المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعبيرات الهرم الأكبر: - الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق

[عبد العزيز صالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الشرق الأدنى القديم

- ‌الفصل الأول: التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله

- ‌مدخل

- ‌في وادي النيل:

- ‌في بلاد النهرين:

- ‌في بلاد الشام:

- ‌في شبه الجزيرة العربية:

- ‌الفصل الثاني: الشرق الأدنى القديم ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ

- ‌مدخل

- ‌في الدهر الحجري القديم الأسفل:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأوسط:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأعلى:

- ‌قرائن العمران:

- ‌من السلالات البشرية:

- ‌بداية الزراعة في فجر التاريخ أو العصر النيوليثي:

- ‌تعدد الحرف وبدايات الفنون:

- ‌وضوح التجمعات:

- ‌تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها:

- ‌الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية

- ‌الفصل الثالث: مصر في فجر تاريخها

- ‌مدخل

- ‌في الفترة النيوليثية الحجرية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌في مرمدة بني سلامة:

- ‌في الفيوم:

- ‌في دير تاسا:

- ‌في الفترة الخالكوليثية النحاسية الحجرية:

- ‌في البداري:

- ‌في حضارة نقادة الأولى:

- ‌في حضارة نقادة الثانية:

- ‌بين الصعيد وبين الدلتا:

- ‌التطور السياسي:

- ‌من تطورات الفنون وتعبيراتها:

- ‌سكين جبل العركى:

- ‌من آثار العقرب:

- ‌صلاية الفحل:

- ‌آثار نعرمر:

- ‌الفصل الرابع: بداية العصور التاريخية

- ‌مدخل

- ‌الكتابة وتوابعها:

- ‌الحكام والإدارة

- ‌مدخل

- ‌أوضاع الحكم:

- ‌في العمران والفكر:

- ‌النشاط الحدودي والخارجي:

- ‌الفصل الخامس: عصور الأهرام في الدولة القديمة

- ‌أولا: الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة

- ‌مدخل

- ‌إيمحوتب وشواهد العمارة والفن:

- ‌قصة المجاعة:

- ‌التقويم:

- ‌ثانيا: الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة

- ‌تجديدات عهد سنفرو

- ‌عهد خوفو:

- ‌تعبيرات الهرم الأكبر:

- ‌هزات مؤقتة في عهد جدف رع

- ‌آثار عهد خفرع:

- ‌أبو الهول:

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌ثالثا: التقوى والرفاهية في عصر الأسرة الخامسة

- ‌مدخل

- ‌خصائص معابد الشمس:

- ‌أهرام العصر ومعابدها:

- ‌الاتصالات الخارجية:

- ‌التطور السياسي والاجتماعي:

- ‌رابعا: البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة

- ‌مدخل

- ‌نمو البيروقراطية:

- ‌أحداث الشمال الشرقي والتنظيمات العسكرية:

- ‌العمارة والفن والمجتمع:

- ‌رحلات الكشف في الجنوب:

- ‌الفصل السادس: عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى

- ‌نهاية دورة

- ‌الثورة الطبقية:

- ‌الغموض:

- ‌انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية:

- ‌ازدهار الفردية:

- ‌عصر الانتقال الأول بين دورتين تاريخيتين

- ‌معالم الفن الإقليمي:

- ‌الفصل السابع: الدورة التاريخية الثانية في الدولة الوسطى

- ‌أولا: عودة الوحدة في عصر الأسرة الحادية عشرة

- ‌مدخل

- ‌استرجاع المركزية:

- ‌الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي:

- ‌صور من المجتمع:

- ‌في العمارة الدينية والفن:

- ‌ثانيا: الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة

- ‌مدخل

- ‌في السياسة الداخلية:

- ‌في العمران:

- ‌في الأساليب الفنية:

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌الفصل الثامن: عصر الانتقال الثاني أو عصر اللامركزية الثانية

- ‌أولًا: عصر الأسرة الثالثة عشرة

- ‌في نصفه الأول:

- ‌مظاهر الأفول في النصف الثاني لعصر الأسرة الثالثة عشرة:

- ‌ثانيًا: محنة الهكسوس

- ‌ثالثًا: مراحل الجهاد والتحرير

- ‌الفصل التاسع: الدورة التاريخية الثالثة في الدولة الحديثة

- ‌تمهيد

- ‌أولا: الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة

- ‌في السياسة الداخلية

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌ثانيا: عودة الكفاح ثم الرفاهية في عصر الرعامسة مع الأسرة التاسعة عشرة

- ‌ثالثا: آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين

- ‌الدفعة الأولى

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌رابعًا: الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين

