الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكحل "الملاخيت" بجوار مواقد الأكواخ عن غير قصد، فإذا اشتدت نار المواقد وصهرتها خلصتها من لونها الأخضر وأبقت منها رواسبها المعدنية البارقة. ولما تكررت هذه الظواهر وأمثالها، والتفتت الأنظار إليها وظهر من الصناع من أدركوا مسبباتها، أصبحوا يكررونها عن قصد ويبحثون عن أخلاط النحاس في مواطنها القريبة والبعيدة ثم يصرونها بوسائلهم البدائية اليسيرة1.
وتعتبر العهود الأولى لاستخدام النحاس في الشرق الأدنى جزءًا من فجر تاريخه، ولكنها توصف على الرغم من ذلك بثلاث تعريفات خاصة بها، وهي: تعريف زمني يسميها العصر الإنيوليثي بمعنى العصر الحجري الأحدث، وتعريف حضاري يسميها العصر الخالكوليثي بمعنى العصر النحاسي الحجري "وتعرب تجاوزا باسم عصر بداية المعادن"، ثم تعريف تاريخي يسميها باسم عصر ما قبل الأسرات في مصر بخاصة.
وبدأ الانتفاع بالنحاس على نطاق ضيق، ولم يزد استخدامه في بداية أمره عن صناعة مجموعات من الخرز الصغير تستخدم في أغراض الزينة، ومثاقب طويلة دقيقة استخدمت في ثقب حبات الخرز الحجرية، ودبابيس طويلة استخدمت في شبك أرديتهم الجلدية أو الكتانية. ثم اتسع استخدام النحاس اتساعًا نسبيًّا مع مرور الزمن، وصنعت منه بعض المدى والأسلحة الصغيرة، وتطلب هذا التوسع مزيدًا من النشاط في استخراج المعدن وتنقيته، ومزيدًا من النشاط في البحث عن مصادره. وكان أمر هذا النشاط في مصر أمرًا ميسرًا بعض الشيء، فقد توفرت مصادر النحاس فيها في شبه جزيرة سيناء وبعض مناطق الصحراء الشرقية، وذلك على العكس من حال أهل بلاد النهرين، الذين قلت مصادر النحاس في أرضهم وتوفرت فيما حولهم في إيران والأناضول وعمان، وكان عليهم بذلك أن يبذلوا المجهود في استيراده.
1 A. Lucas، Jea، Xxxi، 96-97; Coghian، Man، July 1939.
الفريد لوكاس: المرجع المعرب السابق – ص281 - 283، 246.
وضوح التجمعات:
صحب التطور الحضاري في فجر التاريخ بشقيه، العصر النيوليثي والعصر الخالكوليثي، اتجاه إلى تكوين المجتمعات القروية ثم بداية التطور نحو المجتمعات المدنية. وقد مر بنا كيف دعت حياة الزراعة أصحابها إلى الاستقرار بالقرب من زراعاتهم لرعايتها وحمايتها، وإلى التعاون في سبيل استصلاح الأرض واستغلالها، ثم في سبيل دفع أخطار الفيضانات وتيسير الانتفاع بمائها، كما دعتهم إلى التقارب والتماس الأمن للفرد وأسرته وملكيته وسط الجماعة وفي حماية المجموع. وأدت هذه العوامل إلى تجمع سكان المناطق الزراعية في قرى صغيرة كانوا ينشئونها على مناطق الحواف، أي الحواف الزراعية والحواف الصحراوية، أو المناطق المرتفعة بعض الشيء عن مناطق الزراعة المنخفضة؛ بغية الابتعاد عن رطوبة أرضها، وبغية توفير مساحاتها للإنتاج الزراعي بقدر الإمكان. وكان المادة الميسرة في إنشاء مساكن القرى الزراعية هي الطين، الذي بدأ استخدامه في البناء على هيئة الجواليص، أي الكتل غير منتظمة الشكل، ثم تطور إلى هيئة قوالب اللبن المستطيلة المنتظمة الشكل مع تدعيم الطين فيها بالحشائش الجافة والمواد العضوية حتى يزداد تماسكه، ومع تدعيم أساسات المساكن نفسها بقطع الدبش الغفل، ونشأت أمثال هذه القرى في بداية أمرها متواضعة
