الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: في أدب النقد والتوجعات
إبوور والثور الطبقية
…
رابعًا: في أدب النقد والتوجعات
إبوور والثورة الطبقية:
أسلفنا في حديثنا عن أواخر الدولة القديمة "في ص149+" أن الدورة التاريخية الأولى لمصر قد انتهت في اواخر القرن 23ق. م. بثورة طبقية صور أخبارها من وجهة نظره حكيم يدعى إبوور، أو أبو العجوز. وقد حفظ المصريون آراءه ووصفه لأحداث عصره وحكايته مع فرعونه وبلاطه، ورددوا قصته أجيالًا طويلة ثم سجلوها على صفحات البردي، وبقيت من صورها بردية كتبها أديب من الدولة الحديثة وتعرف الآن اصطلاحًا باسم بردية ليدن 344 بعد أن انتقلت إلى حوزة متحف ليدن1.
كان إبوور مصلحًا ما في ذلك من شك، وكان يدرك مفاسد الحكم في عصره ما في ذلك من شك أيضًا، لولا أنه كان من طبقة أرستقراطية قديمة وكان يتمنى أن يتأتى إصلاحها من داخلها أو بوحي فرعون حازم مصلح، ولم يكن يهضم أن يفرض التغيير عليها فرضًا عن طريق طبقة أقل منزلة منها، أو عن طريق الشعب في حدود تعبيراتنا الحالية، ولهذا اختلط الإخلاص في روايته بالمبالغة، واختلط التحسر بالأمل، واختلط الخيال بالواقع كما سيتضح من عباراته الحرفية التالية:
يفهم مما رواه إبوور أنه تعاونت على إشعال الثورة نفس العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أسلفنا ذكرها "ص148+" فالدولة في مجملها قد ولت عنها هيبتها وهبطت إلى مستوى من الضعف أصبحت معه على حد قوله "في طريقها إلى أن تصب الماء "لغيرها"، ومن أضاع الماء "أي الإمكانيات" يكون قد شل الذراع الفتية واحتجزها في الأغلال"، "والأجانب الذين كانوا يخشونها والذين عرف الشعب "تفاهتهم" أصبحوا يقولون لن تستطيع مصر أن تأتي شيئًا، فالرمال "المحيطة بها" هي كل حمايتها! ".
وفسدت ولاية الحكام، وقال إبوور عنها:"حقًّا لا تزال العدالة باقية في الأرض باسمها، ولكن المؤسف حقًّا هو الخطأ في تطبيقهم لها"، وقال:"عظماء البلاد لا تبلغهم أمور البلاد، والكل آل إلى الدمار". وظهر عجز الملكية عن كبح جماح الجنود المرتزقة في جيشها بحيث "أصبحت خيرات مصر نهبًا مشاعًا" لكل من نزلها من دون أهلها، وقال إبوور في ذلك:"إن الجنود الذين جندناهم من أجل صالحنا أصبحوا ضمن الآسيويين، ألا بعدًا للخراب الذي حدث "في مصر"، فقد جعل الآسيويين يعرفون أحوال البلاد". وعجزت الدولة عن صد هجرات البدو فتجاوزوا حدودها وتسربوا إلى أراضي الدلتا وشاركوا المصريين
1 Pap. Leiden I، 344 Rt.; Gardiner، The Admonitions Of An Egyptian Sage، 1909; Wilson، Aent، 441 F.
وراجع المؤلف: حضارة مصر القديمة وآثارها - القاهرة 1962 - جـ1 - ص392 - 400.