- ‌خامسًا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة

- ‌الفصل العاشر: الشيخوخة في العصور المتأخرة

- ‌أولًا: التخبط والتداخل في عهود الأسرات 22 - 24

- ‌ثانيًا: دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين

- ‌ثالثًا: النهضة في العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين

- ‌رابعًا: النكسة مع الغزو الفارسي والأسرة السابعة والعشرين

- ‌خامسا: ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30

- ‌مدخل

- ‌الوثائق الآرمية في أسوان:

- ‌الأسرتان الأخيرتان:

- ‌خاتمة المطاف القديم:

- ‌الفصل الحادي عشر: في عقائد الدين والآخرة

- ‌أولًا: عقائد التأليه

- ‌نشأتها:

- ‌خصائصها:

- ‌في سبيل الترابط:

- ‌في سبيل التوحيد:

- ‌ثانيا: عقائد البحث والخلود

- ‌الفصل الثاني عشر: من الأدب المصري القديم

- ‌أولا: في أدب الأسطورة والملحمة

- ‌أسطورة أوزير وتوابعها

- ‌الحق والبهتان

- ‌ثانيا: في أدب القصة

- ‌سنفرو والحكماء

- ‌قصة خوفو والحكيم جدي:

- ‌قصة العاشقين والتمساح:

- ‌قصة الأخوين:

- ‌من قصص المغامرات:

- ‌ثالثا: في أدب النصيحة

- ‌مدخل

- ‌بتاح حوتب:

- ‌آني:

- ‌أمنموبي:

- ‌نصائح المعلمين:

- ‌رابعا: في أدب النقد والتوجعات

- ‌إبوور والثور الطبقية

- ‌القروي الفصيح:

- ‌الكتاب الثاني: العراق، بلاد النهرين

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الثالث عشر: فجر التاريخ العراقي في العصر الحجري الحديث

- ‌أ- في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة

- ‌ب- في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية

- ‌مدخل

- ‌حضارة العبيد:

- ‌ج- قبيل العصر الكتابي

- ‌حضارة الوركاء:

- ‌الفصل الرابع عشر: أوائل العصور التاريخية في العراق

- ‌عصر بداية الأسرات السومرى

- ‌مدخل

- ‌الكتابة المسمارية:

- ‌العمارة الدينية "والزقورات

- ‌العقائد:

- ‌التطور السياسي:

- ‌الفنون:

- ‌المقابر:

- ‌الفصل الخامس عشر: العصر الأكدى 2340 - 2180 "أو 2371 - 2230" ق. م

- ‌مدخل

- ‌الفنون:

- ‌نهاية دولة:

- ‌الفصل السادس عشر عصر الإحياء السومري "منذ 2125ق. م

- ‌في لجش:

- ‌في أوروك:

- ‌في دولة أور:

- ‌الفنون:

- ‌من الأدب السومري:

- ‌نهاية أور:

- ‌في عصر إسين - لارسا:

- ‌تشريع إشنونا:

- ‌تشريع إسين:

- ‌في لارسا:

- ‌في الفن:

- ‌الفصل السابع عشر: دولة بابل الأولى "أو العصر البابلى القديم

- ‌بداية دولة بابل الأولي

- ‌حمورابي:

- ‌من الأدب البابلي:

- ‌الفصل الثامن عشر: العصر الكاسي "1580 - أواخر القرن 12 ق. م

- ‌الحياة الساسية

- ‌العلاقات الخارجية:

- ‌الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة:

- ‌من الحياة الفكرية في العصر الكاسي:

- ‌الفصل التاسع عشر: آشور

- ‌أ- المراحل الأولى: العصر العتيق- العصر القديم

- ‌ب- في العصر الأشورى الوسيط

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌ج- في العصر الأشورى الحديث

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولي:

- ‌مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث:

- ‌الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626 - 539 _25 d9_2582._25d9_2585

- ‌تمهيد: عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور

- ‌التطور السياسي:

- ‌العمران والفنون:

- ‌الأفول أمام نهضة الفرس:

- ‌خاتمة:

- ‌الخرائط واللوحات

- ‌قائمة بأهم المفردات:

- ‌الموضوعات:

الفصل: ‌تعبيرات الهرم الأكبر:

الأولى التي نشأ هذا المعبد عليها، فهو قد يكون معبدًا أموري الأصل، أراد الملوك المصريون أن يجاملوا أصحابه فأهدوهم هدايا ثمينة تحمل أسماءهم، وبهذا لم يمنعهم تمسكهم بدينهم المصري من أن يتسامحوا مع أرباب جيرانهم ويعملوا على إثراء معابدهم. وقد يكون معبدًا مصري الأصل شادته جالية مصرية تجارية أقامت في جبيل وعكفت فيه على عبادة أربابه المصريين وسجلت أسماء ملوكها على مقتنياته، أو يكون أخيرًا معبدًا مصريًّا كذلك أقامه أمراء جبيل مجاملة للمصريين المقيمين في مدينتهم، وتقبلوا له الهدايا من الفراعنة المصريين.

