة "وكانت في تشريع أور ثلثي مينه فقط مما يعني الرغبة في تشديد الجزاء"، وقضت على من كسر سنًّا لآخر أو قدمه أو قطع أذنه بأن يدفع نصف مينه من الفضة. وقضت على من شوه وجه آخر بأن يدفع له عشرة شواقل من الفضة. وألقت مسؤلية ما يأتيه العبد أو الفحل أو الكلب على كاهل صاحبه.
وعنيت مجموعة رابعة من تشريعات إشنونا بتنظيم العلاقات الأسرية والمعاملات الخاصة، فاشترطت رضا الوالدين على زواج ابنتهما، وذكرت أن من أغوى فتاة على معاشرته دون أن يعقد عليها أمام والديها
1 نسب A. Goetze التشريع إلى الملك بلالا ما "مجلة سومر 1948"، ثم عدل عن هذه التسمية واكتفى بنسبة التشريع إلى مدينه.
See. A. Goetze، The Eshnunna Law، 1956.
وترجم طه باقر بنود التشريع في الجزء الثانيط من المجلد الرابع لمجلة سومر - وانظر أيضًا سومر 1961.
لن تصبح زوجته ولو أقامت في داره حولًا كاملًا. وأخذت بما سنته أور من أنه إذا تعاقد رجل مع شاب على تزويجه ابنته ثم زوجها لغيره وجب عليه أن يرد له ضعف ما أخذه منه، ونصت على حق المحارب الذي يؤسر مدافعًا أو غازيًا وينقل إلى ديار أعدائه، في أن يسترد زوجته حين عودته ولو تزوجت غيره خلال غيابه عنها، ولكنها حرمت هذا الحق على من فارق بلده كارهًا له أو آبقًا من سيده. وجعلت القتل عقابًا للزوجة الزانية وعقابًا لمن يغتصب فتاة مخطوبة
…
، ونصت على أنه على من طلق زوجته ذات الأولاد وتزوج غيرها أن يفارق الدار وما فيها هو ومن أراد أن يتبعه من أهل داره، وفي هذا سبق من التشريعات العراقية القديمة لكفالة حقوق الزوجة الأم عما تطلعت إليه بعض القوانين الحالية.
واستنت سنة الشفعة، فاعترفت بأن الإخوة أحق بشراء نصيب أخيهم من الميراث إذا أراد بيعه، وبأن من باع دارًا أصبح أحق بشرائها ثانية لو باعها مشتريها.
وحددت أرباح القروض معدنية كانت أم عينية فجعلت ربح الشاقل من الفضة سدسًا وست حبات، وجعلت ربح كور الشعير بانا وأربع سيات من نفس نوعه.
غير أن كل هذه المكاسب التشريعية كانت لأحرار إشنونا، حتى الفقراء منهم، دون العبيد الذين أهدرت حقوقهم. فقد حرصت مجموعة خامسة من التشريعات نفسها على تأكيد حقوق القصور الملكية والمعابد والسادة فيما يمتلكون من العبيد والجواري والعقارات، فحرمت على الرقيق والإماء الموسومين بأسماء سادتهم أن يجتازوا بوابة إشنونا دون إذن سادتهم، وأكدت حق السادة في امتلاك أبناء جواريهم ولو رباهم غيرهم، وحرمت على أي من العبد والجارية أن يتاجر لحسابه، وتوعدت من يتعامل معه، أي أنها اعتبرت العبد لا يملك شيئًا، وأنه هو وما يملكه ملك لسيده، وإن لم تكن هذه النظرة إلى طبقة الأرقاء والعبيد غريبة تمامًا عن نظرة بقية الشعوب القديمة المعاصرة لها.
وفرضت التشريعات عشرة شواقل من الفضة على من يضبط نهارًا في حقل رجل من الموشكينو أو في داره، ويعتبر الموشكينو من اهل الطبقات العادية من الأحرار ويبدو أنها عنت بهم من يعملون لصالح القصور الملكية والمعابد بخاصة. وفرضت الإعدام من يضبط ليلًا في حقل رجل من الموشكينو أو في داره، ولعل التشديد في عقوبة سارق الليل ترجع إلى أنه قد لا يتورع عن ارتكاب جريمة القتل متسترًا بالظلام ولا يكتفي بالسرقة.
وهكذا تناولت تشريعات إشنونا أغلب مشكلات الحياة في عصرها، وأدى العثور على ألواحها الباقية في تل حرمل إلى جانب العثور على بعض تشريعات أور من قبلها إلى تعديل الفكرة القديمة الشائعة التي اعتبرت تشريعات حمورابي البابلي أقدم تشريعات مكتوبة في بلاد النهرين أو في الوجود. ويبدو أن حرمل هذه التي تبعد نحو ستة أميال شرقي بغداد، كانت تسمى "شادوبم" وتحتمل بداية عمرانها في منتصف الألف الثالث ق. م، ولكن ترجع أهم مبانيها ولوحاتها إلى النصف الأول من الألف الثاني ق. م. ومن هذه المباني معبد مسطح يتألف من مدخل وساحة ومقصورة تقع كلها على محور واحد، وأطلال قصر متسع،