الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من عابر سبيل أو اغتصب نعله، ولم يحدث أن نهب أحد جنوده خرقة من قرية، أو سلب عنزة من عشيرة، حتى جاوز بجيشه مناطق الحدود الشمالية الشرقية، أو جاوز على حد تعبيره الجزيرة الشمالية، وبوابة إيمحوتب، وساقة حورنب ماعت1. وترتب على المعارك التي خاضها وني ما يترتب على الحروب عادة في كل آن، من أسر وتقتيل، ونهب وتدمير. ولما تكللت مساعيه بالنصر، وعاد بعسكره إلى أرض مصر، رفع إلى فرعونه تقرير الحرب، وعقب عليه بسبعة أبيات من الشعر أكد خلالها سلامة جيشه سبع مرات، وبدأ كل شطر فيها بعبارة تقول: عاد الجيش سالمًا
…
بعد أن فعل كذا وكذا
…
، فقال على سبيل المثال: "عاد الجيش سالمًا بعد أن دمر أرض أهل الرمال
…
، عاد سالمًا بعد أن أسقط حصونهم، عدا سالمًا بعد أن خرب مزارع التين واقتلع الكروم".
لم يبرأ تقرير وني من المبالغة في تصوير كثافة جيوشه، حين ادعى أنها بلغت عشرات الآلاف، ولم يبرأ من المبالغة حين ادعى أن جنوده لم يحيدوا عن جادة الصواب في أي كبيرة وصغيرة. غير أن روايته على الرغم مما تضمنته من مبالغات، لا تخلو من دلالات تنم عن التنظيمات العسكرية في عصره، ومنها أن الحكام تعودوا على أن يجندوا قطاعًا واسعًا من إمكانيات البلاد لأغراض الدفاع والهجوم كلما آن أوانها، وأنهم اطمأنوا على إخلاص بعض النوبيين وبدو الصحراء الغربية واستعانوا بهم في جيوشهم، وأن رجال الدين كان لهم نصيب من المشاركة حين الخروج إلى الحرب، ولعلهم كانوا يثيرون حماس الجنود ويذكرونهم بآلاء الأرباب وضرورة الولاء للفراعنة والرؤساء والحرص على تقاليد الدين. وأن التراجمة كانوا يعاونون القادة على التفاهم مع أهل المدن التي يفتحونها أو تفتح لهم أبوابها من تلقاء نفسها. ونم وصف وني لمسلك جنوده الحميد داخل مناطق الحدود، وافتخاره به، عن أن رؤساء عهده ممثلين في شخصه، كانوا يقدرون من تبعات القيادة أربعة واجبات، وهي: العمل على تغليب روح الطاعة في الجيش، وتقليل دواعي الشقاق بين الجنود، وتغليب روح التراحم بينهم وبين مواطنيهم المدنيين، والعمل على تزويد الحيش بمئونة مناسبة تصرف رجاله عن الدنية وعن محاولات النهب والعدوان. ونم وصفه لمنطقة حروبه، وذكره مزارع التين والكروم فيها، عن أنه توغل بجيشه في فلسطين، وقد ذكر منطقة منها باسم "أنف الغزال"، وهذا يراها الأستاذ جاردنر قريبة من جبل الكرمل. ويبدو أن سلامة الجيش التي رددها وني في نهاية تقريره المنظوم عددًا من المرات لم تكن من مستلزمات الشعر وحده، وإنما تضمنت خبرًا مرويًّا عما حدث للجنود فعلًا، أو هي على الأقل عبرت عن أمل كان المقيمون يرجونه لجيشهم فعلًا2.
1 حورنب ماعت هو لقب سنفرو، وتسمية المنطقة باسمه تعني تحصينها في عهده.
See، Erman، Zaes، 1891، 120; A. R.، 317 D.
2 راجع عبد العزيز صالح: "التربية العسكرية في مصر القديمة" – تاريخ الحضارة المصرية – القاهرة 1962، ص189.