ص: 108

‌تعبيرات الهرم الأكبر:

ليس من شك في أن الهرم الأكبر الذي أقيم باسم خوفو فوق هضبة الجيزة شمال العاصمة القديمة منف، هو الشاهد الصريح على عظمة عهد صاحبه، وليس من شك كذلك في أن مهندس هذا الهرم قد استفاد من المحاولات والتجارب التي سبقت عهده والتي حاول أصحابها أن يتموا بها هيئة الهرم الكامل لمقابر ملوكهم لولا أن أنه بز محاولاتهم جميعها بضخامة هرمه الهائلة والدقة البالغة التي أتم بها بنيانه. فهرم خوفو قد شغل مساحة تقرب من 13 فدانًا، وبلغ ارتفاعه الأصلي نحو 146 مترًا1 "أنقصتها العوامل الجوية إلى 139 مترًا"، واستخدم البناءون في بنائه نحو مليونين وثلاثمائة ألف كتلة حجرية تراوحت زنة الواحدة منها بين الطنين والنصف والثلاثة أطنان وما هو أكثر2، وقد قطعوها جميعها من محاجر هضبة الجيزة التي شيدوا الهرم فوقها، فيما عدا الكساء الخارجي للهرم فقد قطعوا لوحاته السميكة الضخمة من محاجر طرة والمعصرة التي امتازت بأحجارها الجيرية الناصعة البياض، قرب ضفة النيل الشرقية المقابلة للضفة التي أقاموا الهرم على مقربة منها، وذلك فضلًا عما ذكرناه عن احتمال استخدامهم أحجار الديوريت في رصف أرضية معبد شعائره.

بُني الهرم أساسًا ليصبح ملجأ أمينًا لجثة الفرعون ومقتنياته الخاصة، وشاهدًا على ثرائه وسعة سلطانه، ووسيلة لخلود ذكره وذيوع شهرته، ودليلًا على رفعة شأنه في الدنيا وفي الآخرة، وصورة من صور رقي العمارة والفن في عهده. أي أنه لم يكن مجرد مقبرة في جبانة، ولم يكن مجرد جبل من الأحجار يشهد بجبروت صاحبه، وإنما كان ولا يزال عملًا فنيًّا في داخله وخارجه. وقد أطلق عليه صاحبه، أو أطلق عليه كهنته، اسم "آخت خوفو" بمعنى مشرق خوفو أو أفق خوفو، بناء على نفس الدافع الذي دعاهم إلى تسمية هرم أبيه "خع سنفرو" أي شع سنفرو "ص108". وقد تصمن الهرم ثلاث حجرات كبيرة للدفن، حجرة أسفله نحتت في باطن الصخر وهجرت قبل أن ينتهي العمل فيها، وأخرى في باطنه تسمى خطأ باسم غرفة الملكة وهجرت هي الأخرى بعد أن أوشك العمل فيها على الانتهاء، وثالثة في نصفه العلوي دفن الفرعون فيها. وأدى تعدد هذه الحجرات إلى رأي مقبول، مؤداه أن الهرم بُني على ثلاث مراحل انتقل المهندس من

1 بلغ ارتفاعه وفقًا للمقاييس المصرية 280 ذراعًا، وبلغ طول قاعدته 440 ذراعًا.

2 قدرت زنة أحجار الهرم بنحو ستة ملايين وربع مليون طن، وقيل إنها تكفي لبناء سور يحيط بفرنسا ويبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار وعرضه مترًا، أو سور يحيط بثلثي الكرة الأرضية عند خط الاستواء ارتفاعه قدمًا واحدًا.

ص: 108

مرحلة منها إلى أخرى نتيجة لازدياد خبراته وازدياد إمكانيات عهده ونتيجة لامتداد أجل فرعونه. فبنى الهرم في مرحلته الأولى ليكون هرمًا متوسط الحجم مائل الجوانب حاد الزوايا متساوي الخطوط يشبه هرم دهشور ولكن تقع حجرة دفنه في أسفله. ثم أزاد حجمه بعد فترة ما وقبل أن يتم بناءه وشاد حجرة دفن جديدة في باطنه، ثم أزاده للمرة الأخيرة وشاد حجرة الدفن الثالثة في نصفه العلي من أحجار جرانيتية هائلة وكان بارعًا حين أقام فوقها خمسة سقوف يتعاقب كل منها فوق الآخر بعد ارتفاع قليل، رغبة منه في تخفيف الضغط عن سقفها الأول الذي تألف من تسعة ألواح تزن في مجموعها نحو 400 طن. وجعل أربعة من هذه السقوف مسطحة، وبنى خامسها "وهو العلوي" مثلثًا على هيئة الجمالون لتوزيع ضغط البنيان العلوي من الهرم على جوانب الحجرة وسقوفها دون وسطها. ويصل بين غرفة الدفن الوسطى وغرفة الدفن العليا في باطن الهرم دهليز صاعد يعتبر آية من آيات الفن المعماري لعصره. ويبلغ طوله 153 قدمًا وارتفاعه 28 قدمًا، وقد كسيت الأجزاء السفلى من جانبيه بأحجار مصقولة ضخمة، وبرز كل مدماك من مداميكه العليا، وعددها سبعة في الجانبين، عن المدماك الذي يرتكز عليه بمقادير ثلاث بوصات، والتصق كل مدماك منها بالآخر وكل حجر منها بالآخر في إتقان شديد دفع بعض العلماء إلى المبالغة في تقديره بقولهم إن ما بين كل حجر وآخر لا يكاد يسمح للشفرة بالنفاذ منه. ومن الأوصاف الممتعة في تصوير مدى الدقة في بناء الهرم، ما يقال من أن متوسط الخطإ في طول جوانبه لا يعدو 1: 4000، وأن الخطأ في عمليات التربيع التي استخدمت فيه لا يعدو كسرًا عشريًّا يساوي دقيقة واثنتي عشرة ثانية، وأن معدل الخطإ في ضبط ضلعيه الشرقي والغربي لا يزيد عن 3: 100، أن الفواصل بين بعض أحجاره لا تزيد عن نصف ملليمتر.