متفرقة متباعدة، ولكن لم يكن من منطق الأشياء أن تظل على التفرق طويلًا أو تستقل كل منها دائمًا عن الأخرى، وإنما كانت عرضة لأن تستجيب من حين إلى آخر إلى دواعي التقارب والتضام بعضها من بعض، وهذه الدواعي قد تكون دواعي سليمة كاتصال المصالح التجارية وصلات النسب، والاشتراك في الديانة، والتحالف من أجل تحقيق منفعة أو دفع خطر عدو مشترك. أو تكون دواعي قسرية تتأتى من سعي بعض القرى القوية إلى بسط نفوذها على القرى الضعيفة القريبة منها وضمها تحت رايتها عن طريق القسر والغلبة. وكانت كل من الطريقتين تؤدي في العادة إلى تميز قرية معينة ضمن كل مجموعة من القرى، سواء بميزات الموقع الطبيعي والرخاء النسبي ووفرة الإنتاج واتساع المساحة، أو بميزات الكثرة العددية وشدة البأس. ومثل هذه القرية القوية بأهلها وبرئيسها وبإنتاجها وبموقعها غالبًا ما كانت تتحول إلى بلدة عامرة محصنة بأسوارها، ومتميزة بأسواقها وصناعها، أي إلى مدينة أولية، وهنا قد يصحب الرقي المادي في هذه المدينة رقي فكري نسبي يماثله، ثم يؤدي هذا الرقي الفكري إلى تنظيم سياسي معين أو إلى تحقيق زعامة دينية أو ما أشبه ذلك مما تختلف به كل بلدة عن أخرى. وهذا التمايز فيما بين بلدان فجر التاريخ في الشرق الأدنى القديم، المتعاصرة مع بعضها البعض، أو المتتابعة بعد بضعها البعض، سوف نؤجل بحثه لحين بحث التطور التاريخي والحضري لكل شعب من شعوب الشرق القديم على حدة في الفصول التالية.
وإذا كان لا بد من عودة إلى شبه الجزيرة العربية وأحوالها فيما يعاصر حضارات عصر بداية المعادن في المناطق المحيطة بها، فإن كل ما يمكن تقديمه بشأنها أمرين، وهما: أنه ليس من المستبعد أن أهل أطرافها الشمالية الغربية قد عرفوا النحاس وعرفوا استخدامه على نطاق ضيق بحكم مجاورتهم لشبه جزيرة سيناء المورد الرئيسي لمعدن النحاس في مصر، ثم بحكم مجاورتهم لجنوب الشام الذي عرف أهله النحاس في وقت قريب من وقت معرفة المصريين به. ويمكن ترتيب مثل هذا الرأي احتمالًا كذلك بالنسب للمناطق الشرقية القريبة من حدود العراق والخليج العربي.
أما الأمر الآخر، فهو مبني على ما لوحظ من وجود شيء من التشابه بين بعض المصنوعات والمظاهر الحضارية في مصر وبين أمثالها في العراق خلال ما قبل العصور التاريخية وفي بدايتها1. ونم هذا التشابه الذي سنشرح تفاصيله في فصول تالية، عن اتصال حضاري وتجاري قديم بين أصحاب الحضارتين. غير أنه لم يكن من الضروري أن يتم مثل هذا الاتصال بين الفريقين بطرق مباشرة دائمًا، بحيث يرتحل من أجله عراقيون إلى مصر بالضرورة أو يرتحل فيه مصريون إلى العراق، وإنما يبدو أن أغلب الاتصالات بينهما كانت تتم عن طريق وسطاء تلقائيين يرتادون المناطق التي تفصل بينهما. وغالبًا ما كان بعض هؤلاء الوسطاء من أهل الشام، ولكن لا يستبعد في الوقت نفسه أن بعضهم الآخر كان من أهل شبه الجزيرة العربية، سواء من أهل أطرافها الشمالية أم من أهل أطرافها الجنوبية. وإذا صح هذا الفرض الأخير، وهو فيما يبدو فرض محتمل، أمكن أن نرتب عليه أن بعض أهل هذه الأطراف العربية قد انتفعوا بالحضارتين وقلدوا بعض أوجه نشاطهما في حدود ما كانت تسمح به بيئتهم وما يسد مطالبهم.
1 انظر مراجع حاشية 2 ص18 وحاشية 1 ص21، سليمان البدر: الخليج العربي
…
أثناء الألف الرابع ق. م – 1972.
وراجع المؤلف: الرحلات والكشوف الأثرية في شبه الجزيرة العربية – الكويت 1981 – ص63.