معايشهم واعتبروا أنفسهم من أصحاب البلاد وخاصة أهلها، وقال الحكيم في ذلك:"تخربت الأقاليم، وتوافدت قبائل قوالسة غريبة إلى مصر، ومنذ أن وصلوا لم يستقر المصريون في أي مكان"، ثم قال والألم يحز في نفسه: "وأصبح الأجانب مصريين في كل مكان
…
"وأولئك الذين كانوا مصرين أصبحوا أغرابًا وأهملوا جانبًا". وكان من الطبيعي أن يعز الأمن في البلاد، وقد قال عنه:"يقولون" الطرق محروسة، ولكن القوم يختبئون على الأشجار حتى يأتي سار بليل فينهبون ما يحمله ويسلبونه ما عليه، ويشوهون وجهه بالعصا، وربما قتلوه ظلمًا"، وقال: "إذا مشى ثلاثة في طريق وجدهم الناس اثنين، فغالبًا ما تذبح الأكثرية الأقلية".
وتخاصم حكام الأقاليم بعضهم مع بعض واستأثر أغلبهم بثروات أقاليمهم، وامتنعت عن خزائن الحكومة المركزية ضرائب أغلب مناطق الصعيد القصية وقال إبوور في ذلك: "الحق أن أسوان وجرجا في أرض الصعيد لم تعودا تؤديان الضرائب نتيجة لشيوع الفتن، فعز الغلال
…
ومنتجات المصانع فكيف يسير بيت المال إذن بغير موارده؟ " وقال: "قلت سفن الصعيد، وتخربت المدن، وأصبح الصعيد خرابًا يبابًا".
وتوقفت سبل التجارة الخارجية مع غرب آسيا بعد أن هددتها الفوضى والهجرات الأمورية، وقال إبوور عنها:"ماعاد أحد يبحر اليوم نحو جبيل، فما الذي سوف تفعله إذن بخصوص أخشاب الأرز "التي اعتدنا أن نصنع منها" توابيتنا، والزيوت التي يحنط الكبراء فيها، "وترد من" هناك، ومما يجاوز كفتيو. ما عاد يأتي من ذلك شيء حتى أصبح مجيء أهل الواحات بمنتجاتهم "البسيطة" شيئًا ذا بال".
نشبت الثورة من جراء هذه العيوب كلها، وصحبها في بدايتها نوع من العنف ورغبة الانتقام، ورغبة التنفيث عن الغضب المكبوت، ويبدو أن أعوزتها الزعامة التي توجهها الوجهة السليمة، فاستغلها بعض الغوغاء وأهل السوء، وقال إبوور وهو يصف بدايتها "قال حراس الأبواب "بعضهم لبعض" فلننطلق وننهب
…
، وأبى الغسالون أن يحملو أحمالهم
…
، وتسلح صيادو الطيور بأدواتهم، وتترس أهل الدلتا بالتروس
…
، وحدث شيء قدر منذ عهد حور وزمن التاسوع".
أغرب إبوور في وصف سوء الحال والمآل، ووصف ما شاء له الوصف شدة الاعتداءات على حرمة الملكية ومقدساتها ودواوينها ودور قضائها، وقال عن هذه الأخيرة:"فتحت الدواوين وسلبت كشوف الإحصاء وأتلفت سجلات كتبة المحاصيل" وقال: "ألقيت قوانين دار القضاء في العراء، ووطئت بالأقدام في الشوارع، ومزقها الغوغاء في الأزقة، وأخذ العوام يروحون ويجيئون في دور "القضاء" الكبيرة، ونُفي القضاة في الأرض، واحترقت البوابات والأعمدة والأسوار".
وقال في شيء من التهويل والمبالغة: "أصبح الرجل ينظر إلى ولده كأنه عدوه،
…
وساءت الوجوه، وتأهب القواس، واستشرى النهب في كل مكان وما عاد لرجل الأمس وجود
…
"، وقال: "قست القلوب، وغزا الوباء الأرض "وسرى" الدم في كل مكان، وأصبح مجرى النهر قبرًا، وغدا كان التطهر فيه بلون الدم، وإذا قصده الناس ليرتووا منه عافوا جثث البشر وظلوا على ظمئهم إلى الماء". وعز الأمن
في الريف وتعطلت الزراعة، وقال إبوور:"أصبح الرجل يخرج ليحرث وهو بالمجن""وأفاض إله النيل الماء، ولكن ما من أحد يود أن يحرث من أجل نفسه، بعد أن أصبح الناس جميعهم يقولون: لسنا نعرف ما سوف يتأتى في هذه الدنيا". وتعطلت الصناعة والفنون بدورها، وقال إبوور "أصبح الصناع جميعًا عاطلين، وأفسد أعداء البلاد فنونها""وأصبح بناة الأهرام فلاحين". وأراد أن يصور سوء الحالة الاقتصادية فقال: "أصبحت العاصمة في خوف من العوز، وأصبح الناس يأكلون الحشائش ويبتلعون بالماء
…
".