ويتضح لخاصية الصخامة الفريدة مع البراعة الفائقة التي امتاز الهرم الأكبر بها أكثر من معنى ومدلول، فهي من الناحية السياسية تنم عن نظام من الحكم كان يسمح للفرعون صاحب الهرم بتصرف واسع في إمكانيات البلاد المادية والبشرية. وهي من الناحية المعمارية تشهد لمهندس الهرم أو مهندسيه1 بدراية واسعة بمبادئ الهندسة وفن العمارة، وذلك بحيث لا يكاد العلم الحديث يجد خطأ واضحًا فيما أتموه. وهي من الناحية العملية تشهد للصناع الفنيين بمهارة أصلية في نحت الأحجار الضخمة وتسويتها وتثبيتها فيما يلائمها من جسم الهرم، ومهارة أصلية مماثلة في تنفيذ ما خططه المهندسون بنجاح كبير. وهي من الناحية البشرية تشهد لآلاف العمال العاديين الذين اشتركوا في بناء الهرم بجلد شديد وقوة احتمال كبيرة في قطع أحجاره الضخمة من محاجرها ونقلها ثم رفعها إلى مواضعها من بنائه. ثم هي من الناحية الإدارية تشهد لرجال الإدارة المشرفين على نظام العمل في الهرم بحظ كبير من الكفاية في رسم الخطط لتجميع آلاف العمال وتموينهم وحسن

1 يعتقد يونكر وريرنر أن مهندس الهرم هو الأمير حم أونو ابن أخ خوفو أو ابن عمه، وكان أميرًا دلت ملامحه في تمثاله على أنه كان ذا شخصية قوية آمرة، وذلت سعة سيطرته وفخامتها على مكانته في عصره – وتلقب بألقاب المهندس الملكي ومدير المنشآت المقدسة كلها "أو مدير أعمال الرب كلها" وربما ولي الوزارة.

G. Reisner، The Tomb Of Herep - Hetes، I، 1955، 9.

واعتقد برستد أن مهندس الهرم أمير آخر يحتفظ المتحف المصري بتابوته وهو "خوفو عنخ".

ص: 109

الاستفادة بهم وضمان استمرار قوتهم البدينة على مواصلة العمل، مع تنظيمهم وتقسيمهم فرقًا لا زالت بعض أسمائها مسجلة على أحجار متفرقة من جوانب الهرم1.

ومن أمتع تعليقات المؤرخين القدامى عن الأهرام المصرية قول المؤرخ ديودور الصقلي في القرن الأول ق. م: "واتفقت الآراء على أن الأهرام لم تحظ في مصر بذلك المركز الممتاز لضخامة بنائها وباهظ تكاليفها فحسب، بل ولدقة بنائها أيضًا، ومهندسو المشروع أولى بالإعجاب فيما يقال من الملوك الذين دبروا المال لإنجازه؛ لأن المهندسين استنفذوا في إنجاز المشروع أرواحهم وهممهم، بينما استغل الملوك الأموال التي ورثوها ومجهودات الآخرين "الكتاب الأول: 64". ولم يكن المؤرخ الرحالة المسلم عبد اللطيف البغدادي أقل توفيقًا في القرن الثالث عشر الميلادي عن ديودور الصقلي في تعليقه على الأهرام المصرية بقوله: "فإنك إذا تبحرتها وجدت الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها لها، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثلًا هي غاية إمكانها، حتى إنها تكاد تحدث عن قومها وتخبر بحالهم، وتنطق عن علومهم وأذهانهم، وتترجم عن سيرهم وأخبارهم".

والواقع أن الهرم الأكبر لا يكاد يذكر إلا ويظهر معه التساؤل عما إذا كان المصريون قد شادوه وشادوا أمثاله، راضين أم مجبرين، مأجورين أم مسخرين. وإذا تركنا آراء الأقدمين إلى آراء الباحثين المحدثين، وجدنا كل عدد منهم قد ذهب مذهبه وتحمس له. فأكد هرمان يونكر أن روح الرضا والرغبة في الإبداع وإشباع المزاج الفني كانت غلابة على من تكفلوا ببنائه، وربما استطاعت عوامل التسخير والإجبار أن تبني الهرم الأكبر، وما هو أعظم من الهرم الأكبر، ولكنها لم تكن لتستطيع أن تبلغ به إلى ما بلغه بنيانه من الإتقان بحال ممن الأحوال. وأخذ برأي يونكر كثيرون وحوروا فيه. وأكد أكلسندر شارف من ناحيته أن تأليه المصريين لملوكهم وعبادتهم بعد موتهم هي التي دفعتهم إلى التفاني في بناء أهرامهم ومعابده، وأن حرص أفراد الطبقات الكادحة على أن يدفنوا حول هرم خوفوا حتى بعد أربعة قرون من وفاته يؤكد بقاء ذكراه الطيبة بينهم وتبركهم بمنطقته ويبعد عنه سمة العتاة المستبدين. وأخذ برأيه هو الآخر كثيرون وحوروا فيه. بينما ظهرت آراء أخرى ذهبت إلى النقيض، فلم تر في هرم خوفو وأمثاله سوى أثرة الفراعنة المصريين واستبدادهم وسوء استغلالهم للقوة البشرية والإمكانيات المادية في أرضهم، ولم تر غير عوامل التسخير وحدها هي القادرة على إقامة الأهرام وتوابعها.

ونعتقد من جانبنا أنه من الإسراف أن يقتصر القول على عامل واحد يسر لخوفو بناء هرمه أيًّا ما كان هذا العامل، أو افتراض وسيلة واحدة أو عقيدة واحدة خضع لها كل القائمين على بناء هرمه. فليس من. اليسير أن نفترض، كما ذهب يونكر، أن كل من كدحوا في سبيل بناء الهرم كانوا يشبعون مزاجهم الخاص، وإن أمكن أن نفترض مثل هذا المزاج الخالص لكبار المهندسين ورؤساء الصناع ذوي الأجور العالية.

1 عن فرق أخرى العمال ليست إلى اسم خوفو. Reisner، Op. Cit.، 8; Smith، Jnes، 1952، 125.

ص: 110

وليس من اليسير كذلك أن نفترض، كما ذهب شارف، أن كل من حشدوا لبناء الهرم كانوا يهللون لما جمعوا له باسم الدين وتأليه الفرعون كما يقول، وأكثرهم من الفقراء الكادحين في سبيل لقمة العيش. وليس من اليسير أخيرًا أن نجعل القسوة أو السخرة علمًا على سلطان الفراعنة المصريين على الإطلاق ودون استثناء، كما ذهب أصحاب الرأي الثالث لمجرد ضخامة آثارهم. ونرى أنه من الأفضل أن نتصور للقضية كل أطرافها المحتملة على ضوء من الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والروحية التي عاش في ظلها صاحب الهرم والقائمون على تشييد الهرم.

فقد اعتمد مصر القديمة في أغلب حياتها الزراعية على دورة زراعية سنوية رئيسية واحدة كانت تؤدي إلى تعطل المزارعين عدة شهور من كل عام. وفي هذه الشهور، أو في البعض منها، اعتاد الحكام أن يعملوا على تجميع أعداد كبيرة من عمال الأرض وزراعها؛ ليقوموا بخدمة مشاريع الحكومة العامة ومنشآت الفرعون الخاصة أساسًا، ثم ليتكسبوا من العمل في هذه المشاريع والمنشآت مورد رزق مناسب لهم في مواسم تعطلهم عن العمل ضمنًا "وذلك إلى جانب الصناع الفنيين الدائمين". وأشار المؤرخون الإغريق الذين زاروا مصر في أواخر عصورها القديمة إلى مثل هذا الوضع. فذكروا أنهم سمعوا أن العمل في الهرم كان يجري "وعلى الأصح كان يشتد" في مواسم الفيضان بخاصة، وفي مواسم التعطل عن الزراعة كل عام. وترتب على ذلك فيما رووه أن بناء الهرم الأكبر وتوابعه قد استغرق نحو عشرين عامًا ولم يتم في وقت قصير.

واعترفنا من قبل بأنه توفر للفراعنة المصريين نظام من الحكم المطلق أتاح لهم إشرافًا واسعًا وهيمنة كبيرة على موارد البلاد وإمكانياتها المادية والبشرية، ونضيف إلى ذلك أن نفس هذا النظام من الحكم أتاح لحكوماتهم سلطانًا إداريًّا واسعًا، وجعل لها الحق في أن تكلف من تشاء من القادرين على العمل من السكان، بالعمل في مشروعاتها ومشروعات الفراعنة الدنيوية والدينية، حيثما أرادت وهو تكليف "أو تسخير" لم يكن يُعفى منه فيما يرجح غير طوائف المتعلمين من موظفي الدولة وكهنة المعابد الكبار وربما كبار أعيان المدن والقرى أيضًا.

وإلى جانب السيطرة السياسية والاقتصادية والإدارية الواسعة التي توافرت للفراعنة وحكوماتهم، استحب الفراعنة لأنفسهم، وأكد لهم أشياعهم، قدرًا كبيرًا من القداسة الروحية والسيادة الدينية على رعاياهم "وإن لم يصل هذا القدر إلى حد التأله الصريح". فالفرعون رأس الحكومة، كان يعتبر بالتالي رأس الديانة ووريث الأرباب. وكان فيما صورته مذاهب الدين يعتبر من المتحكمين في شئون الآخرة والمهيمنين على مصائر أهلها. وآزر رجال الحاشية والكهان فراعنتهم فيما ادعوه لأنفسهم من قداسة وسيادة، ورددوه في نصوصهم الدنيوية والدينية مرارًا وتكرارًا. فآمنت بهذا الذي ادعاه الفراعنة والكهان وأهل البلاط عهود، وكفرت به عهود أخرى. وسلمت بصحته طوائف وتجاهلته طوائف عداها. غير أن الفراعنة استطاعوا في أغلب أحوالهم أن يستغلوا سلطانهم الديني والروحي التقليدي أوسع استغلال واستطاعوا أن يوجهوه لتنفيذ رغائبهم وإقامة منشآتهم. وليس من المستبعد أن الكهان كانوا يتعمدون في مواعظهم أن ييسروا على الكادحين

ص: 111

في سبيل تحصيل الرزق شقاءهم. ويخففوا عن المكلفين بمشروعات الفرعون متاعبهم، بشيء من الأمل فيما ينتظرهم في الآخرة من الشفاعة والرضا وحسن الجزاء من فراعنتهم الذين أوهموهم أنهم سوف يتحكمون في شئون الحياة الثانية كما تحكموا في شئون الحياة الدنيا سواء بسواء.

ولكن ألم يكن أولى بفراعنة البلاد أن يعملوا على توجيه الجهود التي بذلها رعاياهم في تشييد أهرامهم ومعابدها إلى أنواع عمرانية أخرى يعم نفعها على جمهرة شعبهم؟ ليس من شك في أننا لو حكمنا منطق عصرنا الحالي، لأجبنا بالإيجاب، وأن ذلك كان أولى بهم وأنفع لشعبهم فعلًا. ولكن علينا أن نعترف من ناحية أخرى أنه كان للدولة مشاريعها لعمرانية العامة فعلًا وهي ما كلفت لها الثراء العريض، وأن نقدر من ناحية أخرى أن لكل عصر منطقه، وأن المبادئ التي يتبينها أو يعتنقها عصر معين ليس من الضروري أن يتبينها عصر آخر أو يسلم بها. ثم إنه ليس أيسر على أنصار الحاكم في كل مجتمع وكل زمان من أن يقنعوا أنفسهم أو يخدعوا أنفسهم ويخدعوا الناس معهم، بأن حاكمهم يعتبر دائمًا رمزًا لشعبه، وأنه ما من بأس في أن تبذل الدولة والشعب في سبيله كل مرتخص وغال، وأنه سوف يرفع من سمعة أهل عهده أن يشيدوا له آثارًا تفوق ما شيده أسلافهم لسلفه، ويرفع ذكرهم كذلك أن تتعجب الأجيال التالية لعهدهم مما أنفقوا جهودهم في تشييده والارتفاع ببنيانه. والواقع أنه إذا كان لكل طائفة من الحكام آفة، وكان من آفة حكام آشور والفرس القدماء مثلًا حب البطش والنهم إلى الجبروت، وكان من أمر الحكام الرومان الأقدمين مثل أمرهم من القسوة والفساد، وكان من آفة حكام العصور الوسطى الشرقيين بذل جانب كبير من موارد أممهم وبيوت أموالها في سبيل بناء القصور وحياة الاستمتاع ومدائح الشعراء، فقد كان من آفة الفراعنة المصريين أنهم وجهوا جانبًا كبيرًا من موارد أرضهم إلى صالح المعابد والتماثيل والأهرام فضلًا عن القصور، وابتغوا بذلك تكريم الأرباب، ونعيم الآخرة، واستمالة الكهان، وحسن الثواب، وأن يظهروا في سمات التقوى والصلاح، كما ابتغوا به الجري وراء التقليد وخلود الذكر والتفاخر فيما بينهم في أغلب الأحيان.