العمارة والفن والمجتمع:
تجمعت أهرام فراعنة الأسرة السادسة في منطقة سقارة، فيما عدا هرم ببي الثاني الذي شيد إلى الجنوب منها بقليل. وشاهبت هذه الأهرام أهرام الأسرة الخامسة في بساطة أحجامها وصغر أحجارها الخارجية،
وبالتالي قلة متانتها ومقاومتها نسبيًّا وإن تألفت بعض أجزائها الداخلية من كتل ضخمة. وجرت هذه الأهرام على سنة هرم ونيس في نقش متون الأهرام على جدران حجرات الدفن فيها وبعض الحجرات الملحقة بها، ثم ما لبثت هذه المتون أن وجدت سبيلها إلى أهرام الملكات أيضًا، فنقشت في هرم الملكة إبوة زوجة تتي مؤسس الأسرة، وهرمي نبت ووجبتن زوجتي ببي الثاني آخر الملوك الكبار في الأسرة1 مما قد يعني زيادة مكانتهن عما كانت عليه من قبل.
ولم يتبق من تماثيل فراعنة الأسرة السادسة غير القليل، ومن هذا القليل أربعة تماثيل معبرة للفرعون بني الأول، مثله أحدها وهو صغير عاريًا في سن الرضاعة، ومثله آخر جالسًا على حجر أمه في سن الطفولة، ومثله ثالث حاثيًا على ركبتيه في سن الرجولة يقدم قربانًا لربه، ومثله رابع كهلًا يدفع عصاه بيده وبجواره ولي عهده مرنرع عاريًا في سن الطفولة. ولم يجرأ فن النحت على تمثيل هذه الأوضاع للملوك قبل عهد ببي وإنما اعتاد على أن يمثلهم في سن الرجولة الناضجة دائمًا وفي سمات أبناء الأرباب، تكسوهم القداسة ويحف بهم الجلال والوقار حيت يعتلون عروشهم في تعال وأبهة، وحين يقفون في انتصابة وشموخ، وحين يظهرون مع أربابهم في زمالة حبيبة أو بنوة رفيقة. ولم يحرم فنان ببي تماثيله من مظاهر الأبهة حتى وهو يمثله صغيرًا رضيعًا، ولكنه بدأ في الوقت نفسه ينفعل بآراء جديدة عرفها عصره ونشرحها بعد قليل، وبدأ يحس معها بأنه يمثل إنسانًا قبل كل شيء، وإن يكن إنسانًا ملكًا، فمثله عاريًا، ومثله يحن إلى حجر أمه. وبدأ يشعر بأنه لا ضير عليه في التعبير عن العلاقة بين الإنسان الملك وبين ربه بتعبيرها الصحيح فصوره جاثيًا يبتغي من خالقه الرضا وقبول قربانه وإن يكن بطبيعة الحال إنسانًا مميزًا أو إنسانًا مقدسًا2.
وانعكس ثراء كبار الأفراد وازدياد مكانتهم السياسية والاجتماعية على آثارهم، ففاقت مقابرهم مقابر أمثالهم في عصر الأسرة الخامسة من حيث السعة والفخامة وتعدد النقوش وموضوعات المناظر. وتفرقت هذه المقابر بين جبانة العاصمة منف في سقارة وما حولها وبين جبانات حواضر الأقاليم، وكانت أفخمها هي مقابر رجال البلاط قرب العاصمة أي في سقارة والجيزة. وأشهر ما يستشهد به منها مقبرتان، مقبرة مرروكا، مقبرة كايجمني. وتضمنت أولاهما 33 حجرة فوق سطح الأرض، وامتلأت أغلب جدرانها بالمناظر المنقوشة الملونة. واستحب أثرياء العصر طابع الامتلاء في حياتهم وفي نقوشهم، وأسرف عظماؤهم في الاستمتاع برفاهية حياتهم، وتعمد الفنانون حشو مناظر المقابر بتفاصيل ما كان يتحلى الأثرياء به من الشعور المستعارة والقلائد، وزادوا من تصوير تفاصيل الغدران التي كانوا يرتادونها للتريض وتفاصيل نباتاتها وأسماكها وأفراسها وتماسيحها، بل ولم يجدوا بأسًا من تسجيل تفاصيل الجنازات أيضًا ومناظر العويل والبكاء والحزن فيها. واستمتع مجتمعهم بنصيب واسع من التحرر الفكري والتحرر المعيشي، فلم يتردد
1 G. Jequier، La Pyramide D'oudjabten، Le Caire، 1928; Les Pyramides Des Relnes Neit Et Apouit، Le Caire، 1933.
2 عبد العزيز صالح: "الفن المصري القديم" – في تاريخ الحضارة المصرية – ص237 لوحة 30؛ دراسات في التاريخ الحضاري لمصر القديمة – 1957 – ص8.