لم ينس الرجل طبقته التي انحدر منها، فأخذ يتحدث عن انقلاب أوضاع الطبقات ويقارن بين ما كان وما هو كائن، ولم يكن من الهين عليه بطبيعة الحال أن تزول النعمة من قوم إلى قوم أو من طبقة إلى طبقة، فقال في عبارات قوية اصطبغت بروح الأدب وتعنينا من حيث صياغتها وطرافتها أكثر مما تعنينا من حيث دلالتها على واقع أكيد. قال الحكيم فيما قال:"فارقت النبالة الدنيا وأصبحت ربات البيوت يقلن أنى لنا ما نأكله، وذبلت أجسادهن في الأسمال وهاضت قلوبهن من ذل السؤال"، وقال: "غدا الأثرياء يولولون وغدا المحرومون مسرورين
…
وما من أبيض الثوب في هذا الزمان. ودارت الأرض كما تدور عجلة الفخار. وأصبح المواطن يقول ما أشد البلاد وماذا أفعل؟ وأصبح ابن الناس نسيًا منسيًّا وغدا ابن سيدته كابن خادمته". واندار على الطبقة الجديدة فقال في عبارات متفرقة: تجرأت الجواري بأفواههن، وإذا تكلمت سيداتهن ثقل ذلك على الخدم. وأصبح العوام من أرباب الرفاهة، ومن لم يكن منهم يتخذ نعلًا أصبح ذا ثراء عريض، ومن لم يكن يعرف الظل أصبح صاحب ظل ظليل، ومن كان رسولًا أصبح يرسل غيره، ومن كان يتساقط شعره من قلة الدهان أصبح يمتلك قدور المر الغالي، ومن لم يكن له صندوق أصبح صاحب أثاث، ومن كانت ترى وجهها في الماء أصبحت ذات مرآة
…
وكره بعض الناس دنياهم وآثروا الانتحار، سواء لضياع حقوقهم القديمة، أو لأسفهم عما أصاب المعابد والمقابر، أو لأسفهم عما أصاب بلدهم من اضطراب لم يعرفوا علاجه، وعبر أبوور عن رأيهم بقوله "ولي وانقضى ما شهده الأمس، وبقيت الأرض لسوء حظها، ألا ليت ذلك يكون نهاية الناس فلا يحدث حمل ولا ولادة، وتهدأ الأرض من الضجيج ولا يكون هناك متخاصمون"، وقد "أصبح الكبير والصغير يتمنيان الفناء، وأصبح الأطفال يقولون ليت آباءنا لم يهبونا الحياة" و"غصت التماسيح بما أصبحت تقتنصه بعد أن ذهب الناس إليها من تلقاء أنفسهم".
غير أن كل هذه السوءات المبالغ فيها، لم تحرم الثورة من مزاياها ونتائجها الطيبة التي أسلفناها لها "في ص150"، وخلاصتها أنها حركت ضمائر الحكماء إلى الإصلاح، ودعت إلى التفكير فيما ينبغي أن يكون عليه سلوك الحكام، وشجعت على مواجهة الملك بعيوبه، وشجعت على إعادة النظر في العقائد، وأدت إلى نشأة طبقات جديدة تعتز بالعصامية أكثر مما تعتز بالأحساب.