ومهما يكن من أمر، فقد اشترك آلاف العمال والصناع فعلًا في بناء هرم خوفو وبناء معبديه وملحقاته، سواء عن رغبة في تحصيل الرزق، أو بناء على تكليف "أو تسخير" من الحكومة، أو طاعة منهم للفرعون ذي القداسة التقليدية في الدنيا، أو تصديقًا لما أوهمهم الكهان به عما ينتظرهم منه في الآخرة من الشفاعة وحسن الجزاء، ولكن كيف كانوا يعاملون؟ وهل كانوا يؤجرون؟

ليس من آثار أو نصوص باقية لخوفو بالذات تكشف عن طريقة معاملة رجاله لعماله، ولكن يمكن أن نستشهد في سياق ذلك عن طريق غير مباشر بما عرفناه عن تخصيص شون للغلال في مجموعة زوسر بسقارة لتموين العمال وقت بناء الهرم ثم تموين الكهنة بعد بنائه، وما سوف نذكره عن تخصيص عدد من المساكن للعمال بجوار هرم خفرع لإيوائهم عوضًا عن تركهم يبيتون في العراء. وقد تخلفت نصوص لأثرياء من عصر الأسرة الرابعة نفسها وأثرياء عهود مختلفة أخرى بعدها من الدولة القديمة، تعمد أصحابها أن يصوروا بها الظروف التي شيدوا فيها مقابرهم، والأساليب التي عاملوا بها من استأجروهم فيها، فقال رجل

ص: 112

من عصر الأسرة الرابعة: "كل صانع عمل في مقبرتي أرضيته". وردد آخرون في نصوصهم قولهم: "أنفقت على قبري هذا من متاعي الحلال، ولم يحدث إطلاقًا أني اغتصبت متاع شخص ما". وقال غيرهم في نصوصهم: "أرضيت كل الصناع الذين أتموا لي عملًا في هذا القبر بالطعام والشراب وكل شيء طيب". وقال بعض من تولوا رياسة الأتباع والصناع: "لم أضرب إنسانًا وقع تحت يدي، ولم أستعبد أحدًا في العمل"1. وليس من شك في أن أمثال هذه الأقوال لا تخلو من مبالغات يستقبل الشخص بها حياته الأخرى، ولكن ليس من شك كذلك في أنها لا تخلو من إثارات صدق، وأنها تدل على وجود وازع ديني كان يدعو الأثرياء إلى حسن معاملة الأتباع والأجراء واكتساب الصيت الطيب من وراء ذلك.

فهل كان الفراعنة بدورهم ينفقون على دور أخراهم، أي أهرامهم ومعابدها بسخاء ومن متاع حلال؟ وهل كانوا يعملون عن طريق ممثليهم من رؤساء العمل على إرضاء من يعملون في أهرامهم ويحرصون على إحسان معاملتهم، مثل رعاياهم الأتقياء الأغنياء؟ ذلك أمر لا نستطيع أن نؤكد جوابًا معينًا بشأنه، في ضوء النصوص المعرفة حتى الآن، ولكن يمكن أن نشير من ناحية أخرى إلى أن النصوص الدينية التي سجلت في أهرام الفراعنة منذ نهاية عصر الأسرة الخامسة وعرفت باسم متون الأهرام قد ألمحت مرات إلى أن الفرعون إنما كان يندمج بين أرباب الآخرة وحكامها على أساس ما يثبت عن قيامه بالعدل في أرضه ودنياه وعمله على صوالح رعاياه2.

كان هرم خوفو جزءًا من مجموعة معمارية واسعة، خدمت صاحبها وخدمت فن العمارة وخدمت عقائد الدين، وكان من الضروري أن يتناسق كل عنصر فيها مع بقية العناصر، ويكمل كل جزء منها بقية الأجزاء. وتألفت هذه المجموعة من نفس العناصر الرئيسية التي تألفت منها مجموعة أبيه في دهشور، أي من معبد الشعائر ومعبد الوادي والطريق الواصل بينهما، فضلًا عن عناصر أخرى فرعية، مثل هرم صغير إلى الجنوب الشرقي من الهرم الأكبر. لا يزال غرضه غير معروف حتى الآن، وسور كبير يحيط بالهرم وتوابعه القريبة، وعدة أهرام لزوجات الملك، وعدد من مقابر كبار رجال المملكة حرص أصحابها على أن يدفنوا حول هرم فرعونهم؛ تقربًا منه، وإرضاء لولي عهده، ودلالة على ولائهم والتفافهم حوله، ورغبة منهم في أن يبعثوا في معيته في الحياة الثانية على نحو ما كانوا في معيته في الحياة الأولى، ورغبة منهم في انتفاع موائد قرابينهم بخيرات المعبدين الملحقين بهرمه. ورغبة منهم كذلك في انتفاع مقابرهم بحالة الأمن والعمران التي كانت تكفلها كثرة الحراس والكهان والأتباع الذين يعيشون حول هرمه ويعملون في معبديه.

وخضعت مصاطب كبار رجال الدولة حول الهرم لتخطيط مرسوم، فخصص شرقي الهرم لمصاطب

1 Urk.، I، 23، 8; 49; 50، 1-2; 70، 5-7; 236; 269، 11; 271; D. Dunham، Jea، XXIV، 5-6.

2 A. Morete، "Le Jugement Du Roi Dans Les Texres Des Pyramides" L'annuaire De L' Ec. Det Hautes Etudes، 1922-23، 1-32; La Nil .....، 215; Breasted، The Daw Of Conscience، 127-128.

ص: 113

الأمراء، وغريبه لمصاطب كبار الموظفين "فيما خلا استثناءات قليلة". وشيدت أغلب هذه المصاطب على نسق متشابه، ورتبت في صفوف تفصل بينها طرقات مستقيمة، وتجمعت على جانبي الهرم ومن تحته، فزادت من جلاله وأكدت ضخامته وجبروته، حتى بدا الهرم بينها وكأنه يشرف عليها من عل كما كان صاحبه يشرف على أصحابها في دنياه من عل. وشاد عظماء الأسرة الرابعة مصاطبهم من الحجر لأول مرة بعد أن كان أسلافهم يشيدونها من اللبن خلال عصور الأسرات الثلاث الأولى، وشادوها صماء لا فراغ فيها إلا فتحة من أعلاها تخترق وسطها وتخترق الأرض من تحتها حتى تصل إلى حجرة الدفن في باطن الصخر. وكان المعماريون يكسون جدران حجرة الدفن الصخرية أحيانًا بألواح من الحجر الجيري الأبيض ويلونونها بنقط حمراء ليقلدوا بها هيئة الجرانيت في مدافن ملوكهم. وألحقوا بالواجهة الشرقية لكل مصطبة مقصورة للقرابين ينتفع الزائرون بها في المواسم والأعياد ويقدمون القرابين فيها باسم المتوفى، ويدخلها الكاهن ليرتل دعواته وتعاويذه لمصلحة صاحبها. وكانوا يثبتون في صدر جدارها الداخلي لوحة صغيرة مستطيلة من الحجر الجيري تنقش عليها هيئة المتوفى جالسًا أمام مائدته، وينقش حوله اسمه وألقابه وأنواع القرابين التي يرجو أن تتوافر له في حياته الثانية. وتعتبر نقوش هذه اللوحات من أروع مظاهر الإنتاج الفني في عهد خوفو. وكانوا يضعون على سطح الأرض أسفل اللوحة مائدة للقرابين، يقوم على جانبيها قائمان من الفخار تعلو كلًّا منهما مبخرة لحرق البخور.

ولعل أقرب ما لفت الأنظار من آثار خوفو في السنوات الماضية، هي مراكبه. فقد عثر له حتى الآن على خمسة مواضع لمراكب، ثلاثة منها تقع إلى الشرق من هرمه، وقد نزعت منها مراكبها الخشبية أو بطانتها الخشبية في عصور سابقة، واقتصرت في حالتها الراهنة على مجرد حفر طويلة عميقة نحتت في الصخر على هيئة المراكب، وتتجه اثنتان منها اتجاهًا موازيًا للضلع الشرقي للهرم بين الشمال والجنوب، وتتعامد الثلاثة على هذا الضلع بين الشرق والغرب. ثم عثر له في عام 1954 على موضعين جديدين لمركبين كبيرتين منحوتتين في الصخر على جنوب هرمه. وتم كشف أحد الموضوعين بالفعل ولا زال الآخر مغطى بسقفه الحجري المحكم حتى الآن. ووجدت في الموضع المكتشف ألواح كثيرة لمركب خشبية، لم يبلغ طولها 43.20 من الأمتار ويبلغ أكبر عرض لها نحو ستة أمتار، وقد فككت أجزاؤها ورتبت إلى حد ما مع بعضها البعض بحيث يسهل تجميعها، ووضعت معها مجاذيفها وحبالها وجوانب مقاصيرها "أو كبائنها" وأساطينها الخشبية التي شكلت تيجانها على هيئة سعف النخيل وزهور اللوتس. وذهب الرأي في حينها على تسمية مركب خوفو هذه وأخواتها، باسم مراكب الشمس، والربط بينها وبين رحلتين يقوم إله الشمس بهما كل يوم ويصحب الفرعون معه فيهما، رحلة يجوب بها سماء الدنيا بالنهار، وأخرى يجوب سماء العالم السفلي فيها بالليل. ولكن صعب تأكيد هذه التسمية لعدة أسباب، أهمها سببان وهما: أن أشكال الحفر التي نحتت لمراكب خوفو أشكال متباينة تختلف من واحدة إلى أخرى، وذلك مما يخالف القول بأن مراكبها كانت تخدم غرضًا واحدًا وهو رحلة الملك مع إله الشمس في سماء الدنيا أو سماء الآخرة. وأن المراكب التقليدية التي صورتها المناظر

ص